11/10/2011

مركز الرأي للدراسات
اعداد : شوقي يونس
تشرين اول 2011
عربة خضار ومواطن تونسي وشرطية، ثالوث الشرارة الاولى التي فجرت ثورة عارمة عصفت بالعالم العربي وانتشرت كالنار في الهشيم، فمن تونس الخضراء كانت البداية, مرورا بمصر الكنانة، لتطبق على ليبيا المختار، لتمتد بعدها الى الشطر الآسيوي من الوطن العربي، فصوت الجماهير الهادر في اليمن السعيد، يؤازره بقوة صوت الجماهير المجلجل في سوريا المكلومة، فالمصير واحد، والهدف واحد، والشعار واحد, والهتاف واحد ( الشعب يريد اسقاط النظام).
ربيع الانقلابات العسكرية
ان القيادات العربية المتهاوية وانظمتها الفاسدة والتي اغفلت نبض الشارع واهملت مطالب الملايين من الفقراء المنهكين المهمشين والمسحوقين، في سبيل الحفاظ على مكاسبها الشخصية غير المشروعة، هي ذاتها القيادات التي جاءت من رحم هذه الشعوب في غفلة من الزمن، وتربت في حواري القرى النائية، واكتسبت ما تمتلكه من عادات وانماط تفكير وسلوك من مجتمعاتها المحلية، فهؤلاء الحكام عانوا ما تعانيه شعوبهم اليوم منهم، بعد ان كانوا قد شاطروها الفقر والجوع وقاسموها كسرة الخبز وجرعة الماء ونسمة الهواء، ومن ثم تمردوا على المبادئ والقيم التي حملتهم الى سدة الحكم، واستكبروا وعلوا علوا كبيرا، وهذا ليس دفاعا عنهم، بل على العكس من ذلك تماما، فما هو الا خوف وتحذير مما تعانيه الامة من مرض اجتماعي مستشر في جسدها، فالحكومات الثورية القادمة والتي نستقبلها اليوم بالتهليل والتكبير، بعد ان تمت الاطاحة بصنائع اعداء الامة من الانظمة الفاسدة، قد جاءت من رحم الشعب ايضا وبفعل تضحياته الجسام، فليس اقل من ان نهيب بها ان لا تسلك خطى من سبقها، فتلقى المصير ذاته.
ومن هنا دعونا نحتكم الى التاريخ القريب، فقبل ما ينوف عن اربعة عقود من الزمان عاشت الامة العربية ربيع الانقلابات العسكرية، في ظل فورة الفكر الماركسي والاشتراكي ابان الحرب الباردة ما بين قطبي السياسة العالمية في ذلك الزمان، الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الامريكية، وقد كان استقبال الشعوب العربية لقادة هذه الانقلابات بالكثير من التهليل والترحيب باعتبار ان زمن الانظمة الرجعية الفاسدة قد ولى الى غير رجعة، وحل مكانه زمن الحرية والكرامة والعزة ، الا ان ذلك لم يكن صحيحا بالمطلق، ففي ظل ضبابية المرحلة وغياب العمل المؤسسي والرقابي لدى الدول العربية التي كانت ما تزال ترزح تحت وطأة الوصاية المباشرة، والتبعية، وما لها من اثار وتداعيات مدمرة، وفي ظل تعدد المرجعيات والمصادر الخارجية التي لم تكن تخفي اطماعها ومآربها، مما ادى الى تضارب في الافكار والمبادئ والمصالح وعدم وضوح الرؤية لاستشراق المستقبل، وفي ظل افتقار الشعوب العربية لادنى مقومات العمل المنهجي المشترك المتمحور حول وحدة الهدف والمصير، كل ذلك ادى الى حالة من الفوضى والانفلات وخروج الامور عن نصابها، مما ادى الى اتساع الهوة بين الحاكم والمحكوم واختلال في المعايير التي كان من المفروض ان تضبط هذه العلاقة، مما قدم لنا تفسيرا واضحا لموجة الاغتيالات والانقلابات والانقلابات المضادة التي سبقت وتلت تلك الحقبة، في حين كانت الشعوب العربية تراقب مثل هذه الاحداث بلا حول لها ولا قوة، واقتصر دورها على التهليل تارة والعويل تارة اخرى.
