مركز الرأي للدراسات
اعداد : د. جودت مساعدة
شباط 2012
أما وقد تمت هيكلة رواتب الموظفين بموجب نظام الخدمة المدنية المعدل رقم 52لس2011نة وبدأ العمل به من تاريخ 1/1/2012 وشمل جميع الموظفين العاملين بالدولة باستثناء القضاة وموظفي البنك المركزي والجامعات الرسمية والمؤسسة الاقتصادية والاجتماعية للمتقاعدين العسكريين والمحاربين القدماء وموظفو السلك الدبلوماسي, وأدلى معالي وزير تطوير القطاع العام الدكتور خليف الخوالدة في تصريحات وندوات ولقاءات مختلفة, أن إعادة هيكلة الرواتب مشروع إصلاحي وليس مجرد زيادة رواتب وإن الأهداف من تطبيقه هي لتوحيد مرجعية (111) وزارة ومؤسسة ودائرة في الدولة يخضع منها (64) لنظام الخدمة المدنية و(47) يخضعون لأنظمة وظيفية خاصة بهم وإزالة ما أمكن من التشوهات الموجودة في سلم الرواتب وأنظمة إدارة الموارد البشرية بنسبة (70% - 80%) وزيادة أو تحسين رواتب موظفي الدولة 1/1/2012, وأشير إلى أن رواتب المتقاعدين المدنيين والعسكريين والضمان الاجتماعي ورفع الحد الأدنى لأجور العمال تخضع لقوانين التقاعد المدني والعسكري والضمان الاجتماعي والعمل وبناءً عليه فإننا لن نتطرق لتلك الرواتب والأجور.
وبالرجوع للنظام المذكور, نجد أنه اشتمل على (32) مادة, جاءت معدلة أو مضافة لنظام الخدمة المدنية رقم 30لس2007نة والذي عدل (9) مرات من تاريخ صدوره, واهم ما تضمنه التعديل الأخير تحديد المستويات والدرجات والرواتب الأساسية والزيادة السنوية والعلاوات وبدل التسكين لموظفي الفئات الأولى والثانية والثالثة بالإضافة لشاغلي وظائف المجموعة الثانية من الفئة العليا, كما تضمن التعديل كيفية التعامل مع الزيادات السنوية بالإضافة إلى زيادة قيمة بعض العلاوات وشروط منحها وإلغاء مكافأة نهاية الخدمة والتي كانت واردة في عدد من أنظمة الموظفين لعدد من الدوائر المستقلة قبل نفاذ النظام واستمرار العمل بصناديق الادخار المعمول بها قبل نفاذ النظام وتخفيض مساهمة الدائرة على أن لا تتجاوز نسبة (5%) من الراتب الأساسي للموظف والاستمرار في إشراك الموظفين في صناديق الإسكان الذين كانوا مشتركين بها قبل تاريخ 1/1/2012.
إن ما أوردته أعلاه ليكون مدخلاً للتعرض للأسباب الموجبة لهيكلة رواتب الموظفين وتأثيرها وانعكاساتها على الأداء الوظيفي والبحث في هذا الموضوع بمهنية وحيادية وبإنصاف, ويتطلب ذلك التطرق للوظيفة العامة والموظف والأحكام العامة للرواتب وأثر الراتب على فاعلية الإدارة والتشريعات الوظيفية ونجاعتها وأخيراً نتساءل هل أن هيكلة الرواتب ستؤثر على الأداء الوظيفي للموظفين وتحسنه وتطوره, أم أن ذلك يحتاج إلى تطبيق التشريعات الوظيفية المطبقة حالياً بعدالة ونزاهة وحزم أو يتطلب تدخل المشرع لإجراء التعديلات التشريعية اللازمة, ليصار إلى تحديث وترشيق أداء موظفي مؤسسات الدولة المختلفة مقابل الحقوق المقررة لهم وذلك بما يصب في مصلحة الوطن والمواطن؟ وسنتناول ذلك بالشكل التالي:
أولاً: الوظيفة العامة والموظف
