الساعة

النظام العربي ودوره في مواجهة قضايا المنطقة

01/09/2009

مركز الرأي للدراسات

اعداد : د.خالد الشقران

9/2009

لا يجد المتأمل في الواقع المؤلم الذي يعيشه العرب بما يتضمنه من ضعف وفرقة وتيه يحار في توصيفه الفكر وتنؤ بثقل اصلاحه الحركة سوى ثلاثة مشاهد تستفز التفكير:

المشهد الاول : وهو من التجربة اليابانية حيث بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية خشيت اليابان على استقلالها ووحدة اراضيها فتصدت بالعنف الدموي للقوى المحلية التي عملت على تغريب اليابان او جعلت من نفسها ركائز محلية للتدخل الاجنبي المحتمل ، ثم اختارت اليابان طريق شبه العزلة التامة عن المؤثرات الغربية الى ان اجبرها الغرب على فتح ابوابها امامه منذ اواسط القرن التاسع عشر ، وتجدر الاشارة هنا الى ان شكل الصراع بين اليابانيين والدول الغربية الذي قاد الى العزلة الطوعية ليس صراعا بين البوذية والمسيحية كما يبدو في الظاهر بل صراع بين مكونات الثقافة اليابانية التقليدية ومكونات الثقافة الغربية في مرحلة لم تكن تمتلك فيها أسلحة كافية للمجابهة الناجحة، فأختارت اليابان الانكفاء على الذات ورفض الآخر فردا كان او دينا او لغة او ثقافة وذلك بإنتظار مرحلة أفضل تستعد فيها للرد على التحدي.

المشهد الثاني: وهو من خبرة الواقع العربي المعاصر وتحديدا اثناء احداث غزة عندما حدثني احد اعضاء وفد العلماء المسلمين الى الحكام العرب عن ان جميع الحكام الذين زارهم الوفد كانوا يتفقوا معهم في ضرورة توحيد الجهود العربية في مواجهة هذا العدوان الصهيوني الغاشم على الاهل في غزة، الا ان كل واحد منهم كان يشكو عدم تعاون الحكام العرب الاخرين وغياب الموقف العربي الموحد تجاه قضايا الامة.

المشهد الثالث: وهو صرخة مفكر آلمه زمن الانبطاح العربي، حيث يقول الدكتور فوزي منصور في تفسيره لاسباب خروج العرب من التاريخ: قد يصبر التاريخ على قوم في هزائمهم، وقد يمد التاريخ يده لمن يتخلف عن الركب، اما الذي لا يتسامح التاريخ به ابداً، فهو ان يدير القوم ظهورهم له يمضوا متباعدين عنه، وذلك تحديدا هو ما يفعله العرب.

ويستدعى الوقوف عند هذه المشاهد طرح ثلاث تساؤلات اساسية هي:

- اذا كانت بدايات النهضة العربية واليابانية واحدة من حيث الفترة فلماذا كانت النهايات مختلفة؟ ولماذا نجح اليابانيون في الحفاظ على وحدتهم وتحقيق النهضة على قلة مواردهم وثرواتهم الطبيعية، بينما فشل العرب رغم توفر كل الامكانيات اللازمة لذلك؟

- اذا كان الحكام العرب يشكون غياب توحيد المواقف العربية، فمن الذي يمكن ان يصنع لنا وحدة او على الاقل نظاما عربيا متحدا؟ ومن يتحمل مسؤولية الفشل في ذلك؟

- اذا كان العرب قد اداروا ضهورهم للتاريخ، فكيف يمكن خلق اتجاهات وسبل جديدة تساعد في احياء النظام الاقليمي العربي ؟

قضايا كثيرة وشائكة تلك التي تعاني منها المنطقة العربية فمن عدم الاستقرار السياسي بشكل عام الى تداعيات وآثار الصراع العربي الاسرائيلي والقضية الفلسطينية وامتداداتها والمسألة العراقية والصراع على النفوذ والمصالح في المنطقة مابين القوى الكبرى على الساحة العالمية ببعضها من جانب ومع والقوى الاقليمة الصاعدة من جانب آخر وعلى رأسها الاطماع الايرانية وحرب السيطرة على منابع النفط والتحديات الاقتصادية، والتحديات المتعلقة بقضايا التنمية والديمقراطية والحريات العامة وحقوق الانسان والتطور التكنولوجي والمعرفي وغيرها من التحديات المختلفة، وفي مقابل ذلك لازال العرب يكتفوا على ما يبدو بدور المتلقي الذي لا حول له ولا قوة والمتأثر بما يفرض عليه من احداث وتفاعلات دون ان يكون لهم تأثير واضح على الاقل في القضايا الرئيسية التي تتعلق بشكل اساسي بحاضرهم ومستقبلهم ومقدراتهم، من هنا فقد حاولت هذه الدراسة الوقوف على حقيقية وواقع النظام العربي وطبيعتة وتركيبتة مع استعراض لبعض التصورات والخيارات التي يمكن من خلالها للعرب ان يشكلوا نظام حقيقي قادر على تحمل مسؤلياته في مواجهة قضايا المنطقة والوقوف في وجه التحديات التي تعصف بالمنطقة واخذ موقعه في الساحة الدولية وفي الدفاع عن مقدرات الامة ومصالحها.

