مركز الرأي للدراسات
اعداد : د. أيّوب أبو ديّة
نيسان 2011
في ضوء حاجة العالم المتزايدة للطاقة، وفي ظل القلق العالمي المتنامي من مشكلات التغير المناخي وارتفاع معدل درجة الحرارة في الغلاف الحيوي وآثارها الكارثية المتوقعة على العالم بأسره خلال هذا القرن، كانت الأنظار (قبل كارثة فوكوشيما على إثر زلزال اليابان 11/3/2011) تتجه صوب الطاقة النووية كبديل لمصادر الطاقة التقليدية التي تنتج بفعل احتراق الوقود الأحفوري (الفحم والغاز والنفط ومشتقاته) والتي تكاد تسهم في نصف التلوث الذي يصيب العالم اليوم وتؤدي إلى التغيرات المناخية التي بدأنا نشهدها بالدليل الملموس منذ العقدين الأخيرين من القرن العشرين، حيث حسمت رصدات ارتفاع معدل درجة الحرارة وزيادة كمية الغازات الدفيئة في الغلاف الجوي الأرضي، النقاش بين العلماء حول أسباب ظاهرة الدفء المناخي وتناميها المضطرد في هذا القرن.
وفيما كانت الطاقة النووية حكراً على الدول الصناعية الكبرى، باتت اليوم هدفاً للدول الصناعية النامية، وبخاصة تلك الدول التي تحقق نمواً اقتصادياً عظيماً كالصين والهند. كذلك أصبحنا اليوم نشهد توجهاً صارخاً صوب إنشاء مفاعلات نووية في مناطق مختلفة من العالم النامي، بل وفي العالم المتأخر أيضاً. ومن هنا تأتي أهمية هذه الدراسة التي تبحث في مخاطر الطاقة النووية وبدائلها، كما تسعى إلى دحض مقولة أن الطاقة النووية هي طاقة نظيفة، وذلك بالكشف عن مدى التلويث الذي يصاحب تعدين اليورانيوم الخام وتصنيعه ليصبح وقوداً نووياً، إذ توضح الدراسة مدى التلويث العظيم الذي ينجم عن استخدام المادة الخام الأقل تركيزاً والتي لا تقل تلويثاً للبيئة عن محطات توليد الطاقة التقليدية التي تعمل على الوقود الأحفوري التقليدي؛ فضلاً عن التشكيك في مقولة أن الطاقة النووية هي أقل المصادر المتاحة كلفة وأقلها ضرراً على البيئة الطبيعية.
كذلك تكشف عن عدم استدامة الطاقة النووية من حيث إمكانية نضوب المادة الخام خلال أقل من عقدين من الزمن إذا بلغت أعداد المفاعلات في العالم ما هو متوقع لها نحو عام 2020، وبخاصة بفعل نضوب النوعية الجيدة من المادة الخام ذات التركيز العالي من اليورانيوم.
ولن نغفل عن مناقشة إشكاليات المفاعلات من حيث الاعتماد على التكنولوجيا المستوردة والسقوط في هاوية الاقتراض والمديونية والتبعية الاقتصادية والعلمية ومخاطر التعامل مع المواد المشعة وما ينجم عنها من نفايات نووية ما زال العالم يناقش الطرق الأنسب للتخلص منها أو حفظها أو إعادة استخدامها؛ هذا ناهيك بالخضوع المستمر لإشراف هيئة الطاقة النووية ولتهديدات إرهابية. وفي الوقت نفسه نلفت إلى صعود وتيرة الاستثمار من مصادر الطاقة المتجددة النظيفة في العالم، كطاقة الرياح والطاقة الشمسية وغيرها، وإلى انخفاض تكلفة إنتاجها من الطاقة بمرور الوقت مع تطور التكنولوجيا؛ وبالمقابل، فإن أسعار الطاقة النووية في ارتفاع مضطرد.
تلويث البيئة
عندما نتحدث عن تلويث البيئة، فإننا نقصد تلويث عناصر البيئة المختلفة: الإنسان، الهواء، الماء، التراب والبيئة المبنية. فما هي الحوادث التي أسهمت في تلويث عناصر البيئة بعد إجراء التجارب النووية ومن ثم إلقاء القنبلتين النوويتين على هيروشيما وناكازاكي عام 1945؟
في عام 1957، حدثت تسربات إشعاعية من مفاعل جبال الأورال في روسيا، نتيجة حدوث تآكل في جدران مستودعات النفايات النووية ذات المستوى العالي من الإشعاع. وفي بريطانيا، وخلال العام ذاته، حدث تسرب آخر في مفاعل نووي. كما ظهرت مشكلات تسرب الإشعاعات بفعل حادث جزيرة الأميال الثلاثة عام 1979 في الولايات المتحدة الأمريكية والتي كادت أن تؤدي إلى كارثة عظيمة؛ ولن نغفل عن الإشارة إلى مفاعل ديمونة القريب منا والذي اتفق الخبراء على مخاطره الكبيرة على المنطقة برمتها، وأخيراً، مفاعلات فوكوشيما النووية التي نجم عنها كارثة نووية لا تقل عن حجم الأضرار التي خلفتها كارثة تشرنوبل عام 1986.
وحوادث ذوبان قلب المفاعل جزئياً فقط كثيرة، نذكر منها المفاعلات النووية التالية(1):-
- أونتاريو – كندا، عام 1952.
- إيداهو – الولايات المتحدة، عام 1955.
- سيلافيلد – بريطانيا، عام 1957.
- سانتا سوزانا – كاليفورنيا، عام 1959.
- شابل كروس – سكوتلندا، عام 1967.
- ومفاعل لوسن – سويسرا، عام 1969.
سوف نأخذ مفاعل تشرنوبل مثلاً للأضرار التي يمكن أن تنجم عن انصهار جزئي للمفاعلات النووية، إذ تنقلت غيمة الإشعاعات بعد حادثة تشرنوبل حول مناطق معينة في العالم، ولوحظت بعض آثارها في شرقي أوروبا تحديداً، حينما هطلت أمطار ملوثة بالإشعاعات النووية، فتلوث الماء والعشب الأخضر غذاء الحيوانات المختلفة، التي في أغلب الظن قد وصلت إلى أجسامنا جميعاً، وذلك من خلال اللحوم المستوردة، فضلاً عن تلويث واسع لموائل التنوع الحيوي في الطبيعة. وقد عولج مئات الآلاف من الأشخاص في الاتحاد السوفياتي السابق من الذين تعرضوا للإشعاعات، وما زالت الحالة الصحية للمصابين غير واضحة تماماً. وفيما يلي بعض الإحصائيات عن الأضرار التي نجمت عن كارثة تشرنوبل:
تخبرنا أحدث تقارير الأمم المتحدة عن نتائج كارثة تشرنوبل النووية، حيث قضى بالسرطان أو بات على وشك الموت 3,940 شخصاً، فيما أصيب نحو 586,000 شخصاً بالتلوث الإشعاعي، من ضمنهم 200,000 من العمال الذي ساهموا في تنظيف الموقع، بالإضافة إلى 116,000 شخصاً الذين تم إخلاؤهم من المناطق المحيطة بالمفاعل، فضلاً عن إصابة 270,000 نسمة آخرين؛ وقد تعرضت للتلوث مناطق شاسعة تقدر بنحو 200,000 كيلومتر مربع(2).
ألا ينبغي أن تضاف هذه المخاطر، بما في ذلك كلفة العلاج البدني والنفسي والتعطل عن الإنتاج وتلويث البيئة الطبيعية وتهديد استقرار الدولة إلى سعر الطاقة المنتجة من المفاعلات النووية؟
ولدينا اليوم مثالاً حياً من اليابان بعد الكارثة الزلزالية التي هزت شمال شرق اليابان يوم الجمعة الموافق 11/3/2011، حيث تلوثت مياه الشرب والمواد الغذائية والتنوع الحيوي في مياه المحيط، وبدأت تصل الإشعاعات إلى الدول الواقعة على المحيط الهادئ، وربما تنتقل حول العالم عبر تيارات المياه الحارة والباردة التي تجوب المحيطات وتدور حول العالم.
وبناء عليه فقد شرع العالم اليوم يراقب كل ما ينتج في اليابان، حتى القطع الإلكترونية الدقيقة وقطع المركبات الكبيرة سوف يتم مراقبتها إشعاعياً، الأمر الذي سوف يؤدي إلى أضرار عظيمة في الاقتصاد الياباني على المدى البعيد.
