مركز الرأي للدراسات
اعداد : أ.د. عبدالخالق الختاتنه
نيسان 2013
يعد العنف ظاهرة أزلية رافقت الإنسان منذ الأزل، إلا أنها أصبحت قضية تتناولها وتهتم بها العديد من المؤسسات والجهات المختصة محليا وعالميا، وتبلورت في السنوات الماضية العديد من المؤسسات التي تحاول أن تتصدى لظاهرة العنف، وظهرت العديد من الدراسات التي تناولت مسألة العنف باعتباره يمثل مشكلة مجتمعية، وخصوصا العنف ضد المرأة والطفل وأخيراً العنف الطلابي، إلا انه إلى الآن لم تظهر أي جهة أو مؤسسة تناولت العنف السياسي الذي تمارسه الدول على الشعوب.
وفي المجتمع الأردني أيضا ظهرت مجموعه من المؤسسات التي حاولت التصدي لهذه الظاهرة، تحليلا و دراسة، إلا انه يندر أن يكون من الباحثين من عايش هذه الظاهرة إحساسا نابعا من كونها قضية تشكل أحد أهم معوقات تقدم المجتمع و الأمة، ومع ذلك تكاد جوانب أخرى من ظاهرة العنف مغفلة ولم تنل الاهتمام المطلوب مثل قضية العنف الطلابي واشكالياتها في الوسط الجامعي والمجتمع بشكل عام، بالإضافة إلى عوامل التنشيط والتفعيل المرتبطة بهذه الظاهرة.
في السنوات الأخيرة وتحديدا في بعض الجامعات الأردنية، طرحت إدارات الجامعات وبعض الجهات ذات العلاقة، ضرورة تحليل ظاهرة العنف الطلابي في الجامعات الأردنية، وتصدى لذلك مجموعة من الباحثين، وشكلت فرق بحثية من أعضاء هيئات التدريس، ويلاحظ على هذه الدراسات أنها اتسمت ببعد توجيهي ذي صبغة ومنحى مؤطر، بعيدا عن الإدراك الكامل لقضية العنف الطلابي ومفعلاتها، من خلال التقيد في أهداف تلك الدراسات، ما أفرز تساؤلات وأسئلة مقيدة، لا تخرج عن إطار التوجيه السياسي والإداري لإدارات الجامعات، ولهذا أخرجت تلك الدراسات في نتائج واستنتاجات مقيدة انعكاسا للتقيد والقسر في مجريات تلك الدراسات، والحذر العام الذي سيطر على الباحثين المعروف مسبقا لديهم عن المسموح وغير المسموح به في تناول مثل هذه القضايا، وهو انعكاس للجو السياسي العام الذي يهيمن على المجتمع بكل فئاته، ولهذا فإننا نرى بان الأزمة الطلابية مستمرة، وخصوصا فيما يتعلق بمسألة العنف الطلابي.
مفهوم العنف
تعددت تعريفات مفهوم العنف في الدراسات الاجتماعية، وعكس هذا التعدد اهتمامات الباحثين الاجتماعين وفروع العلوم المختلفة بسبب طبيعة اهتماماتها ومنطلقاتها، بالإضافة إلى اتساع المفهوم وتعدد أشكاله وتداخله أو اقترابه من مفهوم العدوان.
يعرف العنف في "لسان العرب"(1) بأنه الخوف بالأمر، وقلة الرفق به، وهو ضد الرفق، وأعنف الشيء أخذه، والتعنيف هو التقريع والتوبيخ واللوم. بينما جاءت كلمة العنف من اللغة اللاتينية من مصطلح "Violential"(2) "فيولنتيال" الذي يعني القوة والسمات الوحشية، واشتق المصطلح من مصدر "فعل" "Violare" "فيولار" الذي يعني الخشونة والعنف والانتهاك والتدنيس والمخالفة، ويرتبط المصطلح في اللغة اللاتينية بكلمة "Vis" التي تعني القوة والقدرة والعنف.
