الساعة

وهم الوطن البديل وفزّاعته

29/05/2012


مركز الرأي للدراسات

اعداد :حسني عايش

ايار 2012

كلما دق كوز بالجرة من مثل إشارة كاتب أو سياسي أو نائب... إسرائيلي في مقال، أو خطاب، أو كتاب، أو في مؤتمر، أو في كنيست إلى أن الأردن هو فلسطين وأن الدولة الفلسطينية قائمة في الأردن، سارع بعضهم إلى فتح موضوع الوطن (السياسي) البديل لفلسطين في الأردن أو لبنان أو روسيا... على مصراعيه وكأنه قائم فعلا ً أو على الأبواب.

المقولة والشعار مضللان

لكم بيّنا وبيّن غيرنا أن هذه المقولة أو الشعار مضللان، ولكن معظم الناس لا يقرأون، وأصحاب الأجندات لا يغيّرون، لأن الشعب الفلسطيني غير مستعد للتخلي عن وطنه فلسطين ما دام مغتصباً، وفي الأجسام عرق ينبض، وإن حصل كثير منه على اللجوء أو الإقامة خارجه كرهاً لا طوعاً، أو على المواطنة في بلد أو بلدان عربية قومياً أو وحدوياً، أو في بلدان أجنبية قانونياً، لأنه لا يوظف اللجوء أو الإقامة أو المواطنة للانقضاض سياسياً على بلدان اللجوء أو الإقامة أو المواطنة، ولن يوظفها أبداً. وطريقة عيشه وعمله وخطابه هنا وهناك دليل عليه. وإلا كيف نفسر استمرار قبوله العيش في المخيمات البائسة عقداً وراء آخر على بيع أملاكه للعدو أو قبول التعويض عنها؟ كما أن شعوب البلدان العربية المعنية بالوطن (السياسي) البديل (أي قيام أو إقامة (دولة) فلسطينية الشخصية (والهوية) على أرضها) ليست لقمة سائغة أو لواء أو ناحية في «إسرائيل» لتفرضه عليها. إن فلسطين ليست الأردن أو في الأردن أو في سورية أو في لبنان أو في سيناء، فكل منها لا تغتصب وطنهم فلسطين. إن فلسطين في إسرائيل، وإسرائيل هي التي تغتصب فلسطين، «وإن عدد الفلسطينيين في وطنهم فلسطين من البحر إلى النهر أكبر من عددهم في أي مكان أو بلد آخر في العالم». ويجب أن يظل تعليم القضية للأجيال قائماً في جميع مراحل التعليم، وأن يُنشّئ الأطفال الفلسطينيون والعرب والمسلمون عليه، و أن يبقى الإعلام موعِّياً به لإبقاء القضية حية وتداعياتها مفهومة، لأنه كلما طال الزمن يمكن أن يغيب من الذهن الوطن.

العدو الأول هو العدو الأول

عندما نفكر في هذا الموضوع من بعيد أو من الخارج (لأن الباحث يجب ان يخرج من الموضوع ليكون بحثه أو تفكيره موضوعيا ً) نجد في نهاية التحليل أن ألد الأعداء لنا وهم إسرائيل وحماتها هم ألد أعداء الوطن (السياسي) البديل للفلسطينيين (أي قيام أو إقامة دولة مجاورة لهم) قبل أو بعد حكومات وشعوب البلدان العربية التي يرتبط اسمها به. لقد أتيحت الفرصة لإسرائيل ثلاث مرات وفي ثلاثة بلدان عربية لإقامة هذا الوطن (السياسي) البديل ولكنها لم تفعل، وإلا فهل فقدت إسرائيل عقلها أو تخلت عن استراتيجيتها بدولة يهودية من الفرات إلى النيل لتسمح للفلسطينيين بإقامة دولة أو ترتب لهم قيامها في بلد مجأور ومحادد لها؟ أفتطرد الشعب الفلسطيني من وطنه وتغتصبه ثم تقيم له دولة مجأورة على امتداد مئات الكيلومترات ستظل معادية لها طيلة التاريخ؟ أو تقامر بوجودها فتسمح بقيام هذه الدولة أو تقيمها له بالقرب منها أوعلى جنبها؟ إنها إذن لفي جنون مطبق. لقد زلزلتها انتفاضة الشعب التونسي ثم انتفاضة الشعب المصري وحادث السفارة، لمجرد احتمال قطع تونس علاقتها التحتية معها، ومصر الرجوع عن اتفاقية كامب ديفيد، أفتضمن بعد ذلك البقاء والأمن بإقامة أو قيام وطن (سياسي) بديل للشعب الفلسطيني على «حدودها» ؟! إنها لا تسمح لمصر بزيادة عدد أفراد قواتها في سيناء الفارغة سكانيا ً تقريباً، مع أن ذلك يصب في صالحها الأمني؟
لن تسمح إسرائيل – ما استطاعت – بتكرار تجربة نصارى الشمال عليها:

إن إسرائيل ترى في قطاع غزة الذي تحاصره حتى الموت - براً وبحراً وجواً- وفي المقاومة من هناك، وفي إقتحام الجماهير الفلسطينية للخطوط الاسرائيلية في الجولان في ذكرى الكارثة تهديداً وجودياً لها، أفتسكت على أو تسمح بقيام أو تقيم دولة للفلسطينيين مجاورة لوطنهم المغتصب ومفتوحة الحدود بعد ذلك في أي بلد عربي مجاور؟ إن ذلك يستدعي منها (احتلال) هذه الدولة أو السيطرة عليها أو على حدودها على الفور لتبقى. وكما نعرف يفكر اليهود في مستقبل إسرائيل أكثر من تفكيرهم في الماضي وإن لم ينسوه، لأنهم يستمدون روايتهم وحركتهم الصهيونية منه، ولأن هزيمة ساحقة واحدة لإسرائيل كفيلة بالقضاء التام عليها والى غير رجعة. كما أن إسرائيل ليست طالب تاريخ غبياً فتسمح بتكرار تجربة نصارى شمال إسبانيا، الذين طردوا العرب والمسلمين الفاتحين منها ولو بعد ثمانية قرون، فالفلسطينيون حولها يمكن أن يصبحوا عشرات الملايين بمرور الزمن ولن تستطيع دولتهم (المزعومة) منعهم ـــ ولا تجرؤ ــ من اختراق الحدود لتقويض إسرائيل للعودة إلى وطنهم السليب، أفتسمح لهم بدولة على جنبها وتكرر غلطة العرب والمسلمين في الأندلس، أو مصير الصليبيين في هذه البلاد؟! مجنون يحكي وعاقل يسمع.

