الإعلام الاجتماعي يهزم الإعلام الرسمي

29/12/2011

مركز الراي للدراسات

اعداد :احمد ذيبان

كانون اول2011

خلال السنوات الماضية سادت انطباعات» ظالمة» مفادها ، ان نسبة كبيرة من الاجيال الجديدة ،المنخرطة في دهاليز شبكة الانترنت، هم شباب سطحي ضحل الثقافة ،يعيش في عالم افتراضي ، ويمضي ساعات طويلة في غرف الدردشة وبناء صداقات ومعارف وعلاقات حب وهمية، ومتابعة مواقع التواصل الاجتماعي « الفيس بوك» و» تويتر» و»يوتيوب»والمواقع الاباحية،مشغول بالثرثرة عبر الهواتف الجوالة، وما توفره شركات الاتصالات من اعدادات وبرامج للتسلية ، حتى ان بعضهم يذهب به الظن «الآثم» الى تفسير اختراع شبكة الانترنت وما انتجته من ثورة معلوماتية ،بانه مؤامرة لتخريب المجتمعات والاطاحة بمنظومة القيم الدينية والثقافية والاجتماعية التي تحكمها، لكن ما حدث في العالم العربي منذ اواخر عام 2010 ، وبالذات في الدول التي شهدت ثورات مثل تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا ،أكد ان هذه الصورة النمطية قاصرة ،وان «جيل الانترنت» او «جيل الفيسبوك» كما يسميه البعض ،يسبق اباءه واجداده بمسافات كبيرة ،من حيث الوعي والانفتاح على مستجدات العصر ،والقدرة على التفاعل والفعل والتنظيم، مستخدما أحدث منتجات تكنولوجيا الاتصال وادوات الاعلام الجديد، مثل الانترنت والهواتف الخلوية ،في التحريض على النزول الى الشوارع وتحدي السلطات القمعية .

وكان استخدام الشباب لادوات الاعلام الاجتماعي في نقل ما يجري على الارض ،وتزويد القنوات الفضائية بالصورة والمعلومة ، من اهم عناصر انجاح تلك الثورات ، في عالم اصبح قرية صغيرة ، حيث الاحداث تنقل لحظة بلحظة عبر القنوات الفضائية والاذاعات ،بالاضافة الى المواقع الاخبارية الالكترونية والمدونات والرسائل النصية ،الامر الذي كشف زيف وكذب الاخبار والروايات التي ينشرها اعلام الحكومات حول الاحتجاجات السلمية ،والتعتيم على ممارساتها القمعية ضد المحتجين.

ومع ذلك ثمة مفارقة لافتة ،اذ مقابل القوى الشبابية الفاعلة في هذا الحراك ،هناك شريحة اخرى من الشباب تعكس صورة سلبية ،من خلال ضحالة التفكير والسلوك وتجسيد ثقافة العنف والتعصب الضيق ،واحد النماذج على ذلك ما تشهده الجامعات من احداث عنف، او اولئك الذين يمارسون اعمال البلطجة والتخريب في المسيرات والتظاهرات السلمية المطالبة بالاصلاح والحرية .وبالتأكيد ان ذلك يعود الى نوعية المدخلات التربوية وثقافة التعصب وانكار الاخر التي يتشربها هؤلاء.

دور الاعلام البديل في تحريك الجماهير

كانت البداية العربية من تونس ، اذ ان ما اصبح يعرف ب» الاعلام البديل « ،الذي يستخدم أدوات التكنولوجيا الحديثة ، لعب دورا هاما في تحريك الجماهير ،وتنظيم التظاهرات والاعتصامات، في ظل نظام بوليسي شديد القسوة ،يدعمه اعلام رسمي يستخدم اساليب محنطة في التعامل مع المعلومات والحقائق، ويستغفل الناس ويكذب عليهم ،يكرس جل وقته وجهده لتقديم صورة ناصعة البياض للسلطة ويحجب الرأي الاخر، ويصفق» للقائد الضرورة «! وكانت النتيجة نجاح» شباب الفيسبوك» في تعبئة الراي العام وحشد المتظاهرين وبالتالي سقوط النظام ، وتغيير وجه تونس،فكان زلزال تونس عابرا للحدود ،وسرعان ما ضربت ارتداداته مصر وليبيا واليمن وسوريا والعديد من الدول العربية الاخرى بدرجات متفاوتة .