ويعرف العنف بشكل عام (3) بأنه سلوك أو فعل عدواني يكون مصدره فرد أو جماعة أو طبقة اجتماعية أو دولة، بهدف استغلال وإخضاع طرف آخر في إطار علاقة القوة غير المتكافئة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، مما يتسبب في أحد اث أضرار مادية أو معنوية أو نفسية لفرد أو جماعة أو طبقة اجتماعية.
العنف في المجتمع الأردني تأطير نظري
تعكس البنى الاجتماعية لكل مجتمع من المجتمعات الإنسانية طبيعة وخصائص الظواهر والمشكلات الاجتماعية السائدة فيه، العلاقة بين البنى الاجتماعية التي تكونت تاريخيا والظروف والمعطيات الراهنة التي تمر بها المجتمعات خصائص الظواهر والمشكلات الاجتماعية. الذي يؤكد فيها ابن خلدون على فهم الديناميكية التاريخية على أساس مادي، لفهم الأسباب العميقة للتطور التاريخي، التي لا يمكن إن نجدها إلا في الهياكل الاقتصادية والاجتماعية، والذي اعتبر فيه ابن خلدون الصراع هو أحد الحتميات الفاعلة في تطور المجتمعات وأحد العناصر اللازمة لتوازن المجتمع والتي يستطيع المجتمع من خلالها استعادة توازنه ومواجهة احتياجاته وتحدياته، بما في ذلك إعادة صياغة الحياة وفقا لاستعدادات ومتطلبات التغير التي تفرض ذاتها بصورة صراعية، يكون من الصعب تجنبها أو إغفالها.
ومن جانب آخر تلعب أهداف الجماعات المتصارعة دورا مهما وحاسما في خفض وزيادة حدة الصراع، فكلما كانت أهداف الجماعات المتصارعة واضحة ومتأصلة في ذوات الأطراف المتصارعة، كلما طالت مدة الصراع و ازداد قوة، وكانت نتائجه أعمق وأشرس، وتعاظمت تكاليفه المادية والبشرية والاجتماعية، وبالمقابل فان إدراك الجماعات المتصارعة لنتائج العمليات الصراعية، تعمق لديهم ضرورة التعامل والتصرف بالصراع، فكلما أدركت الجماعات المتصارعة خطورة النتائج الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للصراع، كلما ظهرت ميول واضحة لضبط الصراع وإنهائه.
ولكي نتمكن من فهم العنف بين الجماعات الاجتماعية في المجتمع الأردني، نجد من الضرورة تصنيف أنواعه وفقا للمعطيات النظرية التي حاولت إن تفسره في واقع المجتمعات الإنسانية، وهو ما دفع العديد من الباحثين إلى التعامل معه حسب اختلاف المجتمعات الإنسانية والسياسية للصراع،كلما ظهرت ميول واضحة لضبط الصراع وإنهائه تبعا لمدته ونتائجه وأثاره، ولعلنا نجد أن ثنائية التصنيف التي اعتمدها العالم لويس كوزر (Coser) للصراع ذات قيمة علمية مهمة، والتي تتمثل بثنائية التقليد والحديث.
1- النوع التقليدي: الذي يسود في المجتمعات التقليدية التي تسودها الحميمة التفاعلية المباشرة، حيث يميل فيها الصراع إلى الشدة وقصر المدة، ويتسم بسرعة الاشتعال وسرعة الإخماد، في ضوء النتائج المترتبة على استمرار يته، ما يدفع الجماعات المتصارعة إلى ضبطه وعدم استمراره، إدراكاً أن المصلحة الجماعية تتطلب التماسك والوحدة والاندماج، وبضرورة توجيه الصراع اتجاه الجماعات الخارجية.