وقد انطلت الدراسة من مجموعة من التساؤلات الاكثر الحاحا والتي من اهمها: هل هناك نظام عربي قائم فعليا؟ وما هو الدور الذي يقوم به؟ واذا لم يكن هناك مثل هذه النظام فما هو شكل وطبيعة العلاقة بين الدول العربية وما هي امكانيات ايجاد أي نوع من انواع الاتحاد او التكل او التحالف لتنظيم هذه العلاقة؟ وما هو الدور الذي يمكن يلعبه مثل هذا النظام في مواجهة قضايا المنطقة؟

ففي حقيقة الامر انه على الرغم من توفر عدد كبير من الاسس والبنى المادية والمعنوية والثقافية والاجتماعية والجغرافية التي تعزز أي توجه نحو بناء نظام عربي قوي يؤسس وفق أي من صيغ التكتل والتحالف او حتى الاتحاد الموجودة على الساحة الدولية الا ان العرب لا زالوا ابعد ما يكونوا عن القيام بخطوات جادة في هذا الاتجاه، فعلى الرغم من توفر الاسباب والمقومات اللازمة لنجاح أي مشروع حضاري تكاملي او وحدوي منظم في الحالة العربية كوجود حد ادنى من التجانس والتوافق الثقافي والحضاري بصفة عامة ما بين الوحدات او الكيانات السياسية المعنية وتوافر درجة من التواصل الجغرافي او الكيانات ضمن نطاق اقليمي واحد يسمح بأمكانية اتصالها وتواصلها مع بعضها وتوافر حد ادنى من المصالح المشتركة والتحديات المتشابهة، الا ان ايا من اشكال الوحدة او الاتحاد او او التكامل او التكتل اوحتى مجرد التنسيق المنتظم لاتخاذ موقف موحد لا زال امرا غير متاح عربيا خاصة وان هذه الدول لا زالت بعيدة الى حد كبير مرحلة الوصول الى اتفاق حول الاهداف والغايات المتعلقة بأي صورة من صور التعاون والتكتل او التحالف او حتى التنسيق الحقيقي للمواقف.

الامر الذي يعتبر معه اطلاق مصطلح "النظام العربي" على حالة التفاعل والتنسيق بين الدول العربية ببعضها نوع من مجافاة الحقيقة والواقع، لان حالة التفاعل بين دول المجموعة العربية لم ترتق بعد الى الشكل المؤسسي المنتظم حتى تستحق ان توصف "بالنظام العربي"، وعليه فقد حاولت هذه الدراسة الابتعاد ما امكن عن استخدام هذا المصطلح والبحث عن توصيفات اخرى قد تكون مطابقة اكثر للواقع العربي الحالي، بدليل ان دول المجموعة العربية ليس فقط ليس لديها مواقف موحدة بخصوص القضايا التي تخص المنطقة وانما ايضا قد يصل الامر الى غياب مجرد التنسيق في المواقف تجاه قضايا الامة الرئيسية مثل القضية الفلسطينية والصراع العربي الاسرائلي والعراق والصومال وغيرها، بل نجد انه في كثير من الاحيان التي تكون فيها الامة احوج الى الاتفاق تظهر وبشكل مأساوي بوادر انقسام وصراع بين الدول العربية على مواقف وقضايا قد لا تكون اساسية وذات اولوية بالنسبة للشعوب العربية، وهذا ما يقود الى القول بأنه يمكن تسمية شكل الاطار الذي يربط دول المجموعة العربية بأي وصف آخر الا انه لا يمكن وصفه بالنظام .

هذا الواقع يقود الى طرح مجموعة جديدة من التساؤلات من اهمها ما كان طرحه الدكتور برهان غليون في احدى صناعاته الفكرية الجديدة حيث رأى ان موضوع تعثر قيام الوحدة العربية يطرح سؤالين مهمين لكنهما ليس من نوع أي العقبات حالت أو تحول دون قيام الوحدة العربية، وإنما: لماذا كان انفصال وانقسام وتباعد، ولم تكن هناك وحدة؟ أي على أي عامل يرتكز نظام التجزئة، وكيف يعيد إنتاجه، إذا كانت هناك تجزئة؟ ثم ما الذي منع جامعة الدول العربية التي طرحت نفسها بديلاً واقعياً وعملياً معتدلاً لمشروع الوحدة الشعبية والثورية من أن تتحول، كما حصل في الكثير من بقاع الأرض، إلى منظمة إقليمية فاعلة في التنسيق بين جهود الشعوب الأعضاء فيها، وتوحيد قواها وإطلاق طاقاتها، على منوال المنظمات الإقليمية التي تكوّنت من دول لا تربط شعوبها بعضها ببعض، لا صلة قرابة، ولا لغة، ولا دين؟ ونضيف الى ما سبق عدد من التساؤلات المهمة منها ما هي العوامل التي تحول دون وجود نظام عربي او تحالف او تكتل يكون بشكل مضلة يضم كل الدول العربية؟ وما هي التصورات والخيارات والبدائل والسبل التي يمكن من خلالها بناء نظام عربي قادر تقديم مصالح الامة على المصالح الخاصة والدفاع بشكل فعلي عن هذه المصالح ومواجهة القضايا والتحديات والاخطار التي تحيط بالدول والشعوب العربية؟ ثم ما هي الديناميكية، أو تضافر العوامل والسياقات التي تفسر تفاقم التناقضات بين دول ومجتمعات كانت تتسم بمقدار من التجانس والانسجام أكثر بكثير مما أصبحت تتسم به اليوم، وما هي الديناميكية التي جعلت وتجعل الجامعة العربية، وهي بحسب -تعبير د. غليون- منظمة إقليمية تجمع دولاً مستقلة وسيدة من حيث المبدأ، "طاحونة كلام لا تقدّم ولا تؤخر" في مسيرة الشعوب العربية؟

