الساعة

الاسس والمرتكزات اللازمة للتحول الديموقراطي في الوطن العربي

26/06/2011


مركز الرأي للدراسات
اعداد :الدكتور محمد أحمد المقداد
حزيران 2011

مما لا شك فيه أن الإيمان باحترام الحقوق الفردية هو السبيل الأمثل لاحترام الكرامة الإنسانية، والكرامة تكون على أساس النظرة المتساوية والتعامل العادل لكل أفراد المجتمع. والدولة ممثلة بركن السلطة السياسية –أصحاب الوكالة- في تصريف شؤون أركانها الأخرى هم المعنيون بحرية احترام حرية الأشخاص، من حيث حرية التعبير والأعلام والعقيدة ومن ثم الانضمام إلى الجمعيات والهيئات. لأنه بهذا تتضح كرامة الفرد وهو يمارس حقوقه الممثلة بالمشاركة السياسية، التي تبدأ بحق الانتخاب، والتعددية السياسية، والعيش الكريم ضمن حماية قانونية قائمة على قواعد تشريعية، صادرة برضاء الأغلبية أن لم يكن المجموع.

لقد اختلفت الآراء حول المعايير المثلى التي يمكن الرجوع لها في تحديد الوسائل اللازمة للحفاظ على حقوق الفرد داخل المجتمع وخارجه. والنقاش العلمي والفلسفي أخذ حيزاً وافراً في التشخيص النظري, فنجد أن الفكر السياسي القديم قد تناول مسألة الدولة ذات النظام الممكن أن يستمر كونه يتوافق مع أفراد المجتمع، حتى انتهت الأفكار بأن الديمقراطية هي السبيل الأمثل لشرعية النظام، فهي التي تحرص على حقوق الجميع دون تمييز والمفهوم الديمقراطي الذي انتهى بأنواع (الديمقراطية المباشرة، شبه المباشرة، النيابية) لا يمكن أن يعيش دون ثقافة أساسها سيادة الفرد، الذي هو الجماعة والمجتمع. لأن ذلك –كما ذهب- ولت ويتمان (Walt Whitman) في كتابه آفاق ديمقراطية الذي نشر عام 1871عندما ناقش ثقافة الديمقراطية بأنها التربة اللازمة لمختلف أجواء الحراك عند أفراد المجتمع والقانون على كشف مواهبهم وتعزيزها.

لهذا بقي النقاش نحو قيام حكومة الديمقراطية زمنا طويلاً عند الفلسفات السياسية الليبرالية، حتى أن الكتاب والفلاسفة ممن بقى لديهم شكوك إزاء فعالية المؤسسات الديمقراطية الرسمية، أصبحوا دعاة لتطبيق الديمقراطية. وأصبحت شعبية الدولة الديمقراطية لا تنحصر داخل الإطار النظري. فقد ظهرت في بلدان كثيرة في مختلف أنحاء العالم في العهد المعاصر، حيث تحاول إبدال الحكومات الاستبدادية أو نظم حكم الحزب الواحد بنظام حكم متعدد الأحزاب، مثال ذلك -أنه على مدى الفترة من عام 1989 وحتى عام 1993 ضمت أفريقيا وحدها أكثر من عشرين بلداً سعت إلى تطبيق النظام المؤسسي وإدخال المؤسسات البرلمانية الديمقراطية. كما أنه الدول العربية –وبدرجات متفاوتة- أصبحت الديمقراطية مطلباً شعبياً حيث يستخدم الأفراد والجماعات وكافة مؤسسات المجتمع المدني أسلوباً أكثر جراءة في مواجهة النظم التسلطية، مؤمنين بأن الديمقراطية بغض النظر عن مصدر المسمى هي الطريق الصحيح في التحديث والإصلاح للخروج من مأزق التخلف بأنواعه بغية الوصول لتنمية شاملة مستدامة. وأخذت التيارات الليبرالية في العالم العربي تنطلق من مفهوم تجديد التضامن الاجتماعي وأن التغيير هو مسؤولية الفرد والجماعات، وأن أي حوار مع الأنظمة الحالية يجب أن ينطلق من الثقة في الطرح وبالتالي الالتزام. بمعنى أن الثقافة السياسية باتت عند الإنسان العربي تقوم على إدراك دور القمة السياسية الدور القاعدة الشعبية، على أساس أن الفرد في المجتمع هو عامل مؤثر له وزنه وحقه والقدرة على الفعل بالمشاركة في تغيير الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وليس الحاكم الفرد أو الأقلية الحاكمة.

إن الإصلاح العربي الذي ينشده أبناء الدول العربية، هو ذلك الذي يعمل ويؤدي إلى تغيير السياسات العامة، وتوجهات القادة بحيث يقود إلى تغيير موازين القوى داخل المجتمعات وينعكس على ثقافة أفراد المجتمع. لهذا فقد أصبح الإصلاح الشامل محط اهتمام وتركيز الكثير من أساتذة ودراسي الحركات السياسية الاجتماعية في العالم العربي. وللتعرف على أصول ودوافع وآليات وبالتالي آثار الإصلاح، لا بد من عرض أهم ما توصلوا إليه في هذا الشأن:

الاصلاح والازمات

إن الإصلاح لا يتم إلا في ظروف الأزمة Context of Crisis سواء كانت أزمة خارجية ناجمة عن تهديدات خارجية تهدد الكيان السياسي للدولة، أو نتيجة ظروف داخلية محضة سواء، كانت ظروف اقتصادية صعبة أو أوضاع سياسية داخلية مضطربة أو مزيج من هذه العوامل التي تؤرق النظام السياسي وتهدد استقراره أو حتى بقائه. فالأزمة هي البيئة المناسبة أو الفرصة السانحة لاتخاذ إجراءات أو تدابير أو مبادرات إصلاحية وذلك لتجنب نتائج أكثر خطورة فالأزمة هي الرحم الذي يولد فيه الإصلاح والتغيير.

إن معظم قادة أو دعاة الإصلاح لديهم أيدلولوجية معينة ينطلقون منها في تبني أفكار إصلاحية، وغالباً ما تنشأ أيدلوجيات جديدة لتحل محل الأيدلولوجيات القديمة يتبناها قادة الإصلاح والتغيير، ولكن هذا لا يمنع أن يتم الاصلاح بمعزل عن أيدلوجية معينة أو يكون استجابة لظروف تناقض رؤية وأيدلولوجية صانع القرار أو متبني الإصلاح. وبلغة أخرى يكون الإصلاح في هذه الحالة استجابة لظروف أو ضغوط معينة.

إن الحكومات الإصلاحية أو دعاة وقادة الإصلاح دائماً يجدوا صعوبة في الحصول على تأييد جماهيري واسع وربما تستمر للإصلاح، وخصوصاً الإصلاح الجذري السريع. فعادة تبارك الجماهير الإصلاح والتغيير في البداية ثم سرعان يدب اليأس والإحباط في صفوفها، فتبدأ بالتخلي عن مباركة وتأييد الحركات والقادة الإصلاحيين. ولهذا فإن للإصلاح ثمن باهض قد يصل إلى حد فقدان السلطة السياسية، مثلما حدث مع غورباتشوف في الاتحاد السوفياتي سابقاً، أو مارغريت تاتشر في بريطانيا، وهذا ما يحدث ضمن حسابات العديد من الزعماء العرب الحاليين في حالة التماشي مع التزامات التحول الديمقراطي.

أخيراً لا توجد ضمانات كافية بأن الإصلاحات التي تتخذ يمكن أن يكون لها صفة الاستمرارية، أويمكن أن يتم التراجع عنها. بمعنى أنها إصلاحات مرنه Irreversable Reform . فالتراجع عن الإصلاح يمكن أن يحدث نتيجة ظروف داخلية أو خارجية، فعلى سبيل المثال تمت الإطاحة بكافة الإصلاحات التي تبناها الجنرال (اللندي) في تشيلي عام 1970 بعد الإطاحة بحكمه، وكذلك تمت الإطاحة بالعديد من الإصلاحات والتوجهات الديمقراطية في العالم العربي بعد الاحتلال العراقي للكويت عام 1990، وبعد أحداث الحادي عشر من أيلول عام 2001 في الولايات المتحدة.

وفي الحقيقة فإن الإصلاحات التي يمكن أن يكتب لها النجاح والاستمرارية هي التي تستطيع أن تخلق مستفيدين منها يتمسكون بها ويدافعون عنها. فعلى سبيل المثال من يتلقى مساعدات اجتماعية من الدولة يخسر بتوقفها ويكسب باستمرارها، وكالأحزاب السياسية مثلاً التي تصل إلى السلطة بطرق ديمقراطية تستطيع أن تدافع عن الإصلاحات المطلوبة لا سيما إذا اتسمت بالتداول.