وإذا عقدنا مقارنة بين المصابين بالإشعاعات الناجمة عن حادثة تشرنوبل والأضرار الناجمة عن الاشتغال بالأسبست، فإننا نجد أن نحو 250,000 – 400,000 حالة وفاة من أمراض متعلقة بأضرار الأسبست، كسرطان الرئة ومرض mesothelioma ومرض asbestosis، سوف تحدث خلال 35 سنة القادمة(3). هذه الإصابات المتوقعة هي في الاتحاد الأوروبي فقط، فلماذا منع الاتحاد الأوروبي الاشتغال بالأسبست منعاً باتاً عام 1999، بينما لم تمنع المفاعلات النووية من العمل بعد، فيما زادت أعداد إصابات حادثة تشرنوبل وحدها عن أعداد المصابين بأضرار الأسبست؟
وهناك مخاطر التخلص من النفايات النووية، كاليورانيوم المشع، الذي ما زالت المنشآت الخاصة قاصرة عن الاحتفاظ به لآلاف السنين في ملاجئ محصنة أو في طبقات جيولوجية عميقة، كما أن مناطق التخلص من النفايات النووية غير محدودة تماماً وتلجأ بعض الدول إلى القرصنة ودفنها في الدول الفقيرة أو في أعماق البحار. ولكن، هل
المحطات النووية نفسها آمنة؟
وفقاً لتقرير مؤسسة الحماية من الإشعاعات النووية IRSN، وفي عام 2008، زادت نسبة الحوادث الأمنية والبيئية في المواقع النووية بمقدار 56 % مقارنة بعدد حوادث عام 2005 (من 131 حادثة عام 2005 إلى 205 حادثة عام 2008)(4). فعلى سبيل المثال، في منشأة سوكاتري Socatri في موقع Tricastin، تسرب 20 م3 من السائل المشع خارج مستودعات الوقود؛ انساب بعض الوقود مع خطوط تصريف مياه المطر فيما تسرب البعض الآخر في داخل التربة(5). وقد تسربت مياه مشعة أيضاً من محطة نووية يابانية بعد زلزال اليابان عام 2007، كما تسربت كميات هائلة إلى البحر بعد هزة 11/3/2011 من مفاعلات فوكوشيما.
ويمكن قراءَة تفاصيل حوادث منشأة ثورب Thorp عام 2005 في موقع سيلافيلد البريطاني في صفحة 16 من التقرير عينه، وكذلك حادثة منشأة أخرى في موقع فليروس Fleurus البلجيكي عام 2006، وذلك في صفحة 17 من التقرير ذاته، وحوادث أخرى كثيرة في فرنسا والهيج واليابان وغيرها من الدول، حيث كان من الممكن أن يؤدي بعضها إلى كوارث بيئية وإصابات بين العمال على نطاق واسع.
وقد أجريت في عام 2007 دراسة على تأثير المفاعلات النووية في ألمانيا على سرطان الدم عند الأطفال والشبان الذين تقل أعمارهم عن 28 عاماً والذين يعيشوا في مدى دائرة قطرها خمسة كيلومترات من المفاعل، إذ اتضح زيادة احتمالية الإصابة بالمرض بقرب سكنهم من المفاعل النووي(6).
أجريت دراسة في 15 دولة على العاملين في المواقع المشعة (ما عدا العاملين في مناجم تعدين اليورانيوم)، ونشرت عام 2005، أكدت على زيادة مخاطر إصابة العاملين في تلك المنشآت بالسرطان واللوكيميا حتى عند التعرض لإشعاعات بسيطة. شملت الدراسة 407,000 عامل وموظف الذين تعرضوا لشدة إشعاعات بمعدل 19.4 مللي سيفريت، علماً بأن المسموح به هو 50 مللي سيفريت سنوياً. واتضح زيادة احتمالية الإصابة بالسرطان بنسب متفاوتة وفقاً لشدة الإشعاع(7).
تؤكد الدراسات الطبية اليوم أثر الإشعاعات النووية المأينة على العاملين في المفاعلات النووية والسكان الذين يعيشون بالقرب من المفاعلات النووية، حيث تزداد نسبة الإصابة بسرطان الدم في مدة نحو خمس سنوات بعد تعرضهم للإشعاعات، وتظهر الإصابات بالسرطان خلال مدة تتراوح بين 10 – 40 سنة. كذلك تطلق المفاعلات النووية غازات مشعة يتم جمعها في المحطة وتطلق في الهواء عندما ينخفض نشاطها الإشعاعي(8).
كذلك أثبتت دراسة إنجليزية زيادة نسبة إصابة الأطفال تحت سن عشر سنوات بسرطان الدم بين عام 1954 – 1984 في قرية سيسكيل Seascale تقع على بعد ثلاثة كيلومترات من منشأة سيلافيلد لإعادة تأهيل واستخدام الوقود النووي المستنفذ، حيث ربط مجموعة من العلماء الإصابة بالإشعاعات الصادرة عن المنشأة النووية(9).
وفي دراسة أخرى حول مواقع نووية (136 موقعاً) في بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وإسبانيا واليابان وألمانيا وكندا، اتضح زيادة نسبة إصابة الأطفال تحت سن 9 سنوات بنسبة تتراوح بين 14 – 21 بالمئة(10).
أحدث دراسة لارتباط أثر المفاعلات النووية على السكان من حيث المسافة الفاصلة بينهما تمت في ألمانيا ونشرت عام 2008، وتوصلت إلى أن زيادة الأثر تتناسب طردياً مع الاقتراب من المفاعل، ولكن الاكتشاف الأهم كان يتمثل في أن الأثر على السكان المقيمين في المنطقة قد امتد ليصل إلى سبعين كيلومتراً(11).
وهذه الدراسة تفتح باب التساؤلات بشأن مدى الإصابات المتوقعة لدى العاملين في داخل هذه المنشأة النووية أو تلك، فضلاً عن الاحتمال المرتفع للإصابة بسرطان الرئة نتيجة تعرض العاملين في مواقع تعدين اليورانيوم للإشعاعات(12). وهناك أيضاً المخاطر الناجمة عن الأغبرة الصادرة عن عمليات التعدين وانتقالها بفعل الرياح إلى مناطق بعيدة، فضلاً عن انتقال الإشعاعات مع مياه الأمطار لتلويث المياه الجوفية.
وإذا دخلنا إلى المنشأة النووية وشرعنا في تعداد المخاطر العرضية المحتملة فإننا ربما نستمر في حصرها إلى ما لا نهاية. إذ تتعرض المنشأة النووية لمخاطر الحريق شأنها شأن المنشآت الحيوية الأخرى، وهي مخاطر ناجمة عن أخطاء يرتكبها الموظفون والعمال والفنيين في أثناء عملهم؛ ولا شك في أن النتائج المترتبة على حريق ما قد تكون بسيطة ولكنها ربما تكون مدمرة إذا ما أثرت على أنظمة التبريد أو الأجهزة الدقيقة الأخرى في المنشأة النووية، وبخاصة الإلكترونية منها وأجهزة الحواسيب المعقدة.
وهناك مخاطر حدوث خلل فني ما في تزويد المحطة بالطاقة أو المياه، كما حدث في مفاعلات فوكوشيما في اليابان بعد زلزال 11/3/2011، وربما بفعل عدم إتقان العمل وإسقاط المعدات وتصادم الآليات أو خلال حركة المواد المنقولة داخل المنشأة.
أما في المنشآت النووية LUDD، فإن مخاطر الانفجار مرتفعة جداً نتيجة تحلل الغازات بالإشعاع Radiolysis gas، أو بفعل تحلل بعض المواد بفعل الإشعاعات، مثل الهيدروجين والغاز الطبيعي المتواجد في حاويات مضغوطة(13). ناهيك بالمخاطر الناجمة عن عمل إرهابي أو ربما سقوط طائرة أو جرم سماوي!
وماذا سوف يحصل لهذه المفاعلات في حال حدوث ثورات اجتماعية وفوضى في دول العالم النامي، كما يحدث حالياً في مناطق الشرق الأوسط؟ هل نستبعد أن يتم فقدان السيطرة أمنياً على المفاعلات النووية والوقود النووي، وربما استخدامه لتهديد سلامة العالم!
النفايات النووية
إن متوسط إنتاج المفاعل النووي التجاري من النفايات النووية المتوسطة والمتدنية القدرة على الإشعاع هو 300 م3 سنوياً، فضلاً عن نحو 30 طناً سنوياً من المواد الصلبة الشديدة الإشعاع. وتنتج المفاعلات في العالم سنوياً نحو 12000 طناً من الوقود المستنفذ العالي الإشعاع، وقد بلغت كمية النفايات النووية في العالم عام 2010 ما يزيد عن ثلث مليون طناً، أغلبها يتم خزنه في موقع المفاعل أو يتم إرساله لإعادة التأهيل في فرنسا، أو يتم دفنه في مخازن عميقة وأكثر ما يقلق العلماء اليوم ملامسة المياه للنفايات المشعة ووصول التلوث إلى طبقة البيوسفير(14).
وهذه التخوفات لها ما يبررها، إذ رصدت تسربات مشعة تحت منشأة هانفورد – واشنطن في الولايات المتحدة الأمريكية(15). والحوادث المتشابهة لا ريب في أنها تتكرر، ولكن الكثير منها يظل طي الكتمان، وبخاصة في المواقع العسكرية.
