الساعة

نزيف الأدمغة العربية

20/06/2012

مركز الرأي للدراسات

اعداد : د . محمد عبد الكريم الشوبكي

حزيران 2012

يقول ( ريفيين برينر ) الاستاذ في دراسات الأعمال في كندا حيث ذكر في كتابه ( القرن المالي ) :» في ظل اقتصاد العولمة , سيذهب البشر والأموال الى حيث يمكنهم ان يكونوا مفيدين ومربحين ففي كل عام يغادر ما يقدر عددهم بنحو (1.8) مليون من المتعلمين ذوي المهارات والخبرات من العالم العربي و الإسلامي الى الغرب , وإذا ما افترضنا ان تعليم احد هؤلاء المهاجرين يكلف في المتوسط (10) ألاف دولار فان ذلك يعني تحول 18 مليار دولار سنوياً من الدول العربية و الإسلامية الى الولايات المتحدة وأوروبا , وإذا راكمنا هذا المبلغ على سنوات يصبح مفهوما اكثر لماذا تزداد الدول الغنية غنىً والفقيرة فقراً ‹ .

و حسب إحصائيات جامعة الدول العربية ومنظمة العمل العربية و اليونسكو فان ما يقارب (مائة ألف ) عربي من العلماء , والمهندسين , والأطباء , وأصحاب الخبرات الفنية , و التقنية التكنولوجية العالية يهاجرون سنويا الى امريكا وكندا والدول الأوروبية , وان (70%) لا يعودون الى بلادهم فما يقارب (50%) من الأطباء , (35%) من المهندسين , (15%) من العلماء مهاجرون , وان (54%) من الطلاب العرب الذين يدرسون في الخارج لا يعودون الى أوطانهم .

ولعل ما يؤكد صحة هذه الإحصائيات الدراسات الغربية التي أجريت قبل عقود في المجتمع العربي ودول العالم الثالث وخرجت بنتيجة مدهشة بان نسبة المبدعين أو العبقرية تكاد تكون معدومة علماً أن هذه النسبة (2%) ثابتة في أي مجتمع و ما ذلك الا مؤشراً خطيراً إلى ما آلت إليه صفوة العقول العربية والإسلامية من دوافع وآثار وأبعاد تستحق الدراسة والاهتمام لما وصل إليه المجتمع العربي من الانحطاط الفكري والتكنولوجي , وكيف هو الحال الآن بعد تدمير العراق , والأحداث التي تجري في بعض الدول العربية , الم يدفع ذلك الى تصاعد هجرة او هلاك العقول المبدعة ؟.

أرقام مذهلة

ومن الأرقام المذهلة ان ( 35% ) من الأطباء الأكفاء في بريطانيا من العرب ... وان مصر قدمت في السنوات الأخيرة (60%) من العلماء والمهندسين الى الولايات المتحدة , أما العراق , ولبنان ( 15% ) و خلال حصار العراق هاجر ما يقارب 7350 عراقي من ذوي العقول المبدعة أصحاب الكفاءات العلمية العالية خلال 7 سنوات (1991- 1998) .

وتشير التقارير ان معظم العقول العربية المهاجرة تعمل في مجالات متقدمة ومتطورة علمياً كالجراحة الدقيقة , والطب النووي , والهندسة الالكترونية ,و المايكرو الكترونية , والهندسة النووية , وعلوم الليزر , وعلوم الفضاء , و الاختصاصات التقنية المتطورة .

واظهر تقرير لجامعة الدول العربية ان الدول العربية تنفق دولاراً واحداً على الفرد في مجال البحث العلمي , بينما تنفق الولايات المتحدة ( 700 ) دولار , والدول الأوروبية (600 ) دولار , وان كل مليون عربي يقابلهم (318) باحث علمي , بينما تصل النسبة في الغرب الى (4500) باحث لكل مليون شخص .

ان هجرة العقول العربية بدأت منذ مطلع القرن التاسع عشر خاصة من سوريا , ولبنان , والجزائر وازدادت خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية في القرن العشرين , وفي أخر خمسون عاماً هاجر من البلدان العربية ( 25-50% ) من أصحاب الكفاءات العلمية و التقنية العالية والنسبة في تصاعد حتى يومنا هذا كما تشير التقارير والإحصائيات فهل أصبحت البيئة العربية بؤرة طاردة للعقول والأدمغة المبدعة بكل آسف ؟!

