مركز الرأي للدراسات
اعداد : د.عمر الحضرمي / الجامعة الاردنية
4/2009
مدخل نظري:
ابتداء لا بد من وضع الحقائق العلمية التالية بين يدي الحديث عن السياسة الخارجية لاي بلد.وهذا الاستهلال ضروري لتحديد مسار التناول لهذا البحث الذي سيكون على غير التقليدية في مقاربة هذا الموضوع.
أولا: إن السياسة الخارجية هي شيء أقل من مجموع كل السياسات التي لها تاثير على علاقة الدولة" القومية" بالدول الاخرى. وهي ايضا مخرج يختلف في طبيعته عن كل عنصر داخل فيه.
ثانيا: لا يوجد هناك عناصر مطلقة الثبوت في تكوين السياسة الخارجية، رغم القول بوجود ما يعرف بالمحددات النسبية، وهذا ما يجعل الحديث عن السياسة الخارجية او الكتابة عنها او حولها، عملياً، أمرا في غاية الصعوبة. فكل قرار سياسي يتخذ يكون منطلقا من عدة اعتبارات متمايزة ومتباينة ومتغيّرة، منها العسكرية و الاقتصادية و الجغرافية و العقائدية و الديموغرافية أو جميعها مرة واحدة.
ثالثا: إن الكثير من الممارسات الداخلية للدولة، ذات إمتداد خارجي، إلا أن الأمر لا يصل الى الحد الذي يجعل منها سياسة خارجية.
رابعا: إن هناك أنواعا كثيرة من التصرفات الدولية التي تبدو في ظاهرها أنها فعل محدود، إلا أنها تكون، وبشكل واضح، جزءا من السياسة الخارجية، ومن ذلك الاستثمارات والتجارة الخارجية والمساعدات. حتى السياسة الدفاعية فانها تصبح سياسة خارجية عندما تبدأ بالعمل عبر الحدود أو عندما يبدأ التهديد باستخدامها ضد الآخرين.
خامسا: تتحكم ذهنية صاحب القرار السياسي وشخصيته(بغض النظر عن تحديد موقعه) في هذا القرار من حيث نوعيته وشكله وطبيعته وآلية تطبيقه.
سادسا: إن الآلية في صناعة السيسة الخارجية لاي دولة تتمثل في العمل الدبلوماسي، سواء كان مباشرا أم غير مباشر، وسواء كان سريا ام علنيا، الذي يستهدف دوائر القضايا السياسية أو الأمنية أو الاقتصادية أو الاجتماعية.
وهنا لا بد من التفريق بين حقائق السياسة الخارجية(كونها سياسة) وبين الحقائق التي ترتكز عليها هذه السياسة. فالثانية هي عوامل ومحددات مادية و ملموسة. فالمتناول للسياسة الخارجية لا بد أن يتذكر أن هناك عوامل ومحددات لا تصل الى درجة الحقيقة، ذلك هو إدراك صانع القرار بأن " فعلا سياسيا" معينا يجب أن يعتمد وينفذ دون الارتكاز على المادية أو التفسير الملموس، بل يجري ذلك على التخمين والمغامرة والاحساس العام. ولذا فإن التناول الأكاديمي للأمر سيواجَه، ولا شك، بشئ من عدم الاقتدار على الوصول الى المفهوم العام للسياسة الخارجية، بالرغم من أنه يأخذ بعين الاعتبار العوامل القطرية والقومية كافة.
إن صناعة السياسة الخارجية تقتضي دراسة المؤثرات التي ساهمت وتساهم في اتخاذ القرار السياسي وكانت وراءه. ومن ذلك سبر غور البيئة العامة التي انطلقت منها إرهاصات القرار الذي يعني اتخاذه تنفيذا للسياسة الخارجية للدولة ، وبالتالي مقاربة إستراتيجيتها.
