الساعة

الانتقال إلى نهج الحكومات البرلمانية بين طموح الإرادة السياسية والمحددات

09/03/2013

مركز الرأي للدراسات

إعداد: مديرية الدراسات والمعلومات

دائرة المطبوعات والنشر

آذار 2013

عرف الأردن الحكومة البرلمانية على أساس حزبي ائتلافي عام 1956، ففي ذلك العام أجريت أول انتخابات نيابية على أسس حزبية، وفازت الأحزاب حينذاك بأكثر من نصف عدد النواب، والذي كان في حينه (40) نائباً.

وقد كلف المغفور له الملك الحسين المرحوم سليمان النابلسي الذي فاز حزبه بأكبر كتلة في المجلس بتشكيل الوزارة، وكانت هذه التجربة من حيث الشكل هي الأقرب إلى النموذج المتعارف عليه للحكومات الحزبية البرلمانية، لكن هذه الحكومة لم تعمر طويلاً، فأُقيلت بتاريخ 10/4/1957، لظروف وأحداث ألمت بالمنطقة، وانعكست تداعياتها على الأردن خلال تلك المرحلة.

لكن التجربة لم تلبث أن عادت إلى حيز الممارسة، وإن بشكل مختلف بعد انتخاب مجلس النواب الحادي عشر عام 1989. ومع أن تكليف رؤساء الوزارات بتشكيل حكوماتهم، وإقالتها، ثم قبول استقالتها ظل من صلاحيات الملك، استناداً إلى المادة (35) من الدستور الأردني، فإن حكومات مضر بدران ( 4/12/1989 – 8/6/1991)، وطاهر المصري (9 -22/6/1991)، والشريف زيد بن شاكر (22/11/1991 – 29/5/1993) قد تشكلت بالتشاور مع الكتل النيابية.

وفي ضوء المستجدات، واستلهاماً لروح المرحلة، أنجز الأردن خلال العام الماضي (2012)، جملة من الخطوات والتعديلات التشريعية على طريق الإصلاح الشامل، شملت تعديل ثلث مواد الدستور، وإنشاء المحكمة الدستورية والهيئة المستقلة للانتخاب. وتأكيداً لإصرار الأردن على المضي قدماً في مسيرة التحول الديمقراطي، وتوسيع قاعدة المشاركـة، فقد حسم جلالة الملك عبدالله الثاني بن الحسين الجدل والتكهنات حول مسيرة الإصلاح السياسي، وبسط جلالته بوضوح خريطة الطريق لحزمة الإجراءات والأطر الزمنية لاستكمالها، وتتويجها بالانتقال إلى نهج الحكومات البرلمانية في مطلع العام الجاري.

من هنا، تأتي أهمية هذه الدراسة، لإلقاء مزيد من الضوء على هذه النقلة النوعية المتجددة في تاريخنا السياسي، التي نعتقد أنها تحتاج إلى أكثر من دراسة، بغية تكريسها على أرض الواقع، والسير بها قدماً.

الانتقال إلى نهج الحكومات البرلمانية أهم جوانب التحول الديمقراطي

إذا جاز لنا التحقيب، يمكننا القول، إن الورقتين النقاشيتين اللتين أطلقهما جلالة الملك عبدالله الثاني بن الحسين، ونشرتهما وسائل الإعلام الأردنية يومي (30/12/2012) و(7/1/2013)، هما عنوان لمرحلة جديدة في تاريخ الأردن السياسي، وخريطة طريق للإصلاح النهضوي الشامل، ضمن رؤية ملكية تستشرف تحولات العالم المتسارعة، وتنسجم مع روح العصر وتطوراته.

الورقتان، رسالة واضحة للأردنيين، لا تحتمل اللبس، مضمونها الرئيس، التصميم والإرادة لتحقيق الإصلاح الشامل، الذي يلبي طموحاتهم، ويبقي ربيع وطنهم أخضر يانعاً، يتقدم بثقة إلى الأمام، ويتطلع إلى مستقبل أفضل.

ولعل الهدف الأهم للورقتين النقاشيتين، أن الدول يصعب أن تتقدم إلى الأمام، وتتجاوز التحديات التي تواجهها من دون الوصول إلى حد أدنى من التوافق الوطني، والرؤية المشتركة، في عصر لم يعد يعرف الأبواب المغلقة، كما يجافي التزمت والانغلاق والجمود الفكري، والتكلس العقائدي.