ومع انهيار الاتحاد السوفيتي وسقوط معادلة التوازن الدولي، بلغ الانحراف اشده، وتعلم الحكام دروسا ممن سبقهم في كيفية الحفاظ على مناصبهم، فابرموا التحالفات التي تضمن لهم ذلك، حتى وان كانت هذه التحالفات تتعارض مع مصالح شعوبهم، واحاطوا انفسهم بجدران فولاذية، واتقنوا مهارات اللعبة السياسية، وسخروا الاعلام الوطني لهذه الغاية، وجيشوا الزبانية من المنتفعين والمتسلقين والعملاء، للذود عن حياضهم، ومارسوا ادوارا مشبوهة في مختلف المجالات وعلى كافة الصعد، دون رقيب او حسيب وعبر اساليب بوليسية وقمعية، والاعيب بهلوانية، وكلما اوغلوا في الفساد وزين لهم الشيطان افعالهم، ازدادوا تشبثا بمناصبهم وازدادوا يقينا بانهم القيادات الفذه الملهمة التي لا يشق لها غبار, والتي عجزت حرائر العرب ان يلدن لهم مثيلا، حتى وصلت بهم الامور الى التصديق بان وجودهم، ووجود ذريتهم من بعدهم على سدة الحكم هو الضمان لاستمرارية هذه الشعوب بالحياة، فهم صمام الامان الذي يحفظ للشعوب هيبتها ضمن مقولة ليس بالامكان افضل مما كان، ومن هذا المنطلق والمفهوم البائس، فهم يفضلون اهراق دماء شعوبهم على الاستجابة لمطالبها المشروعة، ويفضلون تسليم العباد والبلاد وثرواتها الى دول طالما عرفت بعدائها لهذه الامة على ان يتخلوا عن مناصبهم ومكتسباتهم الثورية غير المشروعة.
وقد شاهد الجميع وسمع استغاثة المتظاهرين الذين واجهوا الموت بصدورهم العارية ومن يمثلهم، باستعدادهم للتحالف مع الشيطان للتخلص من ظالميهم وجلاديهم، وقد شاهد الجميع رفع الثوار لاعلام ورايات دول غربية استعمارية وتقبيلهم لها بكل سرور واجلال، نتفهم تصرفاتهم تلك وقد نجد لها تبريرا، ونعرف ان مثل هذه الافعال لم تكن نابعة من ولائهم او حبهم لتلك الدول بقدر ما هي تعبير عن هول ما تعرضوا له على مدى عقود من الزمان من قهر وظلم وحرمان ، ومن ثم ما عانوه ويعانونه من تنكيل وقتل واجرام واراقة للدماء الطاهرة على مذابح الحرية، كل ذلك على ايدي زبانية الحكام الذين كان من المفروض ان يتفانوا في خدمة شعوبهم لحمايتها وصون ثرواتها وكرامتها، ولما لم يجدوا لصرخاتهم اذانا صاغية، ولا ايادي ممدودة من امتهم العربية والاسلامية لاغاثتهم او تضميد جراحاتهم، التجأوا الى من كان السبب الاول والوحيد في معاناتهم من اصحاب الاطماع والامتيازات من دول استعمارية حاقدة فأضحوا كمن استجار من الرمضاء بالنار، ومن هنا كان من الطبيعي والمتوقع ان يهب هؤلاء لانقاذ ما يمكن انقاذه من مصالحهم في المنطقة، بل ولتحقيق المزيد من المكتسبات، مستغلين يأس الشعوب وعجزها امام الة البطش الجهنمية المسلطة على الرقاب، فكانت المساومات ابان الثورات المشتعلة (عرضا وطلبا )، فالدعم اللوجستي له ثمن، والسلاح له ثمن، والاعتراف له ثمن، ووحدها دماء الشعوب كانت مجانية، لتتوزع ثروات الامة الثائرة على الظلم، فلا يبقى للشعوب العربية من كعكة هذا الربيع الدموي سوى الفتات المغموس بالجراحات واطياف احلام وردية تذروها الرياح ، ليبدأ فصل جديد من فصول المأساة العربية.
ربيعنا العربي
ومن هذا المنطلق، وخشية ان نرى ربيعنا العربي يسرق امام ناظرينا، ولكي لا نستمر بالدوران في حلقة مفرغة من الضياع والهوان دون طائل، يجب اولا ان نضع اسسا راسخة، نتعلم من خلالها افرادا وجماعات كيفية المشاركة الايجابية في اطار من الاحترام المتبادل القائم على تغليب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، وعلينا ان نتعلم ايضا من خلال هذه الاسس كيف ومتى يجب على الانسان منا ان يتنحى بكرامة من موقعه ايا كان، ودون الحاجة الى الانتظار حتى تتم اقالته او اجتثاثه بالمجرفة، ولا يمكن ان يتحقق ذلك الا بممارسة الديموقراطية الحقيقية التي لا بد ان يكون لها روادها من الرجال المخلصين القادرين على احداث التغيير الفكري والاجتماعي المطلوب، كل في موقعه لوضع حجر الاساس للابتعاد تدريجيا عن الارتهان للاعداء او الدوران في افلاكهم والخضوع لارادتهم، بحيث يكون هؤلاء الافراد مثالا يحتذى لصنع ديموقراطية تحرر الفكر وتسمو بالاخلاق ويرتاح لها الضمير في ظل مكاشفة حضارية وتواصل بناء ، مع فهم عميق للمسؤوليات والواجبات والحقوق.
