الساعة

2010 اقتصاديات الملاذ الآمن

اعداد : محمد سامي ابوغوش

مركز الرأي للدراسات

28/12/2010

 

ترددت مؤخرا عبارة «الملاذ الآمن» في كثير من التحليلات الاقتصادية العالمية وبخاصة عند إقبال الدول النامية والمستثمرين على شراء الذهب لاستبداله بما لديهم من دولارات و أوراق مالية، او عند شراء الفرنك السويسري بدلا من اليورو كما حدث في اوروبا وذلك على اعتبار أن الأزمة المالية العالمية، منذ تفجرها بعد منتصف عام 2008، قد زعزعت الثقة بالنظام المالي – الإئتماني العالمي وبالدولار معاً ,وساد الاعتقاد بان الذهب هو السلعة الأوثق للاستثمار وللإدخار?!.هروبا من مشاكل النظام النقدي العالمي والنظام العالمي الجديد.

ولفهم ما يجري يجب العودة إلى التأريخ الاقتصادي الحديث ، فقد خرجت معظم دول العالم عن نظام الذهب منذ عام 1930، كوحدة قياس للعملات، وعملت الولايات المتحدة الأميركية على استبدال الذهب بالأصول المادية – السلعية الحقيقية كمعيار للعملات، إلا أن الضعف الذي يعتري النظام النقدي العالمي من وقت لآخر ويضعف الثقة بالعملات كأصول، ويجعل المستثمرون يهرعون للمعدن الأصفر للادخار، رغم إنهم على يقين من أن أسعار الذهب عرضة للانهيار اذا ما تعافى الاقتصاد العالمي يوما ما او تعززت الثقة بالعملات الورقية المطبوعة دون غطاء من الذهب ولكن تحت غطاء الازمات والكوارث.

لقد وضعت أهداف للنظام الاقتصادي الرأسمالي العالمي بعد الحرب العالمية الثانية ( 1939 – 1945) للهيمنة والسيطرة كجزء من ضمن الحرب الباردة التي استعرت , وكانت الاقتراحات بان يتخلص النظام النقدي العالمي من الذهب كغطاء وضمان لعملات الدول الصناعية الرأسمالية فقط .وقد تمكنت النظم الرأسمالية في الولايات المتحدة الأميركية و دول أوروبا الغربية منذ أربعة عقود من صياغة نظام نقدي اعتمد بالدرجة الأولى على الأصول مادية التي تمثل الإنتاج المادي الحقيقي وتقييمه بالعملات بنجاح .إلا أننا كما شاهدنا فالنظام الرأسمالي ينطوي على العديد من الثغرات تتسبب بحدوث أزمات مالية تُعرّض اسواق الاصول المادية للانكماش، ولعل الأزمة المالية العالمية منذ 2008 أحيت مآسي أزمة 1929 – 1932 فكتب الكثير من المحللين عن الأزمتين مقارنة وأسبابا ونتائج. ومن بين ما يمكن إستحضاره في ذهني حاليا تلك العلاقة العكسية بين قوة وضعف الاقتصاد العالمي ومؤشره الدولار الأميركي وبين أسعار الذهب صعودا ونزولا لتقييم واقع الاقتصاد العالمي وتطوراته.

و السؤال المهم هل النقاط الخلافية تحتاج الى خطط تحفيز وضخ أموال جديدة لإنعاش الاقتصاد ؟ لانة يدور خلاف حول هذه النقطة خاصة بين الأوربيين وفي مقدمتهم ألمانيا وفرنسا وبين الولايات المتحدة الأميركية، التي تحظى وجهة نظرها بتفهم وتعاطف بريطاني. فقد أفادت مجلة دير شبيغل الالمانية :إن التحفيز سيعزز النمو بمقدار نقطتين مئويتين والعمالة بواقع 19 مليون شخص. وقالت المجلة "ان بريطانيا تدعو أيضاً مجموعة الدول الصناعية الى تحديد هدف ملموس للنمو العالمي في 2011 لكن دون ذكر أي رقم محدد في هذا الصدد. و يتوقع الرئيس الاميركي من زعماء العالم بذل «كل ما في وسعهم» لخلق النمو وفرص العمل ويقول الرئيس الاميركي «إننا عازمون على استعادة النمو ومقاومة الحماية التجارية وإصلاح أسواقنا ومؤسساتنا من أجل المستقبل». ويقول أيضاً «نعتقد أن اقتصاداً عالمياً مفتوحاً يقوم على مبادئ السوق والتنظيم الرقابي الفعال ومؤسسات عالمية قوية يمكن أن يضمن عولمة مستدامة ورخاءً متزايداً للجميع .