عوامل غياب النظام العربي

يكاد يكون هناك شبه اتفاق في الرأي بين فئات الشعب العربي من مفكرين ومحللين وافراد عاديين، على أن من بين العوامل التي أعاقت وما تزال تعيق قيام نظام عربي فاعل وكذلك قيام أي نوع من انواع الوحدة او التكتل او التحالف بين الدول العربية- والتي يمكن ان يكون ذكرها ضرورياً في هذا المقام، لتشكل على الاقل مفاتيح لتفكير اعمق يساعد على فهم المسائل الجوهرية والتحدي الاكبر للفكر والسياسة العربيين –ما يمكن اجماله بما يلي:

- غياب الديمقراطية الحقيقية عن بلدان الوطن العربي، الامر الذي يجعل الحديث عن التداول السلمي للسلطة والمشاركة الشعبية في صناعة القرار واحترام ارادة الشعوب والشفافية السياسية ووضع نظام للمحاسبة السياسية ضرباً من ضروب الخيال او الجنون احياناً.

- تركيبة جامعة الدول العربية من حيث هي "كونفدرالية رخوة"، حيث لم يكن مبدعوا فكرتها على ما يبدو راغبين بأن يكون لميثاقها ومجالسها وآليات عملها أي هوامش تساعد على تطوير استراتيجيات ملزمة لتعزيز وتطوير شبكة العلاقات العربية العربية في المجالات كافة.

- غياب الارادة السياسية والذي ادى الى غياب او التغييب القصدي لكثير من نقاط القوة التي يمكن توظيفها في مجال العمل الوحدوي العربي ومن اهمها عدم التأسيس لشبكة مصالح عربية مشتركة تقوم على مبدأ الاعتماد المتبادل في مختلف المجالات.

- استناد معظم النخب الحاكمة في الدول العربية الى دعم القوى العظمى وليس الى الشرعية السياسية المستمدة من الشعب حيث ان العرب الكتلة الوحيدة في العالم التي لم تأتي فيها منظومات او مؤسسات الحكم وفق آليات انتخاب حقيقية وشرعية مما ادى الى تبعيتها وعدم تمتعها باستقلالية في القرار السياسي والاقتصادي وحتى الاجتماعي والثقافي في كثير من الاحيان، ولعل اختلاف مواقف هذه النخب عن مواقف شعوبها تجاه الكثير من القضايا العادلة وربما المصيرية المتعلقة بالأمة العربية يشكل دليلا قاطعا على سلامة هذا الطرح.

- انعدام الثقة بين الانظمة والنخب والقيادات العربية بعضها ببعض الامر الذي جعل التشكيك في النوايا المتعلقة بأي سياسات او قرارات او مبادرة عربية هو الاصل.

- تعميق الفجوة بين القطري والقومي من جانب والعربي والاسلامي من جانب آخر الامر الذي بات في ظله يحضر حتى على المنظمات المدنية والاحزاب والاتحادات النوعية في القطر الواحد ان تتمادى في تعميق او تطوير أي نوع من التفاعلات المؤثرة جماهيرياً مع مثيلاتها سواء في الدائرة القومية او الدائرة الاسلامية, في حين يوصم بتهمة ارهابي كل من يتحدث عن أي اجراءات عملية للدفاع عن أي شعب ضمن الدائرة القومية او الاسلامية يتعرض لعدوان من طرف خارجي، فيما يتم تلفيق تهمة العمالة والارتباط بقوى خارجية والخيانة الوطنية لكل من يجرؤ على الحديث عن عمل عربي عبر قطري سواء كان مؤسساتي ام جماهيري.

- نمو النزعات الوطنية المرتبطة بالدولة القطرية التي أصبحت حقيقة واقعة لا يمكن إنكارها، والتي تفرض نفسها على الشعوب والحاكمين في الوقت نفسه.

- الاختلافات في نظم الحكم والأيديولوجيات، وما يترتب على ذلك من اختيارات متباينة في النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ومن توجّهات متناقضة أحياناً في السياسة الخارجية والتحالفات الدولية. فهناك النظم الملكية والنظم الجمهورية، كما أصبحنا نتحدث اليوم عن دول معتدلة، أي حليفة للغرب، ودول متطرفة ممانعة ومقاومة للسيطرة الغربية.

- التباين الكبير في حجم الموارد الاقتصادية. فبعد انقسامه بين دول اشتراكية ودول رأسمالية، في حقبة سابقة، أصبح الوطن العربي مقسماً اليوم بين دول نفطية غنية وقليلة السكان يصل دخل الفرد السنوي فيها أحياناً إلى أكثر من خمسين ضعف دخل الفرد في دول فقيرة أخرى كثيفة السكان. ولا يكاد مثل هذا الفرق الهائل في مستويات الدخل يوجد في أي أمة، بل في أي منطقة في العالم، مما يعني أن الدول الغنية هي الخاسرة في أي وحدة تدفع لا محالة إلى إعادة توزيع الموارد الاقتصادية.

