الساعة

المواقف الإقليمية والدولية وأثرها في الأزمة السوري

24/05/2012

مركز الراي للدراسات

اعداد : امل محمد ياسين

التاريخ : 24/5/2012

تشكل الأزمة السورية المستمرة منذ اذار عام 2011 نقطة اشتباك بين نظم إقليمية ونظم دولية، فبحكم العلاقات التي أقامها النظام السوري خلال العقود الماضية، وارتباط ذلك بالصراعات الجارية في المنطقة، ولاسيما الصراع مع إسرائيل- لم تعد الأزمة السورية أزمة داخلية، وإنما باتت تعبيرا عن منظومة إقليمية واسعة،

تمتد من إيران إلى لبنان عبر سوريا، وبذلك فإن هذه المنظومة تبدو كتلة واحدة معنية بما يجري في سوريا.

سينظر هذا التقرير في مواقف مكونات هذه المنظومة الإقليمية والدولية من الأزمة السورية ومحدداتها البارزة, كما يقرؤها المراقبون والمتابعون, وكذلك سيناريوهات تطوّرها، وفي تأثير كل من هذه المواقف في اللحظة الراهنة.

الأزمة السورية وبعد عام من بدايتها لم تصل إلى ما وصلت إليه إلا بعد أن فشل النظام السوري في حلها داخليًا مع إصراره على استخدام الحل الأمني في قمع الانتفاضة،

ثم فشلت الجامعة العربية في حلها عربيًّا عبر المبادرات العربية وبعثة المراقبين, ثمّ الفيتو الروسي- الصيني الذي يقف أمام أي جهد إقليمي (عربي – تركي) أو توحد دولي للضغط على النظام السوري, الذي لا يرى نفسه إلى الآن مرغماً على تقديم تنازلات, من أجل التخلي عن الحل الأمني والنظر في سبل حلّ الأزمة .

وفيما يلي قراءة في مواقف القوى المركزية تجاه الأزمة السورية :

روسيا

الموقف الروسي من الأزمة السورية يتلخص بإصرار روسيا على التأييد الصريح للنظام السوري في تعامله مع الانتفاضة السورية , وذلك رغم السلوك القمعي الدموي الذي اتسم به تعامل النظام مع الانتفاضة, وما لقي هذا السلوك من إدانة عربية وعالمية واسعة على مستوى الأنظمة والشعوب.

حيث عملت روسيا على تعطيل تنفيذ المبادرات العربية والأممية, التي كانت تهدف إلى حلّ الأزمة السورية وتحقيق بعض مطالب المعارضة مع إدانة عنف النظام تجاه المتظاهرين , وذلك من خلال استخدامها, مع الصين, حق النقض (الفيتو) أمام استصدار قرارات تدعم تطبيق هذه المبادرات في مجلس الأمن الدولي .


روسيا ومنذ بداية الأزمة السورية عمدت إلى تبني وتسويق رواية النظام السوري للأحداث, كما أنّها أصرتّ على اعتبار المعارضة السورية متسبباًً رئيساً في تفاقم الأزمة باعتبارها طرفاً مسلحاً في مقابل الجيش النظامي, حتى قبل تشكل مجموعات للمنشقين عن الجيش النظامي ( الجيش السوري الحر),
مع دعواتها للنظام بالإسراع في إجراء الإصلاحات التي وعد بها - وفق رؤيته -.

من الناحية العملية، تقوم روسيا بمد النظام السوري بالأسلحة, حيث رست حاملة الطائرات الروسية كوزنتسوف في قاعدة الإمداد البحرية في طرطوس بتاريخ 8 يناير2012, وفي 21 يناير2012 وصلت سفينة تحمل أطنان من الأسلحة والذخيرة الروسية إلى ميناء طرطوس،

كما قامت روسيا بتزويد النظام السوري بأكثر من 35 طائرة خفيفة بنصف مليار دولار.

كما اعتراف الروس بأنّهم أرسلوا على متن سفينة عسكرية قوات مكافحة الإرهاب لمساندة الأجهزة الأمنية السورية، في إشارة إلى دعم الأجهزة السورية بما تحتاج إليه من تدريب وتجهيز ومعلومات وحماية.

وإثر ذلك, فقد ساهم الموقف الروسي، بدرجة كبيرة، في تشجيع النظام السوري على السير في طريق الحل الأمني, بحيث وفر له شبكة أمان تحميه من استحقاقات إدارته للأزمة،

إضافة إلى إعطائه الفرصة لترويج روايته على المستوى الدولي حول «العصابات المسلحة» فضلاً عن أن موسكو أعطت للنظام فرصة للمناورة السياسية بعد أن استنفرت دبلوماسيتها للدفاع عنه بما جعلها تبدو كطرف رئيس في الأزمة.