الوظيفة سابقة للموظف وتبقى بعد استقالته أو تقاعده أو وفاته وهي أمانة يحملها القادرون ويرد عنها المغمورون العاجزون وإن الموظف للوظيفة وليست الوظيفة للموظف وهي ليست شكلاً من أشكال المعونة الاجتماعية, بل هي خدمة عامة وإن القصد منها تشغيل الموظفين بالدولة لتسيير المرافق العامة فيها والجهاز الوظيفي بالدولة هو عقلها المفكر وأداتها التي تعمل وعينها التي لا تنام وإن فاعلية النشاط الحكومي وقدرة الإدارة على تقديم الخدمات بكفاءة واقتدار يتوقفان على مدى كفاءة الموظف ونزاهته وصلاح الدولة أو فسادها مرهون بصلاح الموظفين وفسادهم, وأن المحافظة على هيبة الدولة لا يتم إلا من خلال المحافظة على هيبة ووقار الوظيفة العامة والقائمين عليها ولا قيمة للوظيفة بدون الموظف, إذ أن الموظف هو أداة الوظيفة ووسيلتها يتفرغ للقيام بمهامها ومسئولياتها وأن عمله ليس بالمجان أو تبرعاً ويتطلب هذا التفرغ حصول الموظف على حقوق وظيفية عديدة من بينها حقوقه المالية وفي مقدمتها الراتب وأن الراتب هو حق للموظف وليس صدقة ومن أهم حقوقه المالية ويدفع للشيخ لقاء ما قدم وادَّخر لدى الدولة في شبابه وحقٌّ للطفل كقرض في حاضره يوفيه في مستقبله وحق للعاجز يدفع بمقتضى صناديق التقاعد والتأمينات الاجتماعية وهو من أهم ما يجب أن توفره الإدارة لموظفيها, الراتب الذي يستطيع الموظف من خلاله وبه إشباع حاجاته ومتطلباته ومتطلبات أسرته, حيث أن الراتب يولد أحياناً لدى الموظف تحصين ومناعة من انتقال الأمراض الوظيفية وجراثيمها إليه, والراتب العادل من المفروض أن يكفي الموظف وعائلته ويعيشوا به حياة كريمة طيلة حياته الوظيفية وبعد إحالته للتقاعد أو الاستيداع لأن كرامة الوظيفة من كرامة الموظف, ولا تحقق الإدارة الفاعلية إلا بتحقيق أمور ومتطلبات عديدة من بينها رعاية الموظف وحمايته وتحقيق الأمن النفسي والوظيفي له ولافراد عائلته واطمئنانه على حقوقه ويومه وغده ومستقبله وبدون تحقيق ذلك لا يكون بمقدور الإدارة تحقيق وإشباع حاجات ورغبات المواطنين والتي هي في مقدمة مهامها ووظائفها وواجباتها وهذا كله في حال تحقيقه من المفروض أن يوفر الراحة النفسية للموظف ويزيد من عطائه وتفانيه لعمله ويمكن القول أنه يتعذر على الإدارة النهوض بواجباتها في غياب توفير الأمن الوظيفي للموظف بمعناه الشامل, إذ لا يمكن لها تحقيق ذلك من خلال موظفين محبطين ومقهورين وغير حاصلين على حقوقهم حتى لو كانت منقوصة أو يشعرون في غياب العدالة والمساواة, لكون الموظف المحبط او المقهور والمسلوب الحقوق اشد خطراً على الدولة من أعدائها في الخارج.
ثانياً: الأحكام العامة للرواتب
كل بلد تمنح مرتبات لموظفيها طبقاً لمواردها ومفاهيمها السياسية وكفاءتها أو قدرتها على تعيين الموظفين, ولكن قرار المنح يجب أن يكون مؤسساً على أفكار ناضجة ومدروسة, تأخذ في اعتبارها كل الوقائع المخاطر التي تضمنها, ويتوجب على الإدارة عند وضع سياسة عامة للراتب التوفيق بين مصلحتين وهما مصلحة الوطن ومصلحة الموظف, وإن هاتين المصلحتين يحكمهما الأوضاع الاقتصادية, فكلما تحسنت ميزانية الدولة يتوجب وبصورة تلقائية على الحكومة مراجعة الرواتب ورفع قيمتها, كما عليها أن تعيد النظر في الرواتب في حال انخفاض القوة الشرائية لعملتها الوطنية, وذلك للمحافظة على مؤسسات الدولة المختلفة ومنتسبيها, تفادياً من حصول الانحرافات والخروج عن الواجبات الوظيفية بسبب تراجع مستوى الحالة المعيشية للموظف والذي ينعكس سلباً على خطط وبرامج الدولة المستقبلية.