بناء على ما تقدم سوف تناقش الدراسة واقع ومستقبل التحول الديمقراطي في الوطن العربي وذلك من خلال ثلاثة أجزاء وخاتمة تحمل استنتاجات وتوصيات الدراسة.

ففي الجزء الأول حيث تناقش الملامح العامة للنظم السياسية العربية المعاصرة، من حيث أن النظم السياسية الحالية تقوم على أسس مشتركة، إضافة إلى مناقشة المرتكزات الأساسية لحركة السلوك السياسي العربي. من خلال الجوانب المتعلقة بالترابط القومي والتجانس في مستوى التطور الاجتماعي والاقتصادي وتنوع مصادر الفكر السياسي العربي إضافة إلى تناول الأسباب الموضوعية وراء تأخر الديمقراطية في الوطن العربي.

أما الجزء الثاني حيث يقوم بتوضيح الأسس اللازمة نحو تحقيق التحول الديمقراطي فيناقش أركان الديمقراطية بشكل عام، من خلال طرح مفهوم المجتمع الديمقراطي، وأهمية الأخذ بالثقافة السياسية (ثقافة الثقة وثقافة الحوار) كآليات رئيسية تخلق المجتمع الديمقراطي في كافة الظروف التي تعيش بها الدول العربية.
أما الجزء الثالث يقوم بتقديم حالة دراسة على المملكة الأردنية الهاشمية تستعرض فيها الأسس والمرتكزات النظرية التي تساهم في التوجه نحو التحول الديموقراطي.

الملامح العامة للنظم السياسية العربية المعاصرة

لقد تعرض العرب لاضطهاد قومي من قبل الحركة الاستعمارية في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، مما أثر على استقلال شعوب المنطقة العربية، حيث لم تقم بين هذه الشعوب ثمة وحدة قومية، بل أن الكيانات العربية أصبحت حقيقة قائمة بذاتها منذ بداية استقـلالها السياسي، وقد تمثل هذا في ميثاق جامعة الدول العربية التي مازالت تمثل خليط من أشكال حكومات لا وحدة بينها، وبلا شك أن ظروف الدول العربية لم تكن قادرة بالمعنى الحقيقي على تحمل تبعات الاستقلال في الوقت الذي كانت تدرك فيه الدول الاستعمارية ذلك –مما جعل القيادات تتعاون مع مستعمريها والأجنبي بشكل عام، في سبيل التغيير نحو الأفضل للجميع حسب اعتقادها والحفاظ على مواقعها كطبقة حاكمة متميزة، الأمر الذي أدى إلى إجهاض عملية الحوار الاجتماعي في جميع البلدان العربية على صعيد الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. على الرغم من أن هناك محاولات كثيرة قد ظهرت لمواجهة ذلك على أنها ظلت محدودة، مما أبقى الميل نحو النزعة القطرية والهوية المحلية، مع تشجيع من الدول الاستعمارية من أجل محاربة وإضعاف فكرة القومية والهوية العربية عن طريق تغذية الخصوصية، فأوجدت من التفاوت في المساحة والسكان والثروة، ومن التباين في التكوينات الاجتماعية والتنظيمات السياسية و والاقتصادية، وكانت النتيجة مخرجات التبعية الاقتصادية والثقافية والسياسية.

بالإضافة إلى ما ورد، فقد بقيت عوائق الإصلاح والتطوير في البلاد العربية ترجع إلى قصور كفاءة النظم السياسية العربية لفترة طويلة للأسباب سالفة الذكر، إضافة إلى أنها لم تنجح في تحرير الأفراد من ارتباطاتهم وولاءاتهم القبلية الطائفية، مما يعني أن المؤسسات الوظيفية في المجتمعات العربية بقيت عاجزة عن تجسير ذلك، مما أبقى السلطة الشعبية بعيدة عن مفهوم الحركة الإصلاحية .

إن غالبية النظم السياسية –إن لم يكن جميعها- بقيت لعقود عديدة وما زالت تحل أجهزة الأمن في تنظيم الحياة السياسية بدلا من إحلال السلطة القانونية، واستباحت الموارد العامة لتقوية النظام بدلا من الإحساس بالواجب والأخذ بمبدأ المسؤولية، إضافة إلى أنها تعاملت بمعيار الولاء الفردي والإرضاء العشائري بدلا من معيار الكفاءة. كما أن إقامة شراكة عربية حقيقية تؤدي إلى رؤى موحدة بين الدول العربية في كافة المجالات- بقيت بعيدة عن الواقع. كما أن الأنظمة لم تتخذ من التعددية السياسية منهجا للمشاركة في صنع القرار، وإدارة الدولة، فبقيت الرؤى أحادية في صنع القرار لأن مؤسسات المجتمع المدني ظلت مهشمة ، فلم ترسخ الديمقراطية التي هي روح التنمية السياسية والتي هي الآلية التي من خلالها تتم التنمية الشاملة المستدامة. لهذا بقيت بنود الدساتير العربية بعيدة عن التطبيق، وبالتالي انطبع مصطلح التخلف والعجز في التطوير لعقود عديدة على كافة الدول العربية.

إن ما يميز النظم السياسية العربية المعاصرة عن غيرها من النظم السياسية الأخرى هو أنها تقوم على أسس مشتركة تسمح ليست فقط بالحديث عن نظام إقليمي عربي، وإنما تتجاوز ذلك للحديث عن الطبيعة الخاصة التي تحكم علاقات هذه النظم فيما بينها، من منطلق أنها تعبير عن إحدى مراحل التطور السياسي التي يمر بها الوطن العربي منذ منتصف القرن العشرين. كما وأن النظم السياسية المعاصرة في الوطن العربي هي نظم جديدة قامت بشكل أو بآخر نتيجة لنضال الحركات الوطنية في سبيل الاستقلال، واستندت هذه النظم إلى هياكل اجتماعية واقتصادية تعود إلى ما قبل القرن التاسع عشر، ورغم محاولات التطوير وبناء الهياكل الجديدة، فإن آثار القوالب القديمة ما تزال قائمة حتى يومنا هذا، وقد تأثرت هذه النظم من حيث الفلسفة السياسية بالعديد من المصادر الفكرية بشكل أو بآخر سواء بصورة مباشرة أو بصورة غير مباشرة، وبدا ذلك واضحاً في البنى والهياكل في كل منها وكذلك في السمات العامة. وللوقوف على الملامح الرئيسية للنظم السياسية العربية لا بد من مناقشة الجوانب التي ترتكز عليها حركة السلوك السياسي عند صناع القرار العربي من جهة والشعوب العربية من جهة أخرى.كما لابد من الوقوف على الأسباب الموضوعية وراء تأخر المسيرة الديمقراطية في العالم العربي.

المرتكزات الأساسية لحركة السلوك السياسي العربي

على الرغم من ان الدول العربية لا يمكن الحديث عنها في سياق نظام سياسي واحد،كون كل دولة مستقلة عن الأخرى في السيادة وارتباطات كل نظام،الا ان جميعها تشترك بقواسم متشابهة كونها حديثة الاستقلال ، وارتباط أفرادها بقيم وتاريخ مشترك.من هنا يجد الباحث انه لابد من مناقشة طبيعة الجوانب التي تحدد مرتكزات التحول الديمقراطي في الوطن العربي.

الجانب الأول: الترابط القومي. حيث أن الشعوب العربية تنتمي إلى أمة واحدة، ويسود الإدراك لهذا الانتماء بين أبناء الوطن العربي في مختلف أرجائه، هذا الإدراك ينعكس على الشعور العام بوحدة الآلام والآمال والمصير. ولا تؤثر في حقيقة الوجود القومي العربي لا التزامات الإقليمية ولا الميول الطائفية، وإن كانت هذه النزعات والميول قد أثرت وما تزال تترك آثاراً سلبية على حركة تطور المجتمع العربي. كما وأن دراسة الترابط القومي كظاهرة سياسية تدور في محاور ثلاثة وهي:
مقومات الوجود القومي وما ينجم عن ذلك من إحساس ذاتي بالتمييز. حيث يستند الوجود القومي العربي على مجموعة من المرتكزات الثابتة التي تبرز الشخصية العربية، وتلتصق بها، لتُّصير خصائصها التي تميزها عن غيرها، من هذه المقومات، وحدة الأصل، اللغة، وحدة العقيدة، والعادات والتقالية.
تعبيرات الوجود القومي. حيث تعد لتكون بين حركة قومية شعبية وبين التعبير بالإحساس بالذات العربية.