هل انتهت المعركة بانتصار الثورة ؟
وهنا نتساءل هل انتهت المعركة بانتصار الثورة وسقوط الجلاد، او بمحاكمة فلان وادانة علان، وهل انتهت المعركة باعتلاء قيادات ثورية جديدة سدة الحكم، لا لم تنته المعركة، فما زالت هناك فسحة من الوقت امام هذه القيادات كي تستفيد من اندفاع الشعب وعظم الانجاز، وتقتنص الفرصة السانحة لتحقيق الحلم العربي، وان تتجاوز عقدة النقص والضعف كموروث اجتماعي مسلم به، وان لا تستسلم امام الحقائق والواقع المرير المكبل بمواثيق التبعية والذل، وان لا تراهن، كما سيوحي لها النخاسون، على عامل الوقت، وثقافة الفزعة العاطفية، وذاكرة السمك اللحظية التي تتمتع بها الشعوب العربية، بحيث ترتضي للشعوب باليسير من مردود تضحياتها، وبالفتات مما كانت تصبو اليه، فالشعوب العربية التي قدمت الاف الشهداء من اجل ربيع لم تقطف ثماره بعد ما زالت حية، ولن ترضى على المدى البعيد ان تعود الى نقطة البداية في حال انكشف المستور، وتبين ان الفرصة قد فاتت، وان الربيع المنشود قد مات في اروقة ودهاليز السياسة الدولية قبل ان يزهر, فهذا عالم تحكمه شريعة الغاب، فالقوي يأكل الضعيف، ومن لم يكن له جذر ضارب في الارض وفرع يعانق عنان السماء حتما سيكسر، فالثورة لم تنته بعد والمعركة ايضا لم تنته، مازالت هناك اذرع تلوى وعظام تتكسر لفرض استحقاقات سرية ستتحملها الشعوب العربية على المدى الطويل، الله يعلم حجمها وماهيتها بالاضافة الى نفر قليل من المنغمسين في اوحال السياسة، والذين تصدروا الواجهات الاعلامية كمطالبين بالحرية والعزة والكرامة، فالتنظير شيء والواقع العملي شيء اخر.
فاين سيكون الخطأ، ومن سيتحمل المسؤولية في حالة حصل ما نخشاه وتمت سرقة ربيعنا العربي امام ناظرينا، وخصوصا ان نصير الشعوب العربية الثائرة هو احد اثنين، اما عدو يتجهمهم، واما قريب لا يملك من امره شيئا، ففي ظل هذه المعطيات نقول بان الخطأ لن يكون خطأ الشعوب العربية، ولا خطأ حكامهم الراحلين وغير المأسوف عليهم، ولا خطأ القادمين الجدد، بل هو خطأ الجميع دون استثناء، لاننا عاقرنا الفشل حتى الثمالة واعتنقنا مفاهيــم خاطئة منذ الصغر تتلخص فلم نعد نملك من أمرنا شيئا، ولا نرى ابعد من انوفنا، ونكتفي بما يلقى الينا من فتات، ونغفل عن الكثير مما كان من الممكن ان يتحقق لو كنا نمتلك نفسا اطول وذاكرة اعمق، الم يكن بالامكان ان نحارب الصانع والصنيعة سواء بسواء، بأن نرفض العون الذي ياتي على غفلة منا مقابل ثروات بلادنا وعلى حساب حريتنا على المدى البعيد، او ان نقلل من اثاره السلبية قدر المستطاع، كي لا نلوث طهر الدماء التي نزفناها، وان نصنع ربيعا بكرا يانعا خصبا خاصا بنا لا يشاركنا فيه نخاس او مراب، كان من الممكن ان نصنع مجدا يمكن استثماره بخطة منهجية للوصول الى زمن نمتلك فيه نواصي امورنا، بان نزرع في الجيل القادم ولو بذرة، بذرة للاحترام المتبادل والعفة وروح المشاركة الايجابية البناءة، فمن الجيل القادم سيأتي قادة المستقبل يحملون جيناتنا الوراثية وامراضنا الاجتماعية، فهم على ما تربوا عليه، ان صلحوا صلحت الامة، وان فسدوا فترقبوا مزيدا من الثورات القادمة لا محالة ومزيدا من الارتماء في الاحضان، ومزيدا من الدوران في حلقات مفرغة لن تصب نتائجها الا في صالح الاعداء.
ما اشبه اليوم بالبارحة، فهل منا من مبادر يعلق الجرس، ويخرجنا من عنق الزجاجة ودائرة الفراغ، والضياع، وضيق المكان، الى رحابة الوطن العربي الكبير كي نحظى بغد مختلف؟؟.