إن وضع سياسات واضحة المعالم للرواتب يتوجب ان تكون مستمدة من الواقع, وبعد إجراء الدراسات والمسوحات الميدانية اللازمة لكافة شرائح الموظفين وكوادرهم وطوائفهم المختلفة وقيمة الكلفة المعيشية للمواطن, بحيث يستطيع تحقيق العيش الكريم فيحافظ من خلالها على نفسه وعلى افراد أسرته وحياتهم المعيشية والصحية والتعليمية وغيرها, ولتحقيق ذلك لا بد من إشراك الدوائر المعنية في هذا الموضوع والاستئناس بآراء المختصين في هذا الميدان, والرواتب تحدد وفقاً للفئة والدرجة الوظيفية, كما يراعى عند تحديد الراتب, المؤهلات العلمية والخبرات العملية للوظيفة وطبيعة وظيفته ومسئولياتها وأهميتها وحاجة السوق لها ودرجة خطورتها, كما لا بد وأن يتناسب الراتب المحدد للوظيفة مع حاجات الموظف التي تجعله يعيش حياة كريمة, ويجب أن تراعى العدالة في تقرير المرتبات الخاصة بكل مستوى وظيفي, فيتم تحديد المرتبات على أساس المسئولية الوظيفية وواجباتها ومستوى صعوبتها, بحيث تتساوى المرتبات عند تساوي هذه العوامل, مما يتوجب على المشرع وكما أسلفت أن يتدخل بصفة دائمة لزيادة المرتبات كلما ارتفعت تكاليف المعيشة, للوصول إلى معادلة عادلة تحقق التوازن بين المرتبات ومستوى المعيشة ليتفرغ الموظف لأداء عمله بمهنية عالية ناشئة عن قناعة ورضا, وإننا نرى أنه يتوجب على المشرع بل أن ذلك من صميم مهامه, أن يكون حريصاً ويقظاً عند تحديد الرواتب, ويحددها بعيداً عن الهوى والمحسوبيات بحيث يراعى عدم وجود فوارق بين طوائف الموظفين المختلفة, إلا إذا توافرت أسباب مبررة لذلك وأن لا توجد فوارق بين رواتب موظفي القطاع العام والقطاع الخاص بالدولة, حيث بوجود مثل هذه الفوارق الشاسعة تؤدي إلى انتقال العديد من موظفي القطاع العام للعمل في القطاع الخاص, مما يشكل ذلك اختلالاً في القطاع العام بالدولة, ولا بد من التأكيد إلى أن وحدة التشريعات الوظيفية في الدولة تبسط الأمور وتحقق المساواة بين الموظفين, وإن المساواة هي ضرب من ضروب العدالة, ولا تكون المساواة واجبة إلا إذا تساوت الظروف والشروط وأن التمييز بين الوظائف قد يكون أساسه المرتبات والتي تختلف من وظيفة إلى أخرى, وأن ذلك لا يعتبر إخلالاً بمبدأ المساواة بين موظفي الدولة, حيث أن المساواة أمام القانون ليست مسألة حسابية, وأن المساواة هي عدم المساواة بين غير المتساويين, بينما عدم المساواة هي المساواة بين غير المتساويين, وإن المشرع يملك بمقتضى سلطته التقديرية وتحقيقاً للصالح العام وضع شروط موضوعية تتحدد بها المراكز القانونية التي يتساوى بها الأفراد أمام القانون.
ثالثاً: أثر الراتب على فاعلية الإدارة
إن الدور الاجتماعي للراتب، مكانه الطبيعي في النظام الرأسمالي، إذ أن الراتب الذي يتقاضاه الموظف، له دور وقائي في المجتمع، حيث أن توفير الدخل العادل للمواطن وأسرته، يساعد على إعداد وتهيئة جيل من المواطنين مؤهل لمواصلة بناء المجتمع، بعيداً عن الوقوع في المزالق والانحرافات، والتي تكون في أحايين كثيرة معاول هدم للأوطان وإنجازاتها وإدخاراتها، وإن الدول المتقدمة والنامية تساهم إلى جانب ذلك بما يسمى بالأجر الاجتماعي، ويقصد به جميع المدفوعات التي تظهر بجانب الأجر المباشر لإشباع الحاجات الاجتماعية للعاملين، وهي حق للعاملين شأن المرتب المباشر في البلاد التي تضع الحد الأدنى للأجور والمرتبات على أساس ميزانية الفرد العامل لا الأسرة، وهو على سبيل المثال التأمينات الصحية والتعليم وغيرها، وهذا يساعد ويعين الموظف على إنفاق راتبه في مجالات أخرى، تصب في دفع عجلة التقدم للوطن وزيادة إنجازاته، وذلك من خلال توفير الظروف النفسية التي تساعد الموظف على القيام بواجباته الوظيفية.
