سيكولوجية الأحداث الشعبية في الدول العربية

27/12/2013

مركز الرأي للدراسات

اعداد : د.محمد الشوبكي

كانون الاول 2011

نظرا لما يجري من أحداث في بعض الدول العربية مستغربة ومستهجنة لدى الكثير , وغياب الوعي بالأسباب النفسية التي أدت الى الوصول الى هذه الأحداث والتغيرات لدى الشعوب ارتأيت تفسير الآليات والدوافع النفسية التي أدت الى هذه الأحوال معتمداً على دراسة أراء الباحثين وعلماء النفس في الغرب والمرجعية للباحث الاستاذ د.مصطفى حجازي صاحب كتابيّ ( التخلف الاجتماعي مدخل الى سيكولوجية الانسان المقهور ) و (الانسان المهدور ) يبان بشكل واضح مدى التخلف في التكوين الذهني والنفسي والاجتماعي لدى الانسان في مجتمعات الدول النامية ومنها العربية رغم تخم التكنولوجيا والتعليم ،إذ لم تغير في ذهنيته وذاته الكثير والمقصود بالتخلف ( عدم القدرة على تسخير الفكر الايجابي في السلوك والمجابهة ), فقد وصلت هذه المجتمعات الى درجة عالية من الانحطاط والدونية والعجز نتيجة للسياسات المتبعة في حكم الشعوب .

المجتمعات العربية

فالمجتمعات العربية بشكل عام تعيش تحت وطأة نوعين من الاستبداد , والقمع الأول : القوى المتسلطة و القامعة, والثانية : قسوة الحياة بمتطلباتها التي أثقلت كاهلها , أما قمع المتسلطين فله وجهان الأول « القمع الظاهري , والذي بدا يأخذ طابع التضاؤل نسبيا في العقود الأخيرة ويتمثل بالسجن , والتعذيب , والحرمان من العمل في الوظائف الحكومية , والنفي ...الخ .

وأما الثاني : فهو القمع المبطن وهو اكثر خطورة و إضرارا بحياة الشعوب ولعل هذا النوع من القمع متوطد بشكل اكثر في الأنظمة المتسلطة التي تدعي الديمقراطية أمام الجماهير بشكل اكثر قبولا , ويتخذ هذا النوع من القمع ألوانا وتبريرات وشعارات مضللة و طنانة باسم بناء الوطن و الوطنية , وهي سهلة الاختراق لأذهان الشعوب التي عشش فيها التخلف الفكري والاجتماعي على مدى عقود طويلة , ومن أشكال هذا النوع لا للحصر إغداق الشعوب في المشاريع الاستهلاكية , وتزيين النمط الاستهلاكي بشعارات براقة , وإغداقها في تخم الضرائب بحجج تحسين الأوضاع الاقتصادية وما يسمى بالخطط التنموية وما هي ( الا حبر على ورق ) للحفاظ على الاقتصاد الوطني , ومن خلال الاعتراف بالإنسان على أساس الولاء ما يسمونه بالانتماء لا الانجاز , فشاعت ثقافة الولاء في معظم المجتمعات العربية للوصول الى مكانة وظيفية او اجتماعية , اما الانجاز فلا قيمة له و بالتالي فهو طامس لهوية الانسان المنجز و تبخيس كرامته , وانتقاص من ذاته ووجوده .

ومن هنا تتفشى العصبية في الأنظمة المستبدة بشكل عام , والمقصود بالعصبية (المحسوبية , والشللية , والمقربين من الفئة الحاكمة ) هي التي تحظى بالسلطة والمناصب , والجاه , و استباحة حياة الشعوب , و ثروات الأوطان .

وتعاني شعوب المنطقة بشكل عام من ديمومة التلويح والتهديد الظاهر والمبطن بالتحكم في لقمة العيش , ومستقبل الانسان , وذلك عبر الاستعانة في نهج أسلوب المبالغة والتخويف في جبروت وقوة الحليف , او المحتل , او المستعمر , او العدو مع استخدام أساليب التشريط لحياة الشعوب في حرياتها الفكرية , والحوارية , والإعلامية ( الحجر على العقول ).