لذا، فقد ركزت الورقة النقاشية الأولى لجلالة الملك عبدالله الثاني على الحوار، باعتباره المدخل الرئيس للتوافق الوطني على حلول لقضايا الوطن، تقبلها الغالبية العظمى من المجتمع، وتلتزم بها، بدلاً من صرف الوقت، وهدره على آراء غير قابلة للتوليف والانسجام.

وهنا بالذات، تم وضع اليد مباشرة على مشكلة باتت ظاهرة للعيان في العامين الأخيرين، عانت وما تزال تعاني منها دول الربيع العربي، وتتخبط في أتونها القوى السياسية والحزبية في تلك الدول، وهي تبعثر الرؤى، وتشتت الفكر، وعدم التوافق على ما يجمع الناس، وينظم صفوفهم، ويوجه جهودهم في اتجاه النهوض والبناء والاستقرار. تشتت الآراء، يشل قدرة الدول على الحركة، ويفضي إلى حالة من اللامبالاة المجتمعية، وعدم الاكتراث. كما أن المستقبل لا يبنى إلا من خلال التوافق على الحلول الجماعية للقضايا والمشكلات، وليس من خلال انفراد جهة بالهيمنة على الدولة والمجتمع، رسمية كانت هذه الجهة، أم أهلية، أم سياسية.

إذن، الحوار المطلوب ليس من أجل الحوار فقط، والدوران في حلقة مفرغة، بل هو الحوار العقلاني المنتج، القائم على المواطنة والمشاركة الجماعية، للوصول إلى حلول ونتائج تصب كلها في خدمة المصلحة العامة، وتعظيم الثوابت، والانطلاق منها لمواصلة مسيرة البناء، والنهوض، وتحقيق الإصلاح الشامل.

يقول جلالة الملك عبدالله الثاني في الورقة النقاشية الأولى: إن مسؤوليتي في هذا الظرف تتمحور في تشجيع الحوار بيننا كشعب يسير على طريق التحول الديمقراطي، وتأتي ورقة النقاش هذه كخطوة على هذا الطريق، حيث أسعى من خلال ما أشارككم به اليوم، إلى تحفيز المواطنين للدخول في حوار بناء حول القضايا الكبرى التي تواجهنا .

وانطلاقاً من رؤية ملكية، تستشرف روح العصر، وشروط المرحلة وتحولاتها، فقد ربط جلالته بين نجاح الديمقراطية واستمرار الحوار والنقاش، بعيداً عن التصلب في المواقف والعنف والمقاطعة، إذ لا يمكن لفئة بمفردها تحقيق جميع الأهداف التي تسعى إليها، بل يجب التوصل إلى تفاهمات تتبنى حلولاً وسطاً وتحقق مصالح الأردنيين جميعاً.

فالديمقراطية، وفق الرؤية الملكية، كما عبرت عنها الورقة النقاشية الأولى لا تكتمل إلا بالمبادرة البناءة، وقبول التنوع، والاختلاف في الرأي.

وعلى هذه الأسس، وانطلاقاً منها، تضمنت الورقة النقاشية الأولى، أربعة مبادئ، وممارسات أساسية لا بد أن تتجذر في سلوكنا السياسي والاجتماعي، حتى نبني النظام الديمقراطي الذي ننشد.