إن السياسة الاستراتيجية الإسرائيلية واضحة لكل مراقب ودارس وهي أن إسرائيل لا تريد أن يبقى فلسطيني موجود في فلسطين وفي هذه المنطقة بل وفي العالم لو تستطيع. تريده أن يختفي ويضيع ويتلاشى في الآفاق (فالقاتل يهمه التخلص من جثة الضحية) ولا تسمح ــ ما استطاعت ــ بقيام أو بإقامة دولة له في فلسطين أو في أي مكان في العالم ولو في أستراليا أو في فوكلاند أو فوق القارة القطبية الجنوبية، وهي ما تدل عليه مراقبتها الاستخبارية الدائمة لأنشطة الفلسطينيين في أنحاء العالم كافة. ومحنة السيد سامر العلاوي – مدير مكتب قناة الجزيرة في أفغانستان– أقرب دليل عليه.

هدف إسرائيل الإستراتيجي من هذه اللعبة جعل الفلسطينيين العدو المشترك لإسرائيل والعرب:

فتح الموضوع بين الحين والآخر من نواب ومعلقين وكتاب يهود والنق الإسرائيلي عليه هدفه شق الوحدة الوطنية وتغييب التناقض بين الأمة العربية وإسرائيل، وجعله بين الشعب الفلسطيني وأي شعب عربي لينتقل العداء العربي بعد ذلك من إسرائيل الى الفلسطينيين. . أي أنه بدلاً من بقاء إسرائيل هي العدو المشترك للعرب يصبح الشعب الفلسطيني – بهذا الطرح – هو العدو المشترك لهم. وبذلك تحقق إسرائيل نجاحاً استراتيجياً عظيماً، (وينقلب) الداد وأمثاله على ظهورهم من الضحك وهم يرون العرب منشغلين جداً به ومختصمين بسببه. مجنون يحكي وعاقل يسمع.

إن كل من يؤيد مثل هذا الكلام من الفلسطينيين والأردنيين والعرب يخدم هؤلاء وهو لذلك يخون القضية لو فكر فيه وسعى إليه لأنه يختلق تناقضاً بين الشعوب العربية مع أنه لا تناقض أبداً بينها . إن التناقض الوحيد القائم أو الواجب وبخاصة في هذا الجزء من الوطن العربي هو بينها وبين إسرائيل، وليس بينها وبين الشعب الفلسطيني أو الأردني أو السوري أو العراقي أو المصري... وإن بقاء الأردن (وغيره من الدول العربية) ومنعته واستمراره شاهد قوي دائم على الكارثة الفلسطينية التي تسبب بها قيام إسرائيل في فلسطين.

يهدف مثيرو هذا الموضوع من اليهود من ذلك ــ وقصتهم مع البقرة معروفة ــ إلى إثارة المشكلات بصورة دائمة في كل بلد فيه روح مقاومة أو فلسطينيون لاجئون أو مواطنون والتحريض عليهم لتطفيشهم في الآفاق، لأنهم يجدون من يصدقهم، ويبني على تصريحاتهم وكتاباتهم، ويفبرك الأرقام والأخطار والإجراءات ليدعم مزاعمهم ولا يلتفت إلى عكس ما يقوله أو يكتبه غيرهم منهم في الموضوع. لكن إسرائيل لا تعير انتباها ً – مثلنا – لما يكتب بعضنا عنها وحتى عندما يدعو إلى إزالتها وإلا لأقامت الدنيا علينا ولم تقعدها. إنها لا تعير ما يكتب العرب عنها انتباهاً لأنه بالعربية ولا يصل بعيداً: إلى الرأي العام في أوروبا وأمريكا .

شهادة إسرائيلية

في أحدث تصريح لوزير الخارجية الإسرائيلي الأكثر تطرفاً يمينياً أفيغدور ليبرمان يرفض فيه دعوة رفاقه إلى ما يسمى « بالخيار الأردني» أو «دولة فلسطينية في الأردن» قال: « إن هذا الطرح يسيء إلى إسرائيل،لأنه يتناقض مع القانون الدولي، ومع اتفاقية السلام الموقعة بين الأردن وإسرائيل سنة 1994م، وأهم من هذا أنه يمس المصالح الأمنية لإسرائيل.» وأضاف: « إن دولة فلسطينية تمتد على طرفي نهر الأردن ستكون متشددة ومتطرفة وتزعزع الاستقرار في المنطقة كلها وتسبب احتكاكات لا تتوقف مع إسرائيل» ( جريدة العرب اليوم في 17/11/2011).

ويقول الكاتب والمعلق السياسي الإسرائيلي المعروف إيتان هابر في صحيفة يديعوت أحرونوت (في 11/4/2012 (الغد في 12/4/2012) : « إن الثرثرة {الإسرائيلية} تسبب أضراراً حقيقية، فالناس يدفعون حياتهم وحريتهم مقابل ذلك». وبعد ان ضرب عدداً من الأمثلة على ذلك انتقل الى مثال الأردن ليضيف: « أو مثلاً قولهم: الأردن هو فلسطين وهذا تصريح لم يكن له أي فعل قبل سنين. وبين الفينة والأخرى يقوم رجل سياسي من المعارضين على الأكثر ويكرر هذه الحماقة.ولا يؤمنون في الأردن للحظة واحدة أن عضو كنيست إسرائيلياً يستطيع أن يقول شيئاً سخيفاً كهذا بغير موافقة السلطات. وهكذا يحظى كل نشيط ضئيل الشأن هنا بعناوين في صحفهم. إن من يعلن أن الأردن هو فلسطين يضعضع بسخافته استقرار المنطقة برمتها، والذين يظنون في إسرائيل أن الأردن هو فلسطين سيحظون بخراب البيوت».