وفي ظل ما يعانيه إنسان هذه المجتمعات من الدونية والذات المبخسة , وعقدة العجز من التصدي والمجابهة يتصاعد القلق الى درجة الفزع , والرهبة من الحاضر والمستقبل فلا تجد الشعوب الاّ الاستكانة والرضوخ , والتبعية للقوى المتسلطة الحاكمة .

انها تعيش في حالة من ( الأسر ) ( أو الغربة في الوطن ) لا حول ولا قوة لها , لأنها تعيش بين ناريين نار المتسلطين , ونار قسوة الحياة ومتطلباتها المنهكة , وبالتالي الخوف من التمرد والمجابهة وفي ظل هذه الوضعية النفسية تجد الشعوب انها معرضة في كل لحظة للنكبات والتنكيل , والخطر على لقمة العيش , والصحة , وتدبير شؤون أفراد أسراتها بسبب الاستبداد البوليسي وهذه الحالة تكرس من نرجسية وجبروت وتسلط القوى القامعة , وبالتالي المزيد من تدهور الحالة النفسية , وتلاشي الذات حتى فقدان الإحساس بالوجود .

ولحفظ التوازن النفسي لا يجد إنسان هذه الشعوب سوى الاستسلام , والتبعية , والرضوخ , او تعظيم القوى المتسلطة مع اقتران الحب الظاهري بالحقد الداخلي حينما تشعر ( بانعدام الوجود , والتأثير ) لما احل بها من انتقاص و تبخيس وهدر فبالمقدار الذي تظهره هذه الشعوب المقموعة من الحب الظاهري تحمل أضعاف مضاعفة من الحقد , والعداء الداخلي للأنظمة المستبدة .

العقل الباطن

ومن هنا لا يجد الانسان في هذه المجتمعات سوى ( التماهي ) وهي ظاهرة منتشرة في المجتمعات العربية بشكل صارخ , أي بتمثيل نفس الدور الذي يقوم به القامع , والمتسلط كوسيلة دفاع نفسية ( عبر العقل الباطن ) تحفظ له نوعا من التوازن النفسي الوهمي كعلاقة تسلط رجل الأمن على مواطن , والمدير على الموظف , والزوج على الزوجة وهكذا......الخ , او ان يلجا الى التزلف والنفاق تجاه القوى المتسلطة اتقاءً لشرهم , او طمعا في حياة تنأى به عن القلق او المخاوف المستقبلية , والخوف من المجابهة والتصدي , ومن هنا يتفشى التواطؤ والفساد وتزداد ديكتاتورية المتسلط والمستبد .

وبما ان قوى التسلط في العالم الثالث بشكل عام في وضعية انعدام علاقة التكافؤ مع الشعوب أي انها تنأى بنفسها للنزول الى الشعور والحوار مع الشارع العام حتى لا تحاسب على أخطائها وتبقى في حالة من كتمان الفساد والاستبداد والنهب والسلب . وبالتالي فهي تتلافى لغة الحوار الصادق والفهم الإنساني وبدلا من ذلك هناك لغة التهديد والوعيد , لغة السوط والقمع , او الوعود المعسولة , والتصريحات الكاذبة بتحسين أوضاع الشعوب , وهذا ليس ببعيد عن سلوكيات المستعمر الظاهر فبدلا من الاعتراف المتبادل بإنسانية هذه الشعوب وحقوقها تقوم العلاقة باعتبار الشعوب كائنات أشياء مسخرة لخدمة مصالحها هي فقط , لا اعتراف ميداني بإنسانيتها بل اعتراف تشدقي إعلامي , لا اعتراف بقدسية وكرامة الانسان , وبالتالي تستباح الشعوب وتسلب , وتهدر الأوطان والثروات .