2- النوع الحديث: الذي يسود المجتمعات الحديثة ذات البناءات الاجتماعية المرنة، التي تتسم بتعدد الجماعات والمصالح والو لاءات، حيث تجد فيها الجماعات المتصارعة مخارج وقنوات ومنافذ متعددة ومختلفة لاستخراج صراعاتها، وتضعف من استمرارها وتراكمها وزيادة حدة الاحتقان. ففي مثل هذا النوع من المجتمعات لا توجد انتماءات دائمة أو ولاءات كلية ومصالح واحدة ومشاعر وجدانية جمعية قوية وانشداد ثقافي تقليدي راسخ على أسس تقليدية متجذرة صعبة التغيير، وإنما كونت أسساً ثقافية مرنة تتعاطى مع الشأن العام وفق تصورات منفتحة تستوعب التنوع والاختلاف سمتها التكامل لا الانصهار. فالبناء الاجتماعي المرن والمنفتح لا يساعد على تمركز الصراعات واستمرار الضغوطات والتوترات، وهو ما يتيح تصريف الفعاليات والاختناقات، بما في ذلك الفعاليات الصراعية بطرق متعددة، وهو ما يزود بناءه الاجتماعي بقدرات تكيفيه في استيعاب الصراع والعنف والتوترات ويقلل من أضرارها ويساهم في استقرار نوعي للحياة.
ومن اجل عمليات التحليل والفهم يمكن أن يضاف تصنيف أخر، والذي يقسم العنف والصراع إلى عنف وصراع منظم وغير منظم، وبالمجمل يمكن تصنيف العنف في مجتمعنا في ضوء هذه التوجهات النظرية بأنه يتميز بحدته وشدته وقصر مدته، وسرعة الاشتعال وسرعة الإخماد مما يسهل ضبطه والتحكم بمجرياته.
ومن جانب أخر وبالاعتماد على المعلومات المتعلقة بالعنف في المجتمع الأردني يمكننا أن نصنفه بأنه عنف غير منظم إلا في بعده السياسي.
العوامل المفعلة والمعطلة للعنف الطلابي في الجامعات الأردنية
تتعدد وتتشابك العوامل التي تدخل في تشكيل وتكوين الظواهر والمشكلات الاجتماعية، وكلما تعددت العوامل وتشابكت كلما تعقدت المشكلة الاجتماعية وتعقد معها تحليلها وتفسيرها، إلا أن هذا التعدد والتعقيد لا يحول بين الباحثين وإمكانية تتبعها وتحليلها، بل إنه في جزء من حالاته يشكل محفزا إضافيا للاهتمام والبحث والمتابعة. ولا يستثنى من هذا التعقيد والتعدد والتشابك والتداخل في العوامل والمسببات مشكلة العنف بصفة عامة والعنف الطلابي بصفة خاصة، كونها متحدة ومتأثرة ومترابطة في بعض جوانبها مع مشكلات العنف المجتمعي الأخرى التي يشهدها المجتمع الأردني، وان كان للعنف الطلابي خصوصية تميزه عن غيره من المشكلات الأخرى، بسبب خصوصية المرحلة العمرية التي تتسم بالنشاط والحركة، وارتباطه في مؤسسات تعليمية يفترض أنها تؤثر إيجابا على المدركات العقل والوعي وتصقل الطلبة ثقافيا ومعرفيا تفتح أمامهم آفاق المعرفة والتطلع نحو المستقبل، وتقلص لديهم المؤثرات النابعة من المؤسسات والحياة التقليدية، التي لا يتواءم مع مستخرجات التعليم وما يفترض أن يفرزه من أنماط تفكير مرتبطة بطبيعة الحياة العصرية.
إلا أن الواقع المعاش في الجامعات الأردنية وما يتعلق بالعملية التعليمة والعمل الطلابي والجانب الإداري، وتشابك هذه الأبعاد مع بعضها البعض، يتسم بالارتباك في ظل أجواء القصر والتنافر بين تجاذبات مستخرجات التعليم والعملية التربوية من جانب، ومؤسسات المجتمع التقليدية السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وانسداد آفاق التطور والتغيير من جانبا أخر.
إن ملامسة واقع العنف المجتمعي والعنف الطلابي يدفعنا إلى الاستشهاد بمفردات مهمة طرحت للمناقشة في المجتمع الأردني في أحد الدراسات ذات الصلة بهذا الجانب المرتبك والمحير.