الوجود القومي وظاهرتي الإقليمية والطائفية مع أن مفهوم المصلحة الوطنية عند المدافعين عن القطرية لا تتعارض مع المصلحة القومية باعتبارها جزءاً منها حيث تنسجم مع منطلقاتها وأحداثها، إلا أن الإقليمية تنطوي على فكرة ضيقة لأن تغليب الوطنية على منطلقات المصلحة القومية وأحداثها يكون في أغلب القرارات بسبب المتغيرات الخارجية والداخلية. وعدم توافق نقطة الانطلاق في التنمية والتطوير من جهة وعدم الرغبة التامة بالاستقلال وسيادة القرار عند القيادات السياسية من جهة أخرى.

إن الطائفية ما زالت من مظاهر التجزئة في المجتمع العربي، مع أن الدلالة الوثيقة المرتبطة بالاصطلاح يجب أن لا تنطوي على أبعاد سياسة جراء التخوف من الطائفية، لأن النظام السياسي يجب أن ينصرف للمجتمع جميعه، فوجود الطوائف لا ينفرد به المجتمع العربي عن غيره من المجتمعات. لكن يبدو الأثر السلبي للتعدد الطائفي يظهر عندما يكون الولاء السياسي تابعاً للإنتماء الطائفي فيصبح الأخير المحور والمحرك للعمل السياسي.

الجانب الثاني: التجانس في مستوى التطور الاجتماعي والاقتصادي. حيث أن المجتمع العربي ما زال ينتمي إلى المجتمعات التقليدية، حيث يحتفظ في تربيته بأنماط المجتمعات القديمة، فملامح البناء الاجتماعي تحل قواسم مشتركة بين كافة الأقطار العربية، وطبيعة التغيرات تتفاوت بمؤشرات قليلة من قطر إلى آخر، أما بالنسبة للظروف الاقتصادية، فالمجتمع العربي وفقاً لطبيعة حياة أفراده، يضم ثلاث فئات: سكان المدن، حيث يشكلون 34% من مجموع السكان، والريف 65%، أما البدو 1%.

حيث ما زالت عملية التحضر تتأثر بعوامل مختلفة وبصورة تلقائية، كالزيادة الطبيعية، والهجرة الداخلية من الريف إلى المدينة وما يرتبط بذلك من تأثر بالنمط الحضري والمتعلق بزيادة تطور قطاع الصناعة والخدمات باعتبارها مؤثرات أساسية في معدل التنمية الاقتصادية ورفع مستوى المعيشة، أما فيما يتعلق بالبناء الاقتصادي فإن الاقتصاد العربي هو اقتصاد نام ومجزأ رغم توفر إمكانات التكامل الاقتصادي، كما وأن هناك اختلال في التوازن الذي يظهر في الاعتماد على إنتاج المواد الأولية، والاهتمام بقطاع الخدمات مقابل ضعف الصناعة، إضافة إلى أن حجم التبادل التجاري بين البلاد العربية ضعيف جداً، كما أن الناتج الإجمالي العربي ما يزال ضعيفاً فهو بمجمله أقل بكثير من إجمالي العديد من الدول الصناعية في أوروبا –كأسبانيا وإيطاليا على سبيل المثال لا الحصر.

إن غياب التكامل الاقتصادي العربي من جهة والتبعية والتجزئة من جهة أخرى جميعها تؤثر سلباً على حركة التطور والتنمية الاقتصادية العربية. فالتعاون في مستويات التخطيط الاقتصادي واختلاف الأنظمة والتشريعات التجارية والنقدية، وتأثير الارتباطات الاقتصادية بين الدول العربية والأجنبية ما زالت تؤثر في قدرة الوفاء بالالتزمات الاقتصادية العربية المشتركة، كما أن العلاقات الاقتصادية بشكل عام والتجارية بشكل خاص تميل بالدرجة الأولى إلى الدول الصناعية، والصناعة النفطية قامت أساساً ضمن الاستثمارات الأجنبية سواء من حيث التمويل أو الإدارة أو تسويق الانتاج إلى الخارج، وبالتالي فإن رؤوس الأموال العربية ما زالت تستثمر في الدول الصناعية والأجنبية، وهذا جميعه سيؤثر على البناء الاجتماعي ومستقبله على الرغم من أن عوامل التكامل الاقتصادي العربي موجودة، سواء بالنسبة لتوفر الكثير من الموارد الطبيعية، إضافة للموارد البشرية واتساع السوق، إلا أن مخرجات الوضع الراهن سوف تؤدي إلى تمايز طبقي وارتفاع في مستوى البطالة مما يترتب عليه انخفاض في مستوى المعيشة من الشريحة الواسعة من أبناء المجتمع العربي.

أما الجانب الأخير: فهو متعلق بتنوع مصادر الفكر السياسي العربي، حيث ظهرت النظم السياسية العربية في فترة انتشار الفكر الغربي فتأثر به الكثير منها، حيث تأثر بعضها بالفكر الماركسي، والفكر الاشتراكي بشكل أو بآخر. فضلاً عن تأثر معظم هذه النظم بالتراث الإسلامي، حيث أن هذه المصادر الفكرية وتطبيقاتها تركت أثر واضحاً في بنية النظم السياسية العربية المعاصرة، فلا نجد نظاماً واحداً منها لم يتأثر بواحد أو أكثر من هذه المصادر سواء من الناحية السياسية أو من الناحية الاقتصادية ولو بشكل جزئي.

2- الأسباب الموضوعية وراء تأخر الديمقراطية في الوطن العربي:

إن معرفة موقع الإنسان العربي من فلسفة إدراك القاعدة لدور القمة وفلسفة إدراك القمة لدور القاعدة، يتطلب الحاجة إلى مستوى التوجه الجديد الذي من شأنه تعميق النظرة إلى الفرد –أي طرح توجه ينظر إلى الفرد على أنه عامل مؤثر له وزنه وقدره في الفعل والانفعال السياسي. وهذا التوجه هو الذي من خلاله يمكن معرفة القدرة على تنمية روح الإبداع والاحترام لدى الإنسان العربي. ولمعرفة ذلك لا بد من تشخيص الأسباب التي غيبت دور الإنسان العربي.

الخلل في الفاعلية الاجتماعية العربية والذي يتمثل في إقصاء العدد الأكبر من شعوب الأمة العربية خارج اللعبة السياسية. فعلى مر التاريخ كانت هناك فئة حاكمة وهي الفئة هي في الغالب قليلة العدد، أما البقية الباقية من شعوب الأمة العربية فلم تدع يوماً إلى المشاركة في الحكم بل هي دائماً كانت محكومة أو كانت لفترة طويلة مستعمرة ثم محكومة مجدداً، الأمر الذي نجم عنه ارتفاع نسبة الأمية في البلاد العربية، وهذه الأمية بالنسبة لعامة الشعب تعني قلة الثقافة التي بدورها تعني عدم الإدراك لمعنى المشاركة السياسية الفعلية، أي عدم الإلمام بماهية الحقوق والواجبات.

التنظيم الفعلي للحكومات العربية فهو في الحقيقة تنظيم قلة أو تنظيم قلة سلطوية تجسد في أشكال مختلفة من النظم الحكومية، ويتمثل أبرزها بالنظم التقليدية (Traditional system) والنظم العسكرية (Military system) والنظم البيروقراطية أي بقايا الإدارة الاستعمارية والعسكرية. وهذه النظم الحكومية جاءت بعد الاستقلال السياسي ولم تكن تملك تصوراً للتنمية، ومن ثم بذلت كل ما في وسعها لإبطال فعالية المواطن وعدم تمكينه من أداء أي دور فعال عن طريق التحكم في الوسائل التعليمية والتربوية والثقافية التي لا تعمل على إطلاق طاقاته وقدراته، أو عن طريق تغييبه وتزويد بوعي زائف، وذلك بطريقة غير مباشرة عن طريق إبراز قوة أجهزة السلطة لتؤكد أنه إنسان يفتقد القدرة على القرار والخيار ومن ثم فهو محكوم ومتلقي فقط.