وعليه فإن من الصعوبة بمكان توصيف دور المؤسسة المناط بها وضع السياسة الخارجية أو تحديد هذا الدور ولو بشكل نظري، إذ يمكننا أن نبين "تكييفه الوظيفي" ولكن لا يمكننا أن نوضح كيف " يعمل"، فهذا يستغرق كما هائلا من البحث التاريخي. فالدور الذي تلعبه " مؤسسة صناعة السياسة الخارجية"، غالبا ما يتاثر بعوامل معنوية كثيرة لعل اهمها الصورة التي يقوم عليها تشكيل الدولة.
إلا أن ذلك لم يمنع من الوصول الى اتفاق عام لتعريف السياسة الخارجية للدولة،ولو على وجه التقريب. فهي والحالة هذه، تنظيم نشاط الدولة في علاقاتها مع غيرها من الدول. والالية التي تتبع لإيجاد توازن بين الالتزام الخارجي للدولة وبين مصالحها الذاتية، إضافة إلى تكوين قوة ذات حجم قادرة على تنفيذ هذا الالتزام. وهكذا تغدو السياسة الخارجية، بصورة أو بأخرى مكونة من وسائل تختارها الدولة لتحقيق اهدافها التي تكون مرتكزة، في المطلق، حول الاستقلال والسيادة والامن وتحقيق المصالح. وهذه الوسائل تنقسم في ذاتها إلى الثابت(الجغرافيا والتاريخ وسابق التجربة السياسية) والمتغير ( الاقتصاد والتحولات الدولية والشخصية القيادية) . وكل منهما محكوم بمقدرات داخلية واخرى خارجية تتحكم في تشكيل المدخلات التي تفضي الى التكوين العام للسياسة الخارجية للدولة.
إضافة إلى ما ذكر فإن صناعة القرار السياسي غالبا ما يكون مرهونا بأمرين، هما الشرعية السياسية لصناعة القرار والهيكل التنظيمي أو الوظيفي للسلطة السياسية.
لقد قدمنا بذلك حتى إذا ما جرى الحديث عن السياسة الخارجية الأردنية يكون التناول مفهوما بمحددات التاطير النظري الذي أسلفنا. ولكن مما سوف لا يخفى ان هذه المقاربة ستكون مختلفة عن البحثية التقليدية إلا أنها ستظل في الاطار العلمي العام.
السياسة الخارجية الأردنية - إشكالياتها وحقائقها:
لقد بدأت تُطرح، في العهود الأخيرة، مجموعة من التساؤلات التي تتناول حقيقة السياسة الخارجية الاردنية من حيث الإشكاليات التالية:
اولا: هل للاردن سياسة خارجية ذات ثوابت ومعالم، وهل هي سياسة ذات استمرارية في العمل السياسي الإقليمي والدولي؟
ثانيا: وبالتالي هل كل تحرك أردني إقليمي أو دولي يجيء حسب متطلبات هذه الثوابت والمعالم؟ أم أن السياسة الخارجية للدولة الاردنية تمثل في مجملها ردود فعل لأحداث كانت مفاجئة لها وذلك لغياب الاستراتيجية السياسية طويلة المدى للدولة؟
ثالثا: هل يتنازع الاردن مركز جذب الطموح القومي والحرص على كيان الدولة القطرية؟ وهل قَصُرت الأهداف القومية عن الاهداف القطرية؟ وهل بدأت هناك فروق واضحة بينهما؟ أم هل هناك فجوة بينهما يمكن تجسيرها ومن ثم ردمها؟ وهل كان الأردن قومياً بالكليّة وبالتالي قدّم القومية على القطرية؟
رابعا: هل جاء تَشَكّل الكيان السياسي للدولة الاردنية ضمن ترتيب دولي وبالتالي جاءت سياسته الخارجية وفقا لشروط المنظومة الدولية المهيمنة( بريطانيا أولا ثم أمريكا ثم المحور الأمريكي- الأوروبي)؟
خامسا: ما هي الاستراتيجية السياسية العامة للدولة الأردنية، وهل جاءت الممارسات الرسمية وغير الرسمية (غير الحكومية وشبه الحكومية) ضمن هذا الاطار؟
سادسا: هل اختزلت الدولة الأردنية ككيان سياسي، لتصبح خاضعة للمؤسسات الداخلية الاصغر والاضيق؟ ومن ثم اختزلت لتغدو بحجم القرار الفردي؟ ثم هل هناك تناقض داخل جسم السياسة الخارجية الاردنية؟