ويتم التخلص من اليورانيوم المستخدم في تشغيل المفاعلات النووية بعد استخدامه لمدة نحو سنة ونصف السنة، وهو ما زال مشعاً، بعد أن يتم استخدام نحو 67% من اليورانيوم 235. ويستخدم بعض اليورانيوم المستنفذ في إنتاج الأسلحة فيما يتم إعادة تأهيل بعضه الأخر للاستخدام من جديد في المفاعلات النووية، بينما يتم ردم البعض الآخر في طبقات جيولوجية عميقة(16).
وفي الحالة الأخيرة، حيث يتم اللجوء إلى دفن النفايات النووية، فإنه لا توجد ضمانات لعدم انتشار التلوث الإشعاعي في باطن الأرض ومن ثم وصوله إلى طبقة البيوسفير خلال مئات الآلاف أو الملايين من السنين الضرورية لاستنفاذ قدرته الإشعاعية (17)، الأمر الذي يهدد انتشاره حول العالم بسرعة كبيرة.
لذلك، يمكننا القول إن معالجة النفايات النووية مسألة في غاية الأهمية والخطورة، وإن التخلص منها في البحار العميقة وتحت سطح الأرض في رمال الصحاري أو الطبقات الجيولوجية العميقة، أو في أماكن مخصصة حيث المفاعل النووي نفسه، لا يعني أن ضررها لن يصيبنا في المستقبل القريب، أو أنه لن يصيب الأجيال القادمة ويلوث مصادر الغذاء والماء الإستراتيجية.
انتاج الطاقة
وبناء عليه، فإن الدخول في معركة إنتاج الطاقة من المفاعلات النووية يستدعي النظر في الطريقة التي نتعامل بها مع إدارة النفايات النووية، للسيطرة على الإشعاعات. ففي بريطانيا هناك عدة مكبات للمخلفات النووية، مثل المكبات الضحلة للنفايات المتدنية التلويث في منطقة Drigg مثلاً، فضلاً عن بئر دونري Dounreay المشهور في اسكتلندا (بعمق 65 متراً عن سطح الأرض) الذي ما زالت الحكومة البريطانية لا تعلم كيف تحل مشكلته التلويثية، وهو يحاذي البحر وقد بدأت عمليات الحت تقترب منه ليصبح مكشوفاً على البحر. وقد تم التخلص من كميات ملوثة كبيرة فيه في الماضي، وبات يسبب إشكالية سياسية وبيئية معاً سوف تستمر لزمن طويل.
وقد شرعت شركة بريطانية في عام 2007 في تنفيذ مشروع حقن المنطقة المحيطة بالبئر من خلال أربعمئة ثقب، وذلك لإغلاق مسامات التربة ومنع حركة الماء منه وإليه. ويتوقع أن ينجز المشروع في غضون 2 – 4 سنوات(18). ولم نسمع حتى الآن أن هذا المشروع قد تم إنجازه!
وهناك مناطق دفن مغلقة في مواقع متعددة من العالم، وهي مخازن محصنة بالاسمنت بسماكات كبيرة أو ببعض أنواع المعادن التي تمنع مرور الإشعاعات النووية من خلالها، كالرصاص، وهي منشآت ذات تكلفة بناء عالية. فهل نحن مستعدون لبناء منشآت للتخلص من النفايات النووية، وهل ستصمد هذه القلاع أمام أنواء الطبيعة (الحركات الأرضية أو حركة المياه الجوفية والبراكين مثلاً)؟ وهل يمكن استعادتها في المستقبل عندما تصبح تكنولوجيا إعادة تدويرها أكثر أمناً وأقل تكلفة؟ وهل نستطيع حمايتها في الحالات الاستثنائية، كالحروب وفترات عدم الاستقرار السياسي؟
ولتوضيح إشكالية مدافن النفايات النووية المتفاقمة في العالم، قررت إدارة الرئيس الأمريكي أوباما تطوير سياسة أكثر أمناً لخزن النفايات النووية لفترات طويلة جداً، وكذلك قررت إغلاق المستودعات النووية العميقة تحت جبال يوكا Yucca في نيفادا Nevada(19). وهذا ما يؤكد أن مسألة تخزين النفايات النووية ليست بالمسألة البسيطة أو الآمنة.
ويقول البعض إنه سوف يتم إعادة استخدام البلوتونيوم الموجود في المستودعات بتطور التكنولوجيا مع مرور الزمن، ولكن العلماء يعترفون أيضاً أن هذه التقانة تمر بمشاكل كثيرة اليوم. والمرشح الأفضل لاستخدامها هو في مفاعلات MOX التي تعمل على اليورانيوم والبلوتونيوم معاً، ولكن هذا النظام أيضاً تشوبه مشكلة التكلفة والأمان. فقد أثبتت تجربة بريطانيا لإعادة استخدام اليورانيوم المستنفذ في منشأة سيلافيلد Sellafield أنها ليست عملية مجدية اقتصادياً وأن هناك بعض المشكلات الأمنية إشعاعياً في التعامل مع هذه المادة، حيث تم إعادة شحنة من هذه المواد إلى إنجلترا بعد شحنها إلى اليابان في عام 1999(20).
كذلك، تصاعدت الاحتجاجات إثر تسرب كميات كبيرة (83000) لتر من سائل شديد الإشعاع خلال فترة 9 شهور، فيما لم يتم ملاحظة ذلك إلا بعد فوات الأوان. أما في أماكن أخرى من العالم فقد أنشأت ثلاثة معامل لإعادة استخدام الوقود المستنفذ الشديد الإشعاع في الولايات المتحدة الأمريكية، ولم ينجح أي منهم في الإنتاج بسعرمعقول، فتم إغلاقها جميعاً(21).
وإذا عرفنا أن تكلفة معالجة اليورانيوم المستنفذ لإعادة استخدامه مرتفعة جداً؛ إذ تراوحت التكلفة للكيلوغرام الواحد بين ألف إلى ألفي دولار أميركي(22) في عام 2006، وهذا يعني أن الأسعار تتجه صوب الارتفاع؛ حالها حال تكلفة إنشاء المحطات النووية. وبالمقابل، فإن أسعار الطاقة المتجددة النظيفة تتجه صوب الانخفاض.
صحيح هو القول إن بعض المفاعلات تنتج البلوتونيوم وبالتالي يمكن أن تحل مشكلة نضوب اليورانيوم الوشيك، ولكن هذه المفاعلات تستخدم الصوديوم المسال للتبريد، وهي لذلك أخطر من المفاعلات التقليدية؛ ومشروع المفاعل الفرنسي SuperPhenix الذي شرع في العمل عام 1985 كان من المشاريع الفاشلة التي انتهت بإغلاقه عام 1998 بعد خسارة 15 مليار دولار أمريكي(23).
وبناء عليه، فإن الطاقة النووية في هذا العصر غير مستدامة، من حيث استخدامها لليورانيوم الطبيعي المحدود الكمية في العالم والذي يتوقع أن يشرع في النضوب في غضون عقود محدودة من الزمن، أو من حيث ضررها على البيئة من حيث إنتاج كميات كبيرة من الغازات الدفيئة خلال مراحل تصنيع الوقود النووي وإنشاء المفاعلات وهدمها بعد نهاية عمرها التشغيلي، أو من حيث خطورة المواد المشعة الذي يمتد ضررها لملايين السنين القادمة. فما الحل إذاً؟
للإجابة عن هذا السؤال ينبغي أن نطرح تساؤلات عديدة حول المفاعلات النووية التقليدية:
* ما هي الاحتياطات اللازمة التي ينبغي تدبرها في أثناء مراحل التعدين والتصنيع؟
* ماذا نفعل بالنفايات المشعة؟ هل نتخلص منها نهائياً بخزنها أو معالجتها أو إعادة تدويرها، وكيف؟
* هل سوف يتم استخدام بعض النفايات النووية المشعة لصناعة الأسلحة؟
* هل نقوم بدفن ما تبقى في الطبقات الجيولوجية العميقة لتلوث مياهنا الجوفية التي نعتمد عليها لمستقبل الأجيال القادمة، كما نعتمد عليها لنجاح مشاريع التنمية المستدامة التي ترتكز على قاعدة «الإنسان السليم المعافى»؟
* ما هو مستوى الإشعاعات الذي سوف يصدر عن هذه المفاعلات في أحوال تشغيلها الاعتيادية وعن المياه التي يتم تبريد اليورانيوم المشع فيها؟
* ما هو ضرر هذه الإشعاعات على الإنسان والغذاء والماء على المستويين القريب والبعيد، وعلى المستوى العالمي؟
* هل وسائل الأمان كافية في العالم العربي لإنتاج اليورانيوم والتعامل مع النفايات التي تنتجها المفاعلات بعد سنوات؟
* هل عامل الأمان الكامن في ثقافتنا الوطنية بالمستوى المطلوب بحيث يجعلنا واثقين تماماً من السيطرة على المخاطر الإشعاعية؟
* هل درسنا حالات التلوث الإشعاعي في العالم كي نتعلم منها؟
* هل يمكن أن نكون أكثر حرصاً ودقة من اليابانيين الذين تعرضوا لكارثة فوكوشيما بعد زلزال 11/3/2011؟
* هل سوف نستورد تكنولوجيا المفاعلات النووية (استدامة استيراد التكنولوجيا) كاستيرادنا الذي لا يتباطئ للتقانة الغربية، وبخاصة لأحدث ما توصلت إليه صناعة الأجهزة الخلوية والحواسيب، وما إلى ذلك، والتي نسيء استخدامها في الكثير من الأحيان؟
* ما هو العمر التشغيلي لهذه المفاعلات، وهل الوقود النووي سوف يتوافر طوال عمرها التشغيلي؟
* هل تكلفة المفاعلات النووية واضحة المعالم في المدى المنظور، وهل تكلفة المخاطر الإشعاعية الممكنة تدخل في حسابات إنشاء المفاعلات أو في تكلفة إنتاج الكهرباء، وهل تكلفة إزالة هذه المنشآت في المستقبل محسوبة أيضاً بأسعار المواد والعمالة في ذلك الزمن من التاريخ؟
* ما هي نسبة الطاقة الكهربائية المنتجة من الطاقة الحرارية الكلية للمفاعل؟ ففي مفاعل Old bury الإنجليزي مفاعلان نوويان، ينتج كل منهما 815 ميجاواط طاقة حرارية ولكن إنتاج الكهرباء هو فقط 218 ميجاواط، أي أن الكفاءَة الحرارية هي فقط 27%.