من كان له عقل فليفكر في أجندات المثيرين لموضوع الوطن البديل وكأنه على الأبواب وكأنهم يتهمون الأردنيين من أصل فلسطيني، والفلسطينيين في فلسطين والشتات، بالعمل مع إسرائيل له.

«مشكلة بعض الأصوات المريضة أنها لا تريد الأردني من أصل فلسطيني أن يكون فلسطينياً في ذات الوقت الذي ترفض فيه أن يكون أردنياً، فإذا قال إنه فلسطيني يصر على استرجاع وطنه والعودة إليه قالوا إنه ناكر للجميل وليس لديه ولاء وانتما. وإذا قال إنه أردني قالوا إنه يدعو للتوطين والوطن البديل» (ياسر زعاترة في الدستور في 21/4/2012).

تناقضات

وعليه أستغرب بل أتعجب من الذين يعزفون على مقولة الوطن (السياسي) البديل، لأن بعضهم وهو يطالب بقوننة أو دسترة فك الارتباط الذي وضع نهاية للوطن (السكاني) البديل يؤيد في الوقت نفسه سحب جنسيات مواطنين أردنيين يحملون أرقاماً وطنية ولا يعملون في دوائر السلطة ولا تنطبق عليهم تعليمات فك الارتباط، وتحويلهم إلى وافدين بحجة حرصه التظاهري على عدم تفريغ فلسطين من أهلها، ولكنه قد لا يهتم إن فُرّغوا منها باتجاه آخر، أو يدعمهم إذا اخترقوا الحدود العربية لمقاومتها، ناسياً أو متناسياً أن هؤلاء القوم حصلوا على الجنسية والمواطنة الأردنية بالقانون منذ سنة 1949م وبالتأسيس بوحدة الضفتين والدستور بعد ذلك وبتعليمات فك الارتباط أخيرا، وأن لوحدة الضفتين الدستورية التي لم تدستر لتلغى او ليتنازل بالقوننة فيما بعد عن جزء من ترابها الذي يصطدم بالمادة الأولى من الدستور، ثم لضياع الضفة الغربية الأردنية منهما بواق سلبية فيها زائلة. لقد تحرك المواطنون الأردنيون في الضفة الغربية من المملكة إبان العدوان الإسرائيلي الغاشم والساحق سنة 1967 داخل وطنهم الأردن، فانتقل بعضهم لاجئاً أو نازحاً من الضفة الغربية الى الشرقية آملاً أن لا يطول بهم الغياب عن ضفة الوطن الغربية وفلسطين. وكانوا في تحركهم هذا أشبه بإبناء الجولات وبناته السوريين الذين لجأوا او نزحوا منه إلى مناطق سورية أخرى داخل وطنهم وظلوا هناك إلى اليوم».

كيف كانوا يفكرون لو جاء الأمر بالعكس؟

ترى ماذا كانوا سيقولون أو به يطالبون لو جاء التاريخ بالعكس : أي لو انتصرت الجيوش العربية على العصابات الصهيونية وقامت دولة فلسطين الحرة المستقلة وكان نحو ثلث مواطنيها أو نصفهم من أبناء البلاد العربية المجاورة وبناتها؟ لقد صح العزم من شعب فلسطين ولكن الدهر أبى. غير أنه وإن شكل سقوط فلسطين بيد العدو الإسرائيلي كارثة دائمة لأهلها أينما كانوا إلا أنها وفي الوقت نفسه شكلت أحد روافع النهضة في البلدان العربية ذات العلاقة المباشرة بالنكبة، مثَلَها في ذلك مثل سقوط القسطنطينية بيد الأتراك العثمانيين سنة 1453 الذي شكل كارثة لأهلها، إلا أنها كانت في الوقت نفسه أحد روافع النهضة الأوروبية اللتين لا ينكرهما إلا من كان في عينه رمد أو عمى، وفي قلبه شبم أو مرض.

فك الارتباط والجنسية

لقد مضى على فك الارتباط وتعليماته أكثر من عشرين عاماً تم فيها سحب جنسيات أو جوازات سفر كثيرين من أصل فلسطيني، واستقرت بعدها الأمور وتحددت جنسية من تحددت جنسيته وانتهى الأمر، وأن بعض الشكاوى التي تبرز تخضع للتعليمات والتسويات النهائية بموجبها. وأنه متعمد للفتنة لغاية شخصية أو فئوية ما، أو لكليهما، الادعاء بتجنيس آلاف الفلسطينيين بعد ذلك من غير هؤلاء أي بعد فك الارتباط. إن العكس هو الصحيح وهو سحب جنسيات من انضموا إلى السلطة وعملوا في أحد دوائرها. فما بالك إذا كان لا يفكر أحد في فلسطين المحتلة، أو في الضفة الغربية المعنية بذلك، بالنزوح أو بالهجرة، بعد التجارب المؤلمة والمريرة والإهانات التي لحقت بإخوانهم في أكثر من بلد عربي ممن اضطروا إلى النزوح إليها أو الإقامة أو العمل فيها، وإلا لتدفقوا على الضفة الشرقية من دولتهم إبان الانتفاضة الأولى 1987م، أي قبل فك الارتباط. إنهم مستعدون للموت على تراب وطنهم إن حاولت إسرائيل تهجيرهم. لقد خضعوا للتهجير القسري في الماضي ظنا ً منهم أنه مؤقت وأنهم عائدون بعد أيام أو أسابيع عندما سمعوا ثم رأوا الجيوش العربية تدخل فلسطين «للقضاء» على العصابات الصهيونية كما زعمت قبيل الهجوم، فظلوا لاجئين ونازحين مرتين بهزيمة الجيوش العربية مرتين. (أنظر في مقال /دراسة للكاتب بعنوان: « الحقيقة والخيال في موضوع البطاقات الصفراء والبطاقات الخضراء وما قبلهما وما بينهما في جريدة الرأي في 28/2/2012).