وتفريعاً على ما تقدم، يمكننا القول بأن للراتب دور إصلاحي ووقائي وعلاجي، كما أنه يساهم في تحريك العجلة الاقتصادية في الوطن والمساهمة أيضاً في عملية التنمية والمساعدة في إيجاد فرص عمل للعاطلين عن العمل والتي تتحول إلى قوة شرائية، حيث أن الموظف من خلال جهده، يكون منتجاً للدخل والثروة، وإن هذا الدخل يوزع للاستهلاك والاستثمار، وأن الاستهلاك يتم من خلال الرواتب التي تدفعها الدولة للموظفين، كما أن الاستثمار يوزع كأجر اجتماعي تستفيد منه شرائح عديدة من أبناء المجتمع وبالشكل سالف الذكر, ولا بد من الإشارة إلى أن الموظف إنسان قبل أن يلتحق بالوظيفة والمرافق العامة للدولة بدون الموظفين لا تعمل، وإن النفس البشرية بطبيعتها هي مجموعة من الأحاسيس، تتطلب توافر الظروف النفسية والمعيشية المناسبة لها، لتذليل العقبات وتجاوز الصعوبات، وأن الإنسان مهما كانت درجة ثقافته، فإنه يتأثر ويؤثر في المكان الذي يعيش فيه.
ولما كان الموظف للوظيفة وليست الوظيفة للموظف،فإنه لا قيمة للوظيفة بدون الموظف , والموظف لا يعمل بالمجان أو تبرعاً في أداء أعمال وظيفته, بل أنه يتقاضى راتباً مقابل انقطاعه للعمل بوظيفته وتفرغه للقيام بمهامها، وإذا توافرت للموظف البيئة الوظيفية المناسبة والأمن الوظيفي، والعدالة بين الموظفين ويتم توزيعها بينهم بشفافية ووضوح بعيده كل البعد عن الشخصنة والمحسوبيه والشللية والجهوية والفئوية والطائفية والقبلية، فإن ذلك يزيد الموظف عطاء وإخلاصا وشفافية بالعمل، وهذا لا يتأتى إلا من خلال إدارة وطنية واعية ومنتمية ومؤهلة وزجاجية شفافة هدفها الأول والأخير بناء الوطن وأن تكون منحازة ومتعصبة إليه على أسس وقواعد متينة مؤسسة على سيادة القانون والمصلحة العليا للوطن والمواطنين، تحت مظلة ورقابة قضاء عادل وحر ومحايد ومستقل, ولتحقيق ذلك لا بد من رعاية الموظف وحمايته وتحقيق الأمن النفسي والوظيفي له ولأفراد عائلته واطمئنانه على حقوقه ويومه وغده ومستقبله وبدونها تبقى فاعلية الإدارة، مجرد أمنيات ووهم لا وجود لها إلا في مخيلة الإدارة نفسها ، إذ بدون ذلك لن يكون أي تأثير للإدارة في تحقيق وإشباع حاجات ورغبات المواطنين، والتي في مقدمة مهامها ووظائفها وواجباتها، حيث من المعروف أن الإدارة عبارة عن مجموعة وحدات موزعة داخل الدولة ضمن هيكل تنظيمي تتولى كل وحدة مهام وواجبات وظيفية، وإن الوحدة بطبيعة الحال هي شخص معنوي ليس بمقدوره القيام بأي عمل إلا بالشخص الطبيعي ألا وهو الموظف.
ولغايات قيام الإدارة بمهامها وواجباتها فلابد أن توفر للموظفين، الظروف المعيشية والنفسية لهم ولعائلاتهم والتي تكفل الحياة الكريمة والاستقرار لهم وحتى تكون الإدارة فاعلة ومؤثرة بالعاملين لديها في بناء الوطن وتعظيم إنجازاته لا يمكن لها تحقيق ذلك من خلال موظفين محبطين ومقهورين وغير حاصلين على حقوقهم، حتى لو كانت منقوصة، علماً أن المرتب لا يمثل إشباعا لحاجات الموظف فحسب، ولكنه يقدم التوازن النفسي، لكونه يترجم أحاسيسه وقدرته الخلاقة، وعلاوة على ذلك، فإن الراتب وكما أوضحنا أعلاه، يعطي الموظف وأفراد أسرته إمكانية التمتع بالحياة والتمتع بالحياة ينعكس لصالح عمل الموظف ويمكننا القول أن ذلك يساعد على رفعة الدولة ورقيها، وإضافة إلى ذلك فإن الراتب يساعد الموظف في المحافظة على كرامته الإنسانية وآدميته البشرية، ويشكل حماية للموظف والإدارة على حد سواء، حيث لا إدارة بدون موظفين ولا موظفين بدون وحدة إدارية، فإذا صلح الموظف صلحت الإدارة وبصلاح الموظف واهليته وكفاءته يندحر ويتراجع الفساد.
