التناقضات العربية في زمن العولمه

24/11/2011


مركز الرأي للدراسات

اعداد : شوقي يونس

22/11/2011

سني شيعي، مسلم مسيحي، يميني يساري، شمالي جنوبي, شرقي وغربي، وغيرها الكثير من التناقضات والاختلافات الايدولوجية والإقليمية التي هيمنت على الساحة العربية بمجملها، فأصبحت الشغل الشاغل لعدد كبير من المثقفين والساسة وأولي العلم العرب، فاستنفذت من وقتهم وجهدهم الكثير، وأشغلت الشارع العربي أفرادا وجماعات، بمهاترات لا طائل منها سوى تعزيز حالة الشقاق والنزاع والفرقة، حتى أضحت مثل هذه التناقضات كالقنابل الموقوتة المزروعة في خاصرة الوطن العربي، والجاهزة للانفجار في أية لحظة لتمزق ما تبقى من أحلام الأمة العربية وأمانيها بالوحدة والعزة والمنعة.

إن التنوع الأيديولوجي في الوطـن العربي, أو فـي أي مجتمع آخر على وجه البسيطة، لا يعد بالضرورة من العناصر السلبية التي يجب محاربتها والسعي الحثيث لاجتثاثها، أو تجاهلها لغايات تهميشها، بل على العكس من ذلك تماما، اذ يجب ان ينظر إلى مثل هذا التنوع على انه من العناصر الايجابية التي تتمتع بها الامة، والذي من الواجب توظيفه ليكون عاملا من عوامل البناء، لا الهدم، ولن يتأتى لنا تحقيق ذلك إلا إذا أوجدنا صيغة توافقية واقعية تجمعنا أفرادا وجماعات، بحيث لا تكون شكلية جمالية لا روح فيها، ولا خيالية مستحيلة لا تتماشى مع واقع الحال، صيغة تكون قادرة على جسر الهوة ما بين ما نعتنقه من ايدولوجيات وما يعتنقه الآخرون من بني جلدتنا، صيغة لدينا من معطياتها الشيء الكثير، بحيث تكون مبنية على التوافق والتكامل، بدلا من التشاحن والتنافر، صيغة تعيد فهرسة الأولويات لدينا بحيث تجمعنا كأمة على هدف واحد، في ظل كيان واحد متماسك مترابط، يقطع الطريق أمام الأعداء، ويفشل مخططاتهم السرية والعلنية المبيتة، لتأجيج مثل هذه الخلافات واستغلالها متى دعت الحاجة، لفرض هيمنتهم ووصايتهم على إرادة الأمة، ومقدراتها، عبر إبقائها في حالة من التخبط والضعف.

مجتمعات فاعلة

من هنا نتساءل؟ أو ليس بالإمكان ونحن امة يجمعنا ما يجمعنا، أن نصل إلى مستوى مقبول من التفاهم المشترك، بحيث نقترب ولو جزئيا مما حققته مجتمعات أخرى من التوافق والتكامل، مجتمعات فاعلة متكاتفة تمكنت من تذليل تناقضاتها واختلافاتها العرقية والفكرية والمذهبية وصهرتها في بوتقة وحدة الهدف والمصلحة العامة، حتى أضحت انجازاتها من التميز والرقي بمكان يشار إليه بالبنان، فلو نظرنا عن قرب نظرة متفحصة الى المجتمعات الغربية على سبيل المثال لا الحصر، لوجدنا ان تلك المجتمعات ما هي الا عبارة عن خليط من الاثنيات متعددة الاصول والعقائد واللغات، وتتفاوت فيما تحمله من أفكار ومبادئ ما بين أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، لكنها مع ذلك انصهرت جميعا في بوتقة واحدة، ظاهرها عمومية العطاء وجوهرها وحدة الولاء، وفقا لمبدأ التكامل والتوافق، مما ادى الى تعزيز أطر الديموقراطية لديهم، وتعزيز حالة الامن والامان، والذي ساهم بدوره في دوران عجلة الانتاج والتنمية, وتسارعها على وجه غير مسبوق، مما حقق لتلك المجتمعات ما تصبو إليه من تميز وإبداع ورقي على مختلف الصعد، بعكس ما نلمسه على الساحة العربية اليوم، اذ نجد ان الكثيرين منا يتغنون بوحدة الانتماء الى هذه الامة ظاهرا، اما باطنا فنجد ان ولاء هؤلاء لا يتعدى دائرة الكنتونات الضيقة التي احاطوا انفسهم بها، فكان عطاؤهم هزيلا غير متكامل لا يرتقي الى حجم التحديات في زمن التكتلات والعولمة، مما جعل النسيج العربي هشا وغير مترابط، وعرضة للتمزق والتشرذم، وافسح المجال امام التدخلات الاجنبية، التي تجيد اللعب على المتناقضات، لتحقيق أهدافها ومآربها، والتي ما كان لها ان تتحقق، لولا ان وجدت لدينا تربة خصبة، وأذانا صاغية، وأحلاما كأحلام العصافير.