إن جملة ما ذكر من أسباب ودوافع للعنف في مجتمعنا ليست أسبابا كافية بنفسها، أو قادرة بذاتها لإنتاج العنف المجتمعي. وما تنتجه هذه البواعث ليس أفعالا عنفية أصلية، بقدر ما هي ردود أفعال آنية مشوشة. مما يجعل الكثير منها أما "مبررات" مقنعة لتسوغ العنف وتمرير قبوله لدى الآخرين، أو"معجلات" لتسريع الظاهرة، فتبدو وكأنها "القشة التي قصمت ظهر البعير"!
يستدل من هذه الدراسات جميعا أن مجتمعنا لا يشهد اليوم عنفا فرديا خالصا، وإنما عنفاً جمعياً مشتركاً.
الإشكالية، أذن، ليست ببساطة عنف أفراد منعزلين، إنما هي عنف بنيوي لنظم ومؤسسات ممتدة أجتماعياً: في الاجتماع و السياسة والاقتصاد والإعلام والاتصال، وحتى التربية والتعليم. فمن الأولى، إذن، الاتجاه إليها مباشرة، وليس الدوران حولها في طرق التفافية.
ومن الطرق الملتوية التي تتيه فيها الجهود البحثية الوطنية، دون أن تطال عمق الظاهرة المدروسة، التركيز على شكليات دون مضامين:
- عنف الجماعات الاجتماعية، وليس عنف النظام الاجتماعي القائم نفسه.
- عنف التلاميذ والطلبة، وليس عنف النظام التعليمي العلمي المتجمد ذاته.
- عنف الأزمات الاقتصادية المحلية الجارية، وليس عنف الاقتصاد العالمي /المعلوم كله.
- عنف السياسات الأمنية الوطنية، وليس عنف السياسة العالمية الحديثة برمتها)
وأمام هذا الواقع فإننا نطرح مجموعة من الأسئلة المترابطة والمتشابكة، التي تمس واقع العنف الطلابي في الجامعات الأردنية.
هل العنف الطلابي في الجامعات الأردنية فعل عفوي؟ وهل ثقافتنا الاجتماعية في المجتمع الأردني مغذية لهذه الظاهرة؟ وما علاقة المناخ السياسي العام في المجتمع الأردني بهذه الظاهرة؟ وهل المناخ السياسي والإداري داخل الجامعات الأردني مغذي لها؟ وما علاقة إدارات الجامعات بهذا النمط من العنف؟. وهل ظاهرة العنف الطلابي ظاهرة منعزلة بذاتها؟
ما علاقة الجو الثقافي العام في المجتمع والجامعات في تغذية ظاهرة العنف الطلابي؟
وأخيرا ما علاقة غياب الوعي الوطني والقومي بظاهرة العنف الطلابي في الجامعات الأردنية؟.
إن المتتبع لواقع الجسم الطلابي في مختلف المؤسسات التعليمية في الأردن، يعي جيدا بان هذا الكم الهائل من الأعداد الطلابية، تعيش حالة من فقدان السيطرة والتشتت والعجز، وعدم القدرة على التعاطي والتفاعل مع المحيط الطلابي والحياتي والمجتمعي، بصورة ايجابية مشرقة، بسبب التهميش والعجز الذي يفعل وتسخر إمكانيات هائلة لتفعيلة، مما يجعل العجز شبه جذري أمام الغوائل المتعددة والتي تترابط حلقاتها وتتفاعل معا، وتفرض على هذا الجسم الطلابي جملة من القوانين، التي تتميز أساسا بالرضوخية والاعتباطية والتسلطية والاستسلام لاختيارات الآخرين في رسم نماذجه السلوكية، يكون أبرز ملامحها التضعيف والتسطيح والخمرنة الجماعية والاجتياف والتبخيس، وهو ما يودي إلى تراكم فعلي ومزمن إلى حالات من العدوانية النائمة. هذه الوضعية العلائقية المتشابكة والشائكة، وما ينتج عنها من إحساس بالقهر والعجز وفقدان الأمل بتلمس ملامح المستقبل، في ضوء أوضاع اقتصادية واجتماعية وسياسية معقدة، تودي إلى ردود فعل متطرفة، بعيدة عن العقل والسيطرة، و حالات من العنف الانفجاري الذي يمكن إن يمارس على أين كان، ومن الممكن أن يظهر بإشكال متعددة ومعقدة، وصولا إلى حالات القتل، ولأسباب قد تبدو بسيطة وسطحية بالنسبة للكثيرين، إن هذا الكم الهائل من الضغوط واستمراريتها في ظل أوضاع الاختزال والتهميش، تجعل الحاضر أشد وطأة والمستقبل ضبابياً، من الصعب تلمس ملامحه، وهو ما يجعل الوجود متأزما ومتصارعا وخانقا، يغيب فيه الأمل في تحقيق الأهداف، مما يخلق اجترار سوداوي للتجربة الوجودية لهذه الفئة من الشباب في هذه المرحلة العمرية .