- الصراع على الزعامة والنفوذ بين النخب والقيادات العربية. وهذا مصدر نزاع دائم بسبب المخاوف التي يبعثها عند الدول الصغيرة التي تخشى أن تبتلع من قبل الدول الكبيرة أو تخضع لسيطرتها ونفوذها، مما يدفعها إلى اللجوء إلى الحماية الأجنبية، كما حصل مع دول الخليج، بعد اجتياح الكويت من قبل القوات العراقية في بداية التسعينيّات. ومن الطبيعي أن تؤدي التحالفات مع الدول الأجنبية إلى تعميق الشرخ القائم بين الدول العربية وتضطر العديد منها إلى أن تعمل في إطار استراتيجيات دولية، وتستورد نزاعات إقليمية أو دولية لا علاقة لها بالمصالح العربية.

- عداء الدول الغربية وإسرائيل ومناهضتها النشطة لأي عملية تكتل أو توحيد أو حتّى تعاون عربي جدّي، لما يشكّله ذلك من تعديل في موازين القوى الاستراتيجية يهدّد النفوذ الغربي، وربما الأمن الإسرائيلي أيضاً.

- واذا تم تجاوز العوامل او الخطوط العريضة في اسباب غياب اوجه العمل الوحدوي العربي بما فيها غياب نظام عربي فاعل فقد حاولت الدراسة تحليل البيانات المتعلقة بالموضوع انطلاقا من اطروحتين اساسيتين هما:

- ترى الاطروحة الاولى : ان غياب الديمقراطية هو اكثر الاسباب تأثيرا في فشل قيام نظام عربي قوي وكذلك فشل العمل الوحدوي العربي بشقيه (الوحدة الاندماجية على الطريقة الشعبية، وتكوين منظمة اتحادية فاعلة).

- بينما ترى الاطروحة الثانية: ان اعتماد النهج الديمقراطي في الاقطار العربية يعتبر العامل المستقل الذي سيجعل من نجاح العمل الوحدوي العربي وقيام نظام عربي فاعل قادر على القيام بدوره تجاه قضايا المنطقة امراً ممكناً ، وان كل المعيقات الاخرى تعتبر عوامل تابعة يمكن للديمقراطية ان تهيء الضروف المناسبة للتخلص منها تباعا وصولا الى تحقيق واحدة او اكثر من الصيغ المنشودة للعمل الوحدوي العربي .

الانسجام والتماثل العربي

ولما كانت تجارب الامم الاخرى الختلفة قد اثبتت امكانية خلق الانسجام بين الشعوب المختلفة تحقيقا لمصلحها العامة فإننا وبالنظر الى حالة الانسجام والتماثل الموجودة في الواقع العربي- امام اشكاليتين اساسيتين تستدعيان طرح سؤالين مهمين وهما: كيف يمكن استثمار حالة الانسجام والتماثل الاولية المتاحة لدى الشعوب العربية من حيث وحدة الاصل والعرق والدين واللغة والتاريخ والثقافة وتوظيفها لاختصار مسافة الوقت والجهد امام أي عمل وحدوي يفضي الى ايجاد نظام عربي فاعل ؟ ثم ما هي الآليات التي يمكن من خلالها الدفع باتجاه تعميق حالة التماثل والانسجام هذه عبر خلق حالة موازية من التماثل والانسجام و بين الدول والشعوب العربية في مناهج الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية والعملية والمصلحية؟.

ومع اهمية وسلامة الطرح الذي يعزو فشل العمل الوحدوي العربي وكذلك فشل قيام نظام عربي فاعل بسوء الادارة وانعدام النضج السياسي والحزازات الشخصية والتنازع على السلطة والزعامة وسيطرة الروح الشللية والتآمرية وضعف هيكلة الحركة الشعبية، الا ان المتأمل لجميع هذه الاسباب يرى ان القاسم المشترك لوجودها امر واحد فقط ؛ وهو غياب الديمقراطية والمشاركة الحقيقية للشعوب التي هي اساس وهدف أي وحدة في صناعة القرار المتعلق بالوحدة وما تبعها من قرارات تتعلق بمستقبل تلك الوحدة.

فما هي النتيجة المتوقعة التي يمكن الحصول عليها لو تم اجراء استفتاء حقيقي حر للشعوب العربية وحتى الاسلامية حول اجراء وحدة عربية او وحدة بين الشعوب الاسلامية على امتداد رقعة الارض التي تعيش فيها هذه الشعوب ؟ هل يتوقع عاقل ان ترفض الشعوب قيام مثل هذه الوحدة؟ ماذا يمكن ان تفعل السياسة في مواجهة الشعوب اذا توافرت لهذه الشعوب ديمقراطية حقيقية تتيح حرية الاختيار وتضمن حقها في المشاركة الحقيقية في صنع القرارات ومحاسبة النخب الحاكمة التي يمكن ان تخالف ارادتها؟ هل سيكون باستطاعة صانع القرار السياسي ان يوقف ارادة الشعوب في تحقيق هكذا وحدة؟ اليس التماثل المسبق سيكون هو المحرك الرئيس لهذا الاختيار الشعبي؟.

اعادة انتاج شكل الدولة

وانطلاقاً مما سبق ولأن الواقع السياسي العربي هو ابعد ما يكون في المرحلة الحالية من عمر النظام العربي عن التطبيق الجاد والحقيقي للاطر الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة واحترام حقوق المواطن وحريته في الاختيار والتعبير, ولانتفاء مبدأ السيادة الشعبية وغياب العدالة الاجتماعية, فلا بد من البحث في الاسباب الواقعية التي تشكل عائقاً امام العمل الوحدوي العربي، وكذلك عن السبل المتاحة والممكنة التي يمكن ان تساعد على تجاوز هذه المعيقات وصولا الى نظام عربي فاعل قادر على الدفاع عن مصالح الامة في مواجهة القضايا والتحديات المختلفة؟.

