مركز الرأي للدراسات
اعداد : د. محمد السنجلاوي
حزيران 2012
منذ أن انطلقت حناجر الثوار في تونس مطالبة بإسقاط النظام، وبعد أن حدث ذلك وفي زمن قياسي، وأقلام المحللين والمفكرين ما جفت وما توقفت عن تحليل ما جرى مرورا بكافة أطياف ما يسمى « بالربيع العربي « وصاحب هذا المقال من تلك الأقلام.
ففي ظل ما جرى وما يجري مازالت الأسئلة تدور محلقة في الأذهان، وفي الوقت نفسه مازالت الإجابات ترفرف مبتعدة عن ميدان الحقيقة، فلا يجرؤ أي شخص في ظل الأوضاع الراهنة أن يزعم بأنه قد أصاب كبد الحقيقة. وإذا انزلقنا إلى دائرة الجدل وفعل أحدهم أو كاد، فسرعان ما يتم رشقه بوابل من سهام التشكيك أو التخوين أو التسطيح وهلمّ جرا.
فهل فعلا هذا الربيع هو ربيع عربي محض أم هو ربيع معلّب تم تصنيعه في أحد أروقة دوائر المخابرات الغربية؟
وهل ما زال الربيع ربيعا في بعض الدول التي نجحت في الإطاحة بخريف أنظمتها أم أن ربيعها كسته صفرة تسوء الناظرين ؟ وهل هذا الربيع الذي لاح هنا وهناك هو ربيع موضوعي؟ أم هو عبارة عن عدوى لا أكثر ولا أقل؟ قد يقول البعض هي عدوى صحية وإذا كان الأمر كذلك فهل نجح أطباء الربيع في تحضير ترياق ناجح للعدوى المرضية أيضا؟
هل فعلا كانت تلك الثورات التي أنجبت الربيع هي ثورات شعبية انطلقت فجأة لتعتق نفسها من قمقم الفقر والظلم والجهل والقمع، بعيدا عن الأفلاك الحزبية أم أنها ثورات لو لم تكن بقيادة الأحزاب لتحولت إلى جثث هامدة على أيدي الأنظمة التي ثارت ضدها؟ ولذا من حقنا أن نتساءل من قاد الآخر هل الأحزاب قادت الشعوب أم أن الشعوب هي التي قادت الأحزاب؟ هل فعلا نجحت الشعوب في التماهي مع أحزابها أم أن العكس هو الصحيح أم أن كلا الأمرين غير صحيح؟
ربيع الأردن مختلف
تأسيسا على ما سبق فإنه من حقنا كأردنيين أن نخرج من دائرة الحديث بشكل عام إلى دائرة الحديث بشكل خاص، ولذا سنقوم بدحرجة عجلة الأسئلة نحو الساحة الأردنية باعتبار أن الأردن هو جزء من خريطة الوطن العربي ومن ضمن الأقطار التي شهدت امتدادا للربيع العربي ولكنه ربيع الأردن مختلف عن ربيع (تونس وليبيا ومصر وسوريا واليمن ) واختلافه ينبع من كونه ربيعاً غضاً لم تلوث خضرته الدماء، ويسبح في ظل نظام يتسم بالمرونة ، صاحب أياد بيضاء ، نظام لا يمتلك شهوة للدماء، وهذا الأمر لا يختلف عليه اثنان على عكس تلك البلدان التي أبتليت بأنظمة قمعية استبدادية استحلـّت دماء شعوبها ولطخت بالدماء صفحات ربيعها وفتكت ويتمت وشردت، ولكن في النهاية تفرقت رموز تلك الأنظمة وعوائلها بين شريد وقتيل وأسير. إذا كان ما سبق هو وجه الاختلاف بقي لنا أن نقول إن وجه الشبه يكمن في أن ربيع الاردن عبارة عن صيحة أيضا ضد الفساد.
اذا وبعد تحديد وجه الاختلاف ووجه الشبه بين ربيع الأردن وربيع البلدان التي أسقطت أنظمتها، سأسوق مثالاً من التاريخ قبل الدخول في ربيع الاردن بشكل تحليلي، ذلك المثال ظل يلح على ذاكرتي طيلة متابعتي لما يسمى ( بالربيع العربي) ذلك المثال هو الثورة الفرنسية التي بدأت عام 1789م وانتهت في عام 1799م.
