الساعة

تحديات تطبيق الجودة في المؤسسات العربية

19/10/2011

مركز الرأي للدراسات

اعداد : مهند النابلسي

تشرين اول 2011

خلال العقود الثلاثة الماضية تطورت علوم الجودة بشكل لا فت وخاصة في مجالات الصناعات الانتاجية، وقدمت أدوات منهجية لتحقيق التميز في معيار العمليات تحديدا. وتضافرت مفاهيم « الجودة الرشيقة مع الحيود السداسي « بشكل غير مسبوق، بحيث يتم اختزال الهدر ومعالجة الاختلافات والحيود والأخطاء في العمليات، هكذا استطاعت «الجودة الشاملة « تجديد نفسها لمواكبة تحديات الجودة في القرن الحادي والعشرين، الا ان هذا الشكل الجديد المتقدم لمنهجيات الجودة ما زال يحبو بتواضع في مجتمعاتنا الصناعية والخدمية والحكومية، وكأن تقدم الجودة توقف عند تسعينات القرن الماضي، فما زالت صناعاتنا وخدماتنا العربية تعاني ضعفا ملموسا وكفاءة متدنية وجودة متواضعة، وحتى الأنظمة القياسية للأيزو والأعتمادية وشهادات التميز، أصابتها عدوى الاستعراض والشهادات، وفقدت نكهتها الأصلية ومقصدها والمغزى، واصبحت في معظمها جهودا استعراضية تتوج بشهادات حائط ودروع، فاقدة لروح التميز الحقيقية، ولا تنعكس كما ينبغي على جودة المنتجات والخدمات المقدمة.

عدم وجود مرجعية عالمية

من هذا المنطلق رأيت أن الخص جملة أسباب جوهرية أرى شخصيا أنها مسؤولة عن تواضع تطبيقات المفاهيم العصرية للجودة سواء في الصناعات أو الخدمات :
عدم الالتزام بتطبيق ادوات الجودة نظرا لنقص المعرفة بآلية تطبيقها، ولعدم القناعة بجدوى تطبيقها
البريق الاسمي لشهادات الجودة، بحيث يتم التركيز عليها اسميا دون ان يترافق ذلك مع الكفاءة العملية وانجاز المشاريع.
استخدام اصطلاحات متخصصة دونما فهم حقيقي لها ولآلية تطبيقها، كمنهجية « الدوميك « في الحيود السداسي كمثال، كما ان دخول عدم المتخصصين أدى لسوء استخدام المنهجيات، فبعض الشركات تطبق الحيود السداسي بطريقة عشوائية غير منظمة، ولا تحقق الأهداف المرجوة !
تفاوت فترات التأهيل في المساقات الحديثة للجودة من اسبوع لاسبوعين، لتصل جديا لأكثر من 180 ساعة، مما يؤدي لعدم التجانس والتفاوت الملحوظ في المعرفة.
عدم اعطاء المجال للخبرة العملية ليتم انضاجها، فالمعروف عالميا أن حامل الحزام الأسود أو الأخضر يحتاج لسنة على الأقل ليتمكن من انضاج وتطبيق خبراته بكفاءة ومقدرة.
كثرة المدعين والخبراء المزيفين الذين يفتقدون لخبرات التطبيق العملية، ونلاحظ ذلك جليا في كثرة وازدحام «دكاكين « التدريب والاستشارة وبلا ضوابط أو قيود معرفية.
نقص المواصفات المعيارية القياسية، فكما قلت فان تدريب الأحزمة السوداء يتفاوت ما بين اسبوعين لستة أسابيع، حتى يصل لستة عشر اسبوعا في بعض الجامعات، وهذا مؤشر واضح لعدم الاتفاق على المادة العلمية وفترات تقديمها.
عدم وجود جهة مرجعية عالمية، في البداية قامت جمعية الجودة الاميركية بهذا الدور ولسنوات طويلة، وأخيرا فقد تم تأسيس مرجعية عالمية جديدة، وتسمى « الجمعية الدولية لتصديق شهادات الحيود السداسي « (ومقرها في أميركا).
ضعف الصياغة اللغوية وطغيان التعبيرات الجاهزة والمكررة، فقد دخل عدد كبير من المبتدئين والهواة على سوق الجوائز لاهداف مادية بحتة (سواء كمقيميين أو مرشدين) وبلا مهارات مقبولة في الصياغة اللغوية، مع كثرة استخدام التعبيرات «الخشبية « الجامدة والتي لا يفهم منها شيئا !
الأصل التاريخي لمفاهيم التميز، فما زال الكثير من المعنيين يعتقدون أن مجال تطبيق مفاهيم وأدوات الجودة ينحصر تحديدا في المجالات الصناعية، مما يمنع انتشار مفاهيم الجودة العصرية في قطاعات الخدمات والبنوك والصحة وغيرها، ويجعل تقبلها صعبا.
ضعف المعرفة الاحصائية أو الرياضية، فالكثير من مفاهيم وأدوات الحيود السداسي يعتمد على فهم الرياضيات والاحصاء، بينما غالبية الموظفين غير مؤهلين لفهم هذه التقنيات الاحصائية، وبالتالي يصعب تبنيها وتعميمها لحل المشاكل.
خليط المعرفة التقنية مع المهارات الناعمة، بمعنى ان التميز المؤسسي او العملياتي يتطلب خليطا متوازنا ما بين المهارات التقنية كالاحصاء والرياضيات، وما بين مهارات التعامل مع الزبائن والعاملين والمدراء، ناهيك عن مهارات ادارة المشاريع والمهارات المالية، ومن الصعب احيانا ايجاد كوادر قادرة على فهم كل هذه المهارات.

