الساعة

(الإستوبيل) في القانون الدولي العام

09/09/2013

مركز الرأي للدراسات

اعداد : د.نفيس مدانات

ايلول 2013

من الطبيعي أن نتوقع من كل نظام قانوني أن ينظر بعدم الرضا إلى التناقضات الحاصلة في التصريحات أو القرارات أو الأعمال والسلوكات المتتابعة الصادرة عن أحد رعاياه، وأن لديه قاعدة قانونية خاصة تمنع أحد الأطراف أن يتراجع عمّا قاله سابقا، أو عمله، أو جعل غيره يعتقده، عندما يكون بذلك قد أظهر قصده الحقيقي بوضوح، وكان قد دفع طرفا آخر كي يعمل أو يمتنع عن العمل، ونتج عن ذلك تعديلٌ في مركزيهما.

وعلى مثال الأنظمة القانونية الوطنية، نجد أن القانون الدولي العام، كان قد قرر، بقصد الحفاظ على الأمن الحقوقي في النظام الدولي، الشروط التي يتم بموجبها مواجهة أحد الأطراف في مثل هذه الفرضية بأحد أعماله السابقة.

مؤسسة “الإستوبيل” (Estoppel) هي مؤسسة حقوقية إنجليزية كان القانون الدولي قد استقبلها بالطريق العرفي.

“الإستوبيل” كما يرى «شارل فاليه» (Charles Vallee) هو اصطلاح إجرائي مستعار في اللغة الإنجليزية يصف الاعتراض الحاسم في مواجهة أحد الأطراف في دعوى والذي اتخذ موقفاً يتناقض مع ما سمح به سابقاً صراحة أو ضمناً، و/ أو ما يدعي دعمه في الدعوى نفسها.

أما أنه اصطلاح إجرائي، فهذا مؤكد تماماً، وعلى النحو نفسه هو «مستعار» بالتأكيد، ليس فقط «من اللغة الإنجليزية»، لكن أيضا –وبالأكثر– من القانون «الإنجلو-ساكسوني».

وهاتان الخاصتان هما من دون شك الأكثر معرفة لهذا «الاعتراض الحاسم». إلا أن فحصاً نابهاً للاجتهاد الدولي ودراسة للفقه تقودنا إلى التفكير بأن “الإستوبيل” يتجاوز هذا الوصف بالاعتراض الإجرائي البسيط، كما أنه إذا كان صحيحاً بأن التقنية الإجرائية التي أخذت اسم “الإستوبيل” موجود أصلها في القانون الإنجليزي، فإن الفكرة الأساسية لها أكثر قدماً، حيثُ أنها موجودة دائماً، ونجد آثارها في القانون الروماني (Post-Romain)، وفي القانون الكنسي (Canonique) على شكل الحكم أو الأقوال المأثورة يرويها لنا «بوشنباشر» (Buchenbaches) على النحو التالي: Quod semel placuit) amplius desplicere non potest)، أي: «ما يعجبك اليوم لا يجوز أن تقول غداً إنه لا يُعجبك» (Mutare concilium quis non potest in atterius)، بمعنى: لا تُعْطِ نصيحة تضّر بها آخر.
وإذا كان “الإستوبيل” قد انفرض كقاعدة إثبات على أصحاب المهنة، فهو مطابق قبل كل شيء، لنوع من المفهوم الاجتماعي والإلغائي للقانون، وهذا المفهوم يتجاوز المجال الضيق للإجراء، وهو ينسجم مع قاعد «الإحساس العام»، التي بموجبها «عندما تهمل بشكل مستمر ومتكرر، ذكر الحق، أو تتصرف بشكل يُناقض هذا الحق، فإن هذا الحق ينطفئ».

(هناك تردد حول الطبيعة القانونية لاصطلاح «الإستوبيل»، فقد وصفه (M.J.Lang) بأنه «مؤسسة» (Institution) ، وتم التحدث أيضاً عنه بوصفه «مبدأ»، والمقصود أنه مبدأ قانوني عام وفق المادة (38) من نظام محكمة العدل الدولية، الذي بحسبه «لا يمكن لدولة أن تستفيد، وفق مصلحتها الآنية، من سلوكاتها المتناقضة»، كما استخدم اصطلاح «المذهب» (Doctrine)، كما هي حال الرأي المنفرد للقاضي «الفارو» (AL Faro) في قضية «المعبد» (Vihear-Preah) الصادر عن محكمة العدل الدولية، كما يُطلق على “الإستوبيل” تعبير «نظرية» (Theorie).
ولما كان اجتهاد كل من محكمة العدل الدولية الدائمة ومحكمة العدل الدولية قد أورد ذكر “الإستوبيل”، وكذلك الاجتهاد التحكمي، فهذا يُؤكد فائدة دراسته.