أبعاد انخراط الكفاءات المتخصصة في التنظيمات الحكومية في البلاد العربية. حيث أن الكفاءات العلمية المتخصصة انخرطت في التنظيمات الحكومية بطريقة جعلت منها تبعد عن ممارسة الشخص المناسب في المكان المناسب تعني أنها نزعت قدرة الكفاءات من قدرتها التخصصية، مما أتسمت الميول لدى الإنسان العربي بالوصول لمراكز صنع القرار السياسي والإداري بدلاً من التمكن التخصصي. كما واستخدمت السلطات السياسية العربية -من خلال رأس الهرم- أدوات السلطة السياسية بالتركيز على مبدأ الثراء المادي كإطار سهل للوصول لمراكز القوى السياسية، إضافة إلى التشكيك من قبل النظام بالأشخاص في الإخلاص الوطني وكفاءاتها، ووصفها بذوات المصالح الشخصية، وأن دافع الاستقرار الداخلي يقتضي من النظام محاربتهم وتحديد مساراتهم بالتضييق عليهم.

إن الشخصية السلطوية العربية يغلب عليها طابع الصفة الكارزمية التي تميل إلى عدم السماح لظهور أي مظهر آخر من مظاهر التأثير في الحياة العامة، وتحول في نفس الوقت دون تبلور رأي توجه ذي صفة استقلالية، سواء كان سياسياً أو اقتصاديا حتى لا يجذب الأنظار إليه. إن هذا الأسلوب خلق حالة صعبة باتت لفترة طويلة في جعل الأجهزة السياسية والإدارية تخرج عن قوامها المؤسسي لأن الغاية هو احتكار المراكز، فأصبحت تعيق كل معالم التنمية بجوانبها المتعددة.

غياب الإدارة المجتمعة الواعية. ذلك نتيجة الإحباط النفسي التي تعيشه جراء ظروفها الإقليمية والداخلية، والمتمثلة بالصراعات بين الأنظمة، وتدني مستوى المعيشة، وتفشي ظاهرة الأمية لفترة طويلة، إضافة للانقسامات في توجهاتها القومية والتركيز على القطرية.
تكريس الثقافة المنقولة. حيث أن الإيمان بمفردات الإصلاح ووسائل اتباعها والانتظار لأجندة الغرض الخارجي سمة تطغى على الاتجاهات الفكرية عند عدد وافر من الأفراد والجماعات العربية، وهذا فقد مضمون الديمقراطية بجعل معطياتها تطمس التفكير الذاتي القائم على العمل من خلال التشخيص الداخلي.
غياب التنشئة السياسية التي تهدف إلى إعداد الفرد ليكون واعياً لحقوقه وواجباته تجاه نفسه ووطنه.

من خلال ما تقدم نلاحظ أن الثقافة الديمقراطية غابت وغيبت لعقود عديدة في المجتمعات العربية المعاصرة. ارتبط ذلك بحالة الإنسان العربي التي طالما ناضل بإمكاناته المادية والفكرية لمحاربة الاستعمار الخارجي وليجد نفسه من جديد تحت احتلال السلطة الحاكمة التي غيبت بدورها العقل المستنير ، غايتها بذلك الحفاظ على سيادتها ودفاعاً عن بقائها وتمركزها، وبهذا تقدم مفهوم الولاء على الانتماء، واعتبرت الأنظمة الحاكمة الولاء على أنه أهم مؤشرات تكامل المجتمع وخلقت بذلك أزمة الخلط بين المفاهيم لتأكيد أهدافها الذاتية. وهذا بالتالي خلق أزمة جديدة في الهوية بأن جعل الإحساس بالانتماء يبقى رهينة التقييم من قبل النظام وليس من خلال مخرجاته.

أسس قيام المجتمع الديمقراطي

قبل أن نذهب لتقييم واقع المجتمع المدني لا بد من التذكير بأركان الديمقراطية وتعريف المجتمع الديمقراطي حتى نتمكن من الحكم على ذلك بكل موضوعية ودقة.
والديمقراطية من حيث المفهوم هي حكم الأغلبية مع الحفاظ دوماً على حقوق المجموع لأن الأنظمة الديمقراطية هي التي يتخذ فيها المواطنون قراراتهم السياسية بحرية على أساس القاعدة الأغلبية بضمانات لحقوق الإنسان الفردية، وبكل بساطة فأن تعريف الديمقراطية هي حكم يقيمه الشعب وتكون منه السلطة العليا، مناطة بالشعب، يمارس الشعب سلطته بصورة مباشرة أو بواسطة وكلاء عنه ينتخبهم في نظام انتخابي حر. وتتمثل أركان الديمقراطية بما يتمخض عن سيادة الشعب من:
ا) حكم قائم على رضى المحكومين.
2) حكم الأغلبية، وضمان حقوق الأقلية بالإضافة إلى التسامح.
3) ضمان حقوق الإنسان الأساسية والمتمثلة بحرية التعبير (الرأي) وحرية الصحافة، إضافة إلى حرية الديانة، حرية والانتماء إلى جمعيات ومنظمات، حق الحماية المتساوية من قبل القانون الحق في تطبيق الإجراءات القانونية المعتمدة والمحاكمة العادلة.
4) انتخابات حرة في ظل الحرص على التعددية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
5) اتباع الإجراءات القانونية المعتمدة، ووضع القيود الدستورية على الحكومة.
6) المساواة والقانون وبالتالي تكافؤ الفرص. حيث يعتبر هذه الحق أساس يتوفر في أي مجتمع عادل ديمقراطي بغض النظر عن الموقع للفرد وإمكانياته وانتماءاته على اعتبار أن الجميع لهم حق التمتع بالحماية المتساوية أمام القانون. وهذا يؤدي إلى حكم التسامح والواقعية من خلال التعاون والتوافق والتراضي.

كما هو معروف؛ تعتبر الديمقراطية أكثر من مجموعة قواعد وإجراءات دستورية تحدد كيفية عمل الحكومة في النظام الديمقراطي تكون الحكومة مجرد عنصر يتعايش مع عناصر أخرى في إطار النسيج الاجتماعي المؤلف من العديد من المؤسسات المختلفة والأحزاب السياسية والمنظمات والجمعيات. ويسمى هذا التنوع بالتعددية ويقوم على أساس فرضية تقوم على أن هذه المجموعات والمؤسسات المنظمة في مجتمع ديمقراطي لا تعتمد على الحكومة في وجودها وبقائها أو ترغيبها أو سلطتها وصلاحياتها.

في كل المجتمعات هناك الكثير من الجمعيات والمنظمات الرسمية والأهلية التي تعمل في أي مجتمع ديمقراطي أو يسعى نحو الديمقراطية. وهذه الجمعيات والمنظمات البعض منها يعمل ضمن نطاق محلي وبعضها على صعيد قومي، وتعمل كحلقة ربط واتصال بين الأفراد والمؤسسات الحكومية أو الاجتماعية الكثيرة والمعقدة ومن هذه المنظمات والجمعيات من تقوم بأدوار لا تقوم بها الحكومة، كما توفر لأفراد المجتمع فرصاً لممارسة حقوقهم ومسؤولياتهم كمواطنين في نظام ديمقراطي. وهذه المجموعات تمثل مصالح أعضائها بطرق متعددة عن طريق تأييد مرشحين في الانتخابات، قضايا معينة ومحاولة التأثير على القرارات السياسية، كما وأنه عبر هذه المنظمات. يمكن للأفراد أن يجدوا الوسائل والسبل للمشاركة الفعلية في عمل الحكومة كما في شؤون مجتمعاتهم. والأمثلة على هذه الجمعيات والمنظمات عديدة ومتنوعة منها: الجمعيات الخيرية، الدينية، الجمعيات والمؤسسات التي تهتم بالبيئة، والنقابات المهينة والاتحادات العمالية وغيرها.

أما في المجتمع الذي يقوم فيه النظام على احتكار السلطة فتكون جميع المنظمات خاضعة لسلطة الحكومة ورقابتها، كما أنها تكون مرخصة للعمل من قبل الحكومة ومسيرة منها. غير أن سلطة الحكومة في المجتمع الديمقراطي تكون محدودة وواضحة، وأن مؤسسات المجتمع المدني لا تكون خاضعة لسيطرة الحكومة، بل أن العديد منها يقوم بممارسة ضغوطها على الحكومة ومراقبتها وبالتالي محاسبتها على أعمالها. ومنها من يختار ألا يكون لها أي اتصال أو علاقة تذكر مع الحكومة.

وبناء على ما تقدم فإن الإطار الخاص من المجتمع الديمقراطي واستكشاف رغبة النظام والشعب على التعامل مع الديمقراطية – يكون من خلال معرفة إمكانيات الحرية ومسؤوليات حكم الذات، دون أية ضغوط من الدولة .لذا لابد من مناقشة أهمية التنمية السياسية كونها مطلب للاصلاح يرغبها صناع القرار والافراد والجماعات بشكل أو بالآخر من الدولة.