ولكن يبدو ان عهد التفرد من قبل مجموعة الثماني بالقرار الاقتصادي العالمي قد ولى فقد قالت في وقت سابق مفوضة الاتحاد الأوروبي للعلاقات الخارجية إنها تعتقد أنه سيكون من السابق لأوانه أن تقرر قمة مجموعة العشرين الاستجابة لمطالب بكين بأن يكون لها دور أكبر في المؤسسات المالية العالمية, وكذلك فيما يخص العملة العالمية الموحدة.

ان اعتقاد مفوضة الاتحاد الاوروبي للعلاقات الخارجية يحتاج الى مراجعة دقيقة لان معالجة اثار الازمة الاقتصادية قد القت الضوء على الترابط المتزايد بين دول معينة في عالم يتسم بالعولمة والتكتلات الاقتصادية . وهذا ما يؤكد الحاجة الى اصلاح الانظمة المالية الدولية مع منح الصين وروسيا والبرازيل والهند مثلا قولاً اكبر في المؤسسات المالية الدولية ولكن هذا لن يتحقق بسهولة حيث ان الدول المتقدمة خاصة الولايات المتحدة غير راغبة في التخلي عن هيمنتها على المؤسسات المالية العالمية والاسواق.وترى في الصين وروسيا منافسا وليس شريكا , فقد لقي اقتراح الصين القديم الجديد بخلق عملة عالمية لتحل محل الدولار رفضاً بوصفه «غير ضروري» من كثير من القادة الغرب وعلى رأسهم بالطبع الولايات المتحدة وهذا يؤكد نظرية الهيمنة والتسلط عن طريق العولمة والتكتلات الاقتصادية فتلك الازمات المصرفية والمالية العديدة التي المت في العالم وبخاصة في اميركا اللاتينية خلال العقود القليلة الماضية و الازمة المالية الاسيوية اواخر عقد التسعينيات المنصرم و الازمة المالية الروسية عام 1998 وكانما كل تلك الازمات والبلدان التي نكبت بها الامم تعيش خارج "النظام الاقتصاد العالمي الجديد" فلم تتاثر بها الدول الثماني ولكن عندما أصابت المآسي الاقتصادية دول الثمانية عمت اثارها العالم باسره

وللرد على ما قالته مفوضة الاتحاد الاوروبي هو فيما قالة المبعوث الخاص لرئيس الوزراء البريطاني السابق جوردون براون اللورد مالوخ ـ براون في قمة مجموعة العشرين في لندن ان«لا توجد استراتيجية لتحقيق انتعاش قومى فقط ولكن يوجد انتعاش عالمي تدعمه اجراءاتنا الوطنية واذا ما بدأنا التفكير والتصرف على أساس وطني ونسينا ما هو عالمي فاننا لن نستطيع الخروج من ذلك " وهل ما نصح به ديفيد ماكي المستشار الاقتصادي لبنك جيه بي مورغان تشيس، احد اكبر المصارف العالمية العابرة للقارات، من انه "في نهاية المطاف، اذا اممنا ما يكفي من النظام المالي فان ذلك لا بد ان ينجح" في وقف الانهيار المالي العالمي الحالي " ولكن بعد اجراءات "التأميم" التي لجأت اليها الادارة الاميركية والحكومة البريطانية وايرلندا حديثا وغيرها من اشكال "التدخل" القوي للدولة الرأسمالية الغربية باسم المجتمع، لانقاذ ثلاثين مصرفا دوليا من امثال جيه بي مورغان تشيس على حساب دافع الضرائب البسيط بالرغم من انه المتضرر الاول والاخير من ازمة هذه البنوك , وفي المحصلة يبدو أن عملية تغليب سيناريو الانتعاش وعودة اسواق العمل الى سابق عهدها هي عملية في غاية الصعوبة حاليا، وذلك لأن ذلك يعتمد على الكثير من المتغيرات، منها ما يتعلق بسوق الذهب والاسهم والعقارات و المواد الاولية والطاقة والتقلبات السياسية بين الاقطاب الدولية، ومنها ما يتعلق بظروف الاقتصاد العالمي وتوجهاته المستقبلية وعلى من تقع عاتقة التحكم بتلك التوجهات؟، وبخاصة ما يتصل بالسياسات الحكومية لعدة دول لها مصالح متضاربة في جزء كبير و مشتركة في جزء اخر، وبخاصة ان أمزجة المستثمرين الأفراد، والمؤسسات، والتضخم وغيرها هي متغيرات لا يحيط بها سوى علم الله «تعالى».