وسأستعرض ذلك على سبيل المثال لا الحصر، فلا يخفى على قارئ تاريخ الثورات في العالم أهمية الثورة الفرنسية ومدى تأثيرها الفاعل والقوي في العالم أجمع عامة، وفي أوروبا خاصة، كما أنه لا يخفى عليه أيضاً أنها مرت بمراحل ثلاث:
المرحلة الأولى ( 1789 – 1792م ): تمثلت باحتلال سجن الباستيل ووضع أول دستور للبلاد ويطلق عليها فترة الملكية الدستورية.
المرحلة الثانية ( 1792 – 1794م): تم خلالها إعدام الحاكم وقيام نظام جمهوري متشدد.
المرحلة الثالثة ( 1794 – 1799م): انتهت بانقلاب عسكري بقيادة نابليون بونابارت الذي قام بوضع حد للثورة من خلال إقامة نظام ديكتاتوري توسعي.
وهنا لست بصدد الحديث عن نتائج تلك الثورة سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي، وإنما أود الإشارة فقط إلى أصابع صانعي هذه الثورة العظيمة التي تسللت إلى أغلب الثورات التي ظهرت في أوروبا فيما بعد. حيث أن من نسج عباءة الثورة الفرنسية هم الماسونيون اليهود وكما لاحظنا من خلال مراحل الثورة بأنها أطاحت بالدكتاتورية، لينتهي الأمر في نهاية المطاف وفي آخر مراحلها بدكتاتورية من طراز مختلف، لكن الماسونيين اليهود استطاعوا بعد ذلك عزل صاحبها ( نابليون) وتحجيمه ونفيه لأنه حاول الخروج عن مسار الخطة التي رسموها. وبالتالي لقد كان الشعب الفرنسي حطبا لمطامعهم التي زينوها آنذاك بالحرية والإخاء والمساواة. فالخطة التي رسمت كانت من حيث الدقة بأنها استطاعت أن تحقق جميع أهدافها.
فقد رصدوا أموالا طائلة لإشعال فتيل الثورة بحكم أنهم كانوا وما زالوا أسياد المال في العالم، فحرضوا الشعب على الملك والملكة، وبلغ بهم الأمر إلى أن يتجسسوا على أدق خصوصياتهما، فشوهوا صورة الملكة ماري أنطوانيت وأحالوها إلى ملكة لا هم لها سوى جمع المال وممارسة الرذيلة، وكافة ألوان المجون والبذخ والترف، فضخموا أخطاء الملك والملكة إلى درجة تحويلهما إلى أعداء لفرنسا وشعبها وبالتالي لا جزاء للأعداء إلا الإعدام، وما كان ذلك ليكون لولا نجاحهم بشراء أقلام مأجورة ومفكرين مأجورين وخطباء مأجورين روجوا لأفكارهم التي اتخذت من الوطنية وحب الوطن والدفاع عن المستضعفين والمظلومين والمقهورين قناعاً، فقد كانوا ممثلين بارعين لدرجة أنهم حققوا معجزات في فن صناعة الثورات في أوروبا.
اسئلة محيرة حول الثورات العربية
وإن المثال الذي قمت بعرضه، لم أقصد اسقاطه على الربيع العربي لسرقة أو تشويه أي منجز من منجزات تلك الثورات، وانما فعلت ما فعلت من أجل شحذ ذهن القارئ ليظل متيقظاً لكل ما دار وما يدور حوله، من مشاهد في الساحات العربية التي أشبه ما تكون بالمشاهد الدراماتيكية. فمن حق القارئ العربي أو المواطن العربي أن يقف مفكرا ومتسائلا عن بنية كل ثورة من الثورات التي عمت أقطارنا العربية بسرعة مذهلة، مخلفة وراءها مجموعة كبيرة من الأسئلة المعقدة والمحيرة، فمن حقه اذا أن لا يتأمل المشهد فقط من زاوية منظري الثورات العربية أو من زاوية المنتفعين منها أو المطبلين لها، ولكي لا أترك المجال لذهن المشككين بأنني من أنصار مقولة الفيلسوف الألماني هيجل « كل ما هو موجود فهو حق « وبالتالي من دعاة معارضة الإصلاح ومن أعداء الحرية ومن مؤيدي الدولة في جميع المناسبات ضد الفرد وحريته ونيل حقوقه لكي لا أترك لهم مجالا، لقد قمت بكتابة هذا المقال للتأكيد على حق الشعوب في نيل حقوقها ورفع أثقال الجور والظلم عن كاهلها وللإطاحة برموز الفساد أينما وجدوا, ولكنني في الوقت نفسه من دعاة قراءة التاريخ ومن دعاة التحليل العلمي والمنطقي لفلسفة تلك الثورات، فإما أن تكون ثورات وطنية أصيلة، لها منهج واضح ومحدد لا اعوجاج ولا لبس فيه وإما فلا.