وكان من بين ردود الفعل السريعة، التي اتخذتها السلطات المصرية قطع شبكة الانترنت والاتصالات الخلوية،وايقاف بث بعض القنوات الفضائية ، وحجب المعلومات وقمع حرية التعبير، والبطش بالمحتجين حيث سقط مئات القتلى والاف الجرحى !. في ابلغ تعبير على ادراك النظام لفعالية « الاعلام الاجتماعي» وقدرته على التأثير في الواقع ،وفشل نهج الاستبداد ومحاولة السيطرة على عقول الناس وسلوكياتهم ،ذلك ان تظاهرات يوم الثلاثاء 25 يناير- كانون الثاني 2011، انطلقت في العديد من المدن المصرية بصورة فاجأت السلطات ، حيث تم تنظيمها وتوقيتها من قبل «جيل الفيسبوك». عبر شبكة الانترنت والرسائل النصية ،وليس وفق الاساليب التقليدية ،التي درجت على استخدامها الاحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدني،كتوزيع البيانات والمنشورات، او الاعلان في الصحف وعبر المهرجانات والندوات .

وفي ضوء زلزلال التغيير الذي يجتاح المنطقة ، لا بد من الاقرار بان تسارع الاحداث والتطورات التي يقودها جيل الشباب ،جعلت مختلف احزاب وحركات المعارضة ، التي كانت بالمجمل تعكس تطلعات الطبقة الوسطى، وتتبني هموم الفقراء وتناهض الاستبداد ، تركض الان خلف جيل الشباب الغاضب ، وحتى جيش المحللين السياسيين والباحثين والمفكرين، الذين يتحدثون عبر الفضائيات ، او يكتبون في الصحف ويعدون الدراسات ،فشلوا في التنبوء بما يجري على الارض، واصبحوا يتابعون التطورات ويراقبون المشهد بدهشة واستغراب ،ويكتفون بمجرد التكهن ،فيما المفاجات تتوالي واحدة بعد الاخرى ، كما الهزات الارضية التي لا يستطيع العلم حتى الان التنبؤ بموعد وقوعها ، فلم يكن أحد يتوقع حتى من كانوا في طليعة المحتجين، ان ينهار النظام التونسي بصورة دراماتيكية، ولم يكن احد يتوقع ان ينفجر الغضب المصري بقوة هائلة وسرعة أذهلت العالم ! .

الاف المواقع الاخبارية الالكترونية انطلقت خلال السنوات التي سبقت الربيع العربي، وقد لعبت تلك المواقع بالاضافة الى المدونات الالكترونية دورا فاعلا في احداث التغيير ، وكسر الحواجز التي تضعها السلطات امام حريات الاعلام ،وتشير بعض الاحصاءات الى ان عدد النشطاء العرب الذين انشأوا مدونات بلغ عام 2009 نحو 37 الف مدونة بينها 6 الاف كانت تتبادل وتتشارك المعلومات والمواد فيما بينها،وكان غالبية المدونين يخفون اسماءهم خشية قمع السلطات، ومع ذلك فقد تعرض العديد من المدونين للحبس او الملاحقة.

ورغم ان دور» جيل الانترنت» العربي في تنظيم الاحتجاجات كان مفاجئا ومدهشا حتى للعالم الخارجي، لكن للحقيقة فان فعالية استخدام « الاعلام الاجتماعي « لم تبدأ في الربيع العربي،فقد كانت اول سابقة ينجح فيها « الاعلام الجديد» ، في عزل رئيس دولة عام 2001، عندما اجبر الكونغرس الفلبيني على اتخاذ قرار باقالة رئيس الجمهورية «جوزيف استرادا « بتهم الفساد،الذي القى اللوم على « جيل الرسائل النصية» في اسقاطه ، فبين 17 و20 كانون الثاني- يناير 2001، تم ارسال اكثر من سبعة ملايين رسالة نصية، من قبل الشباب الغاضبين تدعو للتجمع والاحتجاج في ميدان «»ايبافنيودي لوس سانتوس»،وهو تقاطع طرق رئيسي في العاصمة مانيلا، ربما يشبه ميدان التحرير وسط القاهرة، الذي تحول الى نقطة التجمع الرئيسية للمحتجين، وبفعل تلك الرسائل وصل اكثر من مليون فلبيني متسببين باختناق مروري في وسط مانيلا ، وقد وجه هؤلاء المحتجون انذارا قويا الى نواب البرلمان ، وأجبروهم على السماح بتقديم أدلة ضد الرئيس وعزله.