التنمية السياسية ودورها في الإصلاح

إن التنمية السياسية بتعريفاتها المختلفة تحمل من المفاهيم التي يجب أن تخدم بالتالي التنمية الشاملة، بمعنى أن التنمية السياسية هي أحد صيغ التنمية النوعية المتخصصة، وهي عملية يتم من خلالها تنمية قدرات أفراد المجتمع لمواجهة كل ما يعوق الوصول إلى مستوى أفضل. لهذا تحرص البنية السياسية على التنمية الشاملة لكافة شرائح المجتمع للعمل سوياً لمواجهة المشكلات الداخلية والخارجية بشكل علمي وواقعي.
لهذا لا بد من التركيز على جانب التثقيف للوصول بأفراد المجتمع لدرجة القدرة على التفكير من جهة، وترسخ المساواتية والتعامل بروح قيم الديمقراطية من جهة أخرى، ولا يمكن لما ورد أن يتحقق إذا لم يكن هناك ترسيخ لما يسمى بثقافة الثقة والحوار بين النظام السياسي والمواطن. وللوقوف على أهمية الثقافة يستعرض هذا الجزء من الدراسة أهمية الثقافة كعامل مؤثر في الإصلاح السياسي حيث تناقش الثقافة من خلال المفهوم والأثر، وبالتالي أسس ترسيخها من خلال توضيح معنى وأهمية كل من ثقافة الثقة وثقافة الحوار.

اولاً- الثقافة السياسية وأثرها على التحول الديمقراطي:
في العقد الخامس من القرن الماضي دعا علماء السياسة إلى أخذ البنية الثقافية بعين الاعتبار عند دراسة النظام السياسي في أي بلد، فيما رأوا وجود قصور الأطر التحليلية الناشئة بمفردها عن تقديم نظرة شمولية للنظم السياسية، فورد مصطلح (الثقافة السياسية) لأول مرة في مقال عالم السياسة الأمريكي (الموند) حيث عرفها بنفس القيم والاتجاهات والمعتقدات السياسية، وذكر إن أي نظام سياسي ينشأ في إطار ثقافة سياسية معينة تساعد معرفة مكوناتها وعناصرها في تفسير كيف تتشكل وتعمل المؤسسات السياسية داخل الدوله.

كما يرى كل من (لوشان باي وسيدني فربا) إن الثقافة السياسية تشير إلى مجموع الاتجاهات والاعتقادات والمشاعر التي تعطي نظاماً ومعنى للدولة السياسية، ومن خلالها تقدم القواعد الحاكمة لسلوك الأفراد حكاما ومحكومين، وهي معتقدات واقعية ورموز تعبيرية تحدد الوضع الذي يحدث الفعل السياسي في إطاره والثقافة السياسية لأي مجتمع ليست منفصلة عن ثقافة العامة وإنما هي جزء وثقافة فرعية منها. الثقافة الاجتماعية والسياسية، وبالتالي فهي ليست نظرية فطرية بل مكتسبه. ومثلما تؤثر الثقافة بالاقتصاد والاجتماع والسياسة والتربية، فإنها بدورها تؤثر في كل ذلك حيث أنها تعزز وتساند استمرار أوضاع معينة أو تدفع في اتجاه تغيرها.
كما أن الثقافة في أي بلد لا تتميز بالثبات المطلق، ولكنها تتعرض للتغير سواء بالحذف أو بالإضافة في عناصرها. هذا التغير قد يكون مباشراً معتمداً، إذا كان أخذ بشكل برامج هدفها تشكيل العقلية على نحو معين وقد يكون غير مباشر إذا حدث في ركاب تحولات اجتماعية اقتصادية أو سياسية.

إن الثقافة السياسية للمجتمع لا تنفي إمكان وجود ثقافات سياسية فرعية ترتبط بتعدد التكوينات الاجتماعية وتتنوع ضروب النشاط الاقتصادي واختلاف مكان الإقامة وغيرها. إن وحدة الثقافة السياسية للجماعة لا تتعارض مع وجود خصوصيات ثقافية سياسية داخل المجتمع، وبالتالي فإن تحديد مضمون أو عناصر الثقافة السياسية يتم من خلال السلطة والسياسة أو النظام الدولي القائم.

على ضوء ما تقدم، فإن المجتمع العربي لديه خصوصية ثقافية مشتركة عند أفراده، تؤثر بشكل مباشر في سلوكيات الإنسان العربي بغض النظر عن طبيعة المكتسبات التي يتأثر بها من الداخل والمؤثرات التي بات يتأثر بها من جراء التغيرات الدولية، فثقافة المجتمع العربي ثقافة متوارثة، تأثرت بالتاريخ ومعطيات العقيدة والتوجه بالتخلص من الأثر الاستعماري والتطلع المستقبلي، لهذا أصبحت ما يسمى بثقافة الذات للإنسان محور دراسة عند النظام السياسي للتعرف على كيفية التعامل معها عند النظام وذلك للوصول إلى معرفة موضوعية لمدى تفاعلها مع الإطار الاجتماعي الذي يحكم الفرد ويؤثر في النظام السياسي.

وفي إطار التوجه نحو الذات كعامل أساسي بات واضحاً بأن الحكومات العربية باتت تهتم ومن خلال الدولة وكافة مستويات صناع القرار –بما فيها جماعات الضغط- بأن الإنسان في العامل الذاتي هو محور التنمية الذي تصنع من أجله. لذلك يجب إشراك الإنسان وكل حسب قدراته بفتح المجال أمامه لترجمة طموحاته، بما ينعكس على المجموع وبما يتلائم مع المصلحة العليا، فالإنسان الذي يمتلك الوعي الهادف نحو تحقيق المصلحة الذاتية قادر بالتالي على الفعل المنظم، مثله كذلك مثل أية جماعة منظمة (عائلة، قبيلة، شعب، أمة…) فإذا كانت ثقافة الفرد قائمة على تحقيق المصلحة فإنه بالتالي يصعب تصورها بأنها خارج الإطار الاجتماعي. ومع هذا نجد الفرد في مجتمعنا العربي ما زالت ثقافته مبنية على قيم ومبادئ وانتماءات تحكمها جميعاً أيدلوجية متوارثة وعقائدية تجعله دوماً يميل نحو التنازل في كثير من الأحيان لمصلحة الإطار الاجتماعي والقومي. كما إن المجتمع العربي مجتمع ثقافته مبنية على مفاهيم الانتماء للإطار الأثنو-اجتماعي العشائري، فتشده قيمة وعاداته للتراجع أمامها في كثير من المواقف –وإن لم يرض عنها دائماً – ولا ضير في ذلك طالما إن التاريخ الاجتماعي يقر بأن العائلة والعشيرة تتنازل عن مصالحها الذاتية القبلية- والقبيلة لمصلحة المجتمع الأوسع ذو التنظيم الاجتماعي الأكبر وهي الدولة. وضمن القومية يتوسع الإحساس لقومية النظام السياسي لتكون منطلقاته تنسجم مع مصلحة الأمة.

أما الجانب الآخر الذي يفرض طرحه هو المتعلق بالوضعية التي أصبحت تعانيها ثقافتنا العربية اليوم حيث إن وضعية الثقافة تعيش في صراع بين الحداثة والتراث وهي مشكلة ليست مقتصرة على ثقافة معينة دون أخرى، الذي يستدعي طرح الثقافة العربية بأنها ليست في صراع مع الحضارات الأخرى أو ثقافتها، بل والمطلوب هو التعامل بطريقة لا تؤثر على مستقبل التفاعل مع الآخر،حتى لا يصبح المجتمع العربي ضحية مواجهة من قبل الثقافيات العالمية ومراكز القوى الهادفة. فالثقافة المطلوبة هي ثقافة انفتاح لا اندماج مع المحيط الخارجي، وإن لا تكون متناقضة مع مكتسباتها الذاتية وهي تنفتح على ثقافات العالم.

لهذا سوف نستعرض العديد من المواضيع الفرعية المتعلقة بالمرتكزات الأساسية التي تخلق الحياة الديمقراطية في المجتمع من خلال تطبيق مفردات التنمية السياسية والمتعلقة بالإصلاح مثل أثر الثقافة السياسية على التحول الديمقراطي، ثقافة الثقة وثقافة الحوار ومن ثم المبادئ الأساسية التي يمكن أن تكون مقياس حقيقي لمصداقية النظم السياسية في التحول الديمقراطي.