فشبابنا هم ثروتنا الحقيقية، أبناؤنا هم فلذات أكبادنا، أعراضنا أقدس من أن تُنتهك، أوطاننا أغلى علينا من حبات عيوننا وسويداء قلوبنا، أرواحنا ليست رخيصة علينا فإذا لم نقدم أرواحنا عن علم وبصيرة وعن دراية واستقراء نكون قد قذفنا بها إلى جب التهلكة. قال تعالى « ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة « نحن ضد اسقاط مسرح الدمى على أرض الواقع ولكن من حق الشعوب أن تسلط الضوء على تلك الأصابع، فهل هي أصابع بيضاء أم سوداء؟ هل هي دخيلة أم أصيلة؟
كل ما سبق هو من حق القارئ العربي أو المواطن العربي، وبالتالي الحق كل الحق للمواطن الأردني أن يتفهم حقيقة ما يجري على أرضه من أحداث أستطيع القول جازما بأنه قد اختلط فيها الحابل بالنابل ، والصالح بالطالح. فالمواطن الأردني يرقب بحذر شديد لكل ما يدور حوله سواء على الصعيد العربي أو الصعيد المحلي فقد شاهد وما زال يشاهد بأم عينيه مشاهد مروعة، كيف لا؟! وأفق الثورات العربية ما زال ملبدا بالغيوم، وملبدا بالأسئلة وملبدا بالخوف والرعب، كل المؤشرات حتى هذه اللحظة ما زالت تدل، على أن تلك الثورات بدأت تأكل نفسها، الفتنة أصبحت سيدة الساحات الكل يسوّق لذاته على أنه بطل الثورة بلا منازع هو الأمين وغيره الخائن هو الوطني وغيره العميل، فقط هو الذي من حقه أن يكون القائد والزعيم، وغيره ما عليه إلا السمع والطاعة، حتى أصحاب القرية الواحدة انقسموا على أنفسهم، فالأفراد في تناحر والأحزاب في تدافع وتنافر، وعن التضليل والتخبط الإعلامي حدّث ولا حرج.
ومن هنا من حقنا كأردنيين أن نضم صوتنا إلى صوت المفكر والمؤرخ الفرنسي الكسيس دي تو كفيل الذي قال « في الثورة كما في الروايات الجزء الأكثر صعوبة هو ابتكار نهاية لها «.
براءات ابتكار
إذا فالأوضاع من سيء إلى أسوأ والمشهد في كل يوم يتجه نحو المجهول، ولذا يهرب الجميع في اتجاه ابتكار نهاية لتلك الثورات، على أمل أن يسجل براءة ابتكار للوصول إلى الجائزة الكبرى ألا وهي سدة الحكم، وكلما سجل أحدهم براءة سارع الآخر لتسجيل براءة منه ومن ابتكاره حتى براءات الابتكار حولها البعض إلى امتيازات خاصة لا ينعم بها إلا الملهمون والحزبيون والمؤدلجون ، وأما بقية أفراد الشعب فما عليهم إلا أن يكونوا أكباش فداء لابتكاراتهم، فكل كبش فيهم هو الكبش المقدس الذي عليه أن ينتظر أوامر قابيل، ليقدم نفسه في الوقت المناسب على مذبح السلطة، وعندها إذا صرخ كبش بالرفض صنفوه على الفور بأنه كبش خائن من أكباش هابيل المندسة في قطعان الأكباش المقدسة، وبالتالي يجب قبل أن تُزهق روحه أن يتم ذبحه إعلاميا وتكفيره دينياً، وتجريده من وطنيته.