الطبيعة القانونية والأثر

يُعرف “الإستوبيل” على النحو التالي: «عندما يكون أحد الأطراف من خلال تصريحاته، أو أعماله أو سلوكاته، قد أدى بطرف آخر إلى الاعتقاد بوجود حالة معينة من الأشياء، وقد دفعه للعمل أو إلى الامتناع عن العمل بناءً عليها، بحيث أنه قد نتج عنها تعديل في مراكزهما (على حساب ضرر للثاني، أو ميزة للأول، أو أن يحدث الأمران معاً)، فالأول يُمنع بـِ”الإستوبيل” أن يُثبت في مواجهة الثاني حالة من الأشياء تختلف عما كان قد قدمه في السابق بأنه موجود.
وفي ما يخص طبيعة “الإستوبيل” وأثره في القانون الدولي يُطرح التساؤل التالي: هل يُشكل “الإستوبيل” وسيلة بسيطة للدفاع (دفعاً بعدم القبول أو دفاعاً عن الأساس) يسعى لتعطيل إثبات وقائع معينة، وبالنتيجة لمعاقبة صحة وضع قانوني، أم إنه يمكن أن يكون أساساً لدعوى قضائية، أي أن يكون له دور كبير كمبدأ مولد أو ناقل للحقوق والالتزامات؟

المحاكم الدولية لم تفصل في هذا الموضوع بصراحة، لكن إذا ألقينا نظرة على القضايا التي فصلت فيها نجد أنه قد تم النظر إلى “الإستوبيل” دائماً كوسيلة دفاع فقط.

فلو استعرضنا اجتهاد محاكم التحكيم الدولية، نجد أن المحكمين اعتبروا أن “الإستوبيل” يجب أن يقوم بالوظيفة نفسها التي يقوم بها في القانون الداخلي. ففي قضية «الغويانا البريطانية» (Guyane Britannique) كان أحد المحكمين قد سأل محامي فنزويلا، في ما إذا كان قد قصد عندما ذكر “الإستوبيل” أن «بريطانيا توقف من أن تقول أي شيء خارج خط بالميرستون Palmerston» وبالنتيجة «فإن أي حق مختلف لا يمكن تأكيده».
وفي قضية «كورفايا» (Corvaia) نجد أن المحكم الذي تم اختياره إما من القاضي أو المحكمين من أجل إبطال تعادل الأصوات في حالة عدم الاتفاق، كان أعلن أن فنزويلا لم تكن بالتأكيد قد أوكلت وظيفة رسمية مهمة لـ «كورفايا» لو لم تكن على قناعة مبررة بأنه قد تخلى عن جنسيته الإيطالية الأصلية، وأن إيطاليا بالتالي «توقف، بأن تدعي بأن كورفايا هو مواطنها.... ولا يمكن قول ذلك......».

وفي قضية «تينوكو» (Tinoco) كان المحكم الوحيد قد رفض “الإستوبيل” الذي قدمته «كوستاريكا» (Costa Rica) مشيراً إلى التعريف الدقيق لـ»الإستوبيل العادل» (أي “الإستوبيل” بالعرض Estoppel by representation) الموجود في القانون الإنجلو- أميركي، لافتاً النظر إلى أن «الإستوبيل العادل لإثبات الحقيقة يجب أن يُبقي على السلوك السابق للشخص الذي يجب أن يوقف، والذي أدى بالشخص الذي يدعي بالإستوبيل إلى وضع ستسبب فيه الحقيقة أذى له».
وفي قضية «شوفيلد» (Shufeldt) كان المحكم الوحيد قد اعتبر أن عقد الالتزام موضوع البحث قد تلقى في الأصل موافقة البرلمان الضرورية لشرعيته، لكنه تمسك بإضافة جدل الولايات المتحدة في القضية والمؤسس على “الإستوبيل” موافق لمبادئ القانون الدولي وأنه يمكن أخذه ُ في الحسبان، مُبيناً «أن حكومة جواتيمالا قد اعترفت بشرعية العقد لست سنوات وتلقت كل الفوائد المخولة لها بالعقد، وسمحت لـ (شوفيلد) أن يستمر بإنفاق الأموال على الامتياز، فهي بالتالي ممنوعة من أن تُنكر مشروعيته، حتى لو أن تصديق المشرع لم يُعْطَ له».
أما محكمة العدل الدولية في لاهاي، فقد اعترفت صراحةً عبر ثلاث قضايا بالدور الإجرائي الصرف الذي يجب أن يلعبه “الإستوبيل” في القانون الدولي، كالدفع بعدم القبول، أو الدفع بعدم سماع الدعوى.