سابعا: ما هي فكرة " الهاشمية " في الذهن الأردني؟ وهل وَضُحت بالشكل الذي أصبحت فيه اقرب مدارس الحكم إلى الرعية؟ وبالتالي هل اصبح العقد الاجتماعي للحكم الاردني محددا بالتوافقية على القبول والرضا التي تولد الشرعية الاجتماعية، بعد أن استوفى الحكم شرعيته الدينية والتاريخية؟ وهل فرض ذلك على" الهاشمية" تطبيق الديمقراطية والشمولية والتعددية والثورة على الحدود القطرية في الفهم السياسي للدولة؟ وهل مجيء العقد الاجتماعي " بالبيعة" لا" بالجبر" قد ولد سياسة خارجية للدولة الاردنية ذات ابعاد قومية انسانية؟ وهل استطاع الاردنيون فعلا أن يستوعبوا " الهاشمية"، أم أنهم ارتكزوا عليها وتركوها تعمل كطرف منفرد؟ وهل يمكن هنا إدراج ما قاله جلالة الملك حسين رحمه الله " إنني ما زلت أتولى شخصيا تخطيط سياسة الاردن وتنفيذها"؟
ثامنا: ما هي حقيقة الدور الاردني اقليميا ودوليا؟ وما هو ثقل ذلك؟ وما هي دوافعه؟وهل يستطيع الاردن بموجب ذلك أن يفرض الأجندة التي يراها والتي يطمح لتحقيقها ضمن حدود إمكاناته، أو على الأقل ضمن ما يجب أن يقوم به في حدود ذلك؟
تاسعا: هل تخضع القرارات السياسية الخارجية الاردنية الحديثة، حين تحليلها، لنفس المعايير التي كانت توضع كمحددات في المراحل السابقة؟ وبالتالي هل تولدت إستراتيجية أردنية جديدة في ما بعد مرحلة حروب الخليج ومرحلة ما بعد مدريد ومرحلة ما بعد احتلال بغداد؟
عاشرا : هل استطاعت السلطات، أو على الأقل، السلطتان التشريعية والتنفيذية أن تأخذ دورها في صناعة السياسةالخارجية الاردنية؟وهل اعطيت هاتان السلطتان صلاحياتهما بموجب تكييف دستوري قانوني؟ أم أن الأمر جاء على أساس أن أحدا لا يشارك بصورة فعلية، بعد أن ثبت انه لا يريد ان يشارك؟
حادي عشر: هل هناك، حقيقة، حالة تصادمية داخلية بين القدرة الحقيقية وبين الوهم العام القائل بضخامة الدور الذي يلعبه الاردن على المستويات الاقليمية والدولية؟ هل خلق هذا التضخيم حالة من التضاد بين الممكن وبين المرجو؟
لقد أصبحت هذه الطروحات والتساؤلات مقاربة يومية في تحليل الفعل السياسي الأردني، سواء في مرحلة ما قبل اتخاذ القرار أم في مرحلة اتخاذه، أم في مرحلة مراجعة المنطلقات التي اعتمد عليها ومدى ترسخها في الذهن السياسي الاردني. الامر الذي ولد إشكالية كبيرة أخذت تنزع، مؤخراً لتأخذ صورة "نظريات متضاربة". وغدت السياسة الخارجية الأردنية قضية خلافية. ومن المؤسف أن تناول ذلك قد جرى إخضاعه للتحليل والتقويم من قبل غير الأردنيين بل وأحيانا من غير العرب. ولذا فإن الدعوة إلى تشكيل ورشة عمل اردنية يناط بها وضع تصور علمي للسياسة الخارجية الأردنية أصبحت ضرورة ملحة، بل غدت من الأمور التي لا تحتمل التاجيل . هذا من جهة، ثم يصار، من جهة أخرى، إلى وضع إستراتيجية عامة للدولة " سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا"، تنطلق من أرضية ما يسمى بالثوابت النسبية ، ومن الأهداف الواضحة، مبتعدة عن العاطفية والارتجالية. فحركة الزمن المتسارعة لن تسمح بالبقاء في انتظار " حسن النوايا" او " الفزعة العشائرية" . إذ إننا ساعتها سنجد أن الحقائق قد تجاوزتنا وأننا قد بدانا نلهث وراءها مما يولد حالة من الوهن السياسي.