وتحقيقاً لذلك، فإن الإدارة الراشدة والحصيفه، لا محيص لها من التدخل من وقت لآخر لرفع قيمة رواتب الموظفين، وذلك تبعاً لارتفاع أو انخفاض القوة الشرائية للراتب، هذا من جهة ومن جهة ثانية، أن تعمل بكل ما أوتيت من قدرات على إشباع حاجات الموظف، تبعاً لازدياد المتطلبات المعيشية له ولأفراد أسرته، والعمل على تحقيق مكاسب أخرى لهم، على كافة الصعد الصحية والتعليمية والاجتماعية وغيرها، مع الأخذ في عين الاعتبار إمكانيات الدولة وقدراتها المالية, وبالوقت ذاته مراقبة أداء الموظف وإنتاجيته وفاعليته ويمكن القول أنه لا وجود لإدارة فاعله ومؤثرة، إلا بوجود جهاز وظيفي كفؤ قادر على القيام بأداء واجباته، وإن الإدارة لا تساوي شيئاً إلا بما يساويه الجهاز الوظيفي في الدولة، وهذا لا يمكن تحقيقه وتحويله إلى واقع عملي ملموس، إلا بتوفير العدالة والأمن المعيشي والنفسي والاجتماعي للموظف ومن الهراء أن تنتظر الإدارة الإنتاج من موظف لا يحقق له راتبه الوظيفي العيش الكريم؛ إذ كيف ينتظر عمل وإنتاج من الموظف وهو يعاني من الحاجة والفاقة، كما يتطلب أيضاً قيامها بالإحساس والاستشعار بما يعانيه الموظف وبتحقيق العدالة والمساواة بين العاملين لديها والعمل على معالجة مشاكلهم ووضع الحلول المناسبة لها، وهذا ما يمكن أن نلمسه ونلاحظه من خلال التطبيق والقواعد الفقهية والتي عمل ونادى بها الفقه الإسلامي من خلال قواعد عديدة من بينها لا يقضي القاضي وهو غضبان ولا يقضي القاضي وهو جوعان, وإن المقصود بذلك ليس القاضي بمعناه الضيق بل يمتد ذلك إلى كل موظف ومسؤول.
رابعاً: وحدة التشريع الوظيفي
لقد سبق وأن ذكرنا أن من بين أهداف هيكلة الرواتب حسبما ذكره معالي وزير تطوير القطاع العام هو توحيد مرجعية (111) وزارة ومؤسسة ودائرة حكومية, وحاولت الحكومة من خلال النظام المعدل أعلاه تحقيق ذلك مع مراعاة الاستثناءات الواردة بالنظام واستثنت موظفين ومؤسسات والتي أشرنا إليها أعلاه ويستدل من ذلك أن الحكومة لم تكن راضية لتعدد التشريعات الوظيفية المتعددة والتي كانت تطبق على الموظفين الذين شملتهم الهيكلة وبالرغم من أن التشريعات الخاصة بالمؤسسات والدوائر التي كانت تطبق على موظفيها أنظمة خاصة بها كانت ناقصة ويتم الإحالة إلى نظام الخدمة المدنية ولسد النقص الذي تعاني منه الذي يعتبر بمثابة التشريع الوظيفي العام بالمملكة.
إن وحدة التشريع الوظيفي بالدولة يحقق العدالة والمساواة, إذا تضمن أسساً عادلة وواضحة يشمل علاوات وبدلات وحوافز وغيرها, نظراً لأن الراتب يحدد طبقاً لأسس ومعايير عديدة من بينها مهام الوظيفة وصعوبتها وخطورتها وندرة الأشخاص الذين يقومون بها, وهذا يقودنا للمناداة مجدداً إلى تنظيم الوظيفة العام بقانون حديث ومتطور والذي لا تطوله يد التغيير أو التعديل إلا من خلال السلطة التشريعية ووفقاً لأسباب ومبررات تستوجب ذلك, حيث أن نظام الخدمة المدنية الذي يطبق على الموظفين العاملين بالدولة والصادر عن مجلس الوزراء منذ مدة طويلة حصل عليه إلغاءات وتغييرات وتعديلات عديدة لا حصر لها وكانت التعديلات تتم في بعض الأحايين لخدمة شخص معين وخير مثال حصول تعديلين على النظام رقم 30لس2007نة ولو كان ذلك منظماً بقانون لما تم عليه ذلك, ويتطلب لتحقيق ذلك إجراء تعديل مستقبلاً على المادة (120) من الدستور ليصار من خلاله إصدار قانون للوظيفة العامة يساهم على إزالة معظم التشوهات والاختلالات التي تعاني منها الوظيفة العامة والقائمين عليها.