في الممارسات السياسية يأتي احترام الرأي الآخر كأساس للشراكة بين الجميع في مقدمة الأولويات. والمسؤولية هنا مشتركة، من الحكومات، ومن الأحزاب السياسية والنشطاء السياسيين، والحراك الشعبي. إذ لم يعد مقبولاً التخندق في مواقف مسبقة، والتصلب في المواقف، واستمراء البعض التقوقع في ثنائية نحن وهم، إذ أن التحدي المطروح على الجميع في هذه المرحلة، هو كيف نتفق وكيف نختلف، في خدمة المصلحة العامة، وتعظيم الثوابت، وبناء الوطن الانموذج. المبدأ الثاني يتعلق بالمساءَلة من قبل المجتمع والرأي العام لمن يتحمل المسؤولية سواء كان مسؤولاً رسمياً في أي موقع كان، أو نائباً، خاصة وأن الورقتين النقاشيتين، أطلقتا خلال فترة الاستعدادات لانتخابات مجلس النواب السابع عشر، حيث طرح جلالة الملك قضايا عدة تحتاج إلى تعزيز المساءَلة مثل الفقر والبطالة، وتحسين الخدمات العامة في مجالات الصحة والتعليم والمواصلات والحد من أثار الغلاء، ومحاربة الفساد وإهدار المال العام. والمبدأ الثالث خاص بضرورة الحوار والتوافق ليحلا مكان الاختلاف والمقاطعة، وهما الأساس المكين، الذي لا بد منه لمواجهة الأزمات، وتذليل التحديات، وهو أولاً مسؤولية جماعية. فالتوافق، حسب الورقة النقاشية يعني إدراك الأطراف جميعها أنه ليس بمقدور أي منها تحقيق كل ما يريد، وإنما بعض ما يريد، إذ ليس من حق أحد فرض رأيه على الآخرين. المبدأ الرابع والأخير في ورقة الملك النقاشية الأولى، هو أن الجميع شركاء في التضحية والمكاسب، أي أن الديمقراطية في جوهرها لا تعني وجود رابح وخاسر، كما أنه ليس ثمة أجوبة صحيحة ومطلقة.

ونرى أن الترجمة الفعلية، فهماً وسلوكاً لهذه المبادئ الأربعة تعني أول ما تعني، أن الإصلاح عملية تراكمية، لا بد أن تواكبها عملية تشاركية شعبية في صنع القرار، لكي تعطي ثمارها. والآلية الأهم لتحقيق هذا الهدف، هي الحوار الذي يجب أن يصبح جزءاً من ثقافة المجتمع، الحوار الحقيقي الجاد، والانتظام في العمل والإنتاج، والمشاركة الفاعلة ، وصولاً إلى حلول توافقية بخصوص القضايا المختلف عليها، ترضي الأغلبية، وهذا هو المبدأ الديمقراطي.

كما أن المستقبل يبنى بالعمل المشترك، فالنجاح المواكب لروح العصر، يحتاج إلى حلول إبداعية عملية، وأفكار جديدة، ومقاربات مختلفة، لأن الحقيقة نسبية، لا يملكها فرد أو حزب سياسي بعينه. الوصول إلى الحقيقة غير ممكن إلا بالتوافق مع الآخرين، وبالمشاركة والنزاهة والمساءَلة، وهذا يستدعي الانتقال إلى مرحلة جديدة في التفكير والعمل، من أبرز سماتها، تغليب صوت العقل والعلم على ادعاء امتلاك الحقيقة. وعلى هذه الأرضية يمكن التأسيس لحوار عقلاني بناءَ ومنتج، يكون رافعة حقيقية لمسيرة الإصلاح والتطوير والبناء الديمقراطي، سيفضي إلى حلول جماعية تشاركية لقضايانا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

أما الورقة النقاشية الثانية، فقد كرسها جلالة الملك عبدالله الثاني، ضمن رؤيته لمسيرة الإصلاح الشامل في مختلف المجالات، لتطوير نظامنا الديمقراطي، من خلال تجديد أساليب الحكم وتطويرها، وذلك بالانتقال إلى نهج الحكومات البرلمانية.

في التطبيق العملي، يعني هذا النهج، الذي اختاره جلالة الملك إشراك ممثلي الشعب في المساهمة في اختيار رئيس الوزراء بالرغم من أن هذه الصلاحية، مناطة به حصراً سنداً لأحكام المادة (35) من الدستور، ولهذا دلالات واضحة أبرزها رغبة جلالة الملك في معرفة طريقة تفكير ممثلي الشعب من خلال هذا النهج سيما وأن جلالته حدد الإطار الناظم لنهج الحكومات البرلمانية.