وحتى يمكن وضع الامور في نصابها لابد من استدراج الفرضيات التالية التي تحتاح الى تحليل ودراسة:
اولا: أن الأردن في كثير من ممارساته السياسية كان ينطلق من حس قومي، دعته إليه طبيعة القيادة التي استطاعت إيجاد مصالح كافية لتوفير قوة البقاء للدولة الاردنية التي ولدت اصلا وحولها موجات خارجية ضخمة من التساؤلات والخوف والترقب و التهديد، ومن المحاولات المتكررة والدائمة لخلق هوية جديدة للمنطقة تلائم المصالح الجوارية أو الإقليمية أو الدولية. كل ذلك والرهان على البقاء الأردني، مستمر في أن يكون من مركزيات هذه المحاولات ومحورها.
ثانيا: أن ما أحاط بالأردن " الدولة القطرية" من حقائق اقتصادية وديمغرافية وجغرافية جعلته يتحرك ضمن حالة من التردد أو التشتت أو عدم القدرة التي تصل أحيانا إلى درجة عالية من عدم الوضوح، وذلك حتى يتمكن من تجاوز الصعوبات التي كان يجد نفسه- وفي أحيان كثيرة – في مواجهة معها، مما خلق له تحديات ضخمة تنوء بحملها قدراته الذاتية.
ثالثا: إن هناك فهما غير دقيق للسياسة الخارجية الأردنية وللموقف السياسي الأردني، جاء إما على خلفية عدم الوعي لهذا الموقف، أو نتيجة لقرارات مسبقة للتشكيك فيه، انطلاقا مما سبق. مما جعل صانع القرار السياسي الأردني يتحرك وبكل حذر وخوف من أن تفسر مواقفه حسب القوالب والأحكام المسبقة التكوين. أم أن هناك فوضى وارتجالية في اتخاذ القرار السياسي الأردني مما يجعله عرضة للطعن أو النيل منه؟
رابعا: إن محاولة الأردن تطوير عمله السياسي قد خلق حوله حالة من عدم الرضا، أو على الأقل، حالة من التوجسّ والخيفة من إمكانية انتقال هذا الفكر الى جواره، مما جعل المحاولة الأردنية مهددة بالتشكيك والانتقاص والخوف. إلا أن ذلك لم يستطع أن ينل من التوجه الواعي الذي لعبته السياسة الخارجية الأردنية عندما قلبت المواجهة بعد أن قبلتها، وتعمل الآن على إجهاض فعل القوى الخارجية الحريصة على خلق قوة سياسية أردنية الصبغة معادية فكرياً، تتجه نحو ايجاد مساحات من التحالف في العمل السياسي الأردني الداخلي، يساعدها في ذلك الخط الديمقراطي الذي بدأ يترسخ في العمل السياسي الأردني، وهذا ما جعل السياسة الخارجية الأردنية تعمل على احتواء فروقاتها الجوارية.
خامسا: ويُرد ذلك إلى أن هناك فهما غير دقيق للموقف السياسي الأردني- في كثير من الأحيان- بسبب الأحكام المسبقة التي تحدثنا عنها والتي كثرت فيها التفسيرات والتحليلات، وهذا قصور عن إدراك طبيعة الفكر السياسي الأردني بالرغم من التجارب الكثيرة التي مرت بالمنطقة والتي أثبتت أن القرار الأردني كان مصيبا في المجمل، وأن تعرّض في بعض الأحيان إلى خلل فرضته بعض الحسابات غير الدقيقة الناجمة عن فرضيات غير صحيحة أو مواقف غير مدروسة.