ففي قضية «النظام القانوني لجرين لاند الشرقية»، حكمت المحكمة بأنه: «لا يمكن أن يكون هناك سبب للتمسك بذلك بسبب السلوك الذي تبنته الحكومة الدنماركية، فقد أقرت أنها لا تملك أي سيادة على الجزء غير المستعمَر في جرين لاند، وتبنّت فكرة توقفها عن الادعاء بذلك، كما تدعي به في الوقت الحالي في هذه القضية بأن الدنمارك تملك سيادة قديمة مقامة على كل جرين لاند».

وفي قضية «معبد برياه فيهيار» (Temple de preah Vihear)، حيث أن كمبوديا قد استندت إلى “الإستوبيل” وقالت: «حتى لو كان هناك أي شك في ما يخص قبول (سيام) لخريطة عام 1908، وبالنظر إلى الحدود المبيّنة عليها، فإن المحكمة تعد على ضوء مجريات الأحداث، أن (تايلاند) الآن ممنوعة بسلوكها من التأكيد أنها لم تقبلها. وأنه ليس مسموحاً الآن لتايلاند، وهي ما زالت مستمرة بالمطالبة وتتمتع بفوائد التسوية، أن تُفكر أنها لم تكن أبداً طرفاً راضياً بالخريطة».
وفي قضية (Barcelona Traction)، كانت محكمة العدل الدولية قد وصفت جدل “الإستوبيل” المقدم من إسبانيا «بالدفع المؤسس على الإستوبيل من أجل تعطيل كل دعوى لاحقة أمام المحكمة» (Plea of estoppel precluding further action before the court ) مذَكّرة أنها أكدت أن بلجيكا، بسبب سلوكها، موقوفة الآن أو ممنوعة من أن تُنكر ذلك بسبب أنها تخلت عن كل حق في ما بعد لإقامة أي دعوى.
نستخلص مما ذُكر، أن “الإستوبيل” المعرف بدقة يبدو على المستوى الدولي قاعدةً إجرائية في قسم إدارة البينات، وهو يعمل فقط كوسيلة دفاع، ومما يؤكد ذلك تحليل الأساس القانوني لـ“الإستوبيل” في القانون الدولي.


الأساس القانوني

حول الأساس القانوني لـ“الإستوبيل” المُعرف بدقة والذي تم اعتماده على المستوى الدولي، هناك ثلاث وجهات نظر هي: حُسن النية، والمسؤولية الدولية، والاتفاق الضمني.

حُسن النية

“الإستوبيل” هو قاعدة إجرائية للإثبات، بموجبها ليس بإمكان الطرف الذي أوجد لدى طرف آخر بعض المفاهيم الواقعية أن يقدم البرهان بأن هذه الوقائع لها مادية مختلفة، ولهذا فهو ممنوع عليه قانوناً أن يُحاول إقامة «حقيقة» مختلفة عما سبق، وبهذا فإن مبدأ حسن النية يُسيطر على إدارة الإثبات من خلال مؤسسة “الإستوبيل”، ويُشكل بالنتيجة أساس هذه المؤسسة التي تسعى لحماية الطرف الآخر.

من ناحية أخرى، إن حُسن النية ذو عمومية كبيرة ولا يسمح بالتالي إقامة الأساس القانوني لـ“الإستوبيل” المعُرف في القانون الدولي العام بشكل دقيق وكاف، كما يُلاحظ أن مبدأ حُسن النية يسيطر على مُجمل القانون الدولي العام، ولهذا فهو مبدأ تجريدي. كما أن حسن النية أو سوءها لدى أحد الأطراف ليس له تلك الأهمية من وجهة نظر “الإستوبيل”.