مقاومة إدارة التغيير

البيروقراطية المستفحلة بمعنى مقاومة ادارة التغيير وتكامل مفاهيم الجودة داخل النسيج «النووي» للمؤسسات العربية، فهذه المفاهيم «الثورية» الطابع تتطلب مرونة وتكاملا وتقبلا ولا تنسجم أبدا مع طغيان الروح البيروقراطية في المؤسسة، والتي تمجد التراتبية السائدة وتنبذ بشدة مفهوم «التقاطع الوظيفي» ، الذي يعتبر بحق الأرض الخصبة لتفاعل ونمو مفاهيم ومنهجيات الجودة العصرية.
الاسترخاء والتقاعس، ربما تبدو هذه المفردات قاسية وذات طابع وصفي، ولكن الواقع يدل على انتشارها المتفشي في الكثير من المؤسسات العربية، فهناك شعور طاغٍ بالاسترخاء وعدم المساءلة، ثم ان كل شخص في فرق الانجاز يعتقد ان شخصا آخر سيقوم بالعمل المطلوب، والبعص يتحجج بأنه غارق بالعمل الروتيني ولا وقت لديه لانجاز متطلبات التميز !

عدم قدرة القيادة على ربط محاور ادارة المشاريع وادارة التغيير والتخطيط الاستراتيجي ضمن مثلث واحد متكامل، وبالتالي العجز عن انجاز متطلبات التميز بصورة متكاملة.
عدم تضمين أدوات ومنهجيات الجودة العصرية لمتطلبات جوائز التميز، مما أدى لتحويل السباق للجائزة (أحيانا) لنمط مركب من حيث « اعمل ما نطلب « أو « اظهر أنك تعمل ما نطلب منك حسب معايير الجائزة «، وصغ ذلك بطريقة ماهرة، ثم جهز كل الوثائق الداعمة والمعززات في التقرير أو عند الزيارة الميدانية،وبالتالي يصعب احيانا التأكد من توطين الممارسات المثلى ومبادىء التميز الثمانية في كاقة مواقع العمل، التزاما بروح الجوائز العالمية والمحلية، وقد يحدث العكس أحيانا فيعجز المقيم الضعيف الخبرة عن الالمام بعمق انتشار المنهجيات في انحاء المؤسسة، ويفضل النجاة بنفسه واعطاء العلامات المتدنية هنا وهناك بالرغم من عدم توازن ذلك مع عدد نقاط القوة وفرص التحسين، خارجا بتقرير تقييمي غامض وضعيف لا يستفاد منه !