سادسا: حاول الأردن أن يتحرر في سياسته الخارجية المعلنة أو المتخذة، من تبعية مطلقة لمراكز القوى الإقليمية أو الدولية، على الرغم من إدراكه لحجم قدراته المادية المتواضعة وغير القادرة على تغيير القرارات الضخمة في المنطقة، وبالرغم من اضطراره لاتخاذ قرارات مؤلمة إلا أنها تمثل الأمر الأقل سوءا. وهذا مما سبب اندهاشا كبيرا في القرارات والمواقف الأردنية التي كانت تتخذ، في أحيان كثيرة ، على حساب المصلحة الذاتية القطرية، والتي ولدت له مصاعب جمة لأنها – كما يرى الآخرون – جاءت مفاجئة وكبيرة ولا تصدر إلا عن دولة كبيرة ذات قدرات واسعة .
سابعا: فرض الأردن نهجه القومي على سياسته الخارجية . وأدرك وبوعي تام، عمق المشاكل القائمة والخلل الواضح في العلاقات العربية – العربية التي اختزلت البعد القومي في التحرك العربي، فكان الاصطفاف العربي قطريا أكثر منه اصطفافا قوميا. وحتى يواجه ذلك، أدرك الأردن أن عليه الاستعانة بكل اجتهاداته الجمعية، إلا أنه عجز في الغالب عن التصحيح فاكتفى بدور الوسيط وباستخدام ذاته كوساطة حميدة وكداعية إلى القبول بالحلول الوسط، إلا أن ذلك لم يخرج السياسة الخارجية الأردنية عن ثوابت النهج القومي، بالرغم من الانحناءات وتدوير الزوايا في بعض الأحيان.
ثامنا: خلق هذا " الفرض" موقفا أردنيا آخر لا يجب تجاوزه. إذ بموجبه تجئ الدعوة إلى عدم الدخول قدر الإمكان – إن لم يكن بالمطلق- في تيارات المحاور العربية التي تناقض- ابتداء – " الواجب القومي" في العمل العربي المشترك. وقد سعى الأردن بكل قدرة ممكنة، ظاهرة أو كامنة، أن لا تكون المشاكل العربية البينية سببا في خلل قومي. لذا دعا إلى ضرورة الربط بين المشكلات التي تخص النظام القومي العربي وبين النظر إلى ذلك من منطلق شمولي. وعمل، رغم عدم قبوله عربيا على شكل مطلق، مما أدى أحيانا كثيرة إلى انقسام داخلي ضاغط يدعو إلى النكوص إلى الداخل والالتزام بحدود قطرية العمل والبناء، عمل رغم ذلك على الدفع نحو العمل القومي.
تاسعا: رافق ذلك كله توجه دولي عام نحو إعادة تشكيل المنطقة ، وفق صياغة جديدة تخلق صورة جديدة وهوية جديدة للمنظومة الإقليمية كلها، الأمر الذي حذر منه الأردن وصاغ سياسته الخارجية نحو ما فُهم " بالمشروع القومي النهضوي" أو ما سمي " بتحقيق أهداف الثورة العربية الكبرى " . وهو ما فسر، مع الأسف خطأ، عربيا وإقليميا. لذا جاء الحديث عن توجه الأردن نحو البحث عن دور يلعبه، أو منازعته لبعض الأطراف لأخذ مراكزها القيادية الإقليمية والإسلامية والعربية في معظم الأوقات، مما جعل السياسة الخارجية الأردنية تعيد التأكيد ، مرة تلو الأخرى، على أن الأردن لا يبحث عن مراكز قيادية متقدمة على قدراته أو توجهاته، بل أنه يدعو إلى تقديم العمل العربي المشترك على العمل القطري.