ثانيا- ثقافة الثقة وثقافة الحوار:
لا شك بأن ثقافة الثقة والحوار لها الدور الأساسي في عملية الإصلاح السياسي العربي المنشودة، فتجسير الثقة بين المواطن والنظام السياسي تضمن التضامن والتكافل، وبثقافة المشاركة في الحوار يكون السبيل نحو التقدم والازدهار في كافة المجالات الاجتماعية والسياسية والثقافية والمدنية التي تتم بزيادة جرعة الديمقراطية ورفع خط الحذر والخطر. وثقافة الحوار هي التي تدفع بالتنفيذ المتوافق والعمل من أجل إن يكبر المواطن بوطنه ويزهو بإنجازاته، يعلو شأن الفرد بعلو وطنه مما ينعكس وبالتالي على أمته. وبترسيخ هذه الثقافة يصبح المواطن يمتلك ثقافة القناعة بالمساواة والعدالة وبالحصول على حقوقه، مما يدفع به نحو المساهمة الفاعلة في دفع عجلة البناء بمختلف مناحي الحياة. وحتى تتم ثقافة الحوار لا بد إن تطرح المسائل بشفافية من خلال إعلام ناجح يؤمن باحترام عقلية الفرد ويغذيه بالمصداقية بثقافة تؤهله لمعالجة القضايا والتعامل معها دون اعتماد مباشر على الحكومة، وبهذا يجب إن يقدم الإعلام برامجه وهو يرسخ حقوق الإنسان بشكل عام وبالأخذ بها عملاً لا شعاراً ومؤكد على القيم الخلقية والاجتماعية وبعيداً عن كل ما يسيء إليها عند وصول وسائل ثقافية متنوعة.

إن وجود نظام قانوني له طابع العمومية والتجرد، وجعل الوصول للمناصب العامة على أساس الكفاءة والتفوق وتهيئة المناخ للمشاركة الشعبية في العملية السياسية، هي الإطار الأساسي الذي يسعى من خلاله إلى تحديث النظام السياسي العربي بإعادة هيكلة بناء مؤسساته للوصول إلى تكامل حقيقي بين الأداء الوظيفي والفاعلية والإنجازية بما يعود على المواطن العربي بالخبرة والسيادة.

إن المقياس الحقيقي للوصول إلى نظام سياسي عصري هو معرفة إلى أي درجة يستطيع النظام السياسي خلق التفاعل البناء بينه وبين أبناء المجتمع، لأن الإرادة الشعبية دائماً تحكم على نجاح الدولة من خلال نظامها لذلك تريد من النظام الصلة التامة معها لتغيير الواقع نحو الأفضل. كما أن المعايير المصاغة لمعرفة إلى أي مدى يمكن للنظام أن يكون لديه قابلية تفعيل ما ورد، تشتمل على المبادئ الأساسية التالية:
مصداقية القائمين على أدوات السلطة السياسية في تنشيط التعددية السياسية المطلوبة، -وطالما أن النظام السياسي العربي ما زال وراثي- أو شبه وراثي فيمكن الحكم على ذلك من خلال مسيرته التاريخية.
مدى تقبل النظام الموجود باختيار أصحاب صنع القرار على أساس الإنجاز والكفاءة والتفوق، دون الاعتبارات القبلية أو الطائفية العرقية…الخ.
تقييم النظام السياسي العربي ومؤسساته الحالية على اعتبار وجود احتراف سياسي، وهل هذا الاحتراف قائم لتحقيق غاية المكاسب الخاصة على حساب المصلحة العامة. حتى نستطيع الحكم على الأجهزة الحكومية بأنها فعلاً قادرة على أداء أدوارها ووظائفها المطلوبة وبما يحقق بالتالي الأهداف الاجتماعية المرجوة لخدمة مصلحة أبناء المجتمع ككل.
قدرة النظام السياسي العربي الحالي على مواجهة الممارسات غير القانونية كاختلاس الأموال العامة، والرشاوي، والمحسوبية، وبالتالي تحديد المسؤولية الوظيفية تحديداً تمكن من المحاسبة والمساءلة.
تقييم العلاقات العربية –العربية ومدى قدرة العلاقات الحالية من الوصول إلى رؤية الشارع العربي المطالب بقرار سياسي يؤهله إلى وحدة حقيقية قادرة على الاكتفاء الذاتي بكل أبعاده الاقتصادية والدفاعية.
تقييم مدى استقلالية القرار السياسي العربي. وهل مستقبل الواقع الحالي للعلاقات الخارجية العربية مع الدول الكبرى يؤهل لتغيير جذري ويصب بمصلحة عامة لشعوب الأمة العربية، وليس المصلحة خاصة؟؟.

إن المطالب الشعبية العربية ما زالت ترقى في صيغها المعلنة إلى عدم الوقوف عند الإطار النظري للتنمية السياسية المعلنة عند غالبية الأنظمة السياسية العربية أن لم يكن جميعها، بل يجب ترجمة أهداف التنمية السياسية من خلال تحقيق مبدأ سيادة القانون، وإقامة دولة المؤسسات، ومنع تمركز السلطة واحتكارها وتوسيع قاعدة المشاركة السياسية، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا من خلال ترشيد السلطة السياسية، لأنها وحدها القادرة على مواجهة الأزمات الحالية. فالسلطة السياسية هي القادرة على مواجهة أزمة الهوية عن طريق خلق الشعور المشترك وتكوينه بين أفراد المجتمع الواحد، وتوجيه الولاء نحو الدولة، وليس إلى الوحدات الاجتماعية الفرعية. كما أن أزمة الاندماج والتكامل يجب أن يفعلها كل نظام داخل الوحدات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وإدماجها في كتلة متجانسة تنسجم بالتالي مع ما يخدم مصلحة المجتمع العربي والرؤية الواحدة، كما أن أزمة المشاركة السياسية باتت بارزة عند قدرة النظام السياسي، ورغبته في توزيع السلطة عبر المجتمع إلى درجة كافية تستطيع فيها السلطة أن تغرس في الناس وعلى امتداد مجالات الحياة، شعوراً مبرراً بأنهم يملكون سلطة المشاركة في صنع قرارات يمكن أن تؤثر فيهم، وفي حياة المجتمع المشتركة، والمشاركة السياسية يتم صياغتها عبر المشاركة الديمقراطية الليبرالية، أو التمثيلية وما يرافقها من ظهور أنماط التمثيل النيابي ونظم الانتخابات والاستفتاء…الخ. ويتم ذلك بفتح المجال أمام الأحزاب لتكون قادرة على تنظيم نفسها، ضمن صياغة محتوى ونوعية تتفق مع التطلع العربي المنشود.

إن النظام الديمقراطي يقوم على عناصر رئيسية، بإعطاء الفرد حق بلورة وطرح خيارات وأفضليات خاصة به، ثم حق السياسيين والقادة في التنافس لإبراز هذه الأفضليات للشعب والحكومة وحسم الخلاف بينها عبر الانتخابات وأخيراً حق الجمهور بأن تظهر مطالبه حسب الأفضليات التي حظيت بالدعم الأكبر في صناديق الاقتراع في سياسات الحكومة.

إن المعضلة في ترسيخ الديمقراطية هي في التعرف على الثقة المتبادلة بين النظام والعناصر الأساسية في التمثيل الشعبي. فمؤسسات المجتمع المدني وفي مقدمتها الأحزاب تبقى هي أساس الحديث عن تجسير الثقة عند النظام السياسي وعند الفعاليات التي تمثلها الأحزاب وانتماءات أعضائها، ولا شك بأن البرنامج الحزبي وبما يمثله من أيدلوجية تخدم المصلحة العامة لا الشخصية -التي أصبحت سمة غالبية الأحزاب العربية- هي التي ما زالت موضع الدراسة في قدرة الحزب على استقطاب ثقة الجمهور، وتوسيع قاعدة العضوية؛ فإذا كانت سمة النظام السياسي العربي القائمة هي أقرب إلى ما يسمى بحكم (الأقلية) الشعبية فإن ذلك ما ينطبق على احتكار القرار الحزبي لأشخاص معدودين، مما ترك المجال للنظام السياسي بأن يوجه اللوم دائماً لعدم كفاية الحزب من خلال التناقضات الموجودة بين أشخاص الحزب الواحد، مما أتاح لها بيئة تبرر لنفسها (الأنظمة السياسية) أنها تحرص على التعددية وتخدم المشاركة إلا أن المعضلة الحقيقية تبقى في عناصر التمثيل.