قد يبدو الحديث عن اطر العمل الوحدوي العربي او قيام نظام عربي فاعل في ضوء الواقع وفقه المتاح والممكن مهمة شاقة لكنها لا تبدو مستحيلة في ظل تحققها لشعوب ودول اخرى مختلفة بمجرد توافر التماثل السياسي والاقتصادي والمصلحي المسبق بينها.

وبما ان عوامل التماثل الاولية والاساسية متوافرة لدى الشعب العربي فلا بد من البحث عن الاسباب التي حالت حتى الان دون استكمال بقية عناصر التماثل المتمثلة بتوحيد مناهج الحياة السياسية والاقتصادية والمصلحية والتي يمكن ان تفضي في حال توافرها الى تحقيق بوادر وحدة عربية قد تبدأ في الاقتصاد ومن ثم تمتد لتشمل مختلف مناحي الحياة بما فيها الجانب السياسي.

وهنا يبدو من الضرورة بمكان اعادة استدعاء المعيقات الواقعية التي تحول دون تطور العمل الوحدوي العربي، ولما كان العامل السياسي بما يتضمنه من اختلاف نظم الحكم والايديولوجيات وما يترتب على ذلك من اختيارات متباينة في النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية اضافة الى الاختلاف في ترتيب سلم الاولويات المصلحية بالنسبة لكل نظام سياسي هو العامل الاكثر حسماً في استمرار حالة التشرذم العربي فلا بد من البحث في السبل الكفيلة بخلق نوع من التماثل بين هذه النظم.

وبإعتبار ان السعي لخلق حالة من التماثل السياسي بين النظم العربية المنبثق اساسا من احترام مبدأ المصحلة العامة او النفع العام امر قد يبدو غير متاح في المرحلة الحالية فلا بد من البحث عن وسيلة تساعد في تهيئة الاجواء تمهيداً لتحقيق مثل هذا التماثل دون اغفال عناصر التماثل الاخرى التي قد تبدو امكانية تحقيقها اكثر سهولة كالتماثل الاقتصادي الذي قد يكون واقعاً حقيقياً في غضون فترة بسيطة من الزمن اذا ما تم ترسيخ العلاقات والتشبيك الاقتصادي العربي وفق مبادئ الاعتماد المتبادل والتكتل الاقتصادي وصولاً الى التكامل الاقتصادي العربي.

من الطبيعي والحال كهذه ان تكمن نواة الحل كما يقول البعض في اعادة انتاج شكل الدولة داخل المنظومة العربية لتحويلها من شكل السلطنات ومناطق النفوذ والعزب والمزارع الخصوصية لاصحاب السلطة والسلطان الى دولة بالمعنى الحديث, لكن السؤال الذي يبقى مطروحاً هو كيف يمكن تحقيق ذلك؟ ومن الذي سيقوم بذلك السلطات ام الشعوب؟

ثقافة الديمقراطية

يمكن القول ان الحل يكمن في ثقافة الديمقراطية حيث سيؤدي نشر ثقافة الديمقراطية الى رفع درجة المشاركة السياسية لدى الشعوب ونضالها من اجل ترسيخ العمل بالديمقراطية كاساس للحياة السياسية في البلدان العربية، وليس بالضرورة ان تكون الديمقراطية المنشودة وفق النموذج الغربي وانما المقصود من طرح هذا المفهوم ان يكون هناك مشاركة حقيقية للشعوب في صناعة القرار وترسيخ مبدأ التداول السلمي للسلطة ومحاسبة القيادات السياسية على اداءها او اخطاءها عبر صناديق الاقتراع، مع ما يتبع ذلك من نشوء تيارات سياسية او احزاب متنوعة تقوم على اساس برامج حقيقية لا تقتصر على الخطابات بقدر ما تهتم بالخطوات التنفيذية التي تهدف لتحقيق المصلحة العامة سعياً لاستمرار وجودها على الساحة السياسية, وبهذه الوسائل فقط سيكون بامكان الشعوب ان تشارك في صناعة مستقبلها وتكون المدخل الحقيقي لتكوين شرعية القيادات والنخب السياسية الحاكمة.

وحتى لا نكون حالمين فإن الديمقراطية التي يعتبر غيابها احد اهم المعوقات الحقيقية امام اي عمل وحدوي عربي لن تحصل عليها الشعوب العربية كمنحة مجانية حتى وان كان الحكام العرب ومعهم الغرب يتغنون بالديمقراطية ويلقون الخطابات النارية حول ضرورة واهمية وجودها، بدليل ان الواقع يشير الى ان الحقيقة على الارض هي غير ذلك، خاصة اذا كانت مخرجات العملية الديمقراطية تصب في اتجاه استقلال القرار العربي وقيام نظام عربي فاعل مناهظ للمشروع الصهويني ومشاريع الهيمنة الغربية في المنطقة اذ عند ذلك سينقلب دعاة الديمقراطية من العالمين العربي والغربي ضد هذه الديمقراطية، وهذا يؤكد ان على الشعب العربي ان لا يتنظر المعجزات ليحصل مجانا على الديمقراطية، ولما كان عهد الانقلابات العسكرية قد ولى الى غير رجعة، وباعتبار ان تحقيق الديمقراطية لدى الشعوب الاخرى لم يتم بين ليلة وضحاها وانما جاء نتيجة تضحيات وتراكمات من الجهد والعمل المنظم، فلا مناص امام الشعب العربي من النضال بكل الاساليب السلمية الممكنة من اجل تحقيق هذا المطلب.