التفاوت الهائل في قدرات وخبرات ومعارف المقيميين المعنيين، وذلك تبعا لسنوات الخبرة والمعرفة المتراكمة ولطرق التدريب الجديدة للمقيميين التي تتبع اسلوب تحضير الطعام السريع ! فخلال دورة تستغرق خمسة أيام يتحول شخص لا يعرف الكثير عن الجودة والتميز الى مقيم يدعي المعرفة، بالرغم من كونه لا يستطيع اعطاء العلامات الصحيحة، ولا تحديد كل نقاط القوة وفرص التحسين، وربما يفتقد للنظرة الانطباعية المطلوبة الشاملة، مطبقا أساليب التدقيق لا التقييم، وكل ذلك قد ينعكس سلبا على التقرير التقييمي فيظهر بشكل غير متوازن ولا يعطي للشركات القيمة المضافة المطلوبة !
ضعف القدرة على تطبيق أدوات رياضية معينة تفيد كثيرا في حل المشاكل وايجاد الحلول الجذرية، مثل أداة « تصميم التجارب «، و « أداة تحليل الاختلافات «، وغيرها من الأدوات المعقدة التي تستخدمها معظم الشركات الكبرى الناجحة.

الزيارة الميدانية

تحول الزيارة الميدانية الى زيارة مكتبية، حيث يقوم فريق التقييم في معظم الأحيان بالاكتفاء بالزيارات المكتبية للشركات، لمعاينة الكم الكبير من الوثائق والتقارير ومقابلة المدراء والموظفين المعنيين، دون الاهتمام بالقيام بجولات ميدانية ومقابلة أشخاص في مواقع عملهم والاطلاع على مشاكل وانجازات العمل، وبالتالي تحولت عملية الزيارة الميدانية لتقييم وثائق وتقارير بدلا من ان تكون عملية تقييم « انطباعية « وشاملة للمؤسسات المعنية، وأصبحت عملية التقييم مطابقة لعملية التدقيق في الأيزو.
ضعف الاقبال على قراءة الكتب والمقالات المتخصصة وقصص النجاح والاخفاقات العالمية في كافة مواقع ومساقات وشؤون الجودة المتقدمة (الألكترنية او المطبوعة)، كذلك ضعف فعاليات الترجمة العلمية، ويعزى ذلك لأن « امة اقرأ لا تقرأ !»، وان قرأنا لا نفهم الامور في نصابها الصحيح، وعلى سبيل المثال فقد نشرت وكتبت عشرات المقالات التي تتطرق لشؤون الجودة والتميز ونادرا ما تصلني أية تعليقات أو تغذية مرتدة!
عدم الرغبة والتردد في عرض قصص النجاح والاعلان عنها بحيادية ووضوح، كما يقابل ذلك الاخفاق في توضيح وتحليل أسباب الفشل وتلخيص الدروس المستفادة، ويعزى ذلك لعدم انتشار مفهوم وأداة « المرجعية القياسية « من حيث قلة النماذج الريادية التي يمكن نسخ أو اقتباس تجربتها، اما لصعوبة انتشار هذه التجارب أو للكسل وعدم الرغبة في بذل الجهد والوقت لايجادها.

وللحقيقة فبعض هذه المعوقات لا توجد فقط في البيئة المحلية أو الاقليمية وانما هي ذات سمة عالمية، ومعالجتها صعبة ومعقدة، وتتطلب الحكمة وتضافر الجهود والصبر ومواجهة المشاكل وعدم المكابرة، ومن ثم اجراء تقييم صريح منفتح للتجارب القائمة ومعالجة كافة الاقتراحات بهدوء وصبر وتفاعل، والأخذ بالتوصيات البناءة، وتتحمل القيادة دورا محوريا شاملا، وربما يتطلب الأمر عقد مؤتمر وطني أو اقليمي للجودة لبحث مجمل هذه الامور بشكل مترابط ومن ثم الخروج بتوصيات عملية وتشكيل فرق عمل لبحث الحلول والمباشرة بتطبيقها ضمن جدول زمني واضح. أرجو أن اكون قد وفقت في تحديد بعض المعوقات التي تقف أمام تطور وتقدم صناعاتنا وخدماتنا العربية، وكلي ثقة من أن هذا المقال سيشعل وميض التفكير لايجاد الحلول الناجحة والمقبولة، فقد آن الأوان لتبني مفاهيم الجودة العصرية بروحها ونكهتها الأصلية، بعد ان ضيعنا حوالي ثلاثة عقود فالزمن لا يرحم المتخاذلين في عصر العولمة والانفتاح.