المسؤولية الدولية

يقول حامد سلطان: «والنظام القانوني الدولي- شأنه في ذلك شأن الأنظمة القانونية الأخرى- يفرض التزامات على أشخاصه. وهذه الالتزامات واجبة النفاذ، سواءً كان مصدرها حكماً اتفاقياً أي مُثبتاً في معاهدة، أو حكماً عرفياً، أو حكماً قررته المبادئ العامة في النظم القانونية المختلفة. فإذا تخلف الشخص القانوني الدولي عن القيام بالتزامه ترتب على تخلفه -بحكم الضرورة- تحمل تبعة المسؤولية الدولية لامتناعه عن الوفاء به».
وارتباط الالتزام الدولي بحكم الضرورة بالمسؤولية الدولية أمر مُسلّم به ومُجمَع عليه.

ويضيف سلطان: «ينبني على ما سبق أن تنشأ في حالة الإخلال بالتزام دولي، رابطة قانونية جديدة بين الشخص الدولي الذي أخل بالتزامه أو امتنع عن الوفاء به، والشخص القانوني الذي حدث الإخلال في مواجهته، ويترتب على نشوء هذه الرابطة الجديدة أن يلتزم الشخص القانوني الذي أخل بالتزامه أو امتنع عن الوفاء به بإزالة ما ترتب على إخلاله من النتائج. كما يحق للشخص القانوني الذي حدث الإخلال أو عدم الوفاء بالالتزام في مواجهته، أن يُطالب الشخص القانوني الأول بالتعويض».
وهذه الرابطة القانونية بين من أخَلّ بالالتزام ومن حدث الإخلال في مواجهته، هي الأثر الوحيد الذي يترتب في دائرة القانون الدولي على عدم الوفاء بالالتزام الدولي.

وقد أجمع فقهاء القانون الدولي على إطلاق اصطلاح «العمل غير المشروع» على كل مخالفة للالتزام الدولي الذي تفرضهُ قاعدة من قواعد القانون الدولي. وعلى أن العمل غير المشروع يتطلب توافر عنصرين لوجوده:

الأول: أن يكون التصرف المعين منسوباً إلى الدولة، أي أن يكون القيام بالعمل المُعين، أو عدم القيام به، يجب أن يكون منسوباً إلى الدولة المُلتزمة.

الثاني: أن يكون هذا التصرف قد تَم مخالفاً لما تقضي به القاعدة القانونية الدولية.

من الفقهاء الذين أشاروا إلى أن “الإستوبيل” يُسجل ضمن النظرية العامة للمسؤولية الدولية، الفقيه (Witenberg L-C.)، وأيده في ذلك الفقيه (D.W.Bowett).

والسؤال هنا: أيهما يولد المسؤولية الدولية؛ “الإستوبيل”، أم الفعل غير المشروع دولياً؟

الفعل غير المشروع دولياً هو الذي يُسبب الضرر، وما دام هناك علاقة سببية بين هذا الفعل غير المشروع والضرر، فإن المسؤولية الدولية تتحقق. لذلك من غير الممكن أن تكون المسؤولية الدولية أساساً قانونياً لـ“الإستوبيل”، وهذا ما يُؤكده «شارل فاليه» (CharlesVallee)، بقوله: «يتوجب ألاّ يغيب عن بالنا أنه لا الإستوبيل ولا القبول قابلَيْن لأن تكون أفعالاً غير مشروعة، لكن السلوكات هي المولدة لهذا و ذاك». كما إن “الإستوبيل” المُعرف بدقة في القانون الدولي والمعتبر كقاعدة إجراء للإثبات يقع خارج قانون المسؤولية الدولية، وبما أنه يعدّ كوسيلة دفاع فلا يجوز الخلط بينه وبين دعاوى المسؤولية.

الاتفاق الضمني

الشخص الذي صدر عنه عرضٌ بشكل واضح وغير مُبهم، والذي عمل أو امتنع عن العمل، وقد بدّل في مركزه بناء على هذا العرض، يَظهر مقصده بوصفه حقيقة، ويستدل من ذلك أن هناك ارتباطاً تعاقدياً، وبعبارة أخرى هناك بشكل لا يمكن دحضه عقد ضمني بين من قام بالعرض ومن وُجَه إليه هذا العرض، كما يمكن إعطاء هذه الوقائع التي هي موضوع هذا العرض قيمة الحقيقة العقدية، أي لا يمكن مسها، وبالتالي ينتج عن ذلك منع نقضها بـِ“الإستوبيل”.