كما دخلت روسيا على خط الأزمة السورية بتصوير نفسها على أنها حامية للأقليات، محاولة استدعاء مخاوف الغرب من الإسلام بتصريحها أنّ الانتفاضة السورية ومن خلال دعم الدول العربية – وخاصة دول الخليج لها -سوف تؤدي إلى قيام «دولة إسلامية سنية» ,

فيما عدّ المراقبون هذه التصريحات بمثابة توغل روسي في لعب دور طرف رئيسي في الأزمة عبر دفع الأمور وتحويلها إلى حرب أهلية، على الرغم من تحذير الرئيس والدبلوماسيين الروس منها في مناسبات عديدة !.

تفسير الموقف الروسي من الأزمة السورية

من خلال النظر في السلوك السياسي الروسي في التعاطي مع ثورات الربيع العربي أو على الساحة الدولية, ثمة تطور ملحوظ في السياسة الروسية.

فالمتتبع للموقف الروسي من أحداث الربيع العربي في تونس بداية ومروراً بمصر واليمن ثم سوريا,

يلاحظ الوضوح التصاعدي في الموقف الروسي الذي بدا «موقفا سياحيا» إزاء أحداث تونس عن طريق الاكتفاء بتطمين الداخل الروسي على أوضاع السياح والرّعايا الروس ثم الموقف من الثورة المصرية الذي بدا متأخراً ومتردداً على الّرغم من اعتبار العلاقة المصرية - الروسية في الآونة الأخيرة أيّام حكم مبارك في حكم «العلاقات الإستراتيجية»

في الموضوع الليبي وعلى الرغم من التحالف الروسي التقليدي مع نظام القذافي, ووجود علاقات اقتصادية وعسكرية و كذلك اتفاقيات وصفقات بين البلدين,

إلا أنّ روسيا لم تستخدم الفيتو أمام التدخل العسكري لحلف الأطلسي من أجل حماية المدنيين في ليبيا من هجمات قوات القذافي.

إلا أنها وبعد بدء مهمة حلف الأطلسي قامت بالاستدراك واتهام الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية بتأويل القرار الدولي على النحو الذي يحقق مصالح الدول المنفذة له باستفراد, حيث قامت بناء على ذلك بتشكيل جبهة سياسية من الخبراء السياسيين والسفراء لدعم النظام الليبي.

وفيما يخص السياسة الروسية على المستوى الدولي, فإنّ حقبة غورباتشوف ويلتسين والمرحلة الممتدة حتى عام 2005 رسمت صورة باهتة للسياسة الروسية (نتيجة انهيار الاتحاد السوفييتي و فترة عدم الاستقرار التي أعقبته), مما جعل الموقف الروسي من الأزمة السورية يعدّ تطوّراً ملحوظاً.

في الخطاب الإعلامي على الساحة الدولية, تنطلق النخبة السياسية الروسية من ضرورة احترام المبادئ الإستراتيجية الحاكمة للعلاقات الدولية المتعلقة بتكريس مبدأ السيادة وعدم القبول بالتدخل الخارجي في الشأن الداخلي لأية دولة من الدول،

وبخاصة تغيير النظم السياسية أو الحكام بالقوة العسكرية وعبر التدخل الخارجي، وضرورة اعتماد التسويات السياسية السلمية لصراعات المناطق الإستراتيجية, حيث ترى روسيا أنّ استقرار هذا المبدأ في شبكة التفاعلات الدولية سيُضعف من الاختلال الكبير في موازين القوة العسكرية التي تعد مختلة لصالح الولايات المتحدة .

وفي الموضوع السوري تحديدا,ً ثمة اعتبارات روسية – بنظر المراقبين – تقف وراء جوهر وسلوك روسيا في سوريا, منها ما يتعلق بسوريا مباشرة, ومنها ما يرتبط بخارطة التحالفات السياسية الدولية التي ستراعيها روسيا ضمن إستراتيجيتها,

سواء ما يتعلق بالعلاقة مع إيران (الداعم المركزي للنظام السوري) أو العلاقة مع الغرب بموقفه الحالي من الأزمة السورية.