إن غياب الانخراط الفعلي في حركة طلابية ذات رؤية واضحة لأهمية الطلاب والنشاط الطلابي والاتحادات الطلابية، وعرقلة جهودهم عن انجاز المهام المطلبية، وتغيبهم عن الهموم و الشؤون الوطنية والقومية، وتحريم وتجريم العمل السياسي والثقافي الهادف، المفعل والمنمط للقطاع الطلابي، الذي يضعهم أمام مسؤوليات تاريخية، ويجعلهم صمام أمان للوطن والأمة لمواجهة المؤامرات والتحديات ومحاولات السيطرة والهيمنة، خصوصا إننا نعيش في منطقة من العالم تكثر فيها الأزمات والمؤامرات السياسية الاستعمارية والصهيونية، والتدخلات الخارجية السافرة، وهي محط أطماع الدول الكبرى، التي لا تعير مع مصالحها أي أهمية لكرامة الأمم والشعوب، إن تغيب الطلاب عن الحياة العامة من شانه أن يضعف البنى الاجتماعية والسياسية ويضعف المجتمع برمته، ويقلل من قدراته على مواجهة التحديات الراهنة التي تتسم بالتعقيد والخطورة.
وفي المقابل فان الاتحادات الطلابية الموقعية في الجامعات والمؤسسات التعليمية، لا تعدو أكثر من تجمعات اقرب ما تكون إلى العشوائية واشبه بنظام الفزعات، وخصوصا في الفترات الانتخابية تفعل فيها العشائرية والجهوية والمناطقية والانتماءات الضيقة، كما تريدها إدارات الجامعات، وبالذات عمادات شؤون الطلبة، بل ومحاولة تسخيرها وتأطيرها في اتجاهات محددة ضيقة غير فاعلة. بل ومشوهة بطريقة قصريه تقف عند حد المسموح به وغير المسموح به.
ولابد من الإشارة إلى أن الحركات الطلابية ضرورة وطنية اقتضتها ضرورات الأوطان والمجتمعات الإنسانية، ولهذا تعد الحركة الطلابية الأردنية ضرورة وطنية من الدرجة الأولى، أذا ما أردنا النهوض بواقع الوطن والأمة، بل إن الضرورات الوطنية في الأمة تحتم على مجتمعنا تنشيط وتفعيل الحركات الطلابية لزج العناصر الشابة لتكون شرايين حياة جديدة للوطن، وعناصر فاعلة في مواجهة المؤامرات التي تحيق بالأمة. وبناء على أهمية الحركات الطلابية في الأمم والمجتمعات الإنسانية، أولت المجتمعات المتحضرة الجسم الطلابي اهتماما واضحا، لأن تنميط وماسة المجتمعات ضرورة تتطلبها طبيعة التطور والإسراع والضبط في التغير، ولهذا لم يكن حاضرة في حسبان تلك المجتمعات الخوف أو التوهم في الخوف من الحركات الطلابية، بأنه يمكن تستغلها الأحزاب السياسية، وفي المجتمعات التقليدية أو المقيدة فإننا نرى هنالك قيود على الحركات الطلابية خاصة وقيود على معظم الحركات الاجتماعية والسياسية وتخويف وتخوين لهذه الحركات، مع ذلك لم تستطع هذه المجتمعات على الرغم من كل التدابير التي اتخذتها سواء قانونيا أو أمنيا أو سياسيا من إلغاء وضع الحركات الطلابية من الوجود، بل إن العديد من الحركات الطلابية انتزعت الاعتراف بها بعد جهود نضالية وتضحيات كبيرة،لم تستطع معها السلطات السياسية القضاء على هذه الحركات الطلابية، وأمام هذا الواقع الجديد إي تنامي الحركات الطلابية، عمدت السلطات السياسية في بعض المجتمعات وخاصة في وطننا العربي، إلى إجهاض الحركات الطلابية وتحويلها عن مساراتها مستخدمة بذلك طرق غير مشروعة، وسخرت لذلك جهود وطاقات وإمكانات مالية هائلة.
