26/10/2011
مركز الرأي للدراسات
اعداد : خالد وليد محمود
تشرين اول 2011
لا شك أن اللغة ليست أداة للتواصل أو وعاء لحفظ التراث الإنساني فحسب لكنها هي التي تعطي للإنسان تميزه وقدرته على التفكير والإبداع ، وهي مرتبطة ارتباطا جوهرياً بهويته ، والهوية جزء من الذات ، ولهذا كان لابد من الاهتمام باللغة العربية وإعطائها المكانة اللائقة بها بوصفها لغة الدين والتراث والحضارة ، وبوصفها الرابط الوثيق بين أبناء هذه الأمة على اختلاف بلادهم ومذاهبهم .
وكل شعوب العالم تهتم بلغاتها ولا تسمح بطمسها، بل أصبحت الأقليات التي ليست لها لغات معتمدة تعمل على تقوية لغاتها.. أما نحن العرب فما زلنا لم ننه إشكالياتنا اللغوية المتوارثة حتى نصطدم بمشكلات لغوية عبر الإنترنت ؟!
التحديات اللغوية عبر الحاسوب أو الكمبيوتر، التي يمكن أن تواجهنا في إنجاز حضور اللغة العربية بقوة وبعلمية دقيقة، لا تعد ولا تحصى، وتزداد تعقيداً بسبب تأخر العرب حتى في المحاولة الجادة لإيجاد صيغ الحلول العملية، وكل دقيقة تمرُّ تزداد الهوة والإشكالية حدة.
ربما كانت الشعوب المغربية الأكثر انتباها إلى خطر أمنها اللغوي من غيرها، بحكم طبيعة وهوية الاستعمار الفرنسي عن غيره، ما جعل تلك الشعوب ونخبها تشعر بخطر حقيقي على أمنها العام، وذلك من بوابة «الأمن اللغوي»، وذلك لما تحمله اللغة من هوية ثقافية وحضارية للأمم.
في الشرق جاء الاستعمار على أشكال متعددة، ولم يدم ما دام نظيره المغربي ، ما أفقد «الاستعمار الفرنسي» تأثيره الثقافي الذي ظهر في المغرب العربي، رغم وجود بعض المظاهر التي يمكن أن تتطابق في «التغريب» اللغوي والثقافي عند بعض شعوب المشرق أو أجزاء منها.
لقد أدركت النخب المغربية خطورة ما يجري لها من استلاب هوياتي بدأ باستبدال كلمات أخرى بالكلمات العربية ليس بكونه استبدال «رمز» صوتي بآخر، فالكلمات ليست فقط ترميز ومخارج حروف وأصوات للحاجات الإنسانية يمكن الاستعاضة عنها بالإشارة مثلا، هي كل ما يحمله متحدثها من تاريخ وثقافة من «حاضر» و»ماض»، وهي أكثر من ذلك استشراف دقيق لما سيأتي من «مستقبل».
ثمة تواشج بين اللغة والفكر والحضارة، فلا أصول للفكر من دون اللغة، ولا حياة للأمة بمنأى عن اللغة، فهي هويتها القومية وعنوان وحدتها وسر وجودها وأساس بنائها الحضاري وبعدها الإنساني.
وفي مقابل بروز مصطلح الأمن اللغوي بين النخب العربية، يبرز سؤال في خلفية هذا المصطلح لا يخفى على المدقق، يقول: ما هو اللا أمن اللغوي عند الأمم؟
تعد اللغة من أهم المعالم المحددة لهوية دولة أو أمة ما، فهي وإن كانت رَمزاً إلا أنها تُختزل فيه الخطوط التاريخية والجغرافية للثقافة القومية، ومنطلق مركزي لتحليل وفهم الصيرورة الحضارية للمجتمع في راهنيته وجذوره الأكثر عمقا.
وإذا كان الدستور المغربي ينص على رسمية اللغة العربية، فإن ذلك لم يكن كافيا لتمتعها بالوضع الاعتباري الذي يجعلها رمزا للمواطنة والانتماء الحضاري، بما يحقق الاستقلال اللغوي كأساس من أسس الاعتراف بالذات واحترامها.