بناءً على ما سبق فالمواطن الأردني يرفض أن يكون كبشاً ولا بأي شكل من الأشكال، ولأنه ليس كذلك فإنه يرفض الفساد بكافة أشكاله وصوره وأكبر دليل على ذلك هي تلك الصحوة التي عمت أرجاء الوطن، أقل ما يقال عنها بأنها صحوة إصلاحية بإمتياز، صحوة ضد الفساد والمفسدين، هي صحوة وطنية تكاد تكون خالصة منزهة عن المطامع الشخصية مفعمة بحب الوطن، مطالب أصحابها شرعية وفرسانها من أصحاب الضمائر الحية، ولأنها صحوة وطنية غير موجهة فالكل يباركها والكل يقبل أيادي فرسانها، ولأنها طاهرة وبريئة فمن واجب صاحب كل ضمير حي أن يحميها ويدافع عنها كلٌّ في موقعه فقد جاءت من الشعب لتصب في مصلحة الشعب.
صوت نشاز
ولكن في الآونة الأخيرة سجلت بعض الحراكات التي تدور في عدد من الساحات الأردنية اختلافا في النبرة لم نعهده من قبل، ولم تعهده كذلك آذان الاردنيين فهو صوت نشاز بكل ما تحمل الكلمة من معنى، هو تغريد خارج السرب، وإذا بحثنا عن السبب وجدنا أنه يكمن في اختراق عدد من الأشخاص، لا أريد أن أقول بأن لهم أجندات ذات ارتباطات خارجية، وإنما لديهم أجندات خاصة إما لمصلحتهم هم شخصيا أو لمصلحة بعض مؤسسات المجتمع المدني، أو لبعض الشخصيات التي طاردتها أو ستطاردها ملفات الفساد، وبما أن الحراكات شهدت حضورا ملفتا للأطفال فمن السهولة بمكان أن يرددوا أي شعارات، بمجرد وصولها إلى آذانهم، أو عبارات تقرأها عيونهم فهم أطفال غير ناضجين، خرجوا إما للترويح عن أنفسهم وإما ليتعرضوا لعدسات الكاميرات، فهم في هذه المرحلة أشبه ما يكونوا بالببغاوات التي عقولها في آذانها وبذلك يفرح المندسون، عندما يرتفع سقف المطالبات أو عندما تُنتهك الخطوط الحمراء.
كما أنه لاحت في الآونة الأخيرة أيضا، محاولة لبعض أفراد مؤسسات المجتمع المدني تكثيف أنشطتهم، في بعض المحافظات أو المدن أو مدينة بعينها أكثر من غيرها، وذلك كمحاولة منهم لاختزال الصحوة الأردنية في مشهد واحد أو مدينة واحدة دون غيرها أملا منهم في تسليط الأضواء على تلك الساحة التي يطمحون أن يكونوا فرسانها، أو قادة « لميدان تحريرها « وأعتقد جازما أن في ذلك أيضا محاولة لتشويه براءة ذلك الحراك؛ لإخراجه عن مساره الشرعي والوطني، هذا وقد يتبادر لبعض أصحاب ذلك الحراك بأنهم بالفعل قد أصبحوا مركز استقطاب لجميع القوى المطالبة بالإصلاح، مما يجعلهم يهيئون جيادا في محافظتهم أو مدينتهم ليمتطيها شر فرسان، شيئا فشيئا يتم سحب البساط من تحت أقدامهم دون أن يدركوا خطورة ذلك، وفجأة ودون سابق إذن أو انذار، تتحول المنابر هناك إلى منابر تحريضية واستفزازية من خلال بث كلمات تعاند منطق الحراكات الأصيلة، كما تعاند منطق وثوابت أهل المدينة نفسها. ووقتها وفي لحظة غياب للوعي وعلى وهج التصفيق يحلو لبعضهم القفز فوق الخطوط الحمراء، يقولون كل شيء، ويخلطون الغث بالسمين وعند اقتراب إسدال الستارة، يعلنون بأن حراكهم سلميا ويختمون بقولهم إن الله من وراء القصد. فما دام لا قنابل بأيديهم فالحراك سلمي، وما دام ليس في أيديهم خناجر فالحراك سلمي، متناسين بذلك ما قاله معاذ بن جبل لرسول الله «ص»: دلني على عمل يدخلني الجنة، فأخذ بلسانه ثم قال: كف عليك هذا، قلت: يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم «.