إن المتتبع لحركات الاحتجاجات الطلابية يرى بأنها حركة عالمية والمتتبع للعنف الطلابي يلمس بأنها ظاهرة عامة، استطاعت في بعض المجتمعات من انتزاع ليس فقط حقوقا طلابية بل وحقوقا وطنية، فكانت الحركات الطلابية في فيتنام رديفاً للثورة الفيتنامية، وأنجزت مهام وطنية عميقة في الصين والاتحاد السوفييتي وجنوب أفريقيا وفلسطين.
مع ذلك كانت القوى المضادة في فيتنام وجنوب أفريقيا وفلسطين وفي العديد من الدول العربية تصف الحركات الطلابية بالإرهاب والتخريب، ولم تسلم الحركة الطلابية والجسم الطلابي في الأردن من هذه الممارسات منذ تأسيسها خارج ارض الوطن، وبالعودة إلى ظاهرة العنف الطلابي في الجامعات الأردنية والى تلك الأسئلة التي طرحناها، يمكن القول ان العنف بشكل عام والعنف الطلابي بشكل خاص ليس ظاهرة متأصلة في مجتمعنا، بل إن الثقافة المجتمعية في مجتمعنا ثقافة متسامحة تحض على التعاضد والتكافل والتعاون ونبذ العنف واعتباره خارج عن الروابط الاجتماعية والتقاليد المتعارف عليها في المجتمع، ولهذا كانت كل القوانين الاجتماعية السائدة والمعمول بها في الأوساط الاجتماعية قاسية على من يخرج عن الواقع الاجتماعي بما في ذلك استخدام القوة والعنف ضد الآخرين، ونزيد على ذلك إن الإسلام كمصدر أساسي لثقافتنا أوصى بالتسامح ونبذ العنف بين أجزاء الأمة الواحدة، وعليه استنادا على ما ورد في القران الكريم والأحاديث النبوية الشريفة. وهو ما يفيد إن العنف الطلابي ليس حركة عفوية كامنة في البناء والأنظمة الاجتماعية التي تشكل المقوم الأساسي للهيكلية العامة في المجتمع، ومن جانب أخر فان النسيج والمكون الاجتماعي في المجتمع الأردني ترابطي، تعاضدي، علائقي، متين، بقي قائما ومحافظا على الأمن والاستقرار طيلة فترات غياب السلطات المركزية منذ نهاية الدولة العباسية، مرورا بعصر الدويلات، والغزو الصليبي، والحكم العثماني الذي امتد إلى ما يقارب الأربعمائة عام، الأمر الذي يدفعنا للقول بان هذه الظاهرة ليست أصيلة في المجتمع الأردني، ومع ذلك فان هذا لا ينفي ظهور أحد اث معزولة هنا وهناك قد تحسب ضمن تطورات معينة على إنها عنف مجتمعي أو طلابي.