هناك تمييز يتوجب ذكره في هذا المجال بين “الإستوبيل” الذي هو وسيلة بسيطة للدفاع، وبين العرض المُقدم من أحد الأطراف والذي أدى إلى ولادته والذي بإمكانه أن يكون أساساً لدعوى قضائية لأنه هو المصدر لالتزام تعاقدي، وبالتالي سبب لدعوى تعاقدية في طور التنفيذ، فـَ“الإستوبيل” هنا قاعدة تسمح بقبول البراهين، وتسمح فقط لمن يثيره أن يمنع من قدم العرض من الاحتجاج أثناء الدعوى على الوقائع التي هي أساسٌ للعرض.

ونجد في القانون الدولي، أن الأعمال هي وحيدة الطرف شكلاً، لكن يجب أن يقابلها عمل آخر من النوع نفسه، أي عمل وحيد الطرف كي تنتج آثاراً قانونية، لكن هذه الأعمال إذا كانت منفصلة ليس لها أثر قانوني، لأن القانون لا يعلق على العمل الأول إلا آثاراً افتراضية، أي بشرط أن يقابلها عمل موافق لها لكي يتممها، وبعبارة أخرى أن الأثر القانوني لا يصدر مباشرة من هذا أو ذاك من هذه الأعمال منفردة، لكن العمل ينتج من تلاقيها ومن تطابقها، بحيث نجد أنفسنا أمام وضع تعاقدي.
فمن الواضح أن عملاً وحيد الطرف صادراً عن أحد الأطراف لا يؤخذ بالحسبان بخصوص “الإستوبيل” إلا إذا ارتبط بميكانيكية ذات صفة تعاقدية: فالطرف الآخر الذي اتكل على عرض الوقائع الناشئ من هذا العمل وحيد الطرف، كان قد عمل أو امتنع عن العمل بحيث أنه قد نتج عنه تعديل في المراكز التي تخص هذين الطرفين.

ومن بين فقهاء القانون الدولي الذين قدموا ملاحظات مشابهة في ما يخص “الإستوبيل” في القانون الدولي العام، الفقيه «جاك لانغ» (Jack Lang)، فهو يرى مُشيراً إلى القرارات التي صدرت عن محكمة لاهاي مثل قضية (Barcelona Traction) وقضية (Plaleau Continental de la mer du Nord)، أن هذه المحكمة كانت ترى في “الإستوبيل” في هذه القضايا شكلاً خاصاً لإنشاء علاقة عقدية، وقد أيد هذا التحليل الفقيه و(Charles Vallee) .
كذلك، يجب أن نذكر التمييز الذي يقيمه النظام القانوني الدولي، بين الوقائع القانونية والأعمال القانونية: فالواقعة القانونية هي أي فعل يأخذه القانون الدولي في الحسبان ليعلّق عليه آثاراً قانونية، إذن بتدخّل من قاعدة في القانون الدولي نجد أنّ فعلاً له أصل في ظاهرة طبيعية أو أنه يجد مصدره في سلوك إنساني، يصبح واقعة قانونية دولية.

وبعكس الوقائع القانونية التي تؤدي ببساطة إلى تطبيق القواعد القانونية الموجودة، نجد أن الأعمال القانونية بناءً على القانون، مولدة للحقوق والالتزامات، أي قواعد قانونية جديدة. وهي تتضمن مظهراً للإرادة صادراً عن شخص أو أشخاص القانون الدولي ومخصصة لخلق قاعدة يعلق عليها القانون الدولي آثاراً قانونية تتوافق مع الإرادة المعُبر عنها. وهي بالنتيجة تتميز بسهولة عن الوقائع القانونية.

السؤال هنا: هل يعترف القانون الدولي العام بالمظاهر الضمنية للإرادة؟

هذا السؤال له أهمية خاصة بما يتعلق بمشروعية وجهة النظر القائلة إن “الإستوبيل” قاعدة إجرائية تتعلق بقبول الإثبات ويسمح للمحاكم الدولية أن تُقرر في ما إذا كانت هذه العناصر المختلفة قد اجتمعت، وتُعاقب بالتالي القوة الإلزامية لاتفاق ضمني وثنائي الأطراف.