شهادة يابانية

يقول الأستاذ والأديب والمؤلف والمترجم والمستعرب الياباني نوبواكي نوتوهارا في كتابه: العرب:وجهة نظر يابانية (2003):» قبل ست عشرة سنة أقمت في سورية عشرة شهور متتالية. وفي دمشق طلبت من أحد الأصدقاء أن ياخذني ألى مخيم اللاجئين الفلسطينيين فقادني إلى مخيم اليرموك . وهناك زرنا بيتاً فلسطينياً على أطراف المخيم . لاحظت أن البيت مسقوف بمواد خفيفة ربما من التوتيا اوما شابه. استغربت الأمر وسألت صاحب البيت الخمسيني عن السبب فقال لي: « هذا بيت مؤقت. بيتي الحقيقي هناك في فلسطين نحن نسكن هنا بصورة مؤقتة وسنعود إلى ديارنا عاجلاً أم آجلاً. وإذا وضعنا سقفاً بشكل كامل فهذا يعني أننا ننتازل عن العودة. إننا نحتفظ بادراكنا أن هذا المكان مخيم.» كان عند الرجل شيء نفيس ليريني إياه. غاب قليلاً في غرفة داخلية وعاد معه مفتاح بيته في فلسطين. وقال وهو يعرضه أمامي: « كلنا نحتفظ بمفاتيح بيوتنا. نحن هنا بصورة مؤقتة». تلك الحكاية البيسيطة مشتركة عند عدد كبير من اللاجئين الفلسطينيين «.

لم يذكر أن اللاجئين الفلسطينيين في سورية تدفقوا بصدورهم العارية على الأرض السورية المحتلة في الجولان المدججة بالسلاح الإسرائيلي بمجرد أن أتيح لهم ذلك. وقد تمكن بعضهم من الوصول الى بلده يافا، مع أنهم يتمتعون في سورية بالحقوق المدنية والعسكرية كافة، ويعينون في دوائرها على الدور كالسوريين سواء بسواء منذ بداية النكبة إلى اليوم ومع هذا لا يعتبرون سورية وطناً نهائياً بديلاً.

قضية فلسطين لم تبق فقط قضية وطنية بل صارت قضية ثم إسلامية وأخيراً إنسانية قومية سورية الكبرى، وإلا ما ضحى المتطوعون العرب مثل المرحوم الشهيد عزالدين القسام... والمرحوم الشهيد سعيد العاص... والمرحوم فوزي القاوقجي... والمرحوم الشهيد كايد عبيدات... والمرحوم الشهيد وصفي التل... وشهداء السفينة التركية لفك الحصار عن غزة... وراشيل كوري وغيرهم وغيرها كثير، بحياتهم في سبيلها، أو من أجل عيون الفلسطينيين، أو لنيل رضاهم . كانت فلسطين في نظرهم جزءاً من وطنهم، أو من شعبهم السوري، أو القومي، أو الإسلامي، أو الإنساني، وأنهم مدعون للدفاع عنه وتقديم حياتهم فداءً له على هذا الأساس أو ذاك ، أي تلبية لنداء التزام داخلي قوي يعادل الحياة ، لم يكن يمن به واحد منهم على فلسطين. وكذلك كان الدافع القومي وراء ضغط الملوك والرؤساء العرب على الفلسطينيين لفك اضرابهم سنة 1936، وإرسال جيوشهم سنة 1948 ثم سنة 1967 لتحريرها من الاغتصاب الصهيوني.

لقد كانت قضية فلسطين قضية وطنية ( سورية الكبرى ) في الأساس، ثم عربية قومية فيما بعد ثم إسلامية، وأخيراً نسانية وإن ظلت كارثيتها مقصورة على الفلسطينيين. ويجب أن نفرق هنا بين الجنسية والتابعية القطرية فنقول إنه: لا يقدم ولا يؤخر في وضع القضية احتفاظ الفلسطينيين خارج فلسطين بالجنسية الفلسطينية ولا باكتسابهم جنسيات أخرى، فجنسية إدوارد سعيد الأمريكية وعبد الباري عطوان البريطانية لم تمنعهما من تكريس حياتهما للقضية. بالجنسية وحدها لا نستطيع تفسير انحياز غير الفلسطينيين وغير العرب وغير المسلمين للقضية أو إلى القضايا العادلة الأخرى، وإلا كيف نفسر موضوع المجاهدين الأفغان- مثلاً – من غير الأفغان؟. وكيف نفسر إقدام مئات النشطاء السياسيين الأوروبيين على القدوم إلى فلسطين عبر مطار اللد المحتل للتعبير عن رفضهم للاحتلال والاغتصاب؟!

نعم. يمنح الأردن العزيز– مشكورا ً ومُقدّراً– الفلسطينيين (المقيمين) في الضفة الغربية جوازات سفر – مجرد جوازات سفر– لا جنسية وبلا أرقام وطنية يتحركون بها ويتنقلون من بلد إلى آخر ويعملون، ولكنهم لا يقيمون بها في الأردن، أي لا يسمح لهم أبداً بالإقامة الدائمة أو بالعمل فيه. ولإصدار هذه الجوازات توجد إدارة خاصة بها في دائرة الجوازات والأحوال المدنية. ولو أن الأردن لم يفعل ذلك لخدمة أهل ضفته المحتلة لاتهُم بإجبار الفلسطينيين تحت الاحتلال ــ بعد فك الارتباط ــ على التعامل «الذليل» مع إسرائيل لترتيب أمور سفرهم وحركتهم إلى الخارج، لأنه لا يبقى لهم بعد ذلك منفذ للعالم غير الأردن (الحقيقة والخيال...).

عودة بالحيلة

مر وقت غير قصير على الاحتلال الإسرائيلي للضفة وهو يعطي تصاريح زيارة للفلسطينيين في الخارج عندما يقوم أحد من ذويهم في الداخل بطلبها. وقد كثر طالبوها والمستفيدون منها وبلغوا عشرات آلالاف وبخاصة بعد حرب الخليج الثانية التي أدت إلى خروج أو إخراج آلاف الأردنيين من الكويت. وكلنا يذكر كيف كانوا يقضون أيام وليال على الجسر ليلحقهم الدور للدخول. ولما عاد طالبوها (بالزيارة) إلى الوطن بقوا فيه ولزقوا هناك ولم يخرجوا على الرغم من محاولات إسرائيل إخراجهم، مما اضطرها في النهاية إلى الاعتراف بهم والى حصولهم على الوثائق اللازمة . ومنعاً لتكرار ذلك أوقفت إسرائيل بعد ذلك إصدار تصاريخ زيارة وقصرتها على الحاصلين على تأشيرة (فيزا) من السفارة الإسرائيلية في عمان أو القاهرة التي لا تُمنح إلا بالقطارة للسياح والتجار والمدعوين... وبعد التأكد من نية طالب التأشيرة عدم البقاء في البلاد بعد انتهاء المدة.