* متى سوف يشرع العالم في إنتاج الطاقة النووية بالاندماج على نحو تجاري؟
* ماذا سوف يكون حال تكنولوجيا الطاقة النووية القديمة (بالانشطار) في حال نجاح مشاريع الطاقة النووية بالاندماج؟
* هل هناك وسائل بديلة متوافرة لإنتاج الطاقة بحيث تكون نظيفة ومستدامة؟
وبعد، هل يمكننا القول إن الطاقة النووية آمنة، نظيفة أو مستدامة؟
وحاجة المفاعلات النووية إلى المياه كبيرة، والتخلص من المياه الحارة مشكلة بيئية تؤدي إلى ما يسمى بالتلوث الحراري من حيث ارتفاع درجة حرارة المحيط المائي. كذلك تتلوث المياه المستخدمة لتبريد اليورانيوم المستنفذ، وقد حدث تسربات عديدة من مفاعلات في العالم في اليابان في عام 2007 إثر هزة أرضية وإثر هزة 2011، وفي فرنسا في عام 2008، وغيرهما من حالات. وتزداد المشكلة تعقيداً عندما تتطلع الأنظار لاستخدام المياه المعالجة من محطات التنقية، وبخاصة في الدول الفقيرة بمياه الشرب، فتتأثر الزراعة ومشاريع التحريج، كما أن قرب المفاعل من مناطق زراعية يقلل من القيمة الاقتصادية للمنتجات الزراعية التي تكون معرضة للتلوث الإشعاعي.
ونتساءَل في هذا المقام، ماذا سيحصل إذا توقف مصدر المياه عن العمل؟ وماذا سوف يحصل إذا تعطل المفاعل أو توقف عن العمل للصيانة، وبخاصة عندما يساهم بنسبة عالية من القدرة الكهربائية الكلية للدولة؟ وهي حال الدول الصغيرة إجمالاً، إلا إذا كان هدف المفاعل الرئيس هو تصدير الكهرباء إلى الخارج؟
هل الطاقة النووية مستدامة؟
بالرغم من توافر اليورانيوم بكميات معقولة في بعض دول العالم وعند أعماق قريبة من السطح، كما هي حال الكميات المكتشفة في الأردن، حيث تبلغ حصة الأردن من احتياطي العالم نحو 2 %، فإن الخامات الجيدة محدودة في العالم.
يلاحظ في الشكل الآتي أن الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا واليابان تتصدر قائمة المفاعلات النووية القائمة اليوم في العالم، تليها كوريا وبريطانيا وكندا وألمانيا والهند وأوكرانيا والصين والسويد. أما الدول التي يتراوح عدد مفاعلاتها النووية بين 4 – 8 مفاعلات فهي إسبانيا وبلجيكا والتشيك وسلوفاكيا وسويسرا وفنلندا وهنغاريا. أما باقي الدول في الشكل فتمتلك مفاعل أو اثنين في أحسن الأحوال.
أعداد المفاعلات النووية العاملة
وأماكنها في العالم (عام 2005)(24)
إن المفاعلات النووية المنتشرة اليوم في العالم والتي وصل عددها إلى 439 مفاعل عامل في الشهر الأول من عام 2005، تنتج 2525 تريليون واط ساعة من الطاقة الكهربائية سنوياً وتستهلك حوالى 66658 طن من اليورانيوم الطبيعي، الأمر الذي سوف يؤدي إلى نضوب الاحتياطي العالمي من اليورانيوم خلال 53 سنة، وهذه الفترة تتزامن مع تاريخ نضوب النفط على صعيد عالمي. وربما سيكون نضوب اليورانيوم أسرع إذا اتجهت المفاعلات النووية لإنتاج غاز الهيدروجين لتزويد مركبات المستقبل بهذا الغاز الذي يتولد عن احتراقه ماء صافي(25)، أو ربما لتحلية المياه لغايات سد حاجة بعض الدول الماسة لمياه الشرب. إذ سوف يتسارع نضوب المادة الخام بوتيرة أعلى إذا تم استخدام الكهرباء لتحلية مياه البحر، وبخاصة في ضوء التغيرات المناخية التي تواجه الكرة الأرضية اليوم وارتفاع درجة الحرارة وشح مياه الشرب وزيادة عدد السكان وما إلى ذلك.
هذه إحدى الدراسات فقط والتي أفضت إلى تلك التوقعات، ولكن، إذا افترضنا أن العالم العربي وحده مقدم على إقامة العشرات من المفاعلات في الإمارات العربية المتحدة، الأردن، مصر، العربية السعودية، المغرب، الكويت، ليبيا، الجزائر، سوريا، قطر والسودان(26)، وذلك في العقدين القادمين، فيمكننا تخيل العدد النهائي للمفاعلات في العالم بأسره، والذي ربما يزيد عن الألفين بعد عشرين عاماً، وهذا بدوره يعني أن نضوب اليورانيوم سيكون في غضون 30 – 35 عاماً، بدلاً من 53 عاماً كما اقترح الباحثون المشار إليهم سابقاً، وهذا يؤكد أن الطاقة النووية التقليدية هي طاقة غير مستدامة، ليس على صعيد احتكار التكنولوجيا العلمية والأعباء الإستراتيجية الأمنية فحسب، إنما على صعيد نضوب المادة الخام أيضاً.
ويلاحظ من بعض دراسات المفاعلات النووية العاملة وقيد الإنشاء والمتفق على إنشائها والمقترحة (عام 2006)(27) أن المفاعلات النووية قيد الإنشاء في العالم تتمركز في الدول الصناعية الصاعدة التي تحقق نمواً اقتصادياً عالياً، كالهند وروسيا والصين، كذلك فإن المفاعلات التي تم الموافقة على إنشائها تتمركز في اليابان والصين وكوريا الجنوبية، وهي دول صناعية متقدمة وغنية أيضاً، فضلاً عن أن المفاعلات المقترحة في المستقبل تتمركز بشكل أساسي في الهند والصين وروسيا. وهذا يشير إلى حاجة تلك الدول الماسة للطاقة.
وفي ضوء صعوبة تعدين اليورانيوم بمرور الوقت ونضوب الخامات السطحية، وبخاصة الخامات الجيدة، فإن أسعاره سوف ترتفع، وإذا ما شرع العالم في بناء مئات المفاعلات النووية في المستقبل القريب (الصين وحدها تنوي بناء 28 مفاعلاً إضافياً بحلول عام 2020)(28)، وإذا ما نضب المخزون من يورانيوم الأسلحة القديمة، فإن استهلاك العالم من اليورانيوم اليوم الذي يتجاوز 64,000 – 70,000 طناً سوف يتضاعف عدة مرات في المستقبل القريب، ليصل إلى 320,000 طن سنوياً. وهذا يعني أن اليورانيوم في العالم آنذاك لن يكفي لأكثر من 12.5 سنة(29). وذلك ابتداءً من نهاية هذا العقد أي أننا نتحدث عن ثلاثينيات هذا القرن ونحن نميل إلى موافقة الرأي الأخير على اعتبار أن ما هو متوافر من أكسيد اليورانيوم الخام في العالم هو نحو خمسة ملايين طناً.
التلويث الناجم عن تصنيع اليورانيوم!
عندما يدّعي البعض أن الطاقة النووية أقل تلويثاً للجو من باقي مصادر الطاقة، يرد الباحثان المتخصصان لومن وسميث عليهما بالقول إنه عند وجود مادة اليورانيوم الخام بنسبة تركيز قليلة من أكسيد اليورانيوم U3O8، أي 0.1 %، مثلاً، فإن مفاعل نووي ينتج غاز ثاني أكسيد الكربون بنسبة أقل من محطة توليد كهرباء تعمل على الغاز وتنتج كمية الطاقة نفسها من الكهرباء، ولكن بعد تسع سنوات على الأقل من بداية تشغيلها، وذلك نتيجة التلويث العظيم الناجم عن تعدين اليورانيوم وتصنيعه وتخصيبه، ونتيجة بناء المفاعل نفسه.