وبالتالي فان تعدد الولاءات وتعارضها في المجتمعات العربية، والذي لا يعكس حكما صدق الانتماء لهذه الامة، ولا يعبر عنه قلبا ولا قالبا، هو السبب الاول والرئيسي لما تعانيه الامة اليوم من وهن وضعف وتراجع.

إن من أولى الأولويات لإحداث التوافق المطلوب ما بين كافة الأطراف التي تمثل المذاهب والمبادىء العقائدية والسياسية المتعددة، والولاءات المختلفة، لا يكون الا بتحديد الهدف المزمع تحقيقه على المدى الطويل، وهذا بدوره لا يمكن ان يتحقق دون الايمان الواعي لدى الافراد في المجتمع الواحد بحقيقة ان البناء العظيم لا يمكن ان يقوم ويرتقي، إلا بارتكاز أركانه بعضها على بعض، فلكل فرد من افراد المجتمع وزن وقيمة وتأثير يمكن ان نستشعره من خلال تموضعه في الموقع المناسب ضمن المنظومة المجتمعية، فلا مكان للعشوائية او العبثية الناتجة عن التمترس وراء ايدولوجيات معينة لا تقبل التعاطي بديناميكية مع باقي مفردات المجتمع، ولا نستطيع ان نعزو ذلك الى خلل في تلك الايدولوجيات بقدر ما هو خلل في من يتبناها، مما يؤدي حتما الى نشوء ازمات الثقة وانعدام الرؤية الشمولية المستقبلية، والتي تتسبب بدورها في استنفاذ طاقات ومقدرات الامة العربية دون طائل، وترهق تبعاتها كاهل الجميع دون استثناء.

أهمية الفرد

من هنا نتساءل مرة أخرى؟ كيف من الممكن ان نصل الى مرحلة متقدمة من الوعي الشامل بأهمية الفرد كجزء له وزنه وقيمته وموقعه الذي يتناسب مع قدراته ضمن المنظومة الاجتماعية العربية ، بحيث يتقبل وجود الاطياف الاخرى ويتفاعل معها، وفقا لاسس المشاركة الايجابية والتكامل البناء، وصولا الى صياغة الهدف المنشود والسعي لتحقيقه، بما يضمن للامة العربية العزة والمنعة والرقي القائم على التكافل الاجتماعي في مواجهة التحديات الداخلية كالفتن والمجاعات والانقسامات التي تفت في عضد الامة، والتحديات الخارجيه المتمثلة بالسعي المتواصل من قبل اعداء الامة لفرض الوصاية على ارادتها والهيمنة على ثرواتها، ومصادرة مقدراتها، ومستقبل أجيالها.
وللإجابة على هذا التساؤل نجد انه من المفروض اولا ان يتم الاعتراف المتبادل ما بين كافة الاطياف العربية بوجود هذه التناقضات أو الاختلافات إن جاز التعبير كأمر مسلم به، والتعاطي معها كل في موقعه ضمن اطر موضوعية على اعتبار انها جميعا تشكل جزءا لا يتجزأ من كينونة هذه الامة، وبما لا يمس الثوابت والاسس التي تضمن تميز واصالة الامة العربية وتحفظ لها كيانها، فلا ندع مجالا لمحاولات الالغاء والتهميش أو التغول والتسلط لما لهذه المحاولات من اثار سلبية نلمس تبعاتها من خلال حركات الانفصال والانشقاق والاقتتال على الساحة العربية، إضافة إلى ما نراه ونلمسه من انسلاخ عن الهوية العربية، وارتماء غير مشروط في أحضان دول لها مصالحها واجنداتها الخاصة غربا وشرقا على السواء.

