مركز الرأي للدراسات
اعداد :حسني عايش
ايلول 2011
يعتقد كثير من الناس ان الجوع مرادف للفقر وأن العكس صحيح. لكن هل هذا الاعتقاد صحيح؟ هل يوجد فعلاً أكثر من بليون شخص في العالم جوعى لأنهم فقراء كما تدعي منظمة الأغذية والزراعة؟
لقد قام أستاذا الاقتصاد في معهد مساسوتش التكنولوجي MIT:أبهيجيت بنارجي وأستير دفلو FP:May/June, 2011 ببحث ميداني امتد من المغرب الى كينيا، ومن مصر إلى أندونيسيا والهند للإجابة على هذين السؤالين. لقد وجدا أن موضوع الفقر والجوع أكثر تعقيداً مما هو متداول، وما لا يستطيع أي إحصاء أو نظرية فخمة التعبير عنه، وأن العالم ليس حسب ما يراه الخبراء لأن كثيراُ منهم يروج لحلول أيدولوجية كاسحة لمشكلات لا يحلها العلاج نفسه لكل منها. ومن ذلك دعوة الخبراء وبرامج الغذاء في العالم الى زيادة المساعدات الغذائية للفقراء فيه، بينما الحقائق على الأرض تناقض تماماً نظرية الحل الواحد نفسه لمشكلات الجميع.
لقد أثبتت البحوث الميدانية التي قاما بها أن المساعدات تضر أكثر مما تنفع، لأنها تمنع الناس من البحث عن الحلول المبتكرة لمشكلاتهم . كما أنها وفي الوقت نفسه تفسد المؤسسات المحلية وقد تتسبب بانهيارها، أو بخلق لوبيات محلية تكرس نفسها لمواصلة تعاطي ذلك الحل (والفساد). ويضيفان: لا تندهشوا من بناء الحكومات لجهودها لمساعدة الفقراء على فكرة ان الفقير يحتاج يائساً الى الغذاء وان الكمية هي الأمر المهم.
طبعاً، لا يتحدث الباحثان عن المجاعات الطارئة التي قد تنجم عن الحروب أو القحط أو الكوارث... وإنما عن الفقراء من السكان في الأحوال العادية في العالم بعامة وفي البلدان النامية الذين يعتبرون في عداد الجوعى حسب مقاييس دولية معينة وعلى رأسها الحد الأدنى من السعرات اللازمة للفرد ليقوم بأعماله اليومية.
وفي محاولة الباحثين الإجابة على السؤالين السابقين يتساءلان: ماذا إذا كان الفقراء لا يأكلون القليل جداً من الطعام كما يُدعي؟ وماذا إذا كانواــ بدلاً من ذلك ــ يتناولون الطعام الخطأ الذي يحرمهم من المواد الغذائية اللازمة للعمل والصحة؟ ماذا إذا كان الفقراء ليسوا جوعى ولكنهم يفضلون او يختارون إنفاق فلوسهم على أولويات أخرى؟ أنظروا إلى الهند باعتبارها أحد أكبر الألغاز في عصر أزمة الغذاء تجدوا أن قصص الإعلام تتحدث عن الانتشار السريع للسمنة والسكري عندما يتعلق الأمر بالغذاء، وكلما ارتفع دخل الطبقة الوسطى في المدن. إن الهنود على الرغم من ارتفاع دخولهم يأكلون أقل وأقل. لقد تبين أنه مهما كان مستوى الدخل عند الفرد فإن مخصصاته من الموازنة الفردية للغذاء ينخفض، وأن الناس يستهلكون سعرات أقل. لا يعود ذلك لانخفاض الدخول فدخول الجميع في الهند بارتفاع. كما أنه لا يعود لارتفاع ثمن الغذاء لأن ثمنه انخفض نسبياً، أي بالمقارنة بأسعار المواد الأخرى. لقد صار الهنود يأكلون أقل في الوقت الذي صارت فيه أسعار الغذاء تنخفض. فبماذا نفسر ذلك؟
حسناً. دعونا نفترض أن الفقراء يعرفون ماذا يفعلون، فهم الذين في النهاية يأكلون ويعملون. إن معظم الناس لديهم ما يأكلونه. نعم توجد مجاعة في مكان ما ولكنها ناتجة عن سوء التوزيع لا قلة الغذاء. لقد انخفضت نسبة الذين يقولون في الهند أنهم لا يملكون ما يكفي من الغذاء من 17% سنة 1983 الى 2% سنة 2004. إذن ربما يأكل الناس أقل لأنهم أقل جوعا. ربما كان ذلك نتيجة التحسن في إمدادات الماء والصرف الصحي فقبل ذلك كان على المرأة أن تنقل الماء على رأسها من بعيد وأن تتخلص من الفضلات بعيداً. وربما لتراجع الأعمال البدنية الشاقة مثل توافر الطحين في السوق بدلاً من طحنه يدوياً وهكذا.