وفي حال استخدام نوعيات أفضل من اليورانيوم الخام، على الأقل بتركيز 0.2% من أكسيد اليورانيوم U3O8، فإن الطاقة المبذولة هي أقل بكثير من الكهرباء المنتجة، ولكن المحطة النووية يجب أن تعمل نحو سبع سنوات لتنتج ما تم إنفاقه من طاقة.
أما إذا تدنت النسبة عن ذلك (أي عن 0.1 %)، وعند توافر خامات فقيرة بأكسيد اليورانيوم، فإن المفاعل يكون قد أنتج كميات من غاز ثاني أكسيد الكربون خلال مراحل تصنيع الوقود وبناء المنشآت المرتبطة به بما يساوي ما تنتجه محطات توليد الكهرباء التقليدية التي تعمل على الوقود الأحفوري(30). وهذا يسقط مقولة أن الطاقة النووية طاقة نظيفة في حال الخامات الفقيرة.
أما في حال طاقة الرياح فإن إنتاج الكهرباء يتجاوز الطاقة المبذولة بعد 3 – 6 أشهر فقط من الإنتاج. وهذا دليل جديد على نظافة واستدامة الطاقة المستمدة من الرياح(31).
إن إنتاج جنوب إفريقيا ونامبيا تحديداً، فضلاً عن إنتاج بعض دول العالم الأخرى من اليورانيوم، يقع عند أو دون نسبة 0.1%(32). ونعتقد أن خامات الأردن من اليورانيوم تنخرط ضمن هذه المعايير المتدنية، بل هي أقل بكثير، إلى أن يثبت عكس ذلك. ولكن، ماذا بشأن نوعية الخامات المتواجدة في أنحاء العالم المترامية الأطراف، وما هو معدل تركيز أكسيد اليورانيوم على صعيد عالمي؟
في نهاية الخمسينيات كان تركيز أكسيد اليورانيوم U3O8 في خامات اليورانيوم المتواجدة في مناجم الولايات المتحدة الأمريكية نحو 0.28 %، بينما في التسعينيات تدنى هذا التركيز ليتراوح بين 0.07 – 0.11%. وهذا يعني أنه بمرور الوقت سوف تنخفض تركيزات أكسيد اليورانيوم في العالم، وبالتالي سوف تزيد صناعة إنتاج الطاقة النووية من إطلاق غاز ثاني أكسيد الكربون في الجو، الأمر الذي سوف ينجم عنه تعاظم تلويث الغلاف الجوي للكرة الأرضية بالغازات الدفيئة التي اتفق العلماء أنها السبب الرئيس للتغير المناخي الحالي الذي نعاني منه اليوم فضلاً عن أنه يهدد بقاء الحياة برمتها على سطح هذه البسيطة خلال هذا القرن.
وتعتبر كندا هي الدولة الوحيدة التي تتحسن فيها نوعية خام اليورانيوم نتيجة الاكتشافات الجديدة في الآونة الأخيرة لنوعيات ممتازة. ولكن، يبدو أن هذه الاكتشافات لم تؤثر كثيراً على معدل التركيز العالمي في العقود الخمسة الأخيرة، حيث تتراوح بين 0.05– 0.13 %(33).
ومن المعلوم اليوم أن النوعيات الجيدة التركيز من اليورانيوم تتواجد في مناطق محدودة من العالم، في كندا وكازاخستان، ونسبة بسيطة منه من إنتاج أستراليا وروسيا(34).
وتؤكد تلك التخوفات بشأن حجم التلوث الناجم عن الصناعة النووية في العالم أبحاث نشرت في مجلة Australian Science؛ إذ تؤكد الدراسات أن إنتاج الكعكة الصفراء U3O8 وتحويلها إلى غاز UF6 وزيادة تركز U-235 وتحويل الغاز إلى مسحوق أكسيد اليورانيوم وكبسه في أنابيب الوقود؛ كلها عمليات تنتج ثاني أكسيد الكربون(35)، فضلاً عن أن إنشاء البنية التحتية للمحطة النووية والأبنية الضرورية لها والتحصينات المرافقة لها وتعدين اليورانيوم وتشغيل المحطة وصيانتها وخزن الوقود وإعادة تدويره وإدارة النفايات وتخزينها لأمد طويل، وكذلك تفكيك المحطة عندما ينتهي عمرها التشغيلي: هذه الإجراءَات كلها تؤدي إلى تلويث كبير في الجو وأعباء مالية ومخاطر عظيمة على الأجيال القادمة. ويستدعي الواجب الأخلاقي والشعور الوطني والالتزام بحقوق الأجيال التي لم تلد بعد أن يتوقف الإنسان طويلاً وهو يتأمل أمام هذه الظاهرة التي باتت هاجساً عظيماً عند الكثير من الدول.
خلاصة القول إن العلماء يتوقعون أن استخدام اليورانيوم بالتركيز المرتفع لإنتاج 16 % من حاجة العالم من الكهرباء، على نحو ما هو عليه اليوم، سوف يؤدي إلى استنزاف مخزون اليورانيوم عالي التركيز ونضوبه في غضون 19 عاماً(36)، وهو توقع يقترب من الرقم 12.5 عاماً الذي أشرنا إليه سابقاً، الأمر الذي سوف يساهم في رفع تكلفة إنتاج الكهرباء من الطاقة النووية في المستقبل القريب، وربما يؤدي إلى توقف المفاعلات عن العمل. وفي حال الاتجاه صوب استخدام الخامات الفقيرة باليورانيوم فإن تلويث العالم سوف يزداد، ناهيك بزيادة عدد المفاعلات النووية في المستقبل القريب وزيادة الطلب على اليورانيوم، الأمر الذي سوف يزيد من المشكلة تعقيداً.
إن الإجراءَات الاحترازية من شأنها خفض الأضرار الناجمة عن أي كوراث؛ فمثلاً، انطلقت تحذيرات بين عامي 1906 – 1898 تحذر من مخاطر الأسبست على الصحة، ولكن أياً من الإجراءَات الاحترازية تم اتخاذها؛ وبناء عليه، واستناداً إلى دراسة هولندية، فإن وقف التعامل مع الأسبست عام 1965 بدلاً من عام 1993 عندما أصدرت الحكومة قانوناً بذلك، كان بإمكانه تجنب إصابة 34000 إنسان بالمرض القاتل، وأيضاً كان بإمكانه توفير 19 بليون يورو على الدولة التي أنفقت ذلك المبلغ الضخم لتنظيف المصانع ودفع التعويضات للمتضررين(37). وهذه هي شركة كهرباء اليابان تخصص مبلغ 25 بليون دولار كتعويضات للمتضررين من كارثة فوكوشيما.
وبناء عليه، ألا ينبغي أن نستخدم أسلوب الإجراء الاحترازي في منع إقامة المفاعلات النووية أو فتح مناجم تعدين اليورانيوم؟
معوقات الاستثمار في الطاقة النووية
يتساءَل البعض عن أسباب تعثر إقامة محطات نووية جديدة في العالم المتقدم منذ ثمانينيات القرن الماضي، فلم تبنِ الولايات المتحدة الأمريكية في تلك الفترة شيئاً يذكر، وقرر الشعب الإيطالي في تصويت شعبي منع إنشاء محطات نووية، وكذلك فعلت العديد من الدول الأوروبية!
لا شك في أن الحوادث التي تعرضت لها العديد من المفاعلات النووية ساهمت في إذكاء نار هذا الإحجام، وبخاصة حادثة جزيرة الأميال الثلاث عام 1979، وكارثة تشرنوبل عام 1986، وغيرهما. ولكن الإعراض اليوم عن إنشاء محطات نووية جديدة في الكثير من الدول له أبعاد اقتصادية واجتماعية وسياسية واستراتيجيه، فضلاً عن الخوف الذي أصاب العالم بعد كارثة مفاعلات فوكوشيما بعد هزة 11/3/2011 في اليابان، والرعب الذي تبعه من النتائج الكارثية المتوقعة، وبخاصة في ضوء رفع درجة الكارثة إلى مستوى تشرنوبل عند الدرجة السابعة.