وبهذا الخصوص، فقد جاء في الورقة النقاشية الثانية: إن رئيس الوزراء القادم، والذي ليس من الضروري أن يكون عضواً في مجلس النواب، سيتم تكليفه بالتشاور مع ائتلاف الأغلبية من الكتل النيابية. وإذا لم يبرز ائتلاف أغلبية واضح من الكتل النيابية، فإن عملية التكليف ستتم بالتشاور مع جميع الكتل النيابية، وبدوره سيقوم رئيس الوزراء المكلف بالتشاور مع الكتل النيابية، لتشكيل الحكومة الجديدة، والاتفاق على برنامجها، والتي ينبغي عليها الحصول على ثقة مجلس النواب والاستمرار بالمحافظة عليها .

وقد أكد جلالة الملك هذا التوجه في ورقته النقاشية الثالثة، التي نشرتها وسائل الإعلام الأردنية يوم (3/3/2013) عندما كانت هذه الدراسة قيد الطبع. فقد أوضح جلالته بكل جلاء الأدوار المناطة بالسلطة التنفيذية والسلطة التشريعية بشكل لا لبس فيه، وبما يتطابق مع الأدوار التي حددها الدستور لهذه السلطات بعيداً عن الاستزادة بقصد الحصول على مكاسب شخصية أو شعبية لقاء طرح قضايا يعتقد من يطرحها أنها من الممكن أن تضمن له ذلك.

وفي بند خاص في هذه الورقة، يتعلق بالارتقاء بدور الملكية الدستورية الهاشمية، أكد جلالته أن صلاحيات الملكية الدستورية ستتطور كلما نضجت عناصر ومتطلبات تداول السلطة عبر تجذير الحياة الحزبية والتنظيمية المبنية على أسس برامجية بعيداً عن التكتلات المصلحية النفعية الضيقة.

ووفق الرؤية الملكية، فإن الانتقال إلى نهج الحكومات البرلمانية، هو أحد أهم جوانب التطور الديمقراطي، كما أنه يتم بشكل تدريجي مع ضرورة الاستمرار في تطوير هذه التجربة، استناداً إلى ما تفرزه نتائجها، بحيث نأخذ الايجابي منها ونعظمه، ونحاصر السلبي، وصولاً إلى نضوج نظام الحكومات البرلمانية، باعتباره أولوية مهمة لتعزيز التطور الديمقراطي.

خلاصة الرؤية الملكية، كما وردت في الورقتين النقاشيتين الثانية والثالثة، التأسيس لنقلة نوعية في تاريخ الأردن السياسي، وتحوله الديمقراطي، تتويجاً لمسيرة إصلاحية حققت تقدماً مشهوداً في السنوات الأخيرة. فقد قادت التعديلات الدستورية التي شملت ثلث مواد الدستور إلى تعزيز الفصل والتوازن بين السلطات، كما رسخت استقلال القضاء وصون الحريات العامة، وحقوق المواطن، كما تم إنشاء محكمة دستورية، وهيئة مستقلة للانتخاب للمرة الأولى في تاريخ الأردن، أشرفت بالكامل على إجراء الانتخابات لمجلس النواب السابع عشر، بكافة مراحلها.

ومن شأن الرؤية الملكية للانتقال إلى نهج الحكومات البرلمانية، أن تؤسس لبناء نظام أحزاب سياسية، تشكل عماد الحكومات البرلمانية مستقبلاً، انطلاقاً من قاعدة أن الإصلاح في الأردن نهج حياة لا يمكن التراجع عنه، وهو ليس محكوماً بسقف وحدود، ويستند إلى التحول الذاتي التدريجي، وصولاً إلى منظومة سياسية تمثل إرادة الشعب وطموحه.
وبهذا الخصوص، ورد في الجزء المعنون بمتطلبات التحول الديمقراطي الناجح في ورقة جلالة الملك النقاشية الثانية: إن الوصول إلى نظام الحكومات البرلمانية الشامل يعتمد على ثلاثة متطلبات أساسية، ترتكز على الخبرة المتراكمة، والأداء الفاعل أولها، الحاجة إلى بروز أحزاب وطنية فاعلة، وقادرة على التعبير عن مصالح وأولويات وهموم المجتمعات المحلية، ضمن برامج وطنية قابلة للتطبيق، ولا شك أن هذه العملية تحتاج إلى وقت حتى تنضج. ومع وصول أحزاب سياسية تتنافس على مستوى وطني، ووفق برامج تمتد لأربع سنوات إلى مجلس النواب، وحصولها على مزيد من المقاعد،وتشكيلها لكتل نيابية ذات قواعد صلبة، ستكون هناك قدرة أكبر على إشراك نواب كوزراء في الحكومة.