وللإجابة عن هذا التساؤل يقول «جان بول جاكي» في دراسة أجراها للاجتهاد الدولي: «إن القاضي الدولي يأخذ بالحسبان السلوكات الإيجابية والسلبية للدول ويعلق عليها بعض النتائج القانونية». ويُضيف:»مثل هذه السلوكات تدخل في عالم القواعد الحقوقية وتُنشئ حقوقاً والتزامات»، ثم يتساءل في ما إذا كان من الجائز ضمن هذه الشروط أن نُشبّه السوكات بالأعمال القانونية؟ مؤكداً أن مثل هذا التشبيه غير ممكن إلا بشرط أن يترجم السلوك مظهراً لإرادة أحد أشخاص القانون الدولي. ويلاحظ أيضاً أن القاضي يُفسر غالباً سلوكات الدولة بأنها مظهر للإرادة، وأنه ليس هناك من فقيه يُعارض إمكانية أن تكون السلوكات الإيجابية مظهراً ضمنياً للإرادة، لكن هناك بعض المُعلقين يرى أن السكوت لا يمكن أن يعد مظهراً للإرادة بأي حال، أما الفقية «جان بول جاكي» فقد لفت النظر إلى أنه «في أغلب الحالات، يكون السكوت تعبيراً عن رضا ضمني أكثر منه عن سلوك سلبي صرف». أي بمعنى أنه مظهر لإرادة خلاقة.
ويصل «جان بول جاكي» إلى أن العديد من السلوكات تُظهر ضمنياً إرادة الدولة، ويُعلن على وجه الخصوص (بعد أن تطرّق لمسألة إسناد هذه السلوكات إلى جهاز مؤهل حتى يُلزم الشخص القانوني الدولي الذي يُمثله)، قائلاً: «وهكذا فإن جملة من السلوكات التي تُعزى لشخص من أشخاص القانون الدولي يمكن أن تشكل مظهراً ضمنياً للإرادة، وتؤدي إلى ولادة قاعدة قانونية دولية»، فالمقصود عندئذٍ عمل حقوقي.

فإلى جانب الأعمال الصادرة عن إعلان الإرادة، نجد أن هناك أعمالاً قانونية «ضمنية»، وهذه الأعمال يمكن أن تكون أعمالاً وحيدة الطرف أو اتفاقيات دولية.

إن فحصاً للعمل الدولي يسمح بتأكيد أن عرضاً للأشياء قابلاً لأن يؤدي إلى أثر “الإستوبيل”، يمكن أن ينشأ من العمل الإيجابي لطرف ما (أي في اللغة المكتوبة أو المتحدث بها، وبشكل عام، من تصرفه أو سلوكاته الفاعلة)، أو ينشأ من سلوكه السلبي الصرف (أي من سكوته أو من سكونه أو إهماله، عندما يكون واجب الكلام أو العمل).

لكن، هل بالإمكان أن تشكل هذه السلوكات الإيجابية الفاعلة أو السلبية التي دفعت بالطرف الآخر للعمل، أو الامتناع عن العمل، بحيث أنه قد نتج عنها تعديل في مراكز هذين الطرفين، مظهراً للإرادة مخصصاً لإنشاء قاعدة قانونية، تُسجل ضمن ميكانيكية ذات طبيعة تعاقدية؟

وفق العناصر المكونة لـ“الإستوبيل” في القانون الدولي العام، لا يتم تحليل الإرادة الحقيقية في مثل هذه الحالة، لمؤلف العمل الذي ينبع منه عرض الأشياء المدعى بها، لكن يتم التمسّك بالبحث في ما إذا كان الطرف الذي يلجأ لـ“الإستوبيل”، ووفق كل ظروف القضية، بإمكانه بشكل معقول وبحسن نية، أن يعتقد بصحة العرض ويفكر أن من صدر عنه قد أراد منه أن يعمل، أو أن يمتنع عن العمل، كما فعل بناءً عليه.