ان الشعوب بنظر القوى المستبدة متخلفة , جبانة ,مستكينة لابد من إبقائها على هذه الوضعية كي تضمن استمرار امتيازاتها , وديمومتها , واستباحة ثروات وكرامة الشعوب , فتكرس كل أنواع التبخيس والاهانة في أنفس الشعوب من خلال التحالف مع قوى خارجية او مستعمر فلا بد للحاكم المتسلط من حليف مستغل له او مستعمر , إذ ان هذا الأخير يمارس كل أنواع القمع عليه ولكن بماهية أخرى , وهو بالتالي لا يجد نفسه الاّ يتماهى على شعبه وهكذا ؟

ان التبخيس والاستهانة بقدرات الشعوب وإنسانيتها يحبط طاقتها النفسية و يغرقها في روح الهزيمة , والرعب , والجهل , و الرضوخ وبهذه الوضعية يشعر إنسان هذه الشعوب بهشاشة ذاته , والخجل من نفسه بل قد ينقم عليها ويرى نفسه بمنظار الجبان المتخاذل , المقصر الى درجة قد يصل فيها الى الماسوشية بأنه يستحق العقاب وبهذه الطريقة يصبح عضيدا للمتسلطين ويمارس هو دور المتسلط ايضا وبالتالي زيادة في حدة قوى الاستبداد .

وتخاطب الشعوب المضطهدة و المقموعة المتسلط بنفس خطابه , وبلغة النفاق , والكذب , الخداع , والتضليل , والدجل وهي ليست ببعيدة عن خطاب المتسلط والتي يضيف عليها الوعود المعسولة , والمشاريع الطنانة الوهمية , والشعارات التشدقية الزائفة باسم ( الحفاظ على كرامة الانسان , ورفه الحياة , والحرية , والديمقراطية , والخطط التنموية الفاشلة , والرقي المستقبلي ....وكل أنواع التضليل الخطابي .

ولعل خير مثال على ذلك فشل المشاريع التنموية الطنانة والخطط المستوردة عن نماذج غربية متقدمة والمشاريع الاستعراضية الاستهلاكية في دول العالم الثالث تحت شعار تغير المجتمع وتحديثه وتقدمه .

وهذا الفشل يعود إلى تهميش السياسات القمعية لواقع تطوير عقلية وذهنية إنسان هذا العالم أسوه بتلك التي نجحت في الغرب ، انه القمع والتجاهل لكافة أنواعه الذي أهدر مكنونات وطاقات الشعوب الفكرية والنفسية والاقتصادية ، ولم تقف هذه المشاريع وكما يشير الباحثون إلى ذلك بل إلى التبذير والبذخ وعلى حساب جماهيرها .

وخلاصة القول ان القوى المتسلطة في العالم الثالث بشكل عام تعتمد في ديمومتها على وضعية الجماهير « الخميرة المتخلفة « والتي تتمثل في الجهل ، والتبعية ، والرضوخ ، والاستكانة باستخدام أساليب القمع المبطن والظاهر ، وبالمقابل فان إنسان هذا العالم يمارس نوعاً من التمرد والمجابهة الظاهر نادراً ، والمبطن منه فائضاً من خلال تخريب الممتلكات العامة , و إطلاق النكات والشائعات على المتسلطين ، والتباطئ والمماطلة في الأداء الوظيفي ، والتهرب من المسؤولية ومتطلبات المسؤولين ، وانتشار الرشوة ، والشللية ، والمداولة ....الخ .

انها ازدواجية الرضى الظاهري والعداء الداخلي في أنفس الشعوب والتي تنمو مع نمو أساليب القمع من قبل المتسلطين ، فإنسان العالم الثالث وكما يؤكد الباحثون يتربص دوما ً بالمتسلط لكي ينال منه بالانتقام , والتنكيل منتظرا الفرصة التي يضعف فيها كلما استطاع بالأسلوب الذي تسمح به الظروف حينما يضعف المستبد , وهذه المرحلة الوسطى بين الرضوخ والتمرد والمجابهة الظاهرة تستوجب استقراء تاريخ الشعوب قبل ثوراتها في الانتفاضة الفلسطينية ، وثورة الجزائريين على المستعمرين والثورة البلشفية وغيرها .