وعليه وبعد استعراض ما تقدم وما رشح عن وزير تطوير القطاع العام من تصريحات وندوات ولقاءات, فإنه يستشف منها أن طموحاته أكبر مما تضمنته هيكلة الرواتب وأن الحكومة لن تتوقف عند هذا الحد بل ستقوم مستقبلاً بإجراءات ستصب في تقدم الوظيفة العامة وتطورها والذي لا يتم ذلك إلا من خلال أداء القائمين عليها وتميزهم, ونضيف أنه لا بد من إعادة الهيبة للوظيفة العامة والقائمين عليها والذي يتوجب لتحقيق ذلك تشخيص الأمراض الوظيفية التي يعاني منها الموظف العام والتوصل إلى العلاج الشافي, ليثبت القطاع العام أنه قادر على إدارة مرافق الدولة المختلفة بقوة واقتدار بما في ذلك المرافق الاقتصادية وأن قانون التخاصية والذي طبق بشكل يغاير الغايات والأهداف التي صدر من أجلها, أدى إلى عجز بموازنة الدولة الذي وصل إلى درجة مقلقة وزيادة المديونية بشكل مرعب وهذا ناشئ عن مخرجات ما يسمى ببرنامج التحول الاقتصادي الذي تولد عنه الفقر والبطالة والاعتصامات والإضرابات والمشاكل الاجتماعية وخلخلة علاقة الثقة بين المواطن والحكومة وقد ثبت ذلك من خلال التطبيق والممارسة وعلى القطاع العام أن يستعيد عافيته وقوته ليثبت أن الخصخصة لن تكون بديلاً ولو بشكل جزئي عن القطاع العام وأنها لا تقوى على القيام بمهامه وواجباته في إدارة وتسيير مرافق الدولة بكفاءة ونزاهة واقتدار.
وأخيراً ومن خلال إجراء قراءة متانية للنظام المعدل أعلاه وما أعقبه من توضيحات وتصريحات من وزير القطاع العام وما سيترتب على هذا التعديل من استحقاقات ومخرجات تشريعية, تستوجب إصدار تعليمات تنفيذية من السلطة المختصة بذلك وكيفية استيعاب الآثار التي ترتبت أو ستترتب عليه إلى جانب الهفوات والانتقادات التي صدرت من بعض طوائف الموظفين وعلى سبيل المثال المعلمين والأطباء والمهندسين والممرضين وموظفي المؤسسة العامة للضمان الاجتماعي وهيئة الأوراق المالية, فإننا وبمهنية وحيادية ونزاهة وبعيداً عن جلد الذات, نجد أن نظام الخدمة المدنية المعدل رقم 52لس2011نة وبصفته تشريع لم يحظى برضى الجميع, لاسيما وأنه جاء متاخراً ونتيجة لترحيل المشاكل والأمراض الوظيفية المزمنة من قبل حكومات عديدة, وقد رصدت الحكومة الحالية له في الموازنة العامة للدولة العام مبلغ (82) مليون ديناراً تقريباً ما عدا المبلغ الذي سيخصص لموظفي البلديات والذي يقارب مبلغ (12) مليون ديناراً لهذا العام, ومع كل الانتقادات لهذا المشروع وإن لم يكن في مستوى الأمنيات والتمنيات إلا أنه يعتبر خطوة جريئة على طريق الإصلاح, وإن كان ذلك متأخراً, حيث الإبقاء على الوضع السابق وكما هو قبل الهيكلة سيفاقم في حجم المشكلة ويتعذر التوصل إلى علاج لها, وبالتالي فلا يجوز التقليل من قيمة هذا المشروع, ولا بد أيضاً من بيان النقص والشوائب التي اعتورته مع بيان الإيجابيات أيضاً فمن بين الإيجابيات ما يلي:
1. صدور تشريع وظيفي واحد يطبق على معظم موظفي الوزارات والمؤسسات والدوائر الحكومية والذين يشكلون ما نسبته (90%) من مجموع موظفي الدولة تقريباً.
2. زيادة الراتب الأساسي للموظف مما يترتب عليه الاستفادة من هذه الزيادة وهو بالوظيفة وانعكاسها علىراتبه التقاعدي بعد إحالته للتقاعد أو الاستيداع.
3. زيادة رواتب جميع الموظفين دون استثناء وإن كانت بنسب مختلفة.