فالرصاصة لا تنطلق إلا بعد أن تدفعها فكرة، والفكرة هي كلمة وبالتالي إذا اشتعلت الكلمات قد يشتعل الرصاص.
ترتيباً على ما مضى إذا عجت الساحة بالكلمات المشتعلة حتما سيتم شحن الأجواء، وفي لحظة ما – نسأل الله أن لا تأتي – قد ينطلق الرصاص وعندها لا يفيد الندم، فإذا كان البعض يراهن على تأجيج الساحة، فالسؤال الذي يراود الأذهان ما الهدف من وراء فعل ذلك كله؟ اذا استعرنا ألسنتهم سيكون الجواب لمحاربة الفساد. ولكن هل بلغ الفساد في الأردن إلى أقصى درجة من الاتساع والسوداوية بحيث لم يعد بمقدور أي أحد ضبطه مما يستدعي البعض جرّ البلاد والعباد إلى مهاوي الردى للتخلص من ربقة الفساد ورموزه؟ فمن يوافق على ذلك يكون كمن يعالج الخطأ بالخطيئة، وكما يعلم الجميع بأن للأردن تركيبة سيكولوجية لا يستطيع أي محلل أن ينكر المساحة الكبيرة التي يحتلها البعد العشائري في تلك التركيبة، ولذا من السهولة بمكان العزف على ذلك الوتر، ليحقق ما يصبو إليه لأنه من عشاق الرقص في دوائر اللهب، فإذا انجر البلد إلى المجهول، ستشتعل معارك تحقيق المكاسب، ومعارك كسر العظم، وقتها ستحدث القطيعة على صعيد الرقعة الجغرافية.
لقد قلت فيما سبق بخصوص النظام بأنه نظام مرن ولعله لا يخفى على أحد أن رأس النظام هو من رفد نظامه بهذه المرونة، وكما أن رأس النظام ورث الملك عن آبائه وأجداده كذلك ورث المرونة عنهم. فجميعهم أقسموا على حرمة دم الشعب، ولم يتهاون أي منهم مع كل من سولت له نفسه بانتهاك تلك الحرمة وإن عدم خوض النظام في دماء الابرياء، يجب أن لا يفسر على أنه ضعف، بل يدل كل الدلالة على الشجاعة والنبل والقوة. وما يزيده تمسكا بتلك المبادئ هو ايمانه العميق بتلك القيم والأصالة التي تربى عليها أبناؤه، أبناء الشعب الأردني الأصيل، وأنا هنا لم أقصد الغزل في القيادة الهاشمية وإنما أردت أن أوصل القارئ إلى فكرة مفادها: إن الله قد أنعم على الشعب الأردني قيادة حكيمة، وحليمة، وكاظمة للغيظ، وشجاعة إلى حد الإعتراف بوجود أخطاء، وخاصة أن جميع أفراد الشعب العربي عششت في أذهانهم مفردات لقادة عرب سابقين نعتوا بها شعوبهم بمجرد أنهم طالبوا بأبسط الأمور، ومن تلك النعوت ( الفئران، الجرذان، الإرهابيون، الحشاشون، الخونة.... إلخ). بينما لم نجد من ذلك شيئا لدى النظام الأردني، فلماذا إذا يحاول البعض أن يفتعل معركة مع نظام يؤكد في كل وقت وفي كل مناسبة على ضرورة الإصلاح وعلى ضرورة محاربة الفساد، وعلى ضرورة ضبط الاعصاب مع جميع الأطراف، والأهم من ذلك كله الاعتراف أمام جميع شاشات التلفزة المحلية والعربية والعالمية بمشروعية مطالب الإصلاحيين الشرفاء ومطالب الشعب.
المعركة مع الفساد تحتاج إلى حكمة وروية
وكما يعلم الجميع فإن محاربة الفساد، واجتثاثه من جذوره ليست أمرا سهلا بخاصة إذا تعددت أوكار الفاسدين وتلونت أساليبهم وحيلهم واستشرت قنواتهم وتمددت في أكثر من اتجاه، فالمعركة مع الفساد لا يمكن حسمها بشكل نهائي بين عشية وضحاها بل إنها تحتاج إلى حكمة وروية وتخطيط على أعلى المستويات.