إن قيام صياغة جديدة للمنطقة يعني، وبالضرورة ، حسبما ترى السياسة الخارجية الأردنية، تفكيك النظام الإقليمي العربي، أو على الأقل تراجعه في ترتيب القدرة والقوة والفاعلية، ودخول المنطقة كلها في حالة من الاختلالات التي ستقود حتما إلى " لا منظومة"، وإلى إسقاط كل محاولة التكتلات في حالة فسيفساء تشمل حتى الدول العربية ذاتها، فتتقدم دول من الخارج تحمل المؤهلات الجديدة لتحتل، بالقدرات الموجودة فيها، مركز الصدارة والقيادة، ومن ثم يخرج العمل العربي من دائرة الفعالية ليسقط في دائرة الفردية والقطرية والبحث عن تحالفات ذات هوية غير عربية أو إسلامية أو حتى غير إسلامية وغير عربية في الوقت ذاته.ويغدو العمل العربي محصورا في حالة " التلقي" أو على أحسن الأحوال في دائرة " ردة الفعل" ومن المؤكد عدم القدرة على اتخاذ المبادرة. وهنا نسقط في واقع التبعية وإعادة ترقيم الأحرف العربية.
عاشرا: وحتى يبدد الأردن التخوفات التي قامت من حوله سعت السياسة الخارجية الأردنية إلى التأكيد على أن الالتزامات الدولية والشرعية هما موضع الاهتمام في الأردن، وأنه لا يمكن الخروج عليهما أو المساس بهما. لذا لم تدع هذه السياسة إلى اللجوء إلى القوة أو استعمالها في العلاقات الدولية، ولم تقبل باحتلال أراضي الغير بالقوة للتوسع أو للتغيير، أو لفرض أرادات سياسية معينة. وقد جاء الرفض الأردني هذا ضمن العلاقات العربية- العربية و ضمن العلاقات العربية – الإقليمية و الدولية . وهكذا لم يتصف القرار السياسي الأردني بصفة التطرف أو السقوط في محافل تنازعات القوى الدولية العظمى ، بل تيقن وأكد على ضرورة حل كل الخلافات ضمن حزمة من الإجراءات الداخلية.
أما في حل القضايا العربية- العربية فقد أرادها داخل الإطار العربي مع الاستئناس بمفردات الشرعية الدولية ومبادئها. وعليه فقد كادت السياسة الخارجية الأردنية تكون من التوجهات العربية القليلة التي دعت إلى استنكار أي تدخل أجنبي في شؤون النظام الإقليمي العربي، ورفضت أي محاولة احتواء خارجية لقضايا الأمة مما يعني تدويل هذه القضايا، وبالتالي المزيد من الانهيارات في النظام الإقليمي العربي وإنهاء العمل القومي الذي يرى الأردن أن في بنائه وترميمه يكون الخلاص وإثبات الوجود وفرض الإرادة على الساحات كلها.
حادي عشر: لم يركن صاحب القرار السياسي الأردني منذ قيام الدولة إلى " الانفعالات السياسية الضخمة"، بل ارتكز على الحوار والعقلانية والاعتدال. ولم يجير قراره السياسي لمصالحة الذاتية التي يرى أنها انكفاء آخر نحو القطرية، بل وظف كل خبراته وقدراته في سبيل ترسيخ حالة من الهدوء كانت ذات بعد حضاري. وقد أدرك المنصفون في العالم الخارجي قبل الإقليمي أو حتى الداخلي، مدى وعي الأردن لحقيقة أن القضايا السياسية مهما كانت ضخمة، يجب أن تخضع إلى التحصيل والمطالعة وجمع أطراف مكوناتها بكل حرص وموضوعية. ومن ثم الانطلاق نحو وضع الحلول الممكنة والمناسبة دون الدخول في تيه المزايدات والقرارات غير الواعية. وقد أعطى ذلك كله السياسة الخارجية الأردنية صفة الوسطية والاعتدال والتوجه نحو احتواء الخلافات واحترام الرأي الآخر والبحث عن صيغ توافقية تصالحية تنزع فتيل الأزمة وتتعامل معها كمرحلة لا كنهاية.
ثاني عشر: لقد أدركت السياسة الخارجية الأردنية أن قيام الكيان الأردني قد مثل حالة تصادمية لكل من المشاريع التي كانت حوله أو قامت مع قيامه. فإسرائيل ترى أنه جزء تاريخي أقتطع منها وأن الانتداب ما كان يجب أن يخرجه من دائرته حتى يظل قطعة مكملة لمساحة قيامها، لذا فقد اعتبر المشروع الصهيوني أن قيام الأردن هو سلب لحق اسرائيلي.