في لبنان

لا يذكر المدّعون بتواتر التجنيس في الأردن ولا يشيرون أبداً إلى تجنيس لبنان الفوري لجميع المسيحيين الفلسطينيين اللاجئين إلى هناك، ولا إلى وصولهم إلى المراكز العليا في الدولة: المدنية والأمنية والعسكرية، ولا إلى تجنيس الأرمن (مع احترامنا لذلك) ومشاركتهم في الحكم والفرص مع أن وطنهم مفتوح لعودتهم إليه، في الوقت الذي يحرم فيه اللاجئون الفلسطينيون في لبنان حتى الموت من العمل في أكثر من سبعين حرفة ومهنة « ويقمعون في بيوت لا تصلح للإقامة البشرية لا صيفاً ولا شتاء، فإذا كانت مياه المجاري تطفح في الخارج عبر القنوات المكشوفة، فإن أسطح هذه البيوت «تجاوزاً» لا تقي ساكنيها من المطر، حيث ألواح الزينكو المهترئة ، التي نعرف لاحقاً أنه لا يمكن إصلاحها أو تبديلها، تحت طائلة المسؤولية ، إلا ضمن إجراءات طويلة ومعقدة، فيما يبين لجان لبنانية فلسطينية مشتركة تحتاج الى وقت وجهد كبيرين. وبخلاف ذلك يتعرض صاحب « البيت» للغرامة والحبس إذا أعاد لوح زينكو طائر بفعل عواصف البحر الى مكانه (رسمي محاسنة: جريدة العرب اليوم في 21/4/2012عن الفيلم اللبناني: لاجئون مدى الحياة»).

ومع هذا يستمر هذا الوضع البائس على ما هو عليه ويزداد سوءاً حتى في عهد حكومة المقاومة التي يشارك فيها حزب الله.

لا ينبري المروجون لوهم الوطن (السياسي) البديل إلى شجب ذلك واستنكاره. ترى لو كان جميع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان مسيحيين أكان دعا أحد إلى حرمانهم من أكثر من سبعين عمل وحرفة ومهنة وحياة تليق بالإنسان، أو إلى رفض توطينهم؟ إنني أعتقد أنه قد لا يسمح لهم عندئذ بالعودة إلى وطنهم حتى وإن أتيح لهم ذلك بحجة امتناع حمل المواطن جنسيتين عربيتين في الوقت نفسه.

وكأنهم راغبون فيه:

يدعو كثير من الناس إلى رفض توطين اللاجئين الفلسطينيين في قطرهم،ويوجهون الحديث إليهم وكأنهم راغبون فيه على الرغم من أنهم قادرون على العودة ويرفضون. إن الحديث عن العودة وحق العودة يجب أن يوجه إلى إسرائيل لأنها المانعة لهما والقدارة على تنفيذهما إن أكرهت على ذلك، مما يجعل إقامتهم في المخيمات والمنافي دائمة ما استمر الاحتلال والاغتصاب الاسرائيلي لفلسطين. ولوضع نهاية له يجب لي ذراع إسرائيل أو كسرها لإجبارها على تنفيذ العودة أو حق العودة. ومن يقدر على ذلك فليتفضل ويلويها أو يكسرها.

يقول الإمام الشافعي:

«ومن نزلت بساحته المنايا
فلا أرض تقيه ولا سماء
وأرض الله واسعة ولكن
إذا نزل القضا ضاق الفضاء»
وقال آخر:
« لعمري ما ضاقت بلاد بأهلها
ولكن عقول الرجال تضيق»

لو كان (الأشقاء؟!) العرب كما يصفون أنفهسم صادقين مع أنفسهم لوضعوا اللاجئين والمواطنين الفلسطينيين، الذين ضُيع وطنهم كله بهزيمتهم مرتين، على رؤوسهم ورقصوا بهم تكفيراً دائماً عن هاتين الهزيمتين وما لحق بهم من عذاب وحياة بائسة في المخيمات منذئذ، إلى أن يهزموا إسرائيل ويستيعدوا الفردوس المفقود وينهوا الظروف القاهرة التي أجبرتهم على الهجرة والنزوح، ولعلموا الأجيال الجديدة منهم عن ذلك، كيلا تظن أن هؤلاء اللاجئين «حطّوا» بينهم باختيارهم بعدما (باعوا) وطنهم لليهود!!!

6.5? فقط طيلة 28 عاماً

لقد تمكن اليهود بفضل الانتداب البريطاني الصهيوني على فلسطين 1920- 1948م من الاستيلاء على نحو ستة ونصف في المئة فقط من أرض فلسطين كان معظمها أراض أميرية أو أراض باعها لهم إقطاعيون عرب من لبنان وسورية. ترى لو حل اليهود في بلد عربي آخر وكان تحت الانتداب البريطاني البلفوري والهجوم الصهيوني لإقامة وطن قومي لليهود فيه، أكانوا يحصلون على أقل من هذه النسبة ليتهم أهله بأنهم باعوا وطنهم لليهود ؟؟!!

لولا معاهدة وادي عربة

لقد قضت الحقائق السياسية الجديدة على نظرية (أو استراتيجية) الوطن البديل – المزعومة – بنوعيه السكاني (أي باختيار المواطن لمكان سكنه في وطنه كما كان عليه الأمر قبل الاحتلال سنة 1967م) بفك الإرتباط الإداري والقانوني الذي أوقفه ومنعه على الفلسطينيين في الضفة الغربية فيما بعد؛ وبالسياسي بمعاهدة وادي عربة التي أكدت ضمناً فك الارتباط أردنياً وإقليمياً ودولياً ودفن فكرة الوطن البديل كما يؤكد دوماً دولة الدكتور عبد السلام المجالي، ولكن بعض الناس عن نظرية الوطن (السياسي) البديل لا ينزلون.