وفي التطبيق العملي، دخل الأردن مرحلة الحكومات البرلمانية بعد انتخابات مجلس النواب السابع عشر، وهو ما سنتناوله في الفصل الثاني.

نهج الحكومات البرلمانية يدخل حيز التطبيق

خطبة العرش السامي، التي افتتح بها جلالة الملك عبدالله الثاني، الدورة غير العادية لمجلس النواب السابع عشر بتاريخ 10/2/2013، يمكن اعتبارها خطة عمل مستقبلية، ضمن رؤية الإصلاح الشامل والتطوير والتحديث. الخطبة رسمت ملامح المرحلة، وجددت التأكيد على مواصلة مسيرة الإصلاح الشامل باعتباره أولوية تنسجم مع روح العصر، وشرعت الأبواب لمرحلة جديدة في مسيرة الأردن، قوامها الديمقراطية، والحاكمية الرشيدة، والنزاهة، والشفافية، وعنوانها تشكيل الحكومات البرلمانية، ضمن متطلبات وأسس واضحة، والمشاركة الشعبية.

وقف جلالة الملك في الخطبة مطولاً أمام تشكيل الحكومات البرلمانية، داعياً إلى تطوير آلية التشاور مع مجلس النواب، ومع الكتل النيابية، للوصول إلى توافق يقود إلى تكليف رئيس الوزراء، والذي سيقوم بدوره بالتشاور مع الكتل حول فريقه الوزاري، ثم يتقدم للحصول على الثقة من مجلس النواب على البيان الوزاري الناجم عن عملية التشاور، وعلى أساس برامجي لمدة أربع سنوات.

وعلى هذا الأساس، كلف جلالة الملك عبدالله الثاني بعد افتتاح مجلس الأمة السابع عشر، رئيس الديوان الملكي الهاشمي الدكتور فايز الطراونة، بالبدء بمشاورات مع مجلس النواب، كآلية جديدة.

الحكومة البرلمانية، تعني في التطبيق العملي كما هو الحال في بريطانيا على سبيل المثال لا الحصر، أن الحزب الذي يحوز على الأغلبية في الانتخابات النيابية يشكل الحكومة، وتنتقل الأحزاب والقوى السياسية المنافسة إلى المعارضة، وتشكل ما يسمى حكومة ظل، وهذا يعني أن الركن الأهم للحكومة البرلمانية، وجود أحزاب سياسية ذات امتداد ونفوذ شعبيين، تتقدم إلى الناخبين ببرامج، وخطط عمل مستقبلية، تنتخب على أساسها. لكن، ولعدم تجذر الحياة الحزبية في الأردن لأسباب تخرج عن إطار هذه الدراسة، فقد اتجه نهج الحكومات البرلمانية، إلى تفعيل دور الكتل البرلمانية، لتأخذ التجربة الجديدة في الحكم طريقها وتتكرس، ولتكتسب زخماً جديداً، لتتجسد واقعاً على الأرض.

وهو أمر مشروع في العمل السياسي ومسار الإصلاح، إذ لا توجد وصفة واحدة صحيحة بالمطلق تناسب جميع الدول، كما أن النظام السياسي لكل دولة هو حصيلة تاريخها وثقافتها، وواقعها المعيش، بمعطياته الداخلية والخارجية. وهذا ما تم أخذه بالاعتبار ، وتشخيصه بوضوح لا يحتمل اللبس في الورقة النقاشية الملكية الثانية التي أشرنا إليها في الفصل الأول، حيث ورد فيها ما نص على أنه مع عدم وجود أحزاب سياسية فاعلة، ذات برامج وطنية قادرة على بناء الائتلافات، وعلى استقطاب غالبية أصوات المواطنين، علينا أن نباشر في بناء نظام الحكومات البرلمانية، وتغيير آلية اختيار رئيس الوزراء، الذي سيتم تكليفه بالتشاور مع ائتلاف الأغلبية من الكتل النيابية.

وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى توفر الأرضية الدستورية المناسبة لإتباع هذه الآلية ، في الانتقال إلى نهج الحكومات البرلمانية، فقد نص الدستور الأردني في مادته الأولى على أن نظام الحكم في المملكة الأردنية الهاشمية نيابي ملكي وراثي.

كما تجدر الإشارة أيضاً إلى أن الآلية المشار إليها في انطلاق نهج الحكومات البرلمانية، ترتب بالضرورة على مجلس النواب مسؤولية كبيرة، أهم عناصرها، أن يكون المجلس حاضناً للحوار الوطني الشامل، للوقوف على آراء مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي، وأخذها بعين الاعتبار في عملية صناعة القرار، ليستقر في يقين كل مواطن أن له دوراً ومشاركة سياسية، وهنا يمكن تهيئة الأرضية الشعبية لإنجاح نهج الحكومات البرلمانية، كما يستدعي الأمر في الوقت ذاته، تشكيل الكتل البرلمانية على أسس برامجية، وقواسم فكرية ذات رؤى واضحة في مواجهة التحديات والقضايا الملحة.

وثمة عامل آخر لا يقل أهمية عما سبق لإنجاح نهج الحكومات البرلمانية، وتكريسها، وهو التعاون بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، ضمن علاقة مؤسسية، في إطار دستوري على أساس شراكة حقيقية عنوانها الرئيس، خدمة الوطن والمواطن، بعيداً عن المصالح الذاتية، وتحقيق المكتسبات الشخصية.

من هنا يمكن القول أن الانتقال إلى الحكومات البرلمانية ، الذي يتم الأخذ به كآلية لتطوير آلية الحكم في الأردن، يقوم على ثلاثة عناصر رئيسة :الإرادة السياسية وهي متوفرة، بل ومصممة على المضي قدماً في طريق الإصلاح الشامل، والأرضية الدستورية وهي راسخة وثابتة، ومجلس النواب من خلال الكتل البرلمانية . فهل الأخير مهيأ لإنجاح التجربة، حسب نتائج مشاورات رئيس الديوان الملكي مع الكتل النيابية للتوافق على اختيار رئيس الوزراء ؟!

ليس من شأن هذه الدراسة الوقوف على تفاصيل مشاورات رئيس الديوان الملكي الهاشمي الدكتور فايز الطراونة مع الكتل البرلمانية، بتكليف من جلالة الملك للتوافق حول رئيس الحكومة والتي بدأت يوم 17/2/2013، لكن ما يعنينا بالدرجة الأولى، هو النتيجة التي تمخضنت عنها هذه المشاورات. بعد بدء المشاورات وخلالها، تبين أن الكتل البرلمانية ليست واضحة الرؤية، وغير متماسكة في الموقف، عدا عن كونها غير ممأسسة، وهنا يمكن التماس العذر، لحداثة التجربة. فقد انقسمت الكتل خلال المشاورات بين داعٍ إلى حكومة برلمانية بالكامل، ومطالب بحكومة نصف برلمانية، ورافض لتوزير النواب في هذه المرحلة.

وهكذا تمحور الجدل خلال المشاورات بين توزير النواب وسط مخاوف من تحمل مسؤولية إخفاق تجربة الحكومات البرلمانية، وبالتالي خسارة ثقة الشعب منذ البداية، وبين عدم توزيرهم ليتفرغوا لدورهم النيابي .

وهنا لا بد من التذكير بما ورد في الورقة الملكية النقاشية الثانية بهذا الخصوص، من خلال النص صراحة على أن إشراك نواب في الحكومات هو من باب الاستثناء، وليس القاعدة.

إذن توزير النواب استثناء وليس قاعدة، والأصل هو الفصل التام بين السلطات، ومبدأ الفصل ثابت في الدستور الأردني.