وبالتالي فلا يؤخذ في الحسبان إلا المجالات «الموضوعية» للعمل الصادر عن الطرف من أجل أن نحدد في ما إذا كان الطرف الآخر كان بإمكانه أن يركن بشكل معقول، إلى القصد الذي بالإمكان استخراجه على ما يبدو. فلا تهم الإرادة الحقيقية لمؤلف العمل، إنّ ما يؤخذ بالحسبان هو الاستنتاجات التي يستخلصها الطرف الآخر من هذا العمل. وبعبارة أخرى، نحن أمام مظاهر ضمنية للإرادة. إذ إن هذه الإرادة لا تصدر عن إعلانات صريحة صادرة عن طرف تجاه طرف آخر، ويجب بالنتيجه، كي يكون هناك وضع من “الإستوبيل”: «إن يكون أحد الأطراف قد أوجد بسلوكه في نفس شريكه الفكرة التي تبررها الظروف بأن إعلاناً للإرادة قد تم توجيهه إليه».
إن المعنى القانوني الجازم لكل مظهر للإرادة موجه للآخر، هو ما يمكن لهذا الآخر وما يتوجب عليه أن يعطيه له بحسن نيَة. إن النظام القانوني لا يُحل الإرادة الوهمية لمن صرح محل إرادته الحقيقية، لكنه يقضي بأن مصلحة من وُجّه إليه التصريح تستحق أن تكون محمية بقدر ما يتصرف هذا الموجه له بحسن نية، وهو يعطي عن عمد أثراً، ليس للإرادة الحقيقية لمن صرح، لكن إلى ما هو من حق الموجه له التصريح أن يعتبره الإرادة الحقيقية للمُصرح.

استخدام “الإستوبيل” في القانون الدولي العام

في القانون الدولي العام يتدخل “الإستوبيل” كوسيلة دفاع (الدفع بعدم القبول أو الدفع بعدم سماع الدعوى) ويسعى لتعطيل إثبات بعض الوقائع ويتخذ بشكل أساسي الصفة الإجرائية.

يؤكد ذلك ما جاء به الفقيه «ويتنبر» (T.C.Witenberg) بقوله: «إن (الإستوبيل) هو عدم قبول أو تعطيل قانوني للاحتجاج أو لإنكار حالة واقعية معينة بسبب إنكار أو احتجاج أولي أو سلوك سابق.. فهو ممنوع على الشخص ويوقف بأن يحتج ضد واقعة أو حالة واقعية أو أن يُقدم براهين معاكسة».

وفي القانون الإنجليزي يجب ذكر “الإستوبيل” بالعرض، من قبل طرف عندما تُعرِض المناسبة أثناء الإجراءات، أي منذ أن يرجع الطرف الآخر عن أحد عروضه السابقة بإصداره عرضاً مختلفاً يقوم على الوقائع نفسها، محاولاً أن يقيم حقيقة أخرى، كما يلاحَظ أن الطرف الذي يُفضل استخدام هذه الوسيلة في الوقت المناسب يمكن أن يصبح مجرداً من هذا الحق في مرحلة لاحقة من الإجراءات.

لكن ليس هناك إيضاحات دقيقة حول هذه المسألة في الاجتهاد أو الفقه الدوليين. وحده «Sir Percy Spender» كان قد قدم بعض الملاحظات من هذا النوع في رأيه المخالف في قضية (Vihear Temple de Preah) قائلاً: «أثير الإستوبيل من قبل كمبوديا، وليس في عريضتها المقدمة للمحكمة الدولية، وإنما أثناء الإجراءات الشفهية». في الحقيقة، يعود للمحاكم وليس للأطراف في الدعوى -أن تعطي- لوسيلة الدفاع وصفها النهائي.
وعند الرجوع إلى نظام الإجراءات وعلى وجه الخصوص لدى محكمة العدل الدولية يتبين لنا أن الدفوع الدولية يجب تقديمها قبل أي دفع يتعلق بالأساس، وأن هذه الأخيرة يمكن إثارتها حتى انتهاء المرافعة في الدعوى، أما في ما يخص الدفع بعدم سماع الدعوى، ليس هناك في أنظمة إجراءات المحاكم الدولية أي توضيح لذلك، لكن المنطق يقول إنه يجب إثارتها عندما تعرض المناسبة أثناء الإجراءات، وإن إغفالها من قبل الطرف في الدعوى عندما يلزم ذلك، يفقد الحق في إثارتها، وهذا أمر طبيعي لأنه يُعد متنازلاً عنه.
يتضح مما سبق أن “الإستوبيل” على هذا النحو هو قاعدة إجرائية تخص حدود الحق بإقامة الدليل، وبالتالي ليس بالإمكان استخدامه كوسيلة دفاع، كما لا يمكن في أي حالة أن يكون أساساً لدعوى أمام القضاء.