فمن حيث العلاقة الروسية السورية, ثمة مواقف وشواهد وأحداث تدل على تميز العلاقة بين روسيا وسوريا وتفسر- ولو جزئياً- المساندة السياسية الروسية للنظام السوري, فدبلوماسياً, كانت سوريا من بين قلة من الدول التي أعلنت بشكل واضح تأييدها للعملية العسكرية الروسية في جورجيا عام 2008،

إضافة إلى تأييد السياسات الروسية في داغستان والشيشان..

وعسكرياً فالقاعدة العسكرية البحرية في سوريا (طرطوس) هي القاعدة الوحيدة لروسيا على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، وهي موجودة عملاً باتفاقية قديمة بين البلدين تعود لعام 1971(كلّف استمرارها إعفاء سوريا من ديون بلغت 9.8 مليار دولار عام 2006).

كما أنّ سوريا تعدّ سوقاً للسلاح الروسي؛ إذ تبلغ قيمة المبيعات العسكرية المنجزة والمتفق عليها خلال الفترة من 2006-2013 حوالي ثمانية مليارات دولار.

كما تُشكِّل سوريا أحد أهم الشركاء العرب التجاريين لروسيا؛ بنسبة 20% من إجمالي التجارة العربية-الروسية وبصورة متنامية.

ولكن ! ورغم كلّ ما سبق ذكره من شواهد على طبيعة وحجم التعاون بين البلدين, يرى مراقبون – وكذلك بعض تصريحات النخبة السياسية الروسية تشير إلى ذلك - أنّ العلاقات الروسية مع سوريا في القطاعات التجارية والعسكرية، لا تشكل أهمية لذاتها,

بقدر ما هي نتائج للتصور الرّوسي لمكانة سورية ودورها في الإستراتيجية الروسية الدولية في نطاق إفشال التضييق الأطلسي والغربي لروسيا في ما تبقى من مناطق نفوذها .


فتوسع حلف الأطلسى في دول الكتلة السوفيتية المنتهية, من الطبيعي, أن تقابله السياسة الروسية التي تسعى إلى مواجهة هذا التوجه عبر جبهات عدة من بينها غرب آسيا التي تشكّل فيها كل من سوريا وإيران قواعد ارتكاز جوهرية،

الأمر الذي يعني أن روسيا لن تفرط في ركائز مشروع مقاومة التطويق المتواصل لها من قبل الأطلسي بقيادة أمريكا.


أما العلاقة بين روسيا وإيران فإنها تمثل بعداً إستراتيجياً مهمًا بالنسبة لروسيا في الصراع الدولي الذي يدور في منطقة الشرق الأوسط، فإيران تمثل أهمية بالغة لروسيا في عدد من النواحي، منها حماية البوابة الجنوبية لها – كما صرح بذلك بوتين - ومساعدتها في المنافسة على المصادر البترولية وطرق نقل الطاقة من منطقة بحر قزوين،

والتي تشهد تنافسًا كبيراً مع الشركات الغربية. بالإضافة إلى أنّ التعاون التجاري والعسكري والنووي بين إيران وروسيا كبير ومتنام.

ومن زاوية أخرى, فإنّ روسيا, وبصورة مشتركة مع الدول الغربية, لا تخفي تخوفها من بروز الحركات الإسلامية كبؤرة «للربيع العربي» و تناميها, وما لذلك من انعكاسات على أوضاعها الداخلية، لاسيما في الشيشان وداغستان وبقية الجمهوريات الروسية التي يوجد فيها أقليات إسلامية،

بالإضافة إلى احتمالات انتقال عدوى الربيع العربي للجمهوريات في آسيا الوسطى (الجوار القريب لروسيا), ولعلّ تعاونها الإيجابي مع الأطلسي و أمريكا فيما يتعلق بمواجهة الحركات الإسلامية بشكل عام دليل على ذلك، وهو ما نجد له نموذجًا في أفغانستان حيث تقدم روسيا تسهيلات لقوات الأطلسي العاملة فيها لضرب حركة طالبان.

الصين

يرى مراقبون بأنّ تفسير الموقف الصيني من الأزمة السورية والذي تجلّى بتبني الفيتو مرتين (مع روسيا) لا يتعلق مبدئياً بالعلاقة السورية الصينية المباشرة,
التي لا يرون أنّه يمكن اعتبارها «إستراتيجية» بالمقاييس التقليدية, بل إنّ مشكلات أخرى - غير الأزمة السورية - تدور بين القوى الكبرى ومن بينها الصين انعكست على المشهد السوري يمكن أن تساهم في قراءة هذا الموقف.