هوة حضارية عميقة

فهجرة الأدمغة العربية من العوامل الهامة التي أدت الى الهوة العميقة الحضارية بيننا وبين الدول المتقدمة بسبب حرمان هذه البلدان من خبرات هذه العقول , إضافة الى الخسائر المالية والاقتصادية بالتأثير على الخطط التنموية , والتركيبة السكانية الاجتماعية , حيث تشكل هجرة العقول العربية ثلث هجرة الكفاءات من البلدان النامية , ويعزى الباحثون أسباب هذا النزيف الى :

1. تدني الاهتمام السياسي بالعقول المبدعة , وتضييق الحريات , ووضع القوانين والتشريعات التي تقف كحاجز او معرقل لهم وعدم الاستقرار السياسي في الدول العربية منذ الاستعمار و حتى يومنا هذا , فأصحاب الأدمغة يشعرون بالإحباط وبتدني الطمأنينة والشعور بالغربة في بلدانهم ومن ثم الهجرة , وفي هذا الصدد يقول مدير البنك الدولي سابقا « روبرت مكنمارا « ( ان العقول كالقلوب تهوى وتذهب وتهاجر حيث ترى راحتها والتقدير والاحترام ) .

2. و لعل التأمل في أسباب هذه المأساة أن المبدعين أو العباقرة في دول العالم الثالث لا يجدون موطئاً يليق بهم للتشجيع النفسي والعون الاقتصادي والمكانة الاجتماعية اما إداراتهم فتعتمد على نظرة الولاء قبل الانجاز ونادرا ما يهتم بالفرد على أساس الانجاز في القدرات الذهنية ، والعطاء الفكري ، والإبداع العلمي والثقافي وهي اقرب منه على أساس الموالاة من المحسوبية والتزلّف والقربى والولاء الشخصي تحت مسميّات الإخلاص والانتماء ، فمن البديهي أن تهلك أو تهاجر هذه الفئة من مسقط رأسها .

3. كما ان دول العالم الثالث بشكل عام لا تألوا جهدا في سياسة الاضطهاد أو القمع خاصة وان هذه الفئة المبدعة في اغلب الأحيان تتبنى آراءً سياسية تناوئ مزاجية هذه الأنظمة ، او ان جزاء من هذه الفئة الخلاقة ضاقت بهم أرضهم بسبب تميزهم الفكري والسلوكي وبسبب ضألتهم النسبية في المجتمع وبالتالي الشعور بالاضطهاد الاجتماعي , والعزلة , والغربة في الوطن , ومن ثم الهجرة لمن استطاع منهم سبيلاً ، او أن البعض منهم يعيش في حالة كآبة نفسية استجابية نتيجة للعراقيل السياسية و الاجتماعية والاقتصادية كنمط حياة (عزلة اجتماعية قسرية ) ، أدى الى هلاك قدراتهم الإبداعية والعيش تحت مظلة المهدئات ومضادات الكآبة,أو الكحول ، او إنهاء الذات بالانتحار.

4. شح الإنفاق على مراكز البحث العلمي وعدم إعطاءها الأولوية وترهلها بسبب غياب الإرادة السياسية العربية في الإنفاق على الابحاث والدراسات العلمية بما يحتاجه من أرصدة وموارد ودعم , وإنشاء وتطوير المراكز البحثية التقليدية , مع عدم إدراك الرابطة الوثيقة بين التقدم الاقتصادي و الاجتماعي والسياسي والفكري والتقدم العلمي . و غياب إستراتيجية واضحة بناءة للقدرات العلمية والتكنولوجية , وتدني حرية المؤسسات الأكاديمية واستقلالها الإداري والمالي مما أدى الى ضعف مستوى البحث العلمي وقلته وعدم إسهامه في التنمية وبالتالي هجرة العلماء وأصحاب الكفاءات العلمية , والاعتماد على شراء التكنولوجيا بدلاً من تطوير القوى البشرية لصناعتها و استيراد المشاريع الاستهلاكية .