كما أن توزير النواب رغم عدم وجود ما يمنعه دستورياً، هو في المفهوم العام إخلال بالعملية الديمقراطية، في ظل الظروف الحالية لانعدام وجود ائتلاف قوي يمكنه من تشكيل الحكومة البرلمانية في ظل وجود حكومة ظل في البرلمان تراقب عمل الحكومة البرلمانية، فمن سيراقب الحكومة ويحاسبها، إذا كان الخصم هو ذاته الحكم، ولقب معالي النائب في الوعي الجمعي الأردني، يجافي منطق الديمقراطية. ففي الورشة التي أقامتها وزارة التنمية السياسية في مطلع كانون الأول 2012 في منطقة البحر الميت حول الحكومات البرلمانية، جرى نقاش مستفيض حول توزير النواب، الذي رفضته الموالاة والمعارضة خلال مداخلات ممثليهما المشاركين في الورشة.

لم تنقسم الكتل البرلمانية خلال مشاورات اختيار رئيس الوزراء المقبل حول توزير النواب فقط، بل أنها لم تجتمع على رأي أيضاً حول المدة الزمنية لاستمرار الحكومة، فمنها من طالب باستمرار حكومة الدكتور عبدالله النسور حتى تشرين الثاني المقبل، ومنها من طالب بحكومة لبضعة أشهر، في حين أن جلالة الملك دعا أكثر من مرة، آخرها في خطبة العرش السامي إلى حكومة ذات برنامج لأربع سنوات. وظل تشتت الرؤى مسيطراً مع استمرار مشاورات اختيار رئيس الوزراء. فقد تعرض الائتلاف النيابي المكون من كتل وطن والتجمع الديمقراطي والوعد الحر والوسط الإسلامي الذي يضم 85 نائباً، تعرض إلى تصدع في المواقف على خلفية انتخابات كان مقرراً أن يجريها يوم 27/2/2013 لاختيار رئيس الوزراء، ما أعاد خلط الأوراق مجدداً.

وهذا التصدع، دفع النائب الأول لرئيس مجلس النواب، خليل عطية، إلى القول في تصريح لصحيفة الشرق الأوسط اللندنية الصادرة يوم 28/2/2013: إن مجلس النواب أعطي فرصة تاريخية لتحديد رئيس الحكومة المقبلة، ولكن بعض النواب أجهضوا الفكرة مقابل حسابات ضيقة. وأضاف عطية: إن مبادرة جلالة الملك عبدالله الثاني بإجراء مشاورات مع مجلس النواب لتحديد رئيس الوزراء، بادرة تثمن، وتشكل نقلة نوعية على طريق الإصلاح السياسي، ولكن بعض النواب أخفقوا في تحقيق فكرة تسمية رئيس الوزراء ممثل للأغلبية البرلمانية، وحاولوا فرض أجنداتهم الشخصية على طريقة الاختيار. وذهب النائب الأول لرئيس مجلس النواب إلى الجزم في التصريح ذاته، بأنه لا يتوقع أن يتم تشكيل حكومة برلمانية في المرحلة الحالية، لأن الظروف داخل مجلس النواب وخارجه ليست مهيأة لإنضاج فكرة الحكومة النيابية .

كلام واضح، لا يحتمل التأويل، ولكن إن صح ما ذهب إليه نائب رئيس مجلس النواب، فإن مسؤولية إنجاح نهج الحكومات البرلمانية، تضع الكرة في مرمى العنصر الثالث من عناصر هذا النهج، وهو مجلس النواب.