ردم الفجوة بين القطري والقومي

وفي هذا الاطار يمكن استدعاء احد المعوقات المهمة للعمل الوحدوي العربي وهو تعميق الفجوة بين القطري والقومي والعربي والاسلامي وتحويله على غير ما تشتهي الانظمة العربية الى وسيلة مساعدة لنقل عدوى نضال الشعب العربي من اجل الديمقراطية، وذلك عن طريق تكثيف عمليات التشبيك والتفاعل بين منظمات المجتمع المدني والاحزاب عبر القطرية والاتحادات النوعية العربية وتنسيق جهودها النضالية سعيا الى تحقيق هذا المطلب العادل، فقد تستطيع السلطات في اي دولة عربية ان تمنع اعتصاما لنقابة معينة او اتحاد عمل بعينه، وقد تستطيع كذلك ان تزج بمئات الناشطين في الحراك المجتمعي في غياهب السجون، لكنها بالتأكيد لن تكون قادرة احتجاز حرية الملايين ولا على كبح جماح حركات جماهيرية واعتصامات منظمة كالتي شهدتها دول اروربا الشرقية في نهاية الثمانينيات وافضت في النهاية الى احترام ارادة الشعوب والرضوخ لمطالبها.

التكتلات العربية

اما فيما يتعلق بالعمل الوحدوي العربي عن طريق جامعة الدول العربية او عن طريق الاتحادات او التكتلات العربية، وباستحضار المعيق المتعلق بهذه الجامعة من حيث تركيبتها التي هي كما اشرنا سابقا (كونفدرالية رخوة) لم يكن يراد لميثاقها ومجالسها وآليات عملها ان تساعد على تطوير استراتيجيات ملزمة لتعزيز وتطوير شبكة العلاقات العربية العربية في مختلف المجالات، فإن الامر لا يبدو انه يختلف كثيرا عن اتجاه العمل الوحدوي بالمعنى القومي، اذ على الرغم من اهتمام الدول المختلفة في عصر العولمة انطلاقا من تحقيق مصالحها القومية بتشكيل التكتلات الاقليمية فيما بينها لاهداف اقتصادية او سياسية او حتى عسكرية الا ان الامر على ما يبدو لا يهم دول المنطقة العربية بدليل انها لم تفعل الحد الادنى المطلوب في هذا المجال، فمع انه من البديهي في الدول التي تهتم بما يسمى بالمصلحة العامة ان تعتبر المصالح الاقتصادية اساساً يمكن البناء عليه والانطلاق منه للانفتاح على الدول والتحالف معها بهدف تمكين الاقتصاد الوطني، الا انه يمكن القول وبكل ثقة ان كل ما فعلته الدول العربية في هذا المجال لم يتجاوز الطابع الصوري الاحتفالي ومن قبيل ذر الرماد في العيون لا اكثر، فأية مصلحة وطنية تلك التي تقتضي ان تفتح الاسواق والحدود بين الدول العربية بفعل اتفاقية منظمة التجارة العالمية قبل ان يتم فتحها بفعل اتفاقية السوق العربية المشتركة، والاغرب انه رغم ان كل دول العالم دخلت مفاوضات منظمة التجارة العالمية على شكل اتحادات او تجمعات الا الدول العربية آثرت ان تدخل كل دولة معركة المفاوضات لوحدها.

ناهيك عن ان الجامعة لم تقدم شيء ملموس لا على المستوى الاقتصادي ولا حتى على المستوى السياسي حيث اصبح قرار انعقاد القمم العربية والمشاركة فيها مرتهن بارادة الآخر لا بالمصلحة الوطنية او القومية والدفاع المشترك عن قضايا الامة المصيرية.

غياب الارادة وضعف العمل العربي المشترك

ان غياب الارادة السياسية في احدات او تطوير مثل هذه التكتلات بين دول الوطن العربي سواء في المجال الاقتصادي او غيره من المجالات، يعتبر من المعوقات المهمة في تحقيق اي نوع من التحالفات او التكتلات الاقتصادية والسياسية العربية، لأن الاساس في مثل هذه التكتلات ان يكون هناك ثقة مشتركة بين الدول التي تتقارب مع بعضها او تشكل فيما بينها تكتلات وتحالفات وهذا للاسف ما تفتقر اليه العلاقات العربية العربية حيث التنافس في اطار التبعية المخلصة على لعب الادوار المختلفة التي تخدم الآخر او اي شيء الا العرب .

وللتدليل على ضعف اطر العمل العربي المشترك وعدم مساندة الدول العربية لبعضها مما يدلل على عدم وجود حد ادنى من الرغبة الحقيقية في تطوير اي تحالفات او اتحادات عربية مشتركة او حتى على اقل تقدير توحيد المواقف العربية؛ يمكن ايراد مثالين من واقع العرب في الفترة الحالية:

المثال الاول: ويتعلق بإنعدام الرؤية وغياب الموقف الموحد الذي ادخل العرب في اشكالية التجاذب بين مفهوم الواقعية السياسية وهو امر ضروري في السياسة والانبطاح الكامل وتسليم اوراق اللعبة للغير؛ فالعرب في السياق الواقعي الذي يشير الى عدم مقدرتهم لعدة اعتبارات على الدخول في مرحلة الحسم العسكري للصراع العربي الاسرائيلي على الاقل في هذه المرحلة ربما من المنطقي بحكم الواقعية السياسية ان يكون السلام المنتج بحدوده الدنيا خيارهم الاستراتيجي، ولما كان المنطق التفاوضي في السياسة يؤكد انك لن تستطيع الحصول على الحد الادنى المعقول من مطالبك او من مخرجات العملية التفاوضية اذا تنازلت عن اوراق اللعبة التي تملكها بإعتبارها ضمانة اكيدة لتحسن من موقفك التفاوضي.