ففي عام 2002 , أصدرت منظمة العمل العربية تقريرا بعنوان البحث العلمي بين العرب وإسرائيل وهجرة الكفاءات العربية , كشفت فيه عن عمق الهوة التكنولوجية والعلمية بينهما والتي تبين تفوقا علميا وتكنولوجيا صارخا لإسرائيل اتضح فيه ان معدل الإنفاق العربي على البحث العملي لا يزيد سنويا عن
(0.002%) الدخل القومي , في حين انه يبلغ في كيان إسرائيل (8.1% ) , وان نصيب المواطن العربي من الإنفاق على التعليم لا يتجاوز 340 دولاراً سنوياً , في حين يصل لديهم 2500 دولار سنوياً .

أما بالنسبة لعدد الباحثين العلميين لكل مليون فرد من السكان فان العالم العربي يملك 136 باحثاً لكل مليون مواطن مقابل 1395 عالما في إسرائيل لكل مليون من سكانها وفي تركيا الى 300 عالم , و جنوب إفريقيا 192 عالماً , و في المكسيك 217 , وفي البرازيل 315 باحثاً , أما في اليابان فالرقم 5000 باحث , وفي روسيا ( 3415 ) , وفي الاتحاد الأوروبي ( 2439 ) , أما امريكا ( 4374 ) عالماً لكل مليون مواطن .

وحسب إحصائيات منظمة اليونسكو لسنة 2004 , فقد خصصت الدول العربية مجتمعة للبحث العلمي ما يناهز 1.7 مليار دولار أي ما نسبته ( 0.3% ) من الناتج القومي الإجمالي , بينما خصصت دول امريكا اللاتينية والكاريبي 21.3 مليار دولار أي ما نسبته ( 0.6% ) من الناتج القومي الإجمالي , وخصصت دول جنوب شرق آسيا 48.2 مليار دولار أي ما نسبته ( 2.7%) .

5. هناك غياب واضح للقطاع الخاص في المساهمة للبحث العلمي في الدول العربية فالقطاع الحكومي هو الممول الأساسي لنظم البحث العلمي بنسبه ( 80% ) من مجموع التمويل المخصص للبحوث والتطوير مقارنة ب (3% ) للقطاع الخاص , و ( 7% ) من مصادر مختلفة , على النقيض من الدول المتقدمة وإسرائيل حيث تتراوح نسبة القطاع الخاص في تمويل البحث العلمي ( 70% ) في اليابان , و ( 52% ) في إسرائيل و امريكا , و ضعف هذا الإسهام من قبل القطاع الخاص لمؤسسات البحث العلمي في الدول العربية يعود الى عدم تقدير القطاع الخاص لقيمة البحث العلمي وجدواه , إضافة الى عدم كفاية الميزانيات التي ترصدها المراكز والجامعات ومؤسسات المجتمع للبحث العلمي , والى الفساد المالي والإداري الملحوظ في الجامعات ومراكز البحوث العربية .

6. كما ان أنشطة البحث العلمي في المراكز والجامعات العربية من اضعف الأنشطة في العالم , بسبب قلة عدد الباحثين والمختصين , وندرة تكوين فريق البحث العلمي المتكامل فالبحثي العربي يأخذ نمط ( الفرد الواحد ) إضافة الى انشغال عدد كبير من أعضاء هيئة التدريس في العمل الإضافي نظراً لتدني دخولهم الاقتصادية , وكذلك استحواذ الميزانيات الإدارية على النصيب الأوفر من المخصصات المالية .

7. ولنظرة المجتمع دور هام في مسيرة البحث العلمي وهجرة العقول , فالمجتمع العربي يفتقد الى الوعي حول أهمية البحث العلمي , ولذلك لا يعطي أي أولوية , بينما تعطى النشاطات والمجالات الخدماتية والاستهلاكية الأولوية , ويعود ذلك الى الجهل الموروث بأولويات تقدم الحياة , والتطور الحضاري .