2- آليات ومرتكزات الإصلاح اللازمة للتحول الديمقراطي:
إن الوصول لنظام سياسي عربي معاصر، يرتقي إلى متطلبات الشعوب العربية والتجاوب مع المستجدات بأبعادها المختلفة لا يمكن أن يتحقق بمنأى عن التنمية السياسية، حيث أن ذلك يستدعي قبل كل شيء وجود رؤية قومية واضحة تصنع من خلال كافة شرائح المجتمع العربي السياسية والاجتماعية إضافة إلى المثقفين والاقتصاديين. فالتنمية التي يشارك بتفعيلها الجميع تقوم بالتالي على مجموعة من المبادئ والقيم التي يحددها المجتمع ويحترمها. بهذا تكون الكرامة الإنسانية مصانة بالعدالة والمساواة حيث تفتح أمام المواطن العربي فرصة المشاركة في البناء دون أي تمييز.
إن ترسيخ اللاتمييز يتم من خلال السياسات والتشريعات وممارساتها على أرض الواقع بإيمان بالعدالة التامة حتى يتم الانتماء الروحي والمادي للفرد لأمته، ما يحفز الجميع للمشاركة الجادة بالتفاعل والعمل للوصول إلى تنمية شاملة مستدامة.

في هذا الصدد يمكن تحديد أهم آليات التنمية السياسية التي يجب أن يؤمن بها صناع القرار في العالم العربي والتي تخدم بالتالي ترسيخ القيم الديمقراطية، في الأولويات التالية:
- التأكيد على وجود ضمانات دستورية قانونية وأخلاقية، تكفل حق جميع المواطنين رجالاً ونساء بالمشاركة في صنع القرار المتعلقة بشؤون حياتهم ومستقبلهم، مع مراقبة ومتابعة تنفيذ هذه القرارات.
- إطلاق حرية الرأي والتعبير في المجتمع العربي، باعتبارها حقاً لكل مواطن وجزءاً لا يتجزأ من مفهوم الحرية التي لا يقوم أي نظام ديمقراطي بدونها ، لأن الحرية ضمانه أساسية في ترجمة عملية للمشاعر والقناعات والآراء والمواقف عند الفرد والجماعة في مختلف القضايا المتعلقة بالتطوير والتنمية السياسية والاجتماعية والاقتصادية، كما أنها وسيلة الاتصال والحوار مع الآخرين سواء كانوا أفراداً أم جماعات أم هيئات ومع السلطة السياسية.
- الحرص على التعددية الفكرية السياسية مع احترام وتشجيع قيام الأحزاب التي تملك برامج إنمائية، إضافة إلى الاعتراف بدور مؤسسات المجتمع المدني الأخرى المنتجة بطريقة ديمقراطية كالتنظيمات النقابية والمنظمات الأهلية واعتبارها شريكاً في عملية التنمية بأبعادها الشاملة.
- الحرص على دور المرأة باعتبارها نصف المجتمع العربي وتفعيل ذلك عن طريق نظام الكوتا حتى يتسنى لها طرح نفسها باعتبارها قادرة على المشاركة في صنع القرار، لأن المرأة العربية بظروفها الحالية بما يفرضه عليها المجتمعي في جميع الدول العربية مهمشة، مما أفقدها الثقة بنفسها، خاصة ونحن نرى من نتائج الانتخابات في كثير من الدول العربية أنها تتجه للرجل دون المرأة.
- الأخذ بدور الشباب العربي على اعتبار أنهم يمثلون ثلثي مجموع السكان من خلال بناء ثقتهم بنفسهم وتوعيتهم بمسؤوليتهم المطلوبة تجاه واقع ومستقبل أمتهم، ما ينعكس ذلك على سلوكياتهم لتكون مكانة اعتزاز ونموذج للشباب في المجتمعات الأخرى. وفي هذا المجال يمكن الإشارة إلى دور الطالب في التنمية من خلال اتحاد عام للطلبة العرب مع فتح المجال لعقد مؤتمر طلابي دوري الانعقاد في الزمان والمكان، مما يفتح المجال في إيجاد آليات جديدة لتوحيد الجهود والنضال من أجل قضاياهم وقضايا أمتهم.
- وضع لقاءات مع المسؤولين وكافة صناع القرار بشكل دوري.

إن إدارة الإصلاح السياسي وفقاً لما ورد يمكن أن ينهض بها البرلمان بصورة رئيسية، وأن يقتصر دور الحكومة على توفير التسهيلات اللازمة للشروع بإقامة حوار شامل على مستوى الوطن العربي، وأن لا يُنتظر العمل من الناشطين سياسياً فحسب، بل يستلزم حواراً مستمراً يشارك فيه ممثلين عن سائر الوطن العربي حتى يتمكنوا من صياغة توصيات تتولى البرلمانات العربية ترجمتها إلى تشريعات موحدة. وعليه فلا بد كذلك من استعراض دور كل من مؤسسات المجتمع المدني، وتنشيط دور المرأة كدعائم أساسية ومرتكزات هامة في تجسيد عملية التحول الديمقراطي والإصلاح السياسي بشكل عام.

مؤسسات المجتمع المدني والإصلاح السياسي

إن لمؤسسات المجتمع المدني الدور الأساسي والحيوي في تفعيل الإصلاح السياسي والتنمية بشكل عام، وهذه المؤسسات تعتبر من الركائز الهامة فيء تفعيل الديمقراطية والحياة السياسية. والمجتمع المدني كمفهوم هو مجتمع المدن والمؤسسات، وتعني المؤسسات، تلك التي ينشؤها الناس إرادياً وطوعاً فيما بينهم لتنظيم حياتهم. وهي مؤسسات طوعية يقيمها الأفراد داخل الدولة، ولا تخضع لسيطرة الدولة مباشرة، وتعمل بشكل أساس على مبدأ غير ربحي، وتشمل النقابات والجمعيات والأحزاب والاتحادات أهم ما يميزه هذه المنظمات المرونة والثقة الشرعية والخبرة الجماهيرية. وفي العالم العربي ما زالت هذه المنظمات تعاني جملة من المشاكل والمعوقات تتمثل باختلاط المفاهيم والأولويات وعدم وضوح عملها، ووجود التباس في أغلب الأحيان في العلاقة بين هذه المؤسسات مع مؤسسات الدولة. وأحياناً لضعف في أدائها بسبب غياب الديمقراطية وتغول السلطة التنفيذية في عملها. كما وأن لغياب الشفافية في أمرها وهياكلها الأثر على علاقة أعضائها مما يجعلها ضعيفة بسبب تعرضها لسوء الإدارة. إضافة إلى أنها تعاني من ضعف الإمكانات المادية وغياب التمويل الكافي من قبل الحكومة أو أنها لا تتلقى أي دعم على الإطلاق.

تعتبر الأحزاب السياسية من أهم مرتكزات النظم السياسية الديمقراطية، كونها تؤدي مجموعة من الوظائف الأساسية، فهي توفر قنوات للمشاركة والتعبير عن الرأي، وهي تجمع للمصالح وتعبئتها، وهي أداة من أدوات التنشئة والتجنيد السياسيين وأخيراً فإنها تساهم في إسباغ الشرعية على نظم الحكم. أما فيما يتعلق بواقع الأحزاب العربية فإنها تتصف بخصائص مختلفة منها:
أ. شيوع ظاهرة التحزب على حساب ظاهرة الحزبية في الوقت الذي يجب أن يكون الارتباط من خلال روح التكامل والاتفاق على تقسيم العمل السياسي. فمن خلال الرجوع إلى تاريخ العمل الحزبي في المنطقة العربية يتبين أن الأحزاب قد ارتبطت بفترة الخضوع للاستعمار، وهي خاصية نجح المستعمر في بعض الأحيان في استثمارها لضرب القوى الوطنية بعضها ببعض ونثر الشكوك والاتهامات بينها، عن طريق تصنيف الأحزاب القائمة إلى معتدلة ومتطرفة تبعاً لشكل علاقتها به. ومع بدء ظهور الأحزاب الأيدلوجية كالقومية، والشيوعية، والإسلامية تفاقمت الظاهرة بصورة أكبر، وتحول مفهوم العمل الحزبي من الإقرار بمبدأ تبادل الأدوات إلى الاجتهاد في نفي وجود الآخر المعايير في التوجه السياسي.
ب. ارتباط نشأة الحزب واستمراره بشخص مؤسسهِ. أو ما يمكن تسمية شخصنة الأحزاب العربية، وخطورة هذه السمة تكمن في أن ارتباط العضو أو المؤيد يكون بشخص رئيس الحزب ومؤسسهِ أكثر من ارتباطه بأهداف الحزب أو برنامجه.
ج. التشرذم والانشقاق، حيث أغلبية الأحزاب العربية شهدت العديد من الإنشقاقات على مدار تاريخها لأسباب سياسية وطائفية وشخصية.
د. ضعف القدرة على التعبئة وحشد الجماهير بسبب ضعف المصداقية في تطبيق برامجها من جهة، وتشهير بعض الأحزاب بغيرها من جهة أخرى.