يفسر مجلس البحوث الطبية الهندي تراجع الحاجة الى مزيد من السعرات بانخفاض عدد الناس الذين يؤدون أعمالاً جسدية شاقة. وأن الناس في بعض القرى الهندية يستطيعون (بمعنى كل منهم) توفير ثلاثين سنتاً زيادة على فاتورة الطعام إذا امتنعوا تماماً عن تناول الكحول والتدخين، والاحتفالات المكلفة.
وفي أحدث تحديد لخط الفقر في المدن في الهند قررت مفوضية التخطيط أن عشرين روبية تقريباً في اليوم (=31 قرشاً أردنياً أي أقل من نصف دولار في اليوم) تكفي لتلبية الحاجات الأساسية للفرد من خضار وفواكه وسكر وملح وبهارات وملابس وتعليم وزيت للأكل وحبوب، وأحذية، ووقود... وأن الفرد عند هذا الحد من الدخل لا يستحق الحصول على أي مساعدة من الحكومـــة (جريدةThe Times of India,May,11, 2011).
من ذلك نستنتج أن للفقراء خيارات عدة ولكنهم لا يختارون إنفاق المزيد من الفلوس التي لديهم على الغذاء بل إنهم وبالمقدار نفسه من الاثارة لا ينفقون المزيد على الغذاء لزيادة السعرات او على المغذيات، بل يشترون أغذية لمذاقها الأفضل وإن كانت أعلى سعراً وليس لأنها أفيد أو أكثر سعرات.
لطالما اعتقدنا أنه عندما ينخفض سعر سلعة ما فإن الناس يشترون المزيد منها، ليتبين أن العكس هو الصحيح، فالأسر التي حصلت على معونات لشراء الأرز مثلاً لارتفاع سعره استهلكت أقل منه واشترت بالفرق جمبري أو لحماً مع أن الأرز أقل كلفة.
وفي تفسير ذلك يقال: إنه مع أن الأرز أرخص إلا أنه ليس طيب المذاق مثل الجمبري او اللحم. لقد جعلهم الشعور (بالغنى) يستهلكون الأقل من الأرز. إن ذلك يعني في نهاية التحليل أن زيادة السعرات لم تكن تشكل أولوية عند الفقراء، بل الحصول على أغذية أفضل طعماً أو مذاقاً.
لقد بين أمارتياسن ــ الحائز على جائزة نوبل ـــ أن المجاعات الحديثة كانت نتيجة سوء الإدارة او سوء التوزيع او التخزين وليس لنقص المواد الغذائية. ويضيف: « لم تحدث قط أي مجاعة في بلد مستقل وديموقراطي وذي صحافة حرة نسبياً (يقول المهاتماغاندي: « في الأرض ما يكفي لإشباع حاجة كل إنسان، وليس ما يكفي لإشباع جشعه.)
“The earth has enough for every man’s need, but not for every man’s greed”.
فهل نرسو هنا على سؤال الباحثين: هل نستطيع الافتراض ان الفقير وإن كان يأكل أقل فإنه يأكل بمقدار ما يحتاج إليه؟ قد يكون هذا السؤال غير مقبول ظاهرياً لأن الهنود يفضلون شراء أشياء أخرى غير الطعام عندما يصبحون أغنى. والخلاصة أن الفقراء لا يختارون أغذيتهم بسبب رخص أسعارها أو قيمتها الغذائية وإنما لمذاقها الطيب .(ولا يتسول المتسولون للحصول على المال لشراء الغذاء، بل لتلبية أولويات أخرى عندهم). يقاوم الفقراء ــ غالباً ــ خططنا «العظيمة» لخدمتهم، لأنهم لا يشاركوننا الاعتقاد بفاعلية تلك الخطط او بجودتها كما ندعي.