فللتنشئة الاجتماعية وثقافتها دور سلبي في تدهور البحث العلمي ونزيف الأدمغة العربية , فالمجتمعات الغربية و الدول المتقدمة تدعم مؤسسات البحث العلمي مادياً ومعنوياً وإعلاميا , وتقام المسيرات والمهرجانات لاستحثاث دولها لإعطاء المزيد من الدعم لهذه المؤسسات .

فمن المحزن والمحبط والمخجل قول الدكتور علي حميش رئيس أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجي في مصر :

( ان عدد المصريين المهاجرين للخارج يبلغ 3 ملايين , 418 ألف و ذلك يمثل خسارة اقتصادية فادحة وان ما يقارب النصف مليون منهم من حملة المؤهلات العلمية العليا « الماجستير والدكتوراه « فخسارة مصر لهذا الرقم يقدرب (50) مليار دولار سنويا بسبب هجرة كفاءاتها , ويذكر تقرير رسمي أعدته مؤسسة العمل العربية ان عدد حملة الشهادات العليا من العرب المهاجرين الى امريكا وأوروبا يبلغ (450) ألفا أي ان امريكا والغرب توفر مليارات الدولارات نتيجة لنزوح هذه العقول اليها وهي لم تتعب بذلك او تتكلف في إعدادهم , وبالتالي فان هذه العقول العربية تصب بلا عناء في اثراء الغرب , ودفع مسيرة التقدم والتنمية لديهم , وبالمقابل تخسر البلدان العربية ما أنفقته عليهم , وتخسر ما كان سيقدمونه من نهضة وتنمية .

فالعرب يخسرون ما يقارب (200) بليون دولار سنوياً جراء هجرة العقول كما جاء في احد تقارير منظمة العمل العربية.

أما الولايات المتحدة الأمريكية فقد أعدت إجراءات خاصة لاستقطاب الكفاءات من كافة الاختصاصات ,حيث اصدر الكونغرس الأمريكي في عام 1990 تشريعا لمساعدة الشركات الأمريكية لاستيراد خبراء تكنولوجيا المعلومات ومن حملة شهادات العلمية الاخرى , وبعد ذلك بسنوات ايضا قام الكونغرس الأمريكي بتوسيع برنامج منح الهجرة للكفاءات الفنية من دول العالم الثالث , وهذا الحال يجعلنا نطلق على الولايات المتحدة الأمريكية ( إمبراطورية العقول المستوردة ) .

تأثيرات الهجرة على عملية التنمية

ولهجرة الأدمغة العربية تأثيرات سلبية خطيرة على عمليه التنمية العربية , خاصة ما تسببه من خسائر مادية وعلمية , فهناك مثلا حوالي 10 الاف مهاجر مصري يعملون في مواقع حساسة في الولايات المتحدة الأمريكية , من بينهم 30 عالم ذرة يخدمون حاليا في مراكز الابحاث النووية , ويشرف بعضهم على تصنيع وتقنية الاسلحة الامريكية الموضوعة تحت الاختبار , كما يعمل 350 باحثا مصريا في الوكالة الامريكية للفضاء (ناسا) بقيادة العالم الدكتور فاروق الباز , اضافة الى حوالي 300 اخرين يعملون في المستشفيات والهيئات الفيدرالية , واكثر من الف متخصص بشؤن الكومبيوتر والحاسبات الالية خصوصا في ولاية نيوجرسي التي تضم جالية عربية كبيرة , اضافة الى الآلاف من اساتذة الجامعات المصريين الذين يساهمون في تطوير العديد من الدراسات الفيزيائية والهندسية في الجامعات ومراكز الابحاث الامريكية .

ويمكن القول أن هجرة العقول العربية أو هلاكها في اوطانها هو الثمن الذي فرضته ولا زالت تدفعه الشعوب في مجتمعاتنا بما وصلت اليه من الانحطاط الفكري , والتكنولوجي ، وما اصابها من الوهن الاقتصادي والسياسي والتخلف الحضاري وركوب قطار التبعية للامم الاخرى والانغماس بالنمط المتواكل الاستهلاكي والمشاريع المستورده و الاستهلاكية في الحياة والوصول إلى مرحلة الاستكانة والانهزام ، ومن ثم النظرة ( الفصامية ) الاجتماعية باننا مضطهدون من الامم الاخرى .