4. وضع سقف لمقدار الزيادة السنوية لجميع الموظفين ومقداره (12) ديناراً.
5. منح علاوة مؤسسة للموظف لطوائف محددة من الموظفين.
6. منح الموظفين الذي كانوا يخضعون لأنظمة وظيفية خاصة بهه بدل فرق تسكين تفادياً من تنزيل قيمة رواتبهم.
7. إلغاء مكافأة نهاية الخدمة المقررة بالسابق وذلك بصرفها لهم وعدم منحها للموظفين الذين يعينون بعد تاريخ 1/1/2012.
8. وقف مساهمة الحكومة بصناديق الإسكان والادخار للموظفين الذي يعينون بعد 1/1/2012 وتحفيض نسبة مساهمتها بتلك الصناديق والذي يشترك بها الموظفين العاملين قبل 1/1/2012, بحيث تكون مساهمتها بحد أقصاه (5%) من مجموع الراتب الأساسي.
9. عدم منح أي موظف بدل فرق تسكين أو حوافز أو مكافآت أو رواتب الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر غير المنصوص عليها في النظام.
10. توحيد قيمة العلاوة العائلية الشهرية للموظف بمبلغ (20) دينار بصرف النظر عن فئته الوظيفية أو درجته.
11. تحقيق وفر كبير على الخزينة جراء إلغاء مكافأة نهاية الخدمة ومشاركة الدولة في الصناديق أعلاه وتخفيض نسبة مشاركتها في الصناديق القائمة التي تشمل الموظفين العاملين قبل 1/1/2012.
12. إعطاء مجلس الوزراء الحق بناء على تنسيب من مجلس الخدمة المدنية بإضافة أو استثناء أي دائرة من تطبيق أحكام هذا النظام.
أما السلبيات التي شابت هذا النظام فهي عديدة من بينها ما يلي:
1. استثناء موظفي البنك المركزي والجامعات الرسمية والمؤسسة الاقتصادية والاجتماعية للمتقاعدين العسكريين والمحاربين القدماء وموظفو السلك الدبلوماسي وكان يتوجب شمولهم ومنحهم علاوة مؤسسة بحيث تغطى الفروقات بالراتب والتي من شأنها أن لا تؤدي إلى تخفيضه عما هو عليه قبل 1/1/2012, حيث أن هذا الاستثناء يتنافى مع مبادئ العدالة والمساواة وإذا كان الأمر غير ذلك فقد كان يتوجب أن يشمل الاستثناء موظفي المؤسسة العامة للضمان الاجتماعي, لكون رواتبهم ليست من الموازنة العامة للدولة وإنما تتأتى من اشتراكات المشتركين واستثمارات أموال الضمان الاجتماعي, مع استمرارية الرقابة على أعمال المؤسسة من كافة الأجهزة المختصة.
2. عدم شمول موظفي الفئة العليا/المجموعة الأولى.
3. عدم وضع حوافز تصرف للموظف المميز وفقاً للتقرير السنوي لأداء الموظف والذي يتوجب أن ينعكس على ترقيته ويتم ذلك من خلال أسس وضوابط تضمن أن تصدر التقارير السنوية للموظفين بنزاهة وعدالة بعيداً عن المؤثرات والتأثيرات, وهذا يؤدي للتنافس المشروع بين الموظفين مما ينعكس إيجاباً على أداء المرافق العامة بالدولة.