يجب أن نعلم او نتعلم مما مر أن هناك أشياء أخرى أهم عند الفقراء من الغذاء بالنسبة إليهم. إن الفقراء في البلدان النامية ينفقون مالاً كثيراً في المهور والأعراس، والأعياد، انسجاماً مع الأعراف والتقاليد، ففي جنوب إفريقيا ينفق الفقراء بسخاء على الجنازات على حساب فاتورة الغذاء في الأشهر التالية. وبما أن الحياة بليدة ــ إجمالاً ــ في القرية فإن القرويين يفضلون الإنفاق على تعليم أبنائهم، أو اقتناء تلفزيون أو CD أو تلفون خلوي او على السجائر... على تحسين الغذاء الذي يقال إن قلته ناجمة عن الفقر وكما هو واضح فنحن ــ غالباً ــ ما نرى عالم الفقراء كأرض فقدت الفرصة. وهنا يسأل الباحثان أو يتساءلان: لماذا لا يستثمر الفقراء فيما يمكن أن يحسن حياتهم؟ ربما لأنهم أكثر شكاً في الفرص المفترضة، وفي إمكانية وقوع أي تغير راديكالي في حياتهم. إنهم غالباً ما يتصرفون وكأنهم يعتقدون أن تغيرا جذريا في حياتهم يستحق التضحية يحتاج إلى مدة طويلة جداً ليحدث. لعل هذه النظرة تفسر لنا لماذا يركزون على اللحظة الراهنة ويعيشون حياتهم بسرور كلما أمكن ذلك. إن التلفزيون عندهم أهم من الغذاء.
يجب أن تجعل هذه الدراسة المحسنين والمسؤولين يعيدون النظر في نظرياتهم للفقر والجوع، ونعتقد في ضوء ذلك أن آخر ما يفكر المستفيدون من صندوق المعونة الوطنية في الأردن منه هو زيادة الصرف على الغذاء، لأن الغذاء موجود لديهم أصلاً (وإن كان لا يكفي في نظر المحسنين والمساعدين) ولكن المستفيدين يصرفون معظم المعونة التي يتلقون على أغذية أزكى، أو على السجاير، أو على تلفون خلوي، أو على تلفزيون جديد... وربما على سيارة جديدة . ومع أن المحسنين يعتبرون هذه الأدوات كماليات لا يجوز أن تستخدم مساعداتهم للحصول عليها، إلا إن المستفيد أو الفقير حد الجوع يعتبرها ضروريات لا بد منها. ومن جهتي أعتقد أن كثيراً من طرود الغذاء المرسلة إليهم يبيعونها ليشتروا بثمنها ما يشتهون، وربما بوظة أو DVD ... في الفترة التي كانت وكالة الغوث توزع فيها الكثير من المواد الغذائية على اللاجئين كان كثير منهم يبيع ما يحصل عليه ويشتري بثمنه أشياء أخرى. ...
إن الفقراء ــ ما خلا الفقراء المعدمين الصائمين في رمضان ــ يحبون ــ إجمالاً ــ المساعدات العينية بل المالية ليتصرفوا بها على كيفهم، وحسب أولوياتهم. مما يجعل المبدأ التعليمي الذي نادى به المفكر الصيني كوانتزو قبل أكثر من ألفي سنة لا يزال صحيحاً ومطلوباً: إذا أعطيت الرجل سمكة فإنه يأكل مرة واحدة. أما إذا علمته صيد السمك فإنه يأكل طيلة حياته»، وأن مشكة الفقير أو محنته ليست في الغذاء، بل في المرض، فإن لم يكن الفقير مؤمناً صحياً فإنه يعاني كثيراً.
إنني أدعي وكما ذكرت في إحدى الندوات الخاصة بالفقر في الأردن أنه توجد قلة قليلة من الفقراء المعدمين في الأردن ولكن لا توجد (ظاهرة) فقر معدم فيه لأنه ما من مواطن ــ إجمالاً ــ إلا ويقتني تلفزيوناً، أو تلفوناً خليوياً، أو يدخن، أو يملك سيارة، أو شقة وإن بالتقسيط أو لديه واحد من الأسرة (أو أكثر) موظف في القطاع العام يتمتعون بامتيازات مادية لا حصر لها، أو يتلقى دعماً مالياً من صندوق المعونة الوطنية أو إدارة الزكاة...وقضية البورصات الأجنبية كانت فرصةلاكتشاف كثيرين متورطين فيها مع أنهم يتلقون الدعم من هذه المصادر.
أما الشكوى الناتجة من ضيق اليد (أو الفقر) فناتجة من مد الجميع أرجلهم أطول من فراشهم، ومن الإنفاق الزائد جداً عن الدخل، فنحن نعيش في عصر الاستهلاك الذي لا يقابله إنتاج يغطيه. إنه التطلع الاستهلاكي المتصاعد الذي لا يقابله إنتاج متزايد، مما يجعل كل واحد ــ إجمالاً ــ يشعر أنه فقير بالمقارنة والتطلعات الاستهلاكية.