وعليه يؤسفني أن أبيّن – وإن كنت شخصياً لا أعترف بحق إسرائيل (وليس بحق اليهود) بالوجود – أنه وقد وقعت معاهدة وادي عربة، فإنه يجب توظيفها لمناكفة إسرائيل بها من مثل رفعها في وجهها إن حاولت يوما ً إبعاد فلسطيني واحد إلى الأردن، الأمر الذي لم يحدث منذ توقيعها أو حاولت اللعب على الأرض الأردنية. كلنا يذكر كيف اضطرت إسرائيل (ونتنياهو نفسه) تحت تهديد جلالة الملك حسين في حينه بإلغاء المعاهدة ما لم تقم إسرائيل على الفور بإرسال الترياق فوراً إلى عمان لإنقاذ حياة خالد مشعل – زعيم حماس – عندما قام عملاؤها بتسميمه على أرض الأردن. إن الحقيقة (المرّة) لهذه الاتفاقية تبين أنه لولاها (لألقت) إسرائيل بالفلسطينيين بالقوة الغاشمة ــ إن لم يموتوا على أرضهم مقاومة لها – دفعة ً وراء أخرى في دولة الأردن (المعادية) – وعلى الرغم من فك الأرتباط – كما كانت تفعل قبلها. ولكن المعاهدة تكبّل يد إسرائيل وتمنعها من ذلك، مما يجعلها تلجأ إلى إبعاد الفلسطيني الواحد – ابن الضفة الغربية – الى قطاع غزة أو العكس،وتحتفظ بآلاف السجناء الفلسطينيين في سجونها. إنها لا تستطيع أن تبعدهم الى مصر بسبب معاهدة كامب ديفيد، ولا إلى سورية لأن جبهة الجولان آمنة، ولا إلى لبنان تجنبا ً لاستفزاز بعض الطوائف المحسوبة عليها.

وبما أن الأمر كذلك فلا ضرورة للمزايدة على الأردن ومطالبته الآن بإلغاء المعاهدة والتصدي لإسرائيل وكأنه يستطيع (لوحده) التصدي لها بالقوة العسكرية الهائلة التي يملك وعلى إرغامها على الانسحاب من فلسطين وتنفيذ حق العودة الذي يتحول عندئذ الى واجب، ولا إلى اتهامي غداً من مبتسر أو مغرض بالدفاع عن المعاهدة.. تباً للأيام أو لهزيمة 1967 التي جعلتنا نرى بعض الجوانب الإيجابية للمعاهدة ونطالب بقوننة فك الارتباط أي بانتهاك الدستورأو بتعديل له يسمح بالتنازل عن جزء من تراب الوطن، فالمادة الأولى منه تنص على ما يلي: « المملكة الأردنية الهاشمية دولة عربية مستقلة ذات سيادة ملكها لا يتجزأ أو لا ينُزل شيء منه ...» إنني على يقين من أن جلالة المغفور له الملك الحسين قد حقق ودقق بعد قرار القمة العربية في الرباط بالفك، فكان المخرج الوحيد هو (قرار) فك الارتباط المعروف (1988).

لنفرض أن مسألة الوطن البديل محلولة

لنفرض للحظة أن المسألة محلولة كما يفعلون في تعليم حل المسائل الهندسية المعقدة: فكيف سيكون الحلّ؟ أيهجم «الفلسطينيون» على الوطن المستهدف ويستولون عليه سلميا ً أم بالقوة ولكن من أين تأتي القوة؟ من إسرائيل؟ كيف؟ هل تحتل إسرائيل الأردن أو سيناء أو لبنان ثم تسلمه للفلسطينيين؟ وهل تدير ظهرها بعد ذلك أم تبقى فيه لتمكينهم منه؟ كيف ستضمن ولائهم لها على مدى الأزمان القادمة؟

هل توجد منظمات أو فصائل فلسطينية مسلحة أو مستوطنات فلسطينية تعد في أي بلد عربي لهذا اليوم؟ إن معظم الفلسطينيين لاجئون يعيشون في مخيمات كئيبة متفرقة هدفها السلامة (البحتية) والأمان مع الدول المضيفة. أما بقية «الفلسطينيين» فموزعون دون أي ترتيب مسبق أو راهن في طول البلاد وعرضها ولا يعرف بعضهم بعضاً، ولا يسعون لمثل هذا العمل الجبان والخائن والمدمر لبلدانهم العربية. إن أي بلد معني بوهم الوطن (السياسي) البديل لديه ما يكفي من القوى العسكرية والأمنية لإحباط مثل هذه المحاولة الخائنة إن أطلت برأسها، على الفور.

أما الادعاء – المعرقل للاندماج الوطني– بأن الانتخابات الممثلة للثقل السكاني أو الديموغرافي واحتمال انتاجها الوطن البديل فباطل، تروج له قوى الشد العكسي للاصلاح والديموقراطية او القوى الحائزة بالتفصيل الانتخابي او الكوتا على مقاعد برلمانية أكبر بكثير من نسبتها الديموغرافية، لأن الناخبين لا ينتخبون المرشحين على أساس المنابت والأصول ــ ربما أو سوى في الدوائر الانتخابية الضيقةــ بل على أساس الرسالة القوية التي يحملونها في انتخابات تمثل إرادتهم الحقيقية؛ والتي لا يمكن أن تدعو أبداً إلى الوطن البديل أو توحي به، وإلا ما انتخب المقدسيون سنة 1956 ممثلاً كركياً مسيحياً لهم في مجلس النواب. وعليه يمكن أن يفوز مرشح قوي من منبت س في دائرة من منبت ص أو بالعكس ولا أريد ذكر أسماء تجنباً للإحراج. كما لا يمثل النائب دائرته، بل الشعب كله حتى وإن مثل حزباً... أو فاز بالكوتا. من تجارب شعبهم في الشتات يفضل الغرب أردنيون أن يمثلهم شرق اردنيون لأنهم أقدر على حل مشكلاتهم وتظلماتهم الاجتماعية والرسمية العادلة في الدوائر الرسمية والمجتمع.
في كل دولة وداخل كل شعب أو مجتمع توجد هوية عامة مشتركة وهويات فرعية كثيرة. وتبرز الهوية العامة عند الجميع عندما يكون الخطر أو التحدي عاماً أو مشتركاً كالخطر الصهيوني، أو التحدي الرياضي الخارجي – مثلاً – من مثل وقوف الجميع ضد تهويد فلسطين أو وراء المنتخب الوطني لكرة القدم في مبارته ضد منتخب آخر، وبرزو الهويات الفرعية في المباريات بين الفرق المحلية كالوحدات والفيصلي، والفيصلي والرمثا وهكذا. وهي استجابات طبيعية يجب أن لا تزعج أحداً ما دامت سيكولوجية أو سلمية.