إن المتمعن والمتابع للحركة التعليمية في المجتمع الأردني يجد تسارع في الوتيرة التعليمية كما ونوعا، وهو ما يفيد إن المجتمع يستشعر في إطار رؤيا بعيدة المدى، أهمية التعليم لدى كافة طبقات ومكونات المجتمع، إي أن الهدف هو هدف ارتقائي تطوري تغييري نحو الأفضل يتوسم النفع والتقدم. إن روية المجتمع العامة للتعليم وأهميته لا تعكس تأصل ظاهرة العنف الطلابي، أو اعتباره منهجا مهما لتحقيق غايات وأهداف نبيلة وشريفة تقرها الشرائع والأنظمة الموجهة للسلوك الإنساني. مع ذلك فان المتتبع لمسيرة التعليم، يلحظ بروز ظاهرة عنف طلابي تحدث بين الفترة والأخرى في الساحات الجامعية في المجتمع الأردني، وعندما نقول ظاهرة وإنما نعني بأنها مشكلة، إي أنها مرفوضة وغير مقبولة، ومع هذا نجد أنفسنا أمام السؤال التالي ما دامت ثقافتنا وتعاليمنا الدينية لا تشجع على العنف بل وترفضه، إذا لماذا تظهر أعمال العنف بين الفترة والأخرى في الجامعات الأردنية؟، إن الإجابة على هذا السؤال العام والعريض ليست سهلا كما يتوقع البعض. وهو ما يدفع المراقب إلى محاولة دراسة القضية من منظور تحليلي يستند على البعد التاريخي والاجتماعي والسياسي والثقافي، انطلاقا من إن الظاهرة لا تتشكل خلال ليلة وضحاها، أو تفسر في ضوء عامل وأحد منعزل، وإنما من خلال جملة الأسباب التي تقف وراء لظاهرة، ما دامت فعلا موجودة، وكذلك التعامل معها من الناحية الترابطية، إي ارتباطها بظواهر وعوامل أخرى، وهو ما يفتح الباب على مصراعيه لتدخل العوامل وتفعيلها، و من ثم فان التحليل يتطلب هذه الرؤية الترابطية والتاريخية وجملة العوامل التفعيلة التي استولت ظاهرة العنف الطلابي. تاريخيا تشكلت الحركة الطلابية الأردنية خارج الأردن، وان كانت بذورها قد ولدت في الداخل الأردني، وكانت حركة طلابية تنويرية حقوقية ومطلبيه وسياسية في ذات الوقت، وهو ما يشير في الاتجاه الأخر إلى إن العنف كان يمارس ضد الطالب الأردني من خلال حرمانه من تشكيل اطر وهيئات تؤاطره وتحفظ له حقوقه، وتعاقبه فيما إذا انتسب إلى الحركة الطلابية الأردنية، بل مورس عليه عنف وضغوط هائلة، وعندما أسست الجامعات داخل الأردن، استمرت فلسفة حرمان الطلبة من التاطير والتفغيل، وحرمت عليهم النشاطات الثقافية والسياسية ،وأصبح الطالب مراقباً ومتابعاً ومرعوباً في نفس الوقت من كثرة المحرمات السياسية والأمنية، بسبب القوانين العرفية التي منعت تشكيل اطر معمول بها في الحرم الجامعي، واستخدمت سياسات تقويضية للعمل الطلابي، من خلال إنشاء اتحادات موقعيه مسيطر عليها وعلى الجسم الطلابي، ومن ثم تغيير مسار الحركة الطلابية من خلال جملة المحرمات والممنوعات، وجملة القوانين التي تقيد العمل الطلابي، وثم السيطرة على الحركة الطلابية من خلال التدخل في الانتخابات الطلابية، وتحديد نشاطات غير فاعلة للطلاب، بل أن السعي إلى تشويه العمل الطلابي دفع بعض الجهات المعنية داخل الجامعات وخارجها، إلى تعزيز سلوكيات ذات صيغ تقليدية مضادة لطبيعة وأهداف الحركة التعليمية في الجامعات، كان من أهمها على الإطلاق التفعيل العشائري والجهوي والفئوي ولمناطقي، فتغذت النشاطات الطلابية عشائريا وفئويا ومناطقيا، وهذا التوجه نعتقد انه والى حد كبير مسؤول عن العنف الطلابي ومغذ له، وتزداد الحالة صعوبة عندما يتعاضد مع هذا التوجه حرمان