وفي كثير من الأحيان تتطلب سرية من طراز رفيع، وهذا كله يحتاج إلى وقت طويل من أجل أن تسير المعركة ضد الفساد بالاتجاه الصحيح وفق خطوات منهجية مدروسة واضحة المعالم. فالمسألة تتطلب صبرا وأناة من جميع الأطراف بمختلف أطيافهم وتوجهاتهم وإذا كان البعض يخشى على أجواء الحراكات من أن يكتسحها البرود والركود لأن أصحابها قد أضاعوا بالصبر فرصة ذهبية، لتفريخ أحلامهم وسط سخونة فضاءات الربيع العربي، فإننا نقول لهم ما قاله الشاعر الألماني أرنست تولير « روح الثورة لن تموت ما دامت قلوب المشاركين فيها راغبة في النصر» وإن الذي شجعني على طرح ما سبق من رؤية نابعة من حس ديني ووطني، وأخلاقي هو احساسي بخطورة ما بدأنا نسمعه من شعارات توريطيه وتأزيمية تسهم في إدخال الوطن بالنفق اكثر من محاولة إخراجه منه، هذه الرؤية وطنية خالصة لوجه الله وللوطن، لا كما سيفسرها البعض على أنها امتداد لجوقة أبواق النظام، ولذا أؤكد للجميع بدون أي مواربة أو مراوغة وبلغة بسيطة بعيدة عن كل أشكال التقعر لغة يفهمها حتى الأطفال، ما كنت يوما بوقا لأحد ولن أكون، وإذا كان الخوف على الوطن وحب الوطن سيجعل مني بوقا في نظر البعض، فإنه لشرف عظيم لي أن أكون بوقا وطنيا يدعو للتعقل وضبط الاعصاب، والإبتعاد عن الفتن ما ظهر منها وما بطن، ويدعو للإلتفاف حول القيادة الهاشمية، ومنحها الثقة الكاملة لقيادة المعركة ضد الفساد مهما تعددت أشكاله وألوانه ورموزه، فهذه القيادة هي الوحيدة التي تستحق أن نودع فيها ثقتنا لأنها هي التي بنت لنا وطنا نحبه ويحبنا، نلوذ به ويلوذ بنا، قيادة جربناها لمدة عقود طويلة فما عرفنا وما عرف الأردن عن رموزها إلا التواضع والحكمة، والمحبة، والعفو، والصفح، والتسامح، فهي قيادة توافقية أجمعت وتجمع عليها غالبية شرائح المجتمع الاردني، لا ولن يستطيع المواطن الاردني أن يتخيل قيادة غيرها تدير دفة البلاد ومن يراهن على غيرها يكون رهانه خاسرا وشيطانيا إلى أبعد الحدود فلو كتب كل واحد منا مسرحية في ذهنه، لوطن يخلو من هذه القيادة سيجد أن جميع فصول تلك المسرحية تفيض دما، وتخلو مشاهدها من أي لون أو صوت سوى اللون الأسود وصوت الرصاص، ستكون مسرحية لا مكان للحوار فيها شخوصها منهكون، ومتهالكون أفقدتهم شهوة الكرسي الوعي والضمير، ستجد أن جميع شخوصها إلا من رحم ربك (عشائريون وطائفيون وإقصائيون ومناطقيون وفئويون) إلى درجة لن يجد فيها احد مكانا للجلوس لانهم قد اشعلوا النيران في كل مكان، ولن تكون تلك المسرحية ناجحة وواقعية إلا اذا احترقت خشبة المسرح برمتها وتدلت عناقيد اللهب من كل الجوانب والجهات.