أما المشروع السوري فقد رأى أن قيام دولة في الأردن هو اجتزاء من سوريا الكبرى، وأنه بالرغم كونه محكوما بقيادة لها صبغة شرعية قومية، وهو أصل و مضمون سوريا الكبرى ، إلا أن الطموح مبرر- حسبما يرى المشروع- لإعادة الحقائق إلى مضامينها الأولى.
أما العراق فقد خشي من إمكانية أن يُصر الأمير عبد الله على الوفاء بالوعود التي قطعت له بتسلم عرش العراق.
وفي الجنوب كان المشروع السعودي الذي رأى في قيام دولة " هاشمية" على حدوده الشمالية وضعا غير مريح له، يقرب حقوقا للحكم كانت إلى عهد قريب واقعا ومتوارثا.
انطلاقا من ذلك فقد جاءت السياسة الخارجية الأردنية متحركة في اتجاهات تبدو للوهلة الأولى أنها متناقضة، إلا أنها في الواقع ترتكز ارتكازا كاملا على حقائق الجيوبولتيكس التي وجدت نفسها معلقة بها، وذلك بالرغم من الشروط السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فالأردن غير قادر، بأي حال، على تجاوز مركزه الجغرافي أو التصرف خارج حقائق منطوق الجوار وجدليته السياسية ولو بشكل عام. فالجغرافيا وما جاءت به من علاقة بالقضية الفلسطينية، جعلت السياسة الخارجية الأردنية رهينة- بصورة مباشرة أو غير مباشرة أكثر من غيرها- لتداعيات الصراع العربي- الإسرائيلي. إلى جانب ما كان من موقف أردني قومي، حتى بعد أن تبلور مفهوم التمثيل الفلسطيني المستقل من خلال جميع الممارسات في المنطقة، فقد ظلت السياسة الخارجية الأردنية تمارس فعلها الدبلوماسي عربيا وإقليميا ودوليا ضمن حدود واجباتها، بالرغم من الدفع الهائل لقوى داخلية وإقليمية ودولية لإقناع صانع القرار السياسي الأردني أن هناك فرصة سانحة يجب أن يستغلها للتنصل من الالتزام القومي. وهذا حقيقة ما سجل من ثوابت السياسة الخارجية الأردنية التي كان يمكن التحول عنها لولا الحرص الأردني على المبادئ والالتزامات. وهذا ما جسد المضمون التاريخي للدور الأردني في العملية السياسية العربية. فالدولة الأردنية لم تكن" دولة عازلة" تسعى لحماية أحد في جوارها بل أصبحت الدولة التي تعاني كثيرا من المهام التي أوكلت إليها بحكم حقائق الجغرافيا. ولقد جاء الأمر على ذات السياسة في القضايا العراقية أو السودانية أو السورية أو اللبنانية.
ثالث عشر: لقد أثر ثابت الزمان" التاريخ" على تكييف السياسة الخارجية الأردنية إزاء كل القضايا التي مرت بالمنطقة، ويقصد بذلك التجربة التاريخية التي تمثلت في أن القيادة الأردنية قد ولدت مع التاريخ القومي وذلك" بحكم الانتماء" وبحكم " الزمان". هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن التعامل الايجابي مع الأزمات العربية الذي اختطته السياسة الخارجية الأردنية جعل الأردن، دائما، في موقع " الذي يجب أن يشارك" ولا يبرر خروجه عن أي خط قومي في أية حالة أو أزمة.
لقد فرض هذا الثابت على الأردن ضرورة تجاهل حسابات الربح والخسارة ، وأصبحت هذه المجازفة المرغوب فيها ، سياسة أردنية تفسر البعد التاريخي والمورث القومي للقيادة الأردنية وبالتالي للسياسة الخارجية الأردنية. وبالرغم من أن ذلك قد خلق للأردن " الدولة" وللأردن " النظام" الكثير من المصاعب، إلا أنه ظل سبيلا ينتهج وثابتا غير قابل للتعديل أو التراجع.