فالشعوب لديها الجاهزية للتماهي بالمتسلط والتمرد أينما وحيثما ضعفت السلطة المستبدة او حينما يظهر على الساحة من يقرع الجرس , خاصة بوجود قوى خارجية مساندة , او تتفجر بشكل صارخ و تراخت , فلا بد لها من خوض معركة وجودية بين الذات المهانة وما تراكم في كيانها من تشويه و استلاب , و تبخيس والقوى المتسلطة لرد الاعتبار للذات المبخسة , واسترداد وترميم ما تبقى منها , او استعادتها , وإعادة بنائها , ورد الاعتبار والكرامة لها .

فالغضب والعنف والحقد مشاعر غرائزية عند الانسان تتحرك حسب التهديدات , ويترجم ذلك تحفيز الجهاز العصبي السمبثاوي , والأجهزة الهرمونية الاخرى للتعبئة القتالية والعنف .

فالقتال بمختلف أشكاله المادية والنفسية هو دفاع عن الكيان الذي تعرض للقمع , والسلب , و التبخيس وهو دافع غريزي يتعلق بالقوى البيولوجية للبقاء ( صراع الوجود ) , فهو يشكل إحدى وظائف نزوة العدوان والعنف .

مع التأكيد ان الحيلولة بين طاقة الحياة والشعوب نحو النمو , ورد الاعتبار لا يقتل الا ظاهريا , انه كالبركان الداخلي , ساكن ظاهريا , لا احد يعرف متى سينفجر , فمن يتمعن في تاريخ الشعوب يدرك خطورة السكون الظاهري الذي يتمثل بالرضوخ , والاستسلام , فما هي الا قناع دفاعي مؤقت .

ان انفجار الغضب , والحقد , والعدوانية الكامنة تتخذ نمط العنف الصارخ الذي يفاجئ الآخرين , حتى ويفاجئ نفس الشعوب , بل و يعزز من حدة هذا العنف , وهو ما يفاجئ به المستبد والشعوب الاخرى ايضا , انها الطاقة الكامنة التي كانت ننتظر الفرصة السانحة للانفجار حينما تضعف قوى المستبد والضغوطات الخارجية , فالسكون الظاهري لا يعني الاستكانة والاستقرار الداخلين , فالتمرد والعنف يتخذ في نفس الانسان أقصى الظروف ذلك ان نزوة الحياة في ديمومة مقاومة نزوة الموت بشراسة حتى لو استكانت لفترة ما .

فقوى الاستبداد غالبا ما تخدع بالرضوخ والاستكانة الظاهريين , وتكرس جهدها لإبقائها في هذه الوضعية , الا انها لا تدرك ان الشعوب المكبوتة ستنفجر في أية لحظة سانحة لها والمدهش ان ردود الفعل في العنف هنا في خالة من الطغيان انها أقوى من ردود الفعل العادية , انها تأخذ ميول التشفي والتنكيل من المستبد , وفي هذا العنف يحطم الانسان مرآة ذاته المهانة ويجسدها في القوى المستبدة , انه يريد تحطيم هذه القوى كنوع من قلب الأدوار ليصبح هو القامع والمستبد المقموع .

فهدر نزوة الحياة يعزز نزوة الموت كأداة تدميرية لكل العراقيل , وإزالة الاستبداد و القمع , واستعادة الذات والاعتبار والحياة ذات القيمة والكرامة , فهي إعادة مشروع تحقيق الذات والوجود و انتزاع الاعتراف بالوجود بالإكراه والعنف بعد ان فشل الإقناع ويصل أحيانا الى درجة إلغاء وجود الأخر المستبد ( الإبادة والاندثار ) , ولا يستطيع احد ان يضبط هذا العنف لأنه نزوة تعبيرية عن المكبوتات الدفينة , فهي اشد عنفا وفتكا من المكبوت الأصلي وهو ما يفسر التلذذ الابادي .