ومنذ حادثة استرادا ،وقعت احتجاجات في العديد من الدول ،كان للاعلام البديل دورا رئيسيا في تنظيمها وتحريكها، كما حدث في إسبانيا عام 2004، عندما أفضت المظاهرات التي نُظمت بواسطة الرسائل النصية، إلى إسقاط سريع لرئيس الوزراء «خوسيه ماريا أزنار»، الذي كان قد تسرع بالقاء اللوم على الانفصاليين الباسكيين في تفجيرات قطارات مدريد. كما فقد الحزب الشيوعي السلطة في مولدوفا عام 2009 ،عندما انفجرت التظاهرات التي تم تنظيمها جزئياً ، بواسطة الرسائل النصية و»الفيسبوك» و»التويتر»، بعد انتخابات مزورة بشكل واضح. وليس بالضرورة ان تنجح الاحتجاجات التي يتم تنسيقها وتنظيمها باستخدام الانترنت والرسائل النصية، كما حدث في تايلند حيث استخدمت حركة «القمصان الحمر» الإعلام الاجتماعي عام 2010 لتنظيم احتجاجات ، احتل خلالها المحتجون وسط العاصمة بانكوك، لكن الحكومة التايلندية تمكنت من تفريق المتظاهرين، وقتلت العشرات منهم.

وخلال ما سمي انتفاضة «الحركة الخضراء» او « ثورة التوتير» في إيران خلال شهري حزيران - يوليو- 2009، استخدم الناشطون المعارضون مواقع التواصل الاجتماعي مثل التوتير واليوتيوب بشكل مكثف، لتنسيق الاحتجاجات المنددة بتزوير مزعوم لنتائج الانتخابات الرئاسية، لصالح احمدي نجاد ضد منافسه الاصلاحي القوي مير حسين موسوي ، الامر الذي سمح لوسائل الاعلام الغربية وللراي العام العالمي بمتابعة الاحداث الجارية في شوارع طهران وعدد من المدن الايرانية بشكل سهل ومباشر، لكن كانت النتيجة محبطة حيث تم إجبار المحتجين على الركوع بسبب القمع العنيف.

اهتمام أميركا بالإعلام البديل

وقد تنبهت الولايات المتحدة الى اهمية الاعلام البديل، بالتأثير في مسار الاحداث على مستوى السياسات في دول العالم ، واصبح ذلك في صلب أجندة سياستها الخارجية ، وفي دراسة أعدها « كلاي شيركي» استاذ الاعلام الجديد في جامعة نيويورك نشرت في مجلة فورين أفيرز، عدد كانون الثاني – وشباط 2011 ، بعنوان « The Political Power of Social Media» يقول شيركي:»الاعلام الاجتماعي اصبح حقيقة من حقائق حياة المجتمع المدني في انحاء العالم. ويطرح هذا الواقع سؤالا مهما على حكومة الولايات المتحدة ،كيف يؤثر انتشار الاعلام الاجتماعي على مصالح الولايات المتحدة ، وكيف ينبغي ان تستجيب له سياساتها « ؟.

وقد ضعت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون في كانون الثاني عام 2010، الخطوط العريضة للكيفية التي يمكن للولايات المتحدة، أن تروج بها حرية الإنترنت وتعززها في الخارج. بما فيها حرية الوصول إلى المعلومات (مثل القدرة على استخدام موسوعة «ويكيبيديا» ومحرك البحث «غوغل» ، وحرية المواطنين العاديين في إنتاج إعلامهم الجماهيري الخاص ، وحرية المواطنين في التحادث والتحاور مع بعضهم بعضا .

وتم تخصيص تمويل للأدوات المصممة من أجل إعادة فتح المداخل إلى الإنترنت، في الدول التي تحد من الدخول إلى الشبكة العنكبوتية . ويركز هذا النهج لمقاربة حرية الإنترنت، على منع الدول من مراقبة المواقع الإلكترونية الخارجية؛ مثل «غوغل»، «يوتيوب»، أو موقع صحيفة «نيويورك تايمز». ووفقاً لهذه الرؤية، « فإن بوسع واشنطن أن تقدم استجابات سريعة ،وموجهة ضد الرقابة التي تمارسها الأنظمة الشمولية».وقد يفسر اصحاب نظرية المؤامرة ان الاهتمام الاميركي بالاعلام البديل يؤكد شكوكهم ،لكن من يرى الامر بعين فاحصة ،يستنتج بان شبكة الانترنت احد أهم انجازات العلم الحديث،وان هذا الفضاء المفتوح متاح للجميع ،وخاصة لمن يدرك مفاتيح استخدام هذا الانجاز لمنفعة الانسانية،اما السلوك التآمري فهو يسعى لتوظيف اي ادوات متاحة ..سواء تعلق الامر بامريكا او غيرها.