رابع عشر : لقد ولد ثابت " التاريخ" عقيدة سياسية أردنية تبنت أفكارا ليبرالية في منهج الحكم، الذي صاغ سياسة خارجية انطلقت منها المواقف الأردنية الداعية إلى ضرورة الالتزام بصيانة حرية الشعوب واحترامها واحترام الدول وسيادتها، في إطار عام من التعاون والامتثال لقواعد القوانين والمواثيق الدولية. هذا إلى جانب الالتزام بالقومية العربية كهوية سياسية عربية لها خصوصيتها وامتيازاتها في صياغة علاقات عربية- عربية سليمة، وعلى درجة عالية من التقدم والتآلف.
خامس عشر: لم يكتف الأردن بالالتفات إلى الجانب الخارجي في صياغة سياسته الخارجية، بل كانت الساحة الداخلية ذات تأثير على تحديد مضامين هذه السياسة، مما يدل على تفعيل كامل لجميع الإمكانات الأردنية. وقد خلق هذا قدرا كبيرا من الوثوق الإقليمي والدولي بمفهوم السياسة الخارجية الأردنية التي قلبت معايير، كان الآخرون يقدرون أنها ستكون سببا في خلق تناقضات واختلالات له، فجاءت دفوعات هذه الفعاليات لتكرس بناء مواقف أردنية، عادة ، متجانسة ومتفقة على الالتزام بالاعتبارات الرئيسة الدينية والقومية واعتبارات مواجهة التحديات الخارجية . ولم يكن ذلك من السهل لولا الثابت التاريخي وثابت الموروث الحضاري الذي تحدثنا عنهما.
وهكذا فإننا نرى أن الطرح الذي جرى التعامل معه يقول إن السياسة الخارجية الأردنية قد قامت على حقيقة المواءمة والتوفيق بين المبادئ وبين المصالح الذاتية والقومية مع الأخذ بعين الاعتبار توفر الإمكانات والقدرات. أي أن المواقف العامة لهذه السياسة تظل ملتزمة بالخيار القومي والإنساني في حالة من الانسجام لا تخرج أي الخيارين عن جادة الخيار الآخر. وقد أدى هذا في كثير من مراحل تكون السياسة الخارجية الأردنية وانطلاقات تنفيذها إلى قصور البعد القطري عن البعد القومي، وذلك بسبب ارتدادات المواقف العربية الضاغطة والمؤتمرة أحياناً بتوجيهات إقليمية أوروبية.
لقد أكدت السياسة الخارجية الأردنية في مضمونها التكويني الأول أن " الهاشمية" لم تكن فكرة أسرية بقدر ما كانت مدرسة سياسية بدأت في الظهور قبل التسميات. إذ أنها لم تكن منذورة للجد كالأموية أو العباسية أو الفاطمية أو ما استجد مؤخرا. كما أنها لم ترتكز فقط على الجانب الإيماني لتحقيق الإتباع، بل مارست العمل على واقعه وفي حدود طبيعته. لذا فقد صاغت سياسة خارجية على قياسات العلم بالقدرة الداخلية وبحدود صفات التطور الدولي. وهي ما زالت مستمرة وباقية تشارك في الأحداث السياسية المستجدة ولها رأي مسموع ومحترم. لذا فقد خرجت سالمة من حالة الخلاف بين الدولة " كنظرية" وبين " الهاشمية" " كمدرسة حكم" ، وحمت صيغ التعددية السياسية والحرية الفكرية والعلاقة الاجتماعية.
وانطلاقا من فكرة " الهاشمية" هذه فقد جاءت كينونة السياسة الخارجية الأردنية على أسس التجربة السياسية المتواصلة، وصيغت مفرداتها بصورة واضحة على أساس الواقع، فلم تسقط في سياقات " الخطأ والصواب" أو " الممكن وغير الممكن".
وختاما فإن السياسة الخارجية الأردنية قد جاءت ذات خصوصية، إلى حد ما، إلا أنها جاءت أيضا " خلافية" . لذا فإن مقاربتها يجب أن تكون واعية و علمية و موضوعية حتى نستطيع إدراك الأبعاد الحقيقية لها.