مبادرة لتوحيد جهود الاصلاح
ولأن المشهد سيكون بتلك السوداوية، ينبغي للأصوات الحرة أن تنطلق لكي لا يحدث ذلك كما ينبغي للأقلام الحرة، أن تنحاز للوطن والمواطن والوطن مليء بهذه الأصوات. فالوطن يستحق منا أن نراجع مواقفنا حكومة وشعبا أفرادا وأحزابا ومؤسسات ونقابات كما ينبغي للعشائر أيضا أن تلتحم في جسد واحد، لتكون عشيرة واحدة هي عشيرة الوطن من شتى الأصول والمنابت، فالشرفاء ما زالوا يعولون على الخيرين والأوفياء في جميع الحراكات التي يشهدها الأردن من مراجعة المواقف والتصريحات والشعارات والأهداف، والأجندات فليبتعد الجميع – دون استثناء – عن اللغة الهتلرية فهناك أناس رددوا ويرددون ما قاله هتلر « إذا أردت السيطرة على الناس أخبرهم أنهم معرضون للخطر وحذرهم من أن أمنهم تحت التهديد ثم شكك في وطنية معارضيك» بعضهم ردد ذلك بطريقة لا واعية، وأما الذين رددوها بطريقة واعية فإن الوطن يطالبهم بسحب مقولاتهم ومواقفهم. إنه يطالبهم بذلك لانهم الأبناء البررة من معدن أصيل ولذلك فإنني سأختم مقالي بمبادرة أوجهها لجميع الأردنيين للخروج من عنق الزجاجة هذه المبادرة تتضمن البنود الآتية:
1- يتم وقف جميع فعاليات الحراكات والمسيرات المطالبة بالإصلاح بما فيها مسيرات الولاء والانتماء.
2- يتم عقد اجتماع لجميع القوى المعارضة من أجل توحيد الصف وتوحيد الأهداف التي يتوافق عليها الجميع ليتم من خلاله انتخاب لجنة من كافة أطياف المعارضة يطلق عليها ( اللجنة الشعبية للإصلاح ) أو الاتفاق على أي تسمية أخرى تحظى بموافقة المجتمعين.
3- يتعهد شيوخ العشائر بتقديم وثيقة شرف تتضمن استعداد عشائرهم التام لتقديم أي شخص من أبنائها للعدالة إذا حامت حوله شبهة فساد ليأخذ القانون مجراه الطبيعي حتى لو كان ذلك الشخص هو ابنا لشيخ العشيرة وليتذكر الجميع قول الرسول « ص « « وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها « .
4- تتعهد الحكومة بتشكيل لجنة للنظر في مطالب الإصلاحيين بشكل مستمر دون إبطاء أو تأخير وذلك بعد أن تتعهد بفتح جميع ملفات الفساد دون أدنى وجل أو خجل أو مراوغة.
5- يتم بين الفينة والأخرى إطلاع الشعب الأردني من خلال وسائل الإعلام على جهود اللجنتين في مكافحة الفساد.
6- تكون مدة المبادرة أربع سنوات من تاريخ الشروع في تنفيذ بنودها.
7- تتبنى اللجنة الشعبية للإصلاح إيصال جميع مظالم الشعب ومطالبه التي تصل إلى مكتبها أو مكاتبها في مختلف المحافظات إلى اللجنة الحكومية .
8- تحييد الامور الخلافية المتعلقة بقانون الانتخابات بشقيها البرلمانية والبلدية إلى حين إعادة بناء جسور الثقة بين الطرفين وتهيئة الأجواء بانتهاء مدة المبادرة للخروج بقانون انتخاب عصري يلبي طموحات الشعب وتطلعاته.
9- تكون هذه المبادرة تحت الرعاية الملكية السامية على أن يعاهد الجميع الله أن يكون جلالة الملك هو الخط الأحمر الذي من مصلحة الوطن عدم تجاوزه ولا بأي شكل من الأشكال.
لقد جاءت هذه المبادرة في هذا الوقت، كمحاولة للخروج من عنق الزجاجة وترك المجال واسعا، لابداء حسن النوايا من جميع الاطراف ولمعالجة قضايا الفساد معالجة حقيقية وواقعية وإعطاء الوقت الكافي لذلك، نظرا لتشابك ملفات الفساد وما تتصف به من تعقيد، فهذه المبادرة هي مبادرة متواضعة وبالتالي قد تكون قابلة للزيادة أو النقصان أو التحوير أو التطوير، وقد تكون ملهمة لمبادرات أخرى تسير في الاتجاه نفسه، والمبادرات التي تقدم اليوم افضل بكثير من تلك التي ستقدم بعد فوات الاوان . بعد ذلك كله ومن خلال هذه المبادرة يستطيع الاردنيون وبكل سهولة أن يميزوا بين المصلحين الحقيقين وإسقاط الأقنعة عن المصلحين الفاسدين.