ومن المفروض ثانيا السعي لتجفيف المنابع المشبوهة التي تغذي وتعزز امكانيات الصدام ما بين التناقضات أو الاختلافات الفكرية والمذهبية الموجودة على الساحة العربية، وذلك بالحوار المسؤول الهادف القائم على المكاشفة والمصارحة والشفافية، مع التركيز على النواحي الايجابية والقواسم المشتركة لكافة الاطياف وبما ينسجم مع الرؤية المستقبلية الشاملة، والتوقف عن عرقلة نجاحات الآخرين التي فيها الصالح العام، أو الانتقاص من أهميتها، لا لسبب، وإنما لكونها صادرة عمن نختلف معهم فكريا، كما يجب الكف عن ترصد وتتبع سقطات وهفوات وإخفاقات الآخرين، لا بهدف الإصلاح ولكن فقط لغايات الشماتة والتشهير والتندر، إذ أن إخفاقات الآخرين في عرف الفاشلين المفلسين المرضى، هي نجاح بحد ذاته، لذا يجب الاستعاضة عن ذلك كله بقنوات رقابية حضارية تمارس الإشادة أو التوجيه والتقويم والمحاسبة، بحكمة وموضوعية ضمن إطار المصلحة القومية العامة، وتنأى بالمجتمعات العربية عن استنفاذ طاقاتها في معارك جانبية عبثية تفسح المجال للتدخلات الاجنبية الساعية لتحقيق مآربها.
ومن هنا نشير إلى أن من أهم المنابع المؤدية إلى تعزيز الخلافات الايدولوجية بين أطياف الأمة العربية، هو الارتباط الخارجي تمويلا وفكرا، وكذلك ضعف الإعلام بكافة إشكاله وعدم موضوعية الطرح لديه.

إن التمويل الخارجي ماديا ومعنويا، لا يكون ناتجا إلا عن ما يتملك بعض فئات المجتمع العربي من شعور بعدم الأمن والأمان، وانعدام العدل ما بين مختلف الأطياف وخصوصا الأقليات، مما يساهم في إشاعة حالة الخوف لديهم، والخشية من الإلغاء أو التهميش والتسلط من قبل أطياف أخرى تمتلك المقومات والثروات، فيجدون في ذلك مبررا لقبول العطايا والهبات من إطراف خارجية لها مآربها ، وذلك لتوفير الحماية لأنفسهم مما يساهم في إنشاء كنتونات مغلقة خاصة بهم، تساهم بدورها في تفكيك المجتمع العربي وجعله رهينة في أيد غريبة وغير أمينة على المصالح القومية، أما الارتباط فكريا بالخارج فهو ناتج على الأرجح عن حالة السخط التي تكتنف الإنسان العربي من الواقع المرير الذي تعيشه الأمة، فيسعى البعض إلى اعتناق ايدولوجيات مستوردة علها تكون سبيلا لانتشال الأمة من هذا الواقع، لتصطدم تلك الأفكار التي لا تنسجم مع تراث الأمة وثقافتها وتاريخها بالكثير من المعيقات والعراقيل، التي تؤدي إلى حالة من عدم الاستقرار ناتجة عن حالة الكر والفر, والهجوم و الهجوم المضاد، مما يخلق بعدا اجتماعيا خاصا، يؤدي بدوره إلى تشكيل مزيد من الكنتونات المتناحرة على الساحة العربية، مما ينعكس سلبا على الواقع الاقتصادي والسياسي والثقافي بشكل عام.

من هنا نجد إن الوضع السياسي والاقتصادي والثقافي في أي مجتمع كان, ناتج بالأصل عن وضع اجتماعي معين, فأي معالجة مستقبلية لا بد إن تكون اجتماعية أولا, وذلك بخلق الإيمان لدى الفرد العربي بأهميته ودوره الفاعل في إحداث التغيير والنهضة ولن يتحقق له ذلك إلا باستغلال ما يتوفر لدى الأمة من إمكانيات وثروات وارث فكري تاريخي, وتقاليد راسخة, مما يعزز لديه الشعور بالرضا النابع عن الاحترام المتبادل في ظل الأمن والحرية وعدالة التوزيع.

الإعلام العربي

أما بالنسبة للإعلام، ولما له من أهمية في خلق الوعي المزمع تحقيقه لدى المجتمع العربي أفرادا وجماعات، ولما يعول عليه مستقبلا من أن يكون قناة من القنوات الرقابية المستقلة المقترحة، فلا بد من وقفة صادقة، ومراجعة شاملة للدور الذي تلعبه وسائل الإعلام العربية اليوم وبكافة أشكالها، مع تسليط الضوء على الدور الذي من الممكن ان تلعبه مستقبلا في ظل العولمة وثورة المعلومات، والانتشار الواسع لوسائل الاتصال، ولما لهذا الدور من اهمية بالغة في التأثير على الرأي العام، بهدف اعادة تأهيل المجتمعات العربية، وزيادة التقارب ما بين مختلف أطيافها لتحقيق التوافق المطلوب فيما بينها، وبما يؤهله لكي يكون لسان حال الأمة في الرد على وسائل الإعلام الأجنبية، وممارساتها المعادية التي لها ما يبررها من أطماع وأحقاد ومآرب لا تخفى على احد.