ما يسعى الية قادة دول مجموعة الثماني إلى الاتفاق على رسم خارطة طريق اقتصادي للعالم أو منهج للخروج من الأزمة الاقتصادية العالمية مع بقاء الهيمنة والسيطرة بيدهم وهذا ما يجعل الامور تتعقد بشكل اكبر وكان الازمة التي بدأت في شكل أزمة ائتمان مرتبطة بالقروض عالية المخاطر في سوق العقار الأميركي هي ما قاد اقتصاد العالم الى الهلاك ,لقد تحولت كرة ثلج جارفة الى معضلة عالمية جرفت معها اسواق المال وتطايرت شظاياها لتضرب الاقتصاد في كل أنحاء العالم في الصميم

وفي الواقع لم تبقى قائمة الدول التي تضم أغنى وأكبر الاقتصاديات في العالم كما هي " وتلك الايام نداولها بين الناس" فقد اضطرت الولايات المتحدة إلى الإسراع للرد على المخاوف التي أعربت عنها الصين بشأن استثماراتها الكبيرة في الولايات المتحدة إلى جانب مطالب من بكين وموسكو مجددا بتشكيل عملة احتياطية دولية جديدة. وهذا دلالة على ثقتهم الاقتصادية بالعملاق الاميركي قد تزعزعت وهنا انتهزت الاقتصاديات الناشئة الفرصة التي أحدثتها الأزمة للضغط من أجل إصلاح النظام الاقتصادي العالمي وتقاسم الهينة والسلطة على اقتصاد العالم قبل اي جهود اصلاح وترميم مشتركة والذي قد يوقف الدور المسيطر الذي تلعبه في الاقتصاد العالمي الولايات المتحدة والدولار وأيضاً الدول الصناعية المتقدمة.وإمعاناً في تأكيدهم على أن يكونوا ممثلين على ساحة القوة الاقتصادية العالمية فإن الاقتصاديات الناشئة في العالم - البرازيل وروسيا والهند والصين أصدرت أول بيان مشترك من نوعه في اجتماع وزراء مالية مجموعة العشرين الذي عقد قبل بضع اشهر وفي بيانهم دعت الدول الأربع إلى دور أكبر في الإشراف على المنظمات الدولية الكبرى في العالم ومن بينها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي اللذان كانا حتى فترة أخيرة تسيطر عليهما بشكل كبير الولايات المتحدة وأوروبا.

وتاكيدا لهذا التحليل فقد قال رئيس البنك الدولي روبرت زوليك “ لن نحل هذه المشكلة أو نضع لها حلولاً مستديمة طويلة المدى إذا قبلنا وجود عالمين”. وكذلك منتدى الاستقرار المالي ومقرة مدينة بال ي سويسرا والذي يضم ممثلين لاكبر سلطات مالية وطنية فقد كشف بالفعل عن خطط لوضع معايير رقابة مالية دولية جديدة يبدأ سريانها عقب قمة لندن السابقة. وقد تأسس المنتدى في عام 1999من مجموعة الدول الصناعية السبع للمساعدة في تخفيف ضغوط السوق المالية في أعقاب الأزمة الاقتصادية الأسيوية.