إن خصخصة شركات الكهرباء في الكثير من دول العالم قد جعلت الاستثمار الخاص في هذه المشروعات أمراً شبه مستحيل. لذلك نجد أن الدول هي التي تقوم بذلك اليوم. ولكن ماذا بشأن الدول النامية التي هي مديونة أصلاً، فهل من المعقول أن تستثمر بلايين الدولارات على أمل أن تشرع في إنتاج الكهرباء بعد عشر سنوات أو أقل بقليل؟
لذا، فإننا ينبغي أن نتنبه إلى أمور عشرة أساسية:
الأول، هو حساب تكلفة إنشاء ومن ثم إدارة هذه المراكز فيما بعد، ذلك لأن الهيمنة التكنولوجية على الطاقة النووية ستوقعنا في مشكلة التبعية من جديد، وهي مكلفة جداً واحتكاراتها في العالم محدودة، ولا يوجد العديد من البدائل المتاحة فنياً وتكنولوجياً. إن اندفاع الولايات المتحدة والصين وبريطانيا وفرنسا وروسيا صوب هذا الاتجاه محصّن بامتلاك التكنولوجيا الوطنية، فهل يمكننا أن نحصّن أنفسنا وأن نخلق كوادر راقية في غضون سنوات قليلة؟ ألا يذكرنا هذا الاحتكار بصناديق الاقتراض الدولية التي لم ينجُ من مصائدها أحد؟
وثانياً، هل تستطيع الدول النامية أن تضمن قدرتها على سداد الديون؟ وهل تستطيع ضمان تكلفة الإنشاء بحيث لا تزيد عما هو مقرر لها، وبخاصة في ظل انتشار الفساد في الكثير من دول العالم الثالث؟
وثالثاً، علينا دراسة مدى تكلفة التأسيس للبنية التحتية التي تتطلب استهلاكاً كبيراً للمياه من أجل التبريد والتشغيل، فماذا سيحصل إذا توقف مصدر الماء عن تزويد المفاعل فجأة؟ كذلك تستدعي المحطات النووية إقامة أعمال هندسية عظيمة في منطقة المشروع، فضلاً عن بنية تحتية عملاقة تؤدي بالضرورة إلى تغييرات في البيئة الطبيعية: البرية والبحرية والجوية والجوفية، وأيضاً لن نهمل أثرها في البيئة الجمالية والاجتماعية ونحو ذلك.
ورابعاً، علينا أن نتساءَل عن مدى تكلفة إنشاء القاعدة العلمية الأكاديمية والعملية (المختبرات) القادرة على تخريج أفواج من الكوادر المؤهلة لإدارة هذه المراكز. وعلينا أن نتساءَل عن إمكانية القطع مع استيراد التقانة، أم أنها ستظل احتكاراً لدول الشمال في العالم؟ وهل يمكن لهذه القاعدة العلمية الأكاديمية أن تستقل أيضاً وتنتج أبحاثاً علمية رصينة؟
وخامساً، فيما يتوقع بعض العلماء زيادة الطلب على الطاقة النووية في المنظور القريب، فإن الطلب على الطاقة النووية بعد ذلك سيبدأ بالانحسار لصالح مصادر الطاقة المتجددة والنظيفة، كالطاقة الشمسية وطاقة الرياح والطاقة الجوفية والطاقة الكهرومائية وطاقة أمواج البحر وطاقة المد والجزر والهيدروجين وغيرها. فهل يستحق الأمر كل ذلك العناء؟ وهل يستحق ذلك المجازفة بحدوث كارثة نووية لا قدر الله؟ ومن هو الذي سوف يتحمل المسؤولية؟ وهل بإمكاننا التعويض عن الأضرار المحتملة بمليارات الدولارات؟
لماذا، وفي مواجهة ذلك، لا نبدأ بترشيد الطاقة وبتوسيع قاعدة إنتاج مصادر الطاقة المتجددة والنظيفة المتاحة؟ إذ نلحظ أن الدول المتقدمة تزيد من إنتاجها للطاقة المتجددة النظيفة بوتيرة متسارعة.
وسادساً، بما أن اليورانيوم يتوقع له أن ينضب من العالم قريبا، هل يمكن القول إن الطاقة النووية هي مصدر للطاقة المتجددة؟ وطالما أن هناك احتمالية للتلوث الإشعاعي ومشكلات في الفضلات النووية، هل يمكن القول إن الطاقة النووية مصدر نظيف للطاقة؟
وسابعاً، هل نستطيع أن نتجاوز نسبة مشاركة إنتاج الكهرباء من الطاقة النووية عن 10 % من القدرة الكلية؟ فماذا نتوقع من أضرار إذا توقفت هذه المفاعلات عن العمل لسبب من الأسباب؟
وثامناً، هل الأوضاع السياسية والاجتماعية في الشرق الأوسط تضمن الاستقرار لسنوات قادمة بحيث لا تتعرض المفاعلات ومنتجاتها من مواد مشعة للقرصنة أو يتم استخدامها كرهينة تهدد أمن العالم بأسره؟
وتاسعاً، إذا سلمنا من الإرهاب والعدوان المباشر، هل نسلم من قرصنة الإنترنت وإرهابها، كما حدث في الهجوم على حواسيب مفاعل بوشهر مطلع عام 2011؟
وعاشراً، إن استخدام النوعيات المتدنية الجودة من خامات اليورانيوم تؤدي إلى تلويث كبير للبيئة من حيث إطلاق الغازات الدفيئة، فمن المتوقع أن تتفق دول العالم على الحد من هذه الملوثات، على غرار اتفاقية كيوتو، وبالتالي يمكن أن تفرض غرامات على إنتاج الطاقة من تلك المصادر. وعندذاك، هل سوف تصبح تكلفة إنتاج الطاقة من المفاعلات النووية مكلفة جداً؟
أثبت العالم العربي نسيم طالب من جامعة نيويورك أن تقييم المخاطر في المفاعلات النووية تقوم على فرضيات محدودة وأحياناً مغلوطة، الأمر الذي يفتح المجال أمام حوادث كثيرة ومخاطر عظيمة لا يمكن التنبؤ بها ضمن البرامج الحاسوبية المتاحة(38). إذ إن التنبؤات هذه ترتكز على فرضيات غامضة لا يمكن الوثوق بصحتها. وتزداد احتمالية الحوادث بزيادة احتمال تعرض المفاعل لعمل إرهابي. فعند استعراض سيناريوهات اصطدام طائرة بالمفاعل أو تعطل أجهزة تبريد المفاعل في حالات الطوارئ، فإن الكارثة يصعب تخيلها(39)!
إذا استخدمنا طريقة روسمسن Rusmussen في حساب احتمالية حدوث حادث خطير نتيجة تسلسل أحداث معينة، فإن الاحتمال الكلي المتراكم يصبح 1 إلى عدة ملايين. ولكنه يظل احتمالاً ممكناً، ويعني ذلك أن الكارثة ممكن أن تحدث في اليوم الأول لعمل المفاعل، أو ربما لا تحدث على الإطلاق. وهذا ما حدث في اليابان بالرغم من استبعاد الحادث لقلة الاحتمالية.
وقد تتكرر تلك الامكانية عندما نحسب احتمالية سقوط نيزك من الفضاء الخارجي أو سقوط طائرة أو أن يستهدف المفاعل عن طريق الخطأ أو بصورة متعمدة بعمل عسكري، أو أن يحدث زلزال أو ربما ينشط صدع زلزالي كان خاملاً لفترة طويلة، أو أن يحدث فيضان، وبخاصة في ظل التغير المناخي الذي يعصف بالكرة الأرضية اليوم، أو ربما بفعل عمل تخريبي من داخل المفاعل. هذه كلها احتمالات تعرض المفاعل للخطر الداهم بصورة مستمرة.
يضع كولن شيلن أحد عشر سبباً في كتابه حول سياسة التغير المناخي الصادر عام 2009 عن «بكنك للنشر» في المملكة المتحدة – بريطانيا؛ سوف نناقش بعضاً منها ههنا.
كان طموح رئيس الوزراء مارغريت تاتشر في الثمانينيات بناء عشرة مفاعلات نووية، ولكن واحداً فقط منها قد رأى النور، وهو مفاعل Sizwell B، وبخاصة في ضوء التخوف الذي ساد العالم بعد حادثة جزيرة الأميال الثلاث في الولايات المتحدة الأمريكية، وحادثة تشرنوبل في الاتحاد السوفياتي السابق. كما ساهم في نبذ الطاقة النووية في الثمانينيات من القرن العشرين تصويت الشعب الإيطالي ضد بناء المفاعلات الذرية. وقد ساهمت الشعارات التي رفعها طوني بلير ضد الطاقة النووية في إيصال حزب العمال إلى الحكم عام 1997.
كذلك، قررت ألمانيا والسويد شعبياً ورسمياً بعدم بناء مفاعلات جديدة، وانتظار ما هو قائم من المفاعلات حتى تنتهي صلاحيته. كذلك أوقفت بلجيكا العمل في المفاعل الجديد الذي لديها وظل هيكلاً عظمياً بلا حياة. وأيضاً أصدرت السويد قانوناً عام 2003 تلزم شركة توليد الكهرباء Electrabel بإنهاء إنتاج المفاعلات النووية السبعة كلها في عام 2025. فلماذا هذا الإعراض عن الطاقة النووية؟
ربما تكون التكلفة المرتفعة هي أحد الأسباب الأساسية في الإعراض عن بناء محطات جديدة في أوروبا، فضلاً عن خصخصة توليد الكهرباء في الكثير من دول العالم، كبريطانيا مثلاً، إذ تستوجب هذه المشروعات دعماً حكومياً وقروضاً ضخمة واحتياطات أمنية عالية ووفرة في المياه ومحاذير بيئية عديدة ومراقبة إشعاعية وأمنية مستمرة، لذا، لم يعد يكترث بها المستثمرون كثيراً اليوم.