إن الإعلام العربي، وهو جزء من الكيان العربي، وطرف هام من أطراف المعادلة الخلافية، يعاني في وضعه الراهن ما تعانيه الأمة من تشرذم وتخندق، واداؤه لا يكاد يرقى الى الحد الادنى من المستوى المطلوب في مواجهة التحديات المحيطة بالأمة العربية، كما إن ضعف الضوابط المهنية الإعلامية، والافتقار للموضوعية في كثير من الأحيان، إضافة إلى المعطيات الإقليمية المتحفظة، جعلت من امتلاك الإعلام العربي للرسالة التوافقية الشمولية المنشودة شأنا ثانويا، ففاقد الشيء لا يعطيه، وهذه الحقائق لا يمكن التغاضي عنها أو تجاهلها، ولكن مع ذلك، فان لم تتوفر لدينا اليوم إرادة التغيير, وأسباب الإصلاح الشامل،لغايات إعادة توجيه وسائل الإعلام العربية للدفع باتجاه التوافق، فعلى الأقل من الممكن معالجة بعض الثغرات الإعلامية التي تدفع بالاتجاه المعاكس، فهناك ثغرات إعلامية من الممكن في حال معالجتها ان تسهم في وضع اللبنة الاولى لتقريب وجهات النظر ما بين الفرقاء العرب، بدءا من القاعدة وانطلاقا الى القمة، ومن هذه الثغرات الإعلامية ما تنتهجه بعض وسائل الإعلام من تبني وجهة نظر ضيقة, وسياسة جدلية, تساهم إلى حد كبير في تفاقم مأساة ألامه,

وتغذي بذور الفرقة و الحقد والقطيعة ما بين مختلف الأطياف العربية، بدعوى حرية الرأي, والشفافية في نقل المعلومة واستشراف الحقيقة، من هنا نجد ان تعاطي بعض وســائل الإعلام على مستوى العالم العربي مع مفهوم حرية الرأي، في ظل معطيات الواقع العربي المؤلم, وفي ظل ما تكابده الأمة من فرقة وتباغض وتناحر، قد جاء منقوصا ان لم يكن مغلوطا، فحرية الرأي لا يجوز أن تستغل لغايات تحقيق مكاسب آنية دوافعها المنافسة والاستثمار، كما لا يجوز أن تستغل لتصفية الحسابات، أو لنبش الجراحات التي تكاد ان تلتئم، مما يثير الاستهجان والتساؤل حول حقيقة الدور الذي يمارسه هؤلاء ومدى توافقه مع مصالح الأمة.

من هنا نجد ان من واجب الاعلام النزيه والغيور على مصالح امته ومستقبلها، ان يسعى الى تشخيص العلل ومواطن الخلل، ومن ثم ان يكون جادا في ايجاد العلاجات والحلول الموضوعية المناسبة لها عبر تسليح المجتمعات العربية بالوعي، والثقة المتبادلة الكفيلة بإنهاء كل المعارك الجانبية المعلنة وغير المعلنة، وشحذ الهمم والطاقات للذود عن حمى وكيان هذه الامة المحاصرة بمختلف صنوف المخاطر، وان يبرأ بنفسه من ان يكون محركا للأحقاد والفتن، فليس اقل من ان تتوقف المهاترات الجدلية العقيمة بين اقطاب التناقضات العربية عبر وسائل الاعلام العربي، وليس اقل من ان يتوقف الرجم والرجم المضاد من وراء متاريس كان من الممكن وعبر حوار بناء ان تصطف جميعا في وجه التحديات الداخلية والخارجية ، تماما كما تصطف المجتمعات الغربية واعلامها من وراء خطاب واحد، وذلك عند مواجهتها لاي من النوازل او الخطوب، فالعبرة لا تكون في طرح المشكلات وتسليط الضوء على التناقضات وتجييش الأمة بعضها ضد بعض، بقدر ما تكون العبرة في وضع الحلول وإرساء أسس التفاهم والتعايش والعطاء.

إن إعادة هيكلة الواقع الإعلامي العربي، والعمل على وضع وثيقة شرف تحكمه لغايات تحقيق المصلحة القومية العليا، يعد من الأولويات الهامة التي من الواجب انجازها دون إبطاء، وذلك لا يعتبر تقييدا لحرية الرأي، أو تدخل في شؤون الإعلام بقدر ما يعد تصحيحا لانحرافه عن المسار القويم, وإعادة بعثه من جديد, ليكون ذا رسالة توافقية عربية شاملة, وذا دور رقابي بناء, ورأس حربة ضد أطماع الطامعين.

من هنا نتذكر وفي القلب غصة، أن مارتن لوثر كنغ ومن معه، كان لديهم حلم،آمنوا به فسعوا جميعا لتحقيقه، فتحقق .

والأمة العربية اليوم لديها حلم تسعى لتحقيقه, إلا انه لن يتحقق, إلا إذا القينا مصباح علاء الدين السحري من وراء ظهورنا, وآمنا بما نحلم به, وباشرنا العمل.