" تؤكد اقتصاديات الملاذ الآمن ان هناك قناعة دولية يكاد المجتمع الدولي، حكومات وشعوبا، يجمع عليها بضرورة البحث عن نظام عالمي اقتصادي وسياسي جديد يكون بديلا للنظام الذي تاسس في "بريتون وودز - 1" عام 1944، لكنها تواجة من جانب آلاخر تصميما رأسماليا على وضع قواعد منظمة لنسخة جديدة من الرأسمالية بعد انهيار نسختها الليبرالية والنيوليبرالية الاميركية بينما تطمح الدول النامية والفقيرة وجيوش الجوعى والمرضى والعاطلين عن العمل فيها الى نظام بديل ينهي هيمنة القطب الاميركي الاوحد الذي تحول الى مركز للاحتكارات العابرة للقارات وصندوق النقد والبنك الدوليين وغيرهما من مؤسسات "بريتون وودز - 1" المسؤولة عن الهوة المتسعة بين الاغنياء والفقراء، دولا وشعوبا

ولا استطيع مغالبة مشاعر الاحباط وانا اراقب النظام الاقتصادي العالمي الذي احتكر صنع القرار الاقتصادي والسياسي الدولي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي يواجه امكانية واقعية للانهيار بدوره، لكنه يكاد ينجح في انقاذ قلة الاقلية من الاغنياء اصحاب المؤسسات وشركات النفط والتصنيع العسكري والتي تصنع قادته وحكوماته والتي صنعت ازمته المالية الراهنة بالسطو مجددا على جيوب دافعي الضرائب، ليهدد الملايين من اصحاب الياقات البيضاء والزرقاء في عقر دوره الرأسمالية بالانضمام الى جيوش العاطلين عن العمل والجوعى والمرضى والاميين الذين همشتهم احتكاراته العابرة للقارات وهدمت حدود السيادة الوطنية لبلدانهم بعد ان حولت اوطانهم الى "جمهوريات موز" وآبار نفط ومناجم معادن يحتلها ان رفضت ان تكون مستباحة له، ويعد بقواعد وانظمة جديدة لاطالة عمره يامل في ان تجنبه تكرار ازمات مماثلة، بينما تتيح ازمته الحالية ظروفا موضوعية لبناء نظام عالمي جديد حقا تحكم العلاقات الدولية فيه ديموقراطية الاحتكام الى القانون الدولي وتحتكم علاقات البشر فيه الى القانون الانساني.

ولا يمكن ان ننسى جولة رئيس الوزراء البريطاني الاسبق براون في دول الخليج النفطية العربية ليناشدها توفير السيولة النقدية من صناديقها السيادية لاخراج النظام الرأسمالي الغربي من ازمته الحالية باسم "التعاون الدولي"، الذي تذكره هو والرئيس الاميركي السابق بوش الان بعد ان ادار بلداهما الظهر للمجتمع الدولي قبل ثماني سنوات فقط عندما قاما بغزو العراق.

ان فيض الادلة على فشل "رأسمالية السوق الحرة" و"الاسواق التي تنظم نفسها بنفسها" دون تدخل من المجتمع و"الاقتصاد الذي يعتمد على العرض"، ثم عن مليارات الدولارات التي سحبها افراد من دولة السوق الحرة من جيوب دافعي الضرائب لانقاذ الاحتكارات الجشعة التي افرغت هذه الجيوب من النزر اليسير الذي ابقته لها، ان مشاعر القهر من الازمة الراهنة وبوادر انهيار لنظام غير انساني لم تعد دولته "الرأسمالية الليبرالية" قادرة على تمويل حروبها الخارجية وتوفير الرفاه لشعوبها في الداخل في الوقت نفسه، كما هو حال الادارة الاميركية الحالية مع ازمتها المالية وحربيها على العراق وافغانستان، لكنني لا ارى القوى الدولية او الاجتماعية التي لها مصلحة حيوية في انهياره تبادر الى انتهاز هذه الفرصة التاريخية لصياغة نظام عالمي اقتصادي وسياسي جديد يحمي مصالحها.