وأخيراً وهدياً بما تقدم لا بد من الإدراك أن الإصلاح الإداري أصعب من البناء, وأضيف أنه وبالرغم من الانتقادات التي تعرض له هيكلة رواتب موظفي الدولة والأخطاء والهفوات التي ظهرت أو ستظهر بعد التطبيق وهذا أمر طبيعي لضخامة هذا المشروع, فإنها لن تقلل من قيمته وأعتبره إنجاز وطني كبير بالرغم من أنه جاء متأخراً لأسباب وتراكمات عديدة لم تكن هذه الحكومة قد تسببت أو ساهمت فيها مع التأكيد إلى أن ما تم ليس كافياً لتحقيق الإصلاح ولكنه خطوة جريئة ومقدرة ساهمت وستساهم بالتقليل من التشوهات الوظيفية على رواتب الموظفين ونتمنى أن يساهم ذلك في متطلبات الإصلاح الإداري والتي من بينها إعادة النظر في وظائف الدولة والقائمين عليها, بحيث تسند الوظائف لمستحقيها وهذا يتطلب إقصاء واجتثاث الموظفين غير الأكفياء أو الذين تدور حولهم الشبهات واستبدالهم بموظفين وقيادات كفؤة ومخلصة للوطن والمواطن, وإننا نرى أن زيادة الرواتب ليست كافية لتحقيق الإصلاح الإداري وزيادة فاعلية وتأثير إدارات الدولة المختلفة لتستعيد أزمة الثقة بين المواطن والحكومة, حيث أن عملية الإصلاح الإداري هي عملية مستمرة ومتجددة, ولن تتحقق في مدة قصيرة أو في يوم وليلة, وأن الاختلالات التي تعاني منها الوظيفة العامة ويعاني منها الموظف العام ناشئة عن تراكمات قديمة لم يتم حلها, وتم ترحيلها من الحكومات السابقة لهذه الحكومة, وإن الإصلاح الإداري يحتاج إلى سياسات وخطط واضحة المعالم ووقت كافٍ مبرمج ومعقول يقوم بإعداده وتنفيذه أشخاص مؤهلين قادرين, وذلك بعد أن يتم إعداد وتهيئة البنية التحتية لعملية الإصلاح والتطوير الإداري وتشخيص المشاكل ومعرفة أسبابها وتحديد طرق واساليب علاجها وادوات حلها, والتي يجب أن تكون هذه الأدوات من الموظفين التي تتوافر لديهم الكفاءة والمعروف عنهم النزاهة والانتماء الوطني والولاء لقيادته, ويكون هدفهم خدمة الأردن أولاً وعاشراً, مع الإشارة إلى أن التغيير لا يتم بقانون فحسب, بل لا بد وأن يصاحب ذلك تغيير أو تعديل في العقليات والأذهان والسلوك سواء بالنسبة للمخاطبين بالقانون أو القائمين على تطبيقه, وأنه لا قيمة لأية تشريعات أو سياسات أو برامج أو خطط توضع لحل هذه المشاكل, إذ لم تكن قابلة للتطبيق والتنفيذ أو لم يتم البدء بالعمل بها وتفعيلها وتطبيقها, أو كانت أدواتها عاجزة ومترهلة وغير قادرة على تحقيق ذلك, كما يجب على من يتصدى لعملية التصحيح والتصويب الإداري والتي هي مهمة وطنية مقدسة أن يكون بعيداً عن الشللية والجهوية والقبلية والطائفية والتأثيرات والمؤثرات بأشكالها وأنواعها وصورها المختلفة, وأن يعمل ومن خلال الوسائل والأدوات القانونية على استئصال المرض الخبيث والمؤثر في مؤسساتنا الحكومية وهو الواسطة والمحسوبية وغيرها وأن لا ينحني إلا للوطن والقانون, كما يتطلب إعادة النظر بنظام الخدمة المدنية بالكامل والاستعاضة عنه بقانون للوظيفة العامة بعد
إجراء التعديل الدستوري للمادة (120) من الدستور وإعادة النظر بالترقيات والترفيعات, بحيث تتم على أساس الجدارة والكفاءة وإيلاء التدريب والتأهيل للموظفين اهتمام كبير وتفعيل الدور التأديبي للموظفين الذين يخرجون عن اخلاقيات الوظيفة العامة وواجباتها والتخلص أيضاً من الموظفين الذي يشكلون عبئاً وحمولة زائدة على الوظيفة العامة والوطن واستبدالهم بغيرهم ممن تتوافر فيهم شروط ومتطلبات إشغال تلك الوظائف وإعداد جيل من الموظفين ليكونوا قادة قادرين على إدارة مرافق الدولة بكفاءة ورشاقة بعيداً عن الروتين أو الترهل أو المحسوبية, ولا بد من التذكير أن إدارات الدولة يتوجب أن تكون رشيقة وأن يتم التخلص من الترهلات الإدارية والأمراض الوظيفية التي تنخر مفاصل متعددة بالدولة وهذا يحتاج إلى تطهير أجهزة الدولة من القيادات غير الكفؤة أو المنحرفة أو المتسلقة أو حملة المباخر واستبدالها بقيادات كفؤة ومخلصة تعيد الروح إلى الجسم الإداري للدولة والذي نهشه وتنهشه الأمراض والاوبئة الوظيفية وهذا لا يتحقق إلا من خلال إعادة تقييم أداء وإنجازات الموظفين وتطبيق قاعدة الثواب والعقاب على الجميع بدون استثناء وصولاً إلى إدارات كفؤة وعادلة والتي يتوجب أن تعكس الصورة الحقيقية للدولة بحيث تكون جاذبة للاستثمارات الوطنية والأجنبية بما يحقق الخير لجميع أبناء الوطن.