يقول المفكر الأردني الحر الأستاذ محمد أبو رمان في هذا الصدد: « الخطر المحيط بنا يكمن في انهيار قيم الدولة والمواطنة والإصلاح ، وارتفاع منسوب العنف الاجتماعي والجامعي وصعود الهويات الفرعية القاتلة، التي تدفع بالمجتمع إلى مرحلة بدائية، بدلاً من أن نتقدم بخطوات ثابتة إلى الأمام نحو دولة ديموقراطية تحترم المواطنين والكل فيها يعرف ما هي حقوقه وواجباته» (الغد في 17/4/2012). وربما لمثل هذا يدعو أحد المفكرين وهو جان برايسمنت الأستاذ في جامعة لوفين في بلجيكا ــ إلى توسيع مفهوم العلْمانية وبحيث تشمل فصل الهويات عن السياسة أي إلى عدم تسييس الهويات» (CP.Vol.19,No.6 of March 16-31, 2012) وكأنه يدعو إلى اعتماد المواطنة فقط بدلاً من ذلك.

لعل كثيراً من الاشكالات والمشكلات والمخاوف ناجم عن الغائب عن المسرح منذ اكثر من خمسين سنة وهو التربية الديموقراطية في المدرسة والجامعة والإعلام والخلق السياسي والثقافي النزيه، التي يمزق غيابها المجتمع ويشوه رؤيته للمستقبل الذي يتمنى التقدم اليه.

لقد حل الفلسطينيون في الشتات محل اليهود في الشتات، فلا يسمح لهم أو يجب أن لا يسمح لهم أو أن يفكروا في دولة فلسطينية لهم خارج وطنهم الأصلي فلسطين ، لينحصر تفكيرهم الأبدي – كاليهود – في العودة إليه. لو صار لليهود في الشتات وعلى مدى أكثر من ألفي سنة دولة على أرضِ ما، لما فكروا بالعودة الى ما يدعون أنه ارض الميعاد، أي لما قامت إسرائيل، مع أنهم كانوا يتمتعون بالمواطنة الكاملة أو أكثر وبالجنسية التامة (مع الاحتفاظ بولائهم لإسرائيل بعد قيامها) حيث يوجدون.

الوطن البديل يعني احتلال إسرائيل له فوراً

ولنفترض جدلا أن الوطن (السياسي) الفلسطيني البديل قام أو أقيم في بلد ما مجاور لفلسطين المغتصبة فإن المتوقع رد إسرائيل على ذلك باحتلال هذا البلد فوراً، أو السيطرة على حدوده كافة (مثلما هي فاعلة بقطاع غزة) من أجل منع تدفق الأسلحة حتى وإن كانت بدائية اليه، فهي لم تغتصب فلسطين وتشرد اهلها لتسمح لهم باقامة دولة لهم على حدودها يصعب السيطرة عليها وتهديد بقاءها، ولأن المقاومة عندئذ ستتضاعف عدداً وعدّة ً وتتسع بعد احتلال إسرائيل الوطن «البديل» لأن الشعب «الأصلي» والشعب «البديل» سيصبحان شعباً أكثر وحدةً تحت احتلال واحد، مما يعجزها عن التصدي لهذه المقأومة الواسعة والمضاعفة في جغرافيا وشعبية مؤاتية لها، وليس كما هو حاصل في رقعة فلسطين الصغيرة المغتصبة والمطوقة من الجهات الأربع بل الست. إن الوطن (السياسي) البديل الذي يبدو للبعض أن إسرائيل تريده يعني ــ حسب ادعائهم ــ أنها ستقف إلى جانبه وتحميه عندما وكلما يثور الشعب «الأصلي» عليه، فهل هذا تفكير سليم؟

نعم، إن الخطر الصهيوني الإسرائيلي على جميع البلدان العربية قائم أبدا ً، وبخاصة الواقعة منها بين الفرات والنيل، كل حسب قربها أو بعدها من المركز مما يجعل الاحتلال أو الاغتصاب الاسرائيلي لها وتهجير أهلها محتملا ً أبدا ً، وربما أيضاً لدفع الفلسطينيين فيها بعيدا ً جدا ً عنه: إلى إيران أو إلى تركيا... وليس إلى الأردن أو سورية أو لبنان أو العراق، أو السعودية التي تذكرت جولدا مائير الإشارة إليها بزهو وخيلاء بعد انتصارها في حرب سنة 1967م حين قالت : «إنني أشم رائحة أجدادي في خيبر». و إذا كان الأمر كذلك فيجب أن يكون الحديث والتنبيه عن الخطر الصهيوني الإسرائيلي الدائم على الجميع، وضرورة الاستعداد الوحدوي الوطني (والقومي) للتصدي له، بالمحافظة الاستراتيجية على التناقض الوجودي بيننا وبين العدو، لا بين شعب عربي وآخر.