ولما كان القانون الدولي والاعراف الدولية يعترفان ويقران بحق او شرعية مقاومة الاحتلال فإن المقاومة العربية اياً كانت توجهاتها وعقيدتها السياسية والعسكرية تعتبر احد الاوراق الاساسية في المفاوضات بالنسبة للدول العربية وحتى تحصل هذه الدول على مكاسب في المفاوضات فيجب عليها ان تدعم المقاومة وتساندها بكل الاشكال المادية والمعنوية او على الاقل ان لا تسهم او تكون طرفا في تصفية هذه المقاومة.

والسؤال المطروح هنا هل فعلت جامعة الدول العربية او الدول العربية او حتى اتفق العرب على فعل ذلك؟

المثال الثاني: ويتعلق بالتبعية وانعدام الثقة والمنافسة في لعب الادوار التي تخدم الآخر لا المصالح القومية العربية، ففي ابان العدوان الوحشي الاسرائيلي الغاشم الاخير على غزة والذي جاء كنتيجة طبيعية لتخلي العرب عن احدى اهم قلاع الممانعة التي تحول دون المضي قدما في اعادة ترتيب المنطقة العربية بما يمهد الطريق نحو استكمال تنفيذ المخططات الرامية للهيمنة على الجزء القليل المتبقي من مقدرات وكرامة الامة العربية، ورغم غليان الشارع العربي وردود الفعل غير المسبوقة للجماهير العربية في هذه المرحلة تجاه هذا العدوان، فقد آثر العرب تأجيل عقد القمة العربية الى ما بعد ذهاب وفد الجامعة العربية الى مجلس الامن الدولي وبعد ان عاد الوفد بخفي حنين، اختلف العرب هل يذهبوا الى القمة الطارئة التي دعت اليها قطر وذهبت اليها بعض الدول وفقا لحسابات معينة ربما كان منها مصلحة الامة، ام يذهبوا الى قمة الكويت التي كانت مقررة سلفا لمناقشة موضوعات اخرى على ان تناقش قضية غزة على هامشها وذهبت اليها دولا عربية اخرى لا تختلف في حسابها عن مثيلاتها كثيرا!

ويبقى السؤال المطروح هنا هل كان العرب حقا يملكون حرية القرار في عقد قمة عريية اصلا ؟ ومن هو المستفيد الاول من هذه الفرقة؟ وعلى حساب من ولمصلحة من كان التنافس على اشده للعب الادوار؟

ما هو السبيل؟

والحال هذه؛ فما هو السبيل الى التخلص من جملة المعيقات المعقدة والمتشابكة التي تدفع بالواقع العربي نحو المزيد من التأزم والضياع وانعدام الرؤية ؟ وكيف يمكن تجاوز كل هذا المأزق؟ وما هي الوسائل الكفيلة بتغيير هذا الواقع المؤلم الذي تعيشه الامة العربية؟ وكيف يمكن للديمقراطية وسط هذا الركام ان تكون عاملا مستقلا مع ان غيابها يعتبر من اهم اسباب عدم الوحدة ؟ وكيف سيكون بإمكانها ان تذلل كل معوقات العمل الوحدوي العربي لتجعل منها عوامل تابعة تتغير بفعل تأثيرها وحركتها؟ واخيرا هل بإستطاعة الديمقراطية ان تحيي الامل بإمكانية اعادة احياء العمل الوحدوي العربي وصولا الى نظام عربي قادر التصدري للقضايا والتحديات المختلفة التي تواجه الامة العربية؟

لقد اتبتت التجربة التاريخية ان الشعوب التي ترغب في تحقيق النهضة والتحديث وتحويل الفكر النهضوي الى حركة نشطة لاسترجاع السيادة المسلوبة الى مصدرها وصولا الى الوحدة او التحالف مع الشعوب المتماثلة معها لا تنعدم الوسائل الممكنة لتحقيق ذلك ان توفرت الارادة وتم التعبير عنها بالحراك والتفاعل المجتمعي بإستمرار، فحال العرب اليوم ليس هو اسوأ من حال الاتراك ابان هزيمتهم في الحرب العالمية الاولى ولا من اليابانيين بعد هزيمتهم في الحرب العالمية الثانية ، وكذلك هناك الكثير من الخبرات التاريخية التي استطاعت فيها الشعوب استعادة عافيتها والنهوض مجددا واعادة بناء دولها على اسس صحيحة وفق منظومات من العمل المؤسسي مع ما يتبع ذلك من مظاهر قوة الدولة وتمتعها بالسيادة والاستقلال.

ولعل اهم ما يشجع للحديث عن الامل في الحالة العربية هوا ان كل معوقات العمل الوحدوي العربي وقيام نظام عربي فاعل يمكن اعتبارها تجاوزا من فئة السهل الممتنع، فمن التبعية وغياب الارادة السياسية الى تركيبة جامعة الدول العربية وانعدام الثقة بين الانظمة العربية وتعميق الفجوة بين القطري والقومي ونمو النزاعات الوطنية واختلاف طبيعة نظم الحكم والتبيان في حجم الموارد والصراع على الزعامة والنفوذ وعداء الدول الغربية، كلها معوقات يجمع بينها عامل مشترك واحد وهو ان جميعها عوامل غير موضوعية يمكن ان تنهار وتختفي بمجرد توفر مسألتين اساسيتين هما: اعلاء شأن المصلحة العامة على الخاصة وكسر حلقة احتكار السلطة والانتقال الى اسلوب التدول السلمي للسلطة، وهاتين المسألتين لا يمكن توفرهما في المجتمعات والدول العربية الا من خلال الديمقراطية.