جرس إنذار

ان ما يجري جرس انذار خطير، ينبغي الاستماع اليه جيدا،ذلك انه لم يعد بالامكان تجاهل حركة التغيير، التي تتفاعل في المجتمعات العربية ،وان جيل الشباب قادر على التحرك وكسر حاجز الخوف ،عندما تسد الفرص أمامه ويسيطر عليه الاحباط . وان الاساليب القديمة في تعاطي الحكومات مع هذا الجيل تجاوزها الزمن ،سواء من حيث اخفاء الحقائق او قمع الحريات، وتهميش القوى الفاعلة في المجتمع في عالم مفتوح ، حولته ثورة الاتصالات الى» قرية صغيرة «، اذ لا بد من التعامل مع الشعوب بشفافية .

ليس الاعلام الجديد وحده، الذي يحرك الشعوب وبخاصة جيل الشباب ، فالامر الجوهري الذي لا يجوز تجاهله ، ان الفساد والظلم وغياب العدالة والتهميش والاستبداد ، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة ،على مدى عشرات السنين ،شكلت ارضية خصبة لانفجار زلزال الغضب ،مع وجود ملايين الشباب المتعلم ، الذي يواجه الاحباط والبطالة والعوز وقلة فرص الحياة الكريمة ،بسبب فشل السياسات الاقتصادية والاجتماعية على مدى عقود من الزمن ، فضلا عن غياب المشاركة الحقيقية في صنع القرار، عبر انتخابات حرة ونزيهة ، واستئثار شريحة قليلة من المنتفعين ، تدور في فلك النظام بالثروة والسلطة .

لقد ضاعت فرص عديدة في التنمية وتكريس الديمقراطية ، وبناء مجتمعات وانظمة سياسية مستقرة،بسبب غياب الحكم الرشيد ،وعدم التعامل بجدية مع التحديات والمشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ،التي تواجهها المجتمعات العربية، فعلى سبيل المثال اعلن الرئيس المصري حسني مبارك ، قبوله باجراء العديد من الاصلاحات السياسية ، بعد انفجار بركان الغضب يوم 25 يناير- كانون الثاني،وهي اصلاحات كانت تطالب بها القوى السياسية على مدى سنوات، ولو تم تحقيق هذه الاصلاحات قبل 25 يناير، لما حدثت الاحتجاجات بهذا الزخم ،والتي كلفت مصر خسائر هائلة على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والامني، فضلا عن تضرر سمعتها الدولية بشكل كبير.

وحدث شيء مشابه في تونس،فلو بادر الرئيس زين العابدين بن علي، الى اجراء اصلاحات سياسية واقتصادية واطلاق الحريات السياسية ،في وقت مبكر لما انفجرت الاحتجاجات الشعبية ،وبالتالي اضطر الى تقديم تنازلات على هذا الصعيد، في خطابه الاخير قبل سقوط النظام،لكن الوقت قد فات .

لقد استيقظت الشعوب وبخاصة جيل الشباب، الذي اتخذ زمام المبادرة ، واصبح قادرا على التحرك والضغط على الحكومات لتصحيح المسار ، بدون ان يكون مؤطرا في الاحزاب والحركات السياسية التقليدية ، ووسط ضجيج الاحتجاجات سقطت فزاعة الاصولية الاسلامية، التي تستخدمها بعض الانظمة ذريعة للتضييق على الحريات ،وتخويف الراي العام الدولي من الارهاب ! فلم يعد الناس مجرد قطعان بشرية تهتف «بالروح بالدم نفديك يا زعيم»، انهم يطالبون بحقهم في الحرية ، ولم يعد بوسع الحكومات واعلامها فرض الوصاية على عقول مواطنيها ،اذ ان ثورة الاتصالات والاعلام البديل الذي افرزته، وضعت المعلومات والحقائق على قارعة الطريق، فبعد الجيل الثاني من عصر الانترنت الذي سمح بتبادل الافكار والمعلومات وبالتفاعل مع الاحداث، بدأنا اليوم بالدخول في الجيل الثالث من الانترنت الذي يعتمد على البث المباشر والحيّ، وهذا ما يحول الانسان الى كائن رقمي يتفاعل مع الاحداث في كل لحظة.