تزداد مسألة تكلفة المحطات النووية تعقيداً عندما ينظر إلى حال فنلندا التي تقدمت حكومتها للبرلمان عام 1991 بخطة لبناء مفاعل نووي جديد، بيد أن البرلمان رفضها عام 1993. ولكن تحولاً حدث فيما بعد وسمح البرلمان في عام 2005 بناء مفاعل جديد Olkiluoto 3، هو الأول الذي يُشرع في بنائه منذ عام 1982. فما الذي تغير في العالم كي ينقلب القرار في فنلندا كما حدث في إيطاليا مؤخراً أيضاً؟
مفاعل أولكيلوتو 3 الفنلندي
يرى البعض أن زيادة وعي الناس بمشكلة الانحباس الحراري والتغير المناخي قد أسهمت في دعم الطاقة النووية، ظناً منهم أنها سوف تخفض من انبعاثات الغازات الدفيئة، وبخاصة غاز ثاني أكسيد الكربون. كذلك، تم الترويج لفكرة دفن النفايات المشعة في أنفاق عميقة داخل الأرض. وفي الوقت نفسه، نسي الناس حادثة تشرنوبل وآثارها الكارثية وانهيار الاتحاد السوفياتي، وبدأت فنلندا في الاعتماد على مصادر الطاقة من دول الاتحاد السوفياتي السابق، سواء من الكهرباء التي تنتج من الطاقة النووية أو الغاز الطبيعي من كازاخستان مثلاً، وقد أسهمت هذه الأسباب جميعها في دعم فكرة الحاجة إلى الطاقة النووية كبديل استراتيجي. ولكن الاستثمار في هذا القطاع ما زال يواجه مشكلات مهمة.
إن رأس المال المطلوب للاستثمار في المفاعلات النووية متغير دوماً صوب الارتفاع، وهذا ما يحد من الاستثمار في هذا القطاع. فعلى سبيل المثال، نظرت محكمة الاتحاد الأوروبي في قضية تعمد ائتلاف مجموعة من الشركات الألمانية والفرنسية لخفض تكلفة المشروع ظاهرياً للفوز بالعطاء؛ وهذا الأسلوب متبع على نطاق واسع في شتى أرجاء المعمورة، وبخاصة في دول الجنوب الأكثر فقراً، ونحن منها؛ إذ تم تجاهل تكلفة النفايات النووية وإدارتها لمئات السنين، إذ تنتج الدول التي تستمد الطاقة من المفاعلات النووية آلاف الأطنان من النفايات النووية(40)، وينبغي اتخاذ التدابير الملائمة لمعالجتها أو تخزينها لفترات طويلة جداً بحيث لا تمس أمن الأجيال القادمة.
كذلك، بدأت تتضح رؤى جديدة اليوم مفادها جعل هذه النفايات قابلة للوصول إليها واستردادها في المستقبل، حتى لو دفنت على بعد مئات الأمتار في قلب الصخور «الثابتة» والمستقرة مبدئياً؛ فربما ترغب الدول في إعادة تدويرها في المستقبل، أو ربما ترغب في التأكد من سلامتها، وما إلى ذلك. وهذا الإجراء يسهم في رفع تكلفة سعر إنتاج الكهرباء من المفاعلات النووية.
وتاريخ تأخر مشاريع المفاعلات النووية في العالم مشهود له، فمفاعل فنلندا المشار إليه، لم يبدأ بالعمل بعد، علماً بأنه متأخر عن فترة تسليمه سنتين لغاية الآن(41). وقد ارتفعت تكلفة المفاعل الواحد من 2.2 إلى 3.0 بليون جنية إسترليني، لغاية الآن، و»السمك ما زال في البحر»، و»سندريلا» ما تزال ترقص مع الأمير غير آبهة بما يحدث حولها.
وقلة الخبرة قضية جديدة تعاني منها بريطانيا، ففي أثناء بناء المفاعل الفنلندي تم صرف 1400 مخالفة أمنية خلال العمل، فقد أصبحت أعداد المفاعلات التي تنشأ اليوم في أوروبا محدودة. وما يتم بناؤه حالياً في فنلندا وفرنسا Flamanville لا يوفر الكفاءَات المطلوبة من الكوادر المؤهلة والتي تمتلك الخبرة الكافية(42).
موقع إنشاء مفاعل فلمنفيل في فرنسا
هل هناك من بدائل؟
في عام 2010، كان هناك ما يقارب من خمسمئة مفاعل نووي يعمل في أكثر من ثلاثين دولة، وهناك نحو ستين مفاعلاً قيد الإنشاء. ويلاحظ أن جل هذه المفاعلات يتم بناؤه في الصين وروسيا وكوريا والهند، وهي دول متقدمة تمتلك التكنولوجيا النووية بامتياز، كما تمتلك مخزوناً من السلاح النووي. وبالرغم من ذلك فإن التوقعات العالمية تشير إلى زيادة الطلب على مصادر الطاقة المتجددة الأخرى. والسبب هو تطور تقانة توليد الطاقة من الرياح والطاقة الشمسية، فضلاً عن أن المصادر الأخيرة أكثر أماناً وأبسط تكنولوجياً.
ويلاحظ كذلك أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تقم بإنشاء سوى مفاعل واحد خلال الثلاثة عقود الماضية. وأن أغلب الدول الأوروبية لا يوجد فيها محطات نووية قيد الإنشاء. والحجة التي تقول إن العالم يشهد نهضة في مجال الطاقة النووية حديث مجزوء، إذ تقتصر هذه النهضة على الدول الناهضة التي تحقق نمواً مرتفعاً، كالصين والهند وكوريا، ولأسباب خاصة.
وقد تزايد إنتاج الطاقة الكهربائية من مزارع الرياح بمقدار 30% سنوياً في الخمس سنوات الأخيرة، بحيث أصبح العالم ينتج نحو 60GW عام 2005، وتنتج أوروبا حالياً من طاقة الرياح نحو 3,3% - 3,5% من مجمل استهلاكها من الطاقة الكلية، فيما تقود ألمانيا وإسبانيا هذا الإنتاج على الترتيب، وغدا مجموع إنتاجهما يكافئ نصف إنتاج أوروبا(43). فمتى نبدأ نحن ولم نحدد بعد سعر شراء الكهرباء النظيفة بالرغم من تقديم مشروع قانون الطاقة المتجددة للبرلمان الأردني؟
رفعت الحكومة الألمانية سعر شراء الكيلوواط / ساعة من الكهرباء المنتجة بطاقة الرياح من 7.9 سنت / يورو إلى 9.2 سنت / يورو، ولتشجيع إنتاج طاقة الرياح بعيداً عن أرض ألمانيا، شرعت قانوناً يبدأ حيز التنفيذ في مطلع عام 2009، بموجبه تشتري الحكومة الكهرباء المنتجة في البحار Offshore بسعر أعلى يبلغ 13 سنت / يورو، ولتعجيل الاستثمار في مزارع الرياح هذه، سوف تشتري الكهرباء بسعر 15 سنت / يورو إذا شرعت الشركات الاستثمارية في بناء مزارع الرياح في البحار قبل عام 2015(44). كما تتطور اليوم صناعة توربينات الرياح بحيث أصبح الجهاز الواحد يتألف من عمود ضخم يحمل شفرة تمتد إلى قطر نحو 180 متر وتولد طاقة تتراوح بين MW 12 – 8(45).
ويعني ذلك أن مئتين من هذه المراوح العملاقة سوف تؤدي إلى اكتفاء الأردن من الطاقة، وبخاصة تحت وقع سرعات رياح مناسبة، كما هي الحال في مناطق حوفا ورأس منيف والصفاوي، على سبيل المثال، حيث تتفاوت معدلات سرعة الرياح بين 5 – 8 متر/الثانية(46).
وإذا كانت تكلفة الطاقة المنتجة بهذه الوسائل أكبر من تكلفة إنتاجها بالوسائل التقليدية، كالغاز والنفط مثلاً، هل هذا سبب كاف لمحدودية طموحاتنا في هذا المجال، وبخاصة في ضوء ارتفاع أسعار النفط المضطرد ومخاطر عدم استدامة الطاقة النووية التقليدية وضبابية اتفاقات الغاز على المدى الطويل؟ لقد رأينا كيف انقطع الغاز المصري عن المحطات الحرارية الأردنية في شباط عام 2011 بعد الثورة المصرية المجيدة.
تبين دراسة أجريت في جامعة MIT الأمريكية أن سعر الكيلو واط – ساعة من الكهرباء المنتجة من مفاعل نووي تساوي 6.7 سنت أميركي، فيما يمكن توليد الكهرباء من طاقة الرياح في مواقع تتمتع بسرعة رياح عالية بسعر 4 – 5 سنت، والسعر ينخفض يوماً إثر يوم نتيجة تطور تكنولوجيا مزارع الرياح(47). ومن اللافت استثمار الملكة إليزابيث في طاقة الرياح، حيث يتم بناء مراوح ضخمة ينتج الواحد منها 15 ميجاواط من الطاقة الكهربائية، وتتفاخر الملكة بأن هذه المروحة الضخمة سوف تسهم في خفض انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون بما يكافئ 7240000 طناً.