إن الأحزاب ما زالت في عالمنا العربي ضعيفة في الغالب، فهي تغيب أحياناً عن الساحة السياسية بدور قرار سياسي، وتضعف للأسباب سالفة الذكر من جراء كثرتها مما يحول دون إقبال الأفراد عليها بسبب عدم قدرتها على طرح برنامج قادر على تفعيل دورها المجتمعي بما يمكنها من استقطاب أعضاء جدد. كما إن السباق التاريخي أدى إلى جنوح الكثير للانخراط بها مثلها مثل كافة المؤسسات المدنية التي ارتبطت بذهنية اجتماعية تخشى من الانضمام بها. مما يستدعي تطوير وتعديل النظم التشريعية الناضجة بما يكفل المزيد من عملها في ظل قانون عصري تنسجم مع منطلقاته, إضافة إلى تخصيص تمويل لازم من قبل الحكومة لدعم مسيرتها.
إن وجود أحزاب في النظم السياسية العربية لا يعني وجود نظام حزبي، فمجرد وجود تنظيمات وجمعيات أو هيئات مدنية وأحزاب لا يكفي لقيام نظام ديمقراطي تنافسي. إذ لا بد من وجود نظام حزبي يعالج بمضمونه الفكري والسياسي العلاقة الكلية بين الوحدات أو التنظيمات سواء كان بين هذه التنظيمات مع بعضها أو بينها وبين النظام السياسي والنظام الاجتماعي ككل. كما أن النظام الحزبي المطلوب لعملية الإصلاح العربي لا يقتصر على تقييم الحزب من خلال أهدافه النظرية وتطلعاته وبنيته التنظيمية فحسب، وإنما تعتمد على مخرجات أدائه لبرنامجه المعلن.

أما المنظمات غير الحكومية التي تعتبر من أهم مكونات المجتمع المدني والتي تتمتع بحد أدنى من المؤسسات بحيث لا تتخذ شكل النشاط المؤقت والتي لا تهدف إلى الربح – فهي في النظم العربية أكثر ما ترتبط بمفهوم الجمعيات الأهلية. حيث نراها تختلف في نشاط من دولة عربية إلى أخرى، في مصر تأسست فيه أول جمعية في مطلع القرن التاسع عشر بينما في عُمان تأخرت حتى الثلث الأخير من القرن العشرين، مما يشير إلى أن سمة الانتشار متفاوتة بين دولة عربية وأخرى إضافة إلى أن النشاط ونوعه مختلف، والعلاقة مع السلطة متغيرة حيث أن المنظمات عادة ما تعاني من تدخل السلطة في شؤونها، بدءاً من الضوابط التي تضعها لتأسيسها، مروراً بتوجيه أنشطتها وتعيين بعض ممثليها في الجمعية لهذا الغرض، وانتهاءً بتجميد عملها وأحياناً بحلها وتعقب ناشطيها.

تنشيط دور المرأة

من المعروف أن المجتمعات العربية ما زالت تسيطر على تركيبتها قيم ومعايير وتقاليد ذكورية. هذه الوضعية الاجتماعية في الوطن العربي والمطبوعة بالطابع الأبوي، جعلت من الصعب على المرأة أن تمارس دوراً وفاعلاً لخلق مجتمع متوازن، فمسألة العلاقة بين الرجل والمرأة ما زالت تتأرجح بين التراث العربي الجاهلي وبين التراث العربي الإسلامي من جهة، وبين التناقض في التركيبة النفسية لشخصية المرأة العربية من جهة أخرى. فهناك الكثير من التفسيرات الإسلامية العربية الذكورية التي تخطئ فتنسب للإسلام كثيراً من السلوكيات والعادات الضارة من أجل الحط من دور المرأة وفاعليها علماً أن الإسلام منها وفاعليتها براء.
إن فاعلية دور المرأة يكمن في إعادة صياغة مفهوم علاقتها بالرجل على أساس الاحترام والتقدير المتبادل بينهما، بحيث تتحدد فاعلية المرأة من منطلق مكانتها الاجتماعية ودورها الوظيفي المكمل لدور الرجل، وليس من واقع العنصر النوعي الذي هو الجنس.

أما بالنسبة لدراسة واقع المرأة العربية من خلال دورها في صنع القرار، فقد باتت قضية لا تقتصر مناقشتها على المستوى المحلي فحسب، بل أصبحت من المحاور الأساسية التي تناقش إقليمياً ودولياً من خلال المؤتمرات والندوات وعلى أعلى المستويات السياسية خاصة وإن نسبة التمثيل النسائي لا تمثل إلا (3.7%) كمتوسط عند بعض الدول العربية. علماً أن تقرير تنمية المرأة العربية ما زال يثبت بمؤشراته الإحصائية وجود تباين في نسبة التمثيل في مواقع صنع القرار بين الأقطار العربية. حيث تتراوح النسبة في المجالس التشريعية بين (صفر – 11.5%) كأعلى نسبة تمثيل في تونس وصفر في بعض الدول العربية. وتعتبر نسبة المتوسط من أخفض نسب التمثيل في العالم مقارنة بـ (38.8%) في دول شمال أوروبا، وعلى المستوى الوزاري تتراوح بين (صفر – 0.8%) في البلدان ذات الاقتصاديات الأكثر تنوعاً في المشرق العربي، أما في البلدان الأكثر تنوعاً في المغرب العربي فتتراوح النسبة بين (5.5-7.0%) مقارنة بمتوسط (1.5%) في البلدان الأقل نمواً وبـ(0.8%-2%) في البلدان العربية الأكثر نمواً.

إن واقع المرأة العربية ما زال بحاجة إلى دراسة إذا ما أرادت الأنظمة السياسية العربية بدفع المرأة إلى مراكز صنع القرار كونها تمثل نصف المجتمع، فعملية الإصلاح السياسي لا يمكن إن تتكامل في كافة شؤون الحياة إلا من خلال الأخذ بالأسس والمنطلقات التالية:-
* احترام ما نصت عليه الدساتير العربية من مبادئ أساسية تضمن المساواة في الحقوق والواجبات بين الرجال والنساء سواء في المشاركة السياسية أو الحياة العامة.
* توفير المناخ الملائم لدعم قيم المساواة وتأكيد روح المواطنة لتحقيق المشاركة الفعلية للمرأة في الحياة السياسية بعيداً بها عن كل تمييز.
* وضع خطة عمل عربية مشتركة تهدف إلى ترسيخ حقوق المرأة تشريعاً وممارسة، بالاعتماد على مناهج واضحة لتطوير الأفكار والعقليات.
* تأمين حقوق المرأة العربية في هياكل وآليات السلطة ومواقع صنع القرار على مختلف المستويات.
* توسيع قاعدة مشاركة المرأة في الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني من خلال دعم الأحزاب والمنظمات.
* تنمية قدرات المرأة العربية في ميدان العمل السياسي عن طريق برامج التطبيق الفكري والتدريب السياسي التوعية ضمن برامج الأحزاب مع السعي إلى تبادل التجارب والخبرات بين الأحزاب العربية.
* توجيه وسائل الأعلام المختلفة لتغيير الصورة النمطية للمرأة، وتسليط الضوء على النساء كمواطنات فاعلات، صاحبات رؤية وتفكير، قادرات على تحقيق إنجازات في جميع الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
لهذا فإن المنهجية المطلوبة لعملية الإصلاح يجب أن تحترم أهمية المرأة من خلال التأكيد بأن وصولها إلى هياكل السلطة ومواقع اتخاذ القرار ليست قضية شعارات ترفع، ولا مجموعة أفكار يروج لها إعلامياً في الندوات والمؤتمرات ووسائل الاتصال المختلفة بل أن أهمية ذلك تكمن في جدية طرحها وتناولها كقضية لها مساس بفعاليات المجتمع المختلفة الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والسياسية.

وللوصول إلى مجتمع ديمقراطي حقيقي لا بد كذلك من استخدام آليات ذات معاني لا مفردات ترفع كشعار. تبدأ يخلق مجتمع مثقف يتعامل بالحوار الناجح الذي يقود إلى البناء لا الهدم واستخدام الحوار لمعالجة كافة القضايا التي من شأنها إنجاز التحول من مرحلة إلى مرحلة يطمح المجتمع الوصول إليها. لهذا فإن ترسيخ ثقافة الحوار لا تبدأ إلا من خلال الإيمان بالثقة بين المتحاورين سواء كان ذلك بين النظام ومؤسساته وبين الأفراد والجماعات المختلفة.