الطلاب وتخويفهم من النشاطات السياسية والفكرية والثقافية، بل إن إدارات الجامعات تجبر بعض الطلاب على توقيع تعهد بعدم ممارسة العمل الطلابي والثقافي والسياسي، وهو ما يعكس التوجه العام من قبل هذه المؤسسات للعمل الطلابي، على الرغم من الادعاء والمظهرية الإعلامية ذات المنحنى التلفيقي الذي تتبعه لتشويه العمل الطلابي، وأبعاده عن أهدافه الحقيقية، حتى وان كان ضارا بالمجتمع والمؤسسات التعليمية، لان الهدف الأساسي من وراء ذلك، هو تزييف العمل الطلابي، وصبغه بسمات وأبعاد تسهل تقويضه، وإعطاء انطباع مشوش ومشوه عنه، وتسويقه على انه يشكل ظاهرة سلبية، وينتج عنه مخاطر اجتماعية وأمنية وطلابية سيئة، من اجل إعطاء تلك الجهات تبريرات لاستخدام جملة الإجراءات التي اشرنا إليها سابقا.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن أكثر الأشياء تعظيما وتفعيلا في إطار التعامل التشوهي والتشويشي للعمل الطلابي والسياسية هي الاستخدامات القبلية والعشائرية، لقد فعلت في الوطن العربي العشائرية والقبلية إلى حدود واسعة، لتحقيق مجموعة من الأهداف والمكاسب السياسية، وعلى الرغم من السلبيات والأضرار الذي يحمله تفعيل القبلية، إلا انه كان يحقق جملة من الأهداف السياسية تتنافى مع سمات مفهوم الدولة الحديثة. لكنه في الوطن العربي يعكس لنا بوضوح زبونيه الدولة، وأبوية الدولة، بل تطبيق عملي إلى مفهوم الدولة الباتريمونيالية، وهو تجذير للدولة على حساب المجتمع والمؤسسات على حساب الأفراد.
بعد هذه المناقشة ونتيجة إلى تشعبات الموضوع وتعقده يمكن أن نلخصه إلى النقاط التالية:
1. إن العنف الاجتماعي والعنف الطلابي ليس ظاهرة متأصلة في المجتمع الأردني، وإنما يمكن إن يتغذى من خلال التناقض الذي تتسم به الثقافة العربية الممتد إلى حقبات تاريخية طويلة من الزمن، على اعتبار إن الثقافة الاجتماعية السائدة في المجتمع الأردني والعربي هي ثقافة متناقضة تحمل في طياتها عناصر مغذية للعنف وجانب أخر متسامح.
2. تساهم إدارات الجامعات في تأزيم العمل الطلابي، وتعمل على تشويهه في كثير من الحالات.
3. إن المحرمات السياسية والممنوعات السياسية التي تمارس ضد العمل السياسي العام، وضد النشاط السياسي الطلابي، فعل مناشط واطر تقليدية تجنبا للعمل السياسي الطلابي، كانت أهم نتائجه العنف الطلابي.
4. إن التفعيل القصري للفئوية والجهوية والمناطقية والعشائرية، والحرمان السياسي والثقافي اضر بالعمل الطلابي، وعليه فان هذا التفعيل مسؤول مسؤولية مباشرة عن العنف الطلابي.
5. إن تفعيل الثقافة التقليدية وضعف التربية الوطنية يساهمان بشكل واضح في تعزيز العنف الطلابي.
6. إن الانفراج السياسي والثقافي داخل الجامعات، وتفعيل العمل الطلابي المرتبط بالأهداف الوطنية تعد صمام أمان ضد ممارسات العنف.
7. إن تغييب البعد الوطني عن العمل الطلابي، يفضي إلى إشكاليات عميقة مضره بالجسم الطلابي وبالأهداف الوطنية والقيم العليا للمجتمع.
8. إن غياب و تهميش الوعي الوطني و القومي الأصيل يفسحان المجال واسعا أمام الانتماءات الضيقه، و يجعلان هذه الانتماءات أكثر تأثيرا، وبالتالي تكون مسؤولة بشكل مباشر عن العديد من المعضلات والمشكلات العميقة التي تواجه الوطن والأمة وتدفع باتجاه تأزيم وتفعيل العدوان والعنف في الحياة العامة وفي الوسط الطلابي.