وللمضي قدما في تفسير الكيفية التي يمكن من خلالها ان تعمل الدميقراطية كعامل مستقل على تجاوز كل المعوقات سابقة الذكر بإعتبارها عوامل تابعة يمكن للديمقراطية التغلب عليها وان تدفع بعملية التفاعل الايجابي بين المجتمعات والدول العربية للمضي قدما وتطوير صيغ تعاون وتفاعل حقيقيين كفيلة بتحقيق واحد او اكثر من من اطر العمل الوحدوي العربي.

فبمجرد ان تستطيع الشعوب استرجاع السيادة واعتماد العمل الديمقراطي كأسلوب عمل ومنهج حياة عبر الوسائل التي اشار اليها التعقيب سابقا، سيكون تحقيق المصلحة العامة للدول واحترام ارادة الشعوب وتوفير حياة افضل لها هو الاساس الوحيد الذي سيتم على اساسه المفاضلة بين النخب المجتمعية التي ستكون مرشحة للدخول في عملية التدوال السلمي للسلطة.

وبالوضع الطبيعي فإن اعتماد الديمقرطية كمنهج حياة واسلوب عمل يعني ان نظام المحاسبة السياسية سيعمل تلقائيا في مواجهة النخب التي ستتداول السلطة، وعليه لن يكون متاحا لهذه النخب -التي لن يكون بمقدورها ان تحتكر السلطة- ان تقدم مصالحها الخاصة على مصالح الشعوب ولا يمكن لها كذلك ان تفرط بأي مظهر من مظاهر سيادة واستقلال الدولة، وبإعتبار انها تتمتع بشرعية حقيقية فلن تكون مضطرة للبحث عنها وعن الحماية في احضان القوى الخارجية او ان تدير دفة الحكم ومقدرات الشعب وفقا لمنطق التبعية او التنافس مع مثيلاتها في الدول العربية الاخرى من اجل لعب الادوار وفقا لنظام الوكالة وتقديم الخدمات للآخر من القوى الاجنبية.

من جانب آخر فإن انتزاع وتطبيق الديمقراطية بإعتبارها حق اصيل للشعوب العربية يمكن ان يؤدي الى تحقيق التماثل السياسي وانهاء حالة الاختلاف في طبيعة الانظمة السياسية القائمة، وبما ان الارادة السياسية التي تعتبر في الوقت الحالي من اهم معوقات العمل الوحدوي العربي وقيام نظام عربي فاعل لن تكون في حال تطبيق الديمقراطية مرهونة برغبات النخب الحاكمة وانما بمفهوم المصلحة العامة للشعب، فإن ذلك سيسهم في انحسار حالة الصراع على الزعامة والنفوذ على المستوى القومي واستبدالها بصيغ العمل العربي المشترك لتكريس حالة التماثل وفق مبدأ الاعتماد المتبادل والمصالح المشتركة في النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

عند ذلك فقط يمكن ان تتحول الدول العربية من دول تابعة منقوصة السيادة الى دول مستقلة لديها سلطة مانعة وجامعة في امتلاك قرارها السياسي والاقتصادي والاجتماعي تؤهلها للعمل من اجل الوحدة او على الاقل الدخول ابتداءً في صيغ حقيقية ومنتجة من التفاعل والتعاون المشترك وصولا الى تحقيق نظام عربي فاعل وقوي يقوم بدور حقيق في مواجهة القضايا والتحديات السياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية والثقافية التي تواجه المنطقة.

قد يصف البعض هذا الطرح بأنه حالم وقد يقول البعض الآخر ان هذا الاسقاط لا ينطبق الا على المدينة الفاضلة وهي غير موجودة الا في بطون الكتب، وفي مقابل ذلك يمكن القول ان العوامل التي تضافرت لتحويل اوروبا الى احد اهم المراكز الحضارية العالمية المؤثرة بعد ان كانت في العصور الوسطى تغط بظلام الجهل والصراع في الوقت الذي كانت فيه مكتبة الاسكندرية تعج بألآف المصنفات العلمية والمعرفية، وجعلت من المهاجرين متعددي الاعراق امة امريكية، قادرة على ان تجعل حلم الوحدة لشعب واحد او على الاقل حلم وجود نظام اقليمي عربي قادر على القيام بدوره في مواجهة القضايا والتحديات التي تحيط بالمنطقة العربية امراً ممكناً.

وما بين حقيقة الماضي العربي بضروفه الموضوعية التي جعلت من القبائل العربية المتفرقة والمتناحرة في صحراء قاحلة سادة يجوبون القارات ويركبون البحار لنشر العدل والحرية والمساواة والقيم الاخلاقية والدينية الفاضلة، وحقيقة الواقع المر الذي اختارت فيه النخب العربية الحاكمة طوعا او كرها ان تدير ظهرها للتاريخ فإن الرهان على امة وصفها من اوجدها بقوله جل في علاه " كنتم خير امة اخرجت للناس" لن يكون رهانا خاسرا.