ونكرر القول فنقول: إن الهدف من مقولة إسرائيل أو الاسرائيليين أن الدولة الفلسطينية قائمة بالفعل في الأردن هو كما ذكرنا سابقاً: تحريض الشعب الأردني على الشعب الفلسطيني وخلق تناقض وجودي بينهما وإطهاره وكأنه على وشك إقامة هذا الوطن (السياسي) البديل. إنها تعمل كل شيء ليتحوّل الشعب الأردني (أو اللبناني أو المصري...) إلى شريك لليهود في كراهية الشعب الفلسطيني وإلى خلق تناقض وجودي بينهما وكانه فعلا عدو مشترك لهما والوطن البديل على الأبواب، وإن كثرة النفخ في هذا الموضوع وعلكه اليومي كفزّاعة في وسائل الإعلام، وكلما دق كوز الداد أو غيره بالجرّة، يجعله عاديا ً كما احتلال العراق أو حصار قطاع غزة أو تهويد القدس... أي لا يثير أصداءا ً إذا وقع (ولن يقع) وبعكس ما يدعو إليه ويحذر منه المفكرون (الاستراتيجيون؟؟؟) اليوميون في الموضوع . كما أنه سيدفع المهدَدين (بفتح الدال) بهذا الطرح إلى الالتحاق بالإسلاميين لأنهم فيه كثيراً لا يعلكون ولا له يومياً يطرحون.
إن هلوسة أو فزاعة الوطن البديل تتضمن الإيحاءلأصحاب الرؤوس الحامية باستعداء منبت على آخر وحكمه والتحكم به تمهيداً لحرمانه من جملة حقوقه الأساسية.

نراهن على الشعبين

إننا نراهن أولاً وأخيراً على الشعب الأردني المقدام والأصيل والقومي النبيل في عدم الانجرارإلى هذا الوهم والوقوع في فخه والانشغال فيه، فهو يمؤمن بقدسية تحرير فلسطين ومستعد حالاً بل أبدا ً للتضحية في سبيل ذلك. ولمَ لا وهو توأم الشعب الفلسطيني وكانت القدس والضفة الغربية جزءاً منه. لقد كانت مشاركة الشعب الأردني بجهاته وفئاته كافة في العمل الفدائي بعد الخامس من حزيران 1967 لافتة للنظر. ولكن الظروف والسلوكات التي أحاطت بالعمل الفدائي أجبرت الكثيرين على التخلي عنه، ولا يجوز وضع ما وقع عام 1970م من أحداث سيئة بسببه على الطاولة كلما تحدثنا عن المستقبل. لقد تجاوزنا تلك الأحداث المؤلمة منذ زمن ولا يفيدنا الاستمرار في تسييس التاريخ. كما نراهن – ثانياً– على الشعب الفلسطيني الذي لا يوجد فيه فرد، أو حزب ، أو تنظيم يفكر في الوطن السياسي (البديل) أو يعمل له سراً أو علناً كما ذكرنا. وإذا (ثبت) أن الوطن السكاني (بالتهجير) و(السياسي) البديل استراتيجية إسرائيلية، فلا معطل لها سوى الوحدة الوطنية والعربية والقوة الحاسمة، وليس استعداء طرف فيها على الآخر، وهو المطلوب إسرائيليا ً على الدوام. وفي جميع الأحوال يجب على الفلسطينيين لاجئين ومواطنين وأينما كانوا تبديد أية مخاوف تنشأ عند أشقائهم بالا نتماء الصادق للوطن والولاء الأمين لشعبه ونظامه.

نذكر ونعيد تذكير الذين لا ينفكون عن التهويل بالوطن البديل أنه وهم وأنه لعبة إسرائيلية مكشوفة .لطالما دعى جلالة الملك إلى اغلاق الحديث في هذا الموضوع لأنه مجرد وهم، وأن الأردنيين من المنابت والأصول كافة وكذلك بقية الشعب الفلسطيني في فلسطين المحتلة وغيرها حريصون أشد الحرص على سلامة الأردن دولة وشعباً ونظاماً، وأن الأردن هو الأردن وفلسطين هي فلسطين.

الواجبات أولاً

أما بالنسبة للحقوق والواجبات فيجب أن لا يطالب بها أحد أو طرف أو جماعة على أساس الأكثرية والأقلية أو القوة والسلطة أو الأصل والمنبت ، بل على أساس المواطنة وحقوق الإنسان فهما السبيل الآمن والأمين الى الوحدة الوطنية والمناعة السياسية والنماء والإزدهار، لأنها تلزم الجميع بواجباتهم أولاً، وتضمن للجميع حقوقهم ثانياً، وبذلك يزول شبح التهديد من الخطاب. كما ينبغي عدم ربط المواطنة بالغاطس (البعد) الزمني، لأنه غير ممكن بعدئذ التوقف عند تاريخ ٍ معين، ويجعل معظم المواطنين مهددين به وغير منتمين، فاللأسف حاول جميع مؤرخي العشائر والعائلات العربية في الأردن وفلسطين إثبات نسبتها إلى جزيرة العرب، وكأن هذه البلاد كانت خالية من البشر قبل الفتح العربي الإسلامي مع أنها كانت تعج بهم وبدولهم من العمونيين والأراميين والكنعانيين والفينيقيين والأنباط ... ولكن كثيراً من هؤلاء تحولوا بعد الفتح العربي الى عرب بالثقافة أو الى موالٍ لعائلات وقبالئل عربية اتخذوا اسمها بعدما فازت بحكمهم. أفيقوا أيها المؤرخون الشفويون فهذا ما تقوم به إسرائيل ومؤرخوها لاثبات أننا طارئون على أرض «التوراة أو الميعاد».

لقد تغير العالم كثيراً اليوم وإن كان لا يزال قطب واحد يهيمن عليه . لقد صارت الصين والهند أقرب إلى إسرائيل من قربهما إلى العرب، وبما أن بناء قوة قطرية عربية مكافئة عسكرياً لإسرائيل عملية صعبة أو طويلة المدى، فإن البديل لذلك أو الحلّ ما بقيت إسرائيل تلوك الماء، وأمريكا تزودها به، هو الوحدة الوطنية والعربية، أو تهديد إسرائيل ومن يحميها بلبننة المنطقة أو بأفغنتها (باستباحة خطوط الهدنة والحدود) لسنة أو سنتين فالشجاعة صبر ساعة، أو بالسماح لجماهير (اللاجئين) الفلسطينيين ومؤيديهم بالزحف الاستشهادي الشامل ومن جميع الجهات نحو الوطن المغتصب لتحريره إذا ركبت إسرائيل رأسها وحاولت فرض الوطن البديل، فعندئذ لن تبقى إسرائيل ولن تدوم، وبأسرع ما يظنون.