عندما ينظر إلى شعب ما يقول إنه مستقل، ثم ترى دارجته قلقة بين مفردات عربية وأخرى انجليزية، وثالثة فرنسية، فاعلم أن ادعاءه باستقلاليته أمر بحاجة إلى تدقيق.
عدد من المتخصصين انتهوا إلى ذلك، بل وتوسعوا فيه من زواياه المختلفة حتى ذهب منهم إلى أن الحروب القادمة لن تكون عسكرية بل لغوية. ولكن يمكن أن نضيف إلى ما ذهب إليه المتخصصون بأن هذه الحروب أكثر الحروب سرية، فمن أعلن عليه الحرب فيها لم يدرك بعد ذلك، بل وهو في كثير من الأحيان حليف قوي وفاعل لمن أعلن عليه الحرب.
ما نقصده كانت قد ترجمته الولايات المتحدة الأمريكية في إطار حربها على الإرهاب بشكل حرفي. فاللغة العربية كانت تدرّس في البوسنة والهرسك في مرحلة التعليم العام، ولكن في منتصف عام 2002م ضغط الأميركيون عليهم كي يتوقفوا عن تدريسها بحجة تطبيق برنامج شامل لمكافحة الإرهاب، فأصدر وزير التعليم هناك قراراً بوقف التدريس.
وفي العراق ظهرت محاولات أمريكية أطاح بها الشعب العراقي تتعلق بإحلال الحرف اللاتيني بدل الحرف العربي بدفع من قبل أطراف أخرى.
وفي الجزائر، وبينما حارب الفرنسيون اللغة العربية اندفعوا إلى دعم اللغة البربرية في الجزائر إبان الاحتلال وبعده، ومن ذلك أنهم عمدوا بعد استقلال الجزائر إلى تأسيس (أكاديمية اللغة البربرية) ومقرها باريس.
وهذا الغزو يتسع ويتعمق إذا ما أردت أن تصنع بنفسك بعضا مما اعتدت على شرائه من تلك الإمبراطوريات، فاللغة الأجنبية العالمية هي الوعاء الأوسع للثقافة الصناعية، أي لمفردات العلم والتكنولوجيا.
ويسوق عالم الاجتماع الفرنسي (بيير بورديو) في كتابه (ماذا يعني أن نتكلم) شهادة لها قيمتها تتمثل في الثبوت القطعي بأن المحتل سعى إلى ترسيخ نظرة دونية لدى الشعوب المحتلة إزاء لغتها القومية ودفعها من ثم لتعلم اللغة الأرقى (لغة المحتل).
لهذا نجد منير الجوري في حديثه عن الأمن اللغوي لدى المغاربة يقول إن اللغة الفرنسية تدير في صمت الصراعات الإيديولوجية والتوترات الطبقية والتنافس بين الفئات الاجتماعية، بعد أن أمسكت بدواليب إنتاج النخبة في بلادنا المغاربية.
هذا ما يلخصه عالم اللسانيات والمفكر العربي عبد السلام المسدّي حين يقول: «الحروب اللغوية لا تقل ضراوة عن الحروب العسكرية ولا السياسية، وقد عبّر عن ذلك ديغول بالقول: (لقد صنعت لنا اللغة الفرنسية ما لم تصنعه الجيوش).
إن كثيراً من الأسئلة التي يطرحها المراقبون اليوم حول مستقبل اللغة العربية في العالم الافتراضي، ليس من الضروري أن نجد الحلَّ الحاسِم لها غداً، ولكنَّنا مع ذلك نبغي أن نُصِرَّ على طرْحها ومُناقَشتها مناقشة علمية؛ حتى نصل إلى الإجابة المُناسِبة التي قد تستَردُّ اللغة العربية معها حيويَّتها، وتسترد الأمة مزيدا من مَلامِح شخصيَّتها وهويتها..فهل نحن فاعلون؟!