الاستنتاجات والتوصيات

حدد جلالة الملك عبدالله الثاني في ورقتيه النقاشيتين اللتين أطلقهما خلال فترة الاستعدادات لانتخابات مجلس النواب السابع عشر، وفي خطبة العرش السامي الذي افتتح به الدورة غير العادية للمجلس ملامح المرحلة، وخريطة طريق الإصلاح التي شملت تعديل ثلث مواد الدستور الأردني، وإنشاء المحكمة الدستورية، والهيئة المستقلة للانتخابات، وصولاً إلى الأخذ بنهج الحكومات البرلمانية. وفي ظل غياب الأحزاب السياسية البرامجية القادرة على خوض الانتخابات ونيل الغالبية ، فقد تم تحديد آلية نهج الحكومات البرلمانية من خلال التشاور مع مجلس النواب لاختيار رئيس الوزراء، الذي بدوره يشكل الحكومة بالتشاور مع النواب. وبذلك فإن العناصر الرئيسة لهذا النهج الجديد في تطوير آلية الحكم، الذي يعني رغبة جلالة الملك في إشراك النواب لاختيار رئيس للوزراء، هي ثلاثة: إرادة سياسية وهي كما قلنا متوفرة، وأساس دستوري، وهو ثابت وراسخ، والعنصر الثالث هو مجلس النواب. ولكي تتكامل العناصر الثلاثة، للسير بهذا النهج قدماً، وترسيخه، لا بد من الالتفات إلى دور العنصر الثالث في هذا المجال، ممثلاً بمجلس النواب، كما دلت على ذلك نتائج مشاورات رئيس الديوان الملكي مع الكتل البرلمانية لاختيار رئيس الوزراء.
فالكتل النيابية يفترض أن تشكل على أسس برامجية عملية، كما يفترض، بل ويجب، أن تأخذ هذه الكتل في ظل غياب الأحزاب البرامجية القادرة على تشكيل حكومات برلمانية، صفة الديمومة، متسلحة برؤى فكرية وسياسية تظهر بها للرأي العام من خلال اللقاءات والندوات والمحاضرات والمناظرات، وهذا كله يعيدنا إلى النقطة الأساس، أُم الباب كما يقول المناطقة، المتعلقة بدور المواطن في اختيار ممثليه ومساءَلتهم. فالناخب يختار على أسس خدماتية وليست برامجية، كما أن الاختيار بحد ذاته ، تتحكم به حتى الآن العلاقات الشخصية، وروابط الدم وصلات القربى. ولكي يأخذ الناخب دوره الفاعل في اختيار الأقدر على خدمة الوطن والمواطن، وتغليب المصلحة العليا على ما عداها، فقد آن الأوان أن يعي ويدرك أن الديمقراطية مشاركة وليست مغالبة، لا تقف أبداً عند حدود الانتخاب والترشيح، بل تؤسس لهما وتسبقهما ممارسات سلوكية حقيقية تشاركية. كما أن فلسفة الديمقراطية تكمن في التوافق على الثوابت، والاجتهاد الذي يحتمل تباين وجهات النظر في خدمة هذه الثوابت. وهي أيضاً –أي الديمقراطية- تبادل للمنافع الوطنية وليس الشخصية. بوضوح أكثر، الديمقراطية يفترض أن تسبقها، وتهيئ لها، وترسخها ثقافة ديمقراطية، ولعل هذا ما قصده جلالة الملك بقوله في ورقته النقاشية الثالثة: التحدي الحقيقي، الذي يواجه جميع الأردنيين والأردنيات، وجميع مكونات نظامنا السياسي، هو تجذير الثقافة الديمقراطية.

وعلى صعيد مجلس النواب فإن دوره في الحكومات البرلمانية يتطلب منه الإسراع في تطوير نظامه الداخلي لمأسسة عمل الكتل البرلمانية، بالإضافة إلى تعزيز دوره وتهيئته لممارسات نيابية فاعله وايجابية تعزز دوره الرقابي والتشريعي. ولبلوغ مرحلة الحكومات البرلمانية، كما هو متعارف عليه، ومطبق في الدول ذات التجارب الديمقراطية العريقة، فلا بد من مراجعة شاملة لقانون الأحزاب بغية تفعيل دورها من جهة، وتعزيز دور القوائم الحزبية في قانون الانتخاب ، بحيث تخصص نسبة معتبرة لهذه القوائم لا تقل عن ثلث مقاعد البرلمان.

ما سبق يعني بوضوح أن ثمة عائقين رئيسين يقفان أمام الانتقال إلى نهج الحكومات البرلمانية، أولهما، عدم نضوج مفهوم المواطنة لتجاوز تأثيرات القبلية والعشائرية والجهوية في الممارسات السياسية وأهمها الانتخابات، وثانيها، عدم تجذر العمل الحزبي البرامجي في الأردن .

أخيراً، وليس آخراً، فإن ما تضمنته هذه الدراسة هو رأي قابل للنقاش، مثلما يحتمل الاتفاق والاختلاف، لكن الأهم، هو أن هذا الرأي ينشد المزيد من الحوار وإلقاء الضوء على نهج الحكومات البرلمانية، باعتباره مرحلة متقدمة على طريق التحول الديمقراطي، بغية تكريسه ليصبح حقيقة ثابتة في حياتنا السياسية.