إن فكرة التنوع في مصادر الطاقة فكرة في غاية الأهمية، ولكننا يجب أن نحذر من الاحتكارات الغربية في مجال الطاقة النووية، بحيث لا نعتمد عليها بصورة أساسية. فالتنوع ضروري والطاقة الكهربائية يمكن أن يتم إنتاجها من طاقة الشمس وطاقة الرياح كذلك، مع إدراكنا لبعض العقبات الماثلة أمامنا. والحجة التي نسمعها دوماً أننا بحاجة إلى base line في الإنتاج الكهربائي مرفوضة لأن محطات توليد الكهرباء من الوقود الأحفوري توفر الحد الأدنى المطلوب بصورة مستمرة.
وقد أصبح الإنتاج من هذه التكنولوجيا (طاقة الرياح، مثلاً، وضمن سرعات مرتفعة) متطوراً للغاية بحيث أخذت مؤخراً تنافس مصادر الطاقة التقليدية. ويمكن الاستناد على الخبرات الغربية لفترة قصيرة نسبياً بحيث تصبح بعدها الكوادر المحلية قادرة على إدارة شؤونها بنفسها إدارة تامة وكاملة ومن دون إشراف احترازي من هيئات دولية تنتهك السيادة الوطنية، على عكس الطاقة النووية الذي سيكون الإشراف عليها محتماً لفترات طويلة جداً لغايات ضمان السلامة العامة والأمن الإقليمي والعالمي وما إلى ذلك. وربما تتفاجئ دول الجنوب بعد بضع سنين من الاستثمار أن افتتاح المفاعلات للإنتاج التجاري غير ممكن! إما لنضوب اليورانيوم أو لتراكم الديون وتأخير إنجاز المشاريع، أو لأنها سوف تصبح تكنولوجيا قديمة بحاجة إلى تحديث كي تصبح طاقة نووية بالاندماج.
وفي ضوء ما سلف وتأكيداً له فإننا نلحظ اليوم انخفاض الاعتماد على الطاقة النووية في السويد مقارنة بالطاقة النظيفة. إذ انخفض الاعتماد على الطاقة النووية من 46.3 إلى 42% بين عامي 2006 – 2008، بينما ارتفع الإنتاج من طاقة الرياح إلى الضعف. ويمكننا دراسة حالة إسبانيا أيضاً، حيث انخفض إنتاج الكهرباء من الطاقة النووية بوتيرة متسارعة، فيما صعد إنتاج الكهرباء من الطاقة الشمسية وطاقة الرياح صعوداً كبيراً .
أما في ألمانيا، فقد هبط إنتاج الكهرباء من الطاقة النووية من 29% إلى 22% خلال الفترة الواقعة بين عامي 1998 – 2008.
ختاما نقول إن هناك شروط لإنشاء المشروع النووي: المادة الخام واستدامتها ونوعيتها، تكنولوجيا تصنيع الوقود النووي، طبيعة رأس المال وحجمه، الاحتكارات النظرية والعملية، الخبرات وتطويرها، تحقيق الحد الأدنى من درجة الأمان على أصعدة حماية البيئة والعاملين في الموقع، القدرة على تملك العلم والتكنولوجيا والقدرة على الحد من التلوث الناجم عن هذه الصناعة بمجملها ونسبة الطاقة الكهربائية مقارنة بالحمل الكهربائي الكلي، فضلاً عن الآراء الشعبية وموافقة السكان على المشروع. فهل هذه الشروط جميعها متوافرة لدينا؟ وهل الطواقم المسؤولة عن الترويج للطاقة النووية مستعدة لتحمل المسؤولية عن أي حادثة في المستقبل وأن تعوض الأضرار الناجمة عن التلوث الإشعاعي وخلافه على المدى القصير المتمثل في الضرر بالناس والإنتاج النباتي والحيواني وتلوث المياه السطحية والجوفية، وأيضاً على المدى البعيد من حيث معالجة إصابات السرطان والتشوه الخلقي واللوكيميا وغيرها من الأمراض التي تعتبر الأكثر تكلفة للمعالجة من غيرها على الإطلاق؟
هوامش
(1)Peter Karamoskos, Nuclear Power and Public Health, Medical Association for prevention of war, May 2010, P34.
(2)www.newscientist.com/article/du7951-major-un-report-counts-human-cost-ofchernobyl.html (visited 5-3-2011).
(3)Comest, The Precautionary Principle, March 2005, UNESCO, Paris, P. 10 – 11.
(4)IRSN report; DSU report number 215: Lesson Learnt from events notices between 2005 and 2008, P. 10/51.
(5)Ibid, P. 13/51.
(6)www.irsn.fr/EN/library/Documents/IRSN-leukemia-critical-review.pdf (visited 5-3-2011).
(7)http://www.mapw.org.au/download/mapw-briefing-paper-nuclear-power-and-public-health-may-2010 (Visited 15-1-2011).
(8)Peter Karamoskos, OP. cit.
(9)M.J. Gardner, Snee MP, Hall AJ, Powell CA, Downes S, Terrell JD. Results of case-control study of leukaemia and lymphoma among young people near Sellae ld nuclear plant in west Cumbria. BMJ 1990; 300:423-9.
(10)Baker PJ, Hoel D. Meta-analysis of standardized incidence and mortality rates of childhood leukaemias in proximity to nuclear facilie s, Eur J Cancer Care. 2007; 16:355-363.
(11)Kaatsch P, Spix C, Schulze-Rath R, Schmiedel S, Blettner M: Leukemias in young children living in the vicinity of German nuclear power plants. Int J Cancer 2008, 22:721-726.
(12)International Agency for Research on Cancer. IARC monographs on the evaluation of carcinogenic risks to humans. Vol 78. Ionizing radiao n. Part 2: Some internally deposited radionuclides. Lyons: IARC, 2001.
(13)IRSN report, Op.cit, P. 35/51.
(14)http://www.iaea.org/publications/Factsheets/English/manradwa.html#note_c.
(15)Shrader-Frechee Climate Change, nuclear economics, and coni cts of interest. Sci. Eng. Ethics. 2009.
(16)http://icbuw-hiroshima.org/dc/icbuw_leaf_arabic.pdf (visited 19/1/2011).
(17)Op. cit. PP. 164 – 165.
(18)www.dounreay.com/decommissioning/shaft (visited 19/1/2011).
(19)(http://dailypostal.com/wp-content/uploads/2010/03/yucca-mountain.jpg) visited 15-1-2011.
(20)See article in: “New Scientist”, P. 17, 10th July 2004.
(21)Mark Diesendorf, “Can nuclear energy reduce CO2 emission?”, in Australasian science, July 2005, PP. 39 – 40.
(22)D. Jackson, Op.cit, P. 167.
(23)Ibid, P. 40.
(24)number of reactors in world.
(25)D. Jackson, “Is Nuclear Power Environmentally Sustainable?” International Journal of Green Energy, 2007, Volume 4, P.163 PP 161 – 172.
(26)www.world-nuclear.org/inf/inf102.htm (visited 31/1/2011).
(27)World Nuclear Power Plants as of May 2006.
(28)www.uranium-stocks.net (visited 1/2/2011).
(29)Paul Mobbs, Environmental Investigations, written evidence to House of Commons Environmental Audit Committee (EAC), September, 2005.
(30)www.sustainabilitycentre.com.au/Nukes&CO2.pdf (visited 11-1-2011).
(31)
(32)Mudd and Diesendorf, “Sustainability Aspects of Uranium; Towards Accurate Accounting?, 2nd International conference on Sustainability, Engineering and Science, Auckland, New Zealond, 20 – 23 February 2007, P. 4.
(33)Ibid, P. 8.
(34)http://watd.wuthering-heights.co.uk/nuclear/images/uranium-map.gif (Visited: 15-1-2011).
(35)Mark Diesendorf, Can nuclear energy reduce CO2 emission?, Australian Science, July 2005, PP. 39 – 40.
(36)Mark Diesendorf, Can nuclear energy reduce CO2 emission?, Australian Science, July 2005, PP. 39 – 40.
(37)Comest, Op.cit, P. 11.
(38)N. N. Tale by The Black Swan, Penguin, 2007.
(39)Peter Karamoskos, Op. cit.
(40)Op. cit, P. 155.
(41)Op. cit, P. 157.
(42)Op. cit, P. 158.
(43)S. Kalogirou, Wind Energy, Arab water world, September 2007, PP. 14 – 16.
(44)The German Wind Energy Association, (BWE), 2008.
(45)Dr. S. Kalogirou, Op. Cit., P. 16, September, 2007.
(46)Eyad S. Hrayshat, “A wind powered system for water Desalination”, in International Journal of Green Energy, 4:471 – 481, 2007, P. 475.
(47)Mark Diesendorf, Can nuclear energy reduce CO2 emission?, Australian Science, July 2005, PP. 39 – 40.