فالعلاقة بين الصين و روسيا (العامل الأبرز في الأزمة السورية) تأخذ بعداً إستراتيجياً مهماً بالنسبة للصين, فبالإضافة إلى أن الدولتين تشتركان في حدود سياسية يصل طولها إلى 3483 كيلومترًا,
وأثر وحدة الموقف على تأمين مصالح الدولتين من هذه الناحية، فإنّ وجود مصالح اقتصادية مشتركة بينهما مهمة للدولتين يعزز أيضاً من فرص التنسيق على المسرح الدولي.

وإقليمياً فإنّ إيران حاضرة في إستراتيجية الصين الدولية, فإيران تعد ثاني أهم مورِّد للنفط للصين، كما أنهما تشتركان معًا في إستراتيجية إحياء طريق الحرير.

وهناك تعاون تجاري كبير بين البلدين يعززه أن الشركات الصينية تستثمر الانسحاب الاقتصادي الغربي من الأسواق الإيرانية لتملأ الفراغ الذي يتركه، وكمثال على ذلك,

فإنّ الحصار الغربي على الغازولين والحول دون وصوله للأسواق الإيرانية أدى إلى انخفاض وفرته فيها بنسبة 75%، ما أتاح المجال للصين لتزود إيران به ولكن بأسعار تزيد 25% عن أسعار الغازولين في السوق العالمي، بالإضافة إلى التعاون في مجالات التسلح بينهما.

وفي الجهة المقابلة, وعلاقة الصين مع أمريكا (غير الصديقة للنظام السوري) , يرى مراقبون بأنّ الموقف الصيني من الأزمة يمثل أحد ردود الفعل المباشرة على الإعلان الأميركي عن تحول في الإستراتيجية الأميركية نحو منطقة المحيط الهادئ الآسيوية وهي منطقة تنامي النفوذ الصيني وهو ما يعني وجود توتر بين الطرفين في هذه المنطقة ,

مما يجعل الصين تعمل على الرد في مناطق أخرى، وقد شكّلت الأزمة السورية فرصة للقيام بذلك.وكذلك اتهام الصين لأمريكا بالمساس بمصالحها الجوهرية إما عن طريق بيع أمريكا أسلحة لتايوان أو تشجيعها للمجموعات الانفصالية في التبت, وبالتالي فإنّ الصين اتخذت المناكفة في الازمة السورية كجزء من الرد, ولو سياسياً فقط.

وحول الربيع العربي بشكل عام, وكما هو حال روسيا, فإنّ هناك عدم ترحيب صيني بوصول الحركات الإسلامية إلى الحكم في دول الربيع العربي وما يمكن أن يؤدي إليه من انتقال عدوى الثورات إلى الأقليات المسلمة في الصين وبخاصة الأقلية المسلمة في سينك يانج , في ظل دعم واستثمار الولايات المتحدة لذلك .

وفيما يتعلق باحتمالات تغير الموقفين الروسي والصيني, تبقى الصورة المستقبلية تعتمد على عدد كبير من المتغيرات المختلفة على المستويات المحلية والإقليمية والدولية.

فإذا صحّ النظر إلى سلوك روسيا والصين على أنه سياسة وليس موقفاً مبنياً على تقديرات وظروف تتغير خلال الأزمة وبالتالي تتغير بناء عليها المواقف الجوهرية, فإنّ روسيا –حسب هذه الرؤية – من الصعب أن تتخلى عن موقفها الجوهري في تأييد النظام السوري حتى لو حاولت دفع النظام إلى تغيير بنيوي عبر خطوات تدريجية,


أما الصين فإنها تبدو في موقف أقل رسوخًا من الموقف الروسي بسبب طبيعة سياستها في المنطقة بشكل خاص أو على المستوى الدولي.

إلا أنّ هناك بعض العوامل قد تقلل فرص التراجع الصيني عن استمرار الموقف الحالي ، ومن ذلك حرصها على العلاقة مع إيران. بالإضافة إلى أنّ التغير في الموقف الصيني, في ظل ثبوت الموقف الروسي, قد يخلق ارتباكًا للعلاقات الصينية-الروسية الاستراتيجية والتي تمثل الأهمية الكبرى بالنسبة للصين.

الولايات المتحدة الأمريكية

الموقف الأميركي من الأزمة السورية وبعد عام من بدايتها ظل يتلخص في الحديث عن إمكانية الحل السياسي، والتهديد بإجراءات إضافية ما لم يشرع النظام في إصلاحات سياسية حقيقية ويستجيب للضغوط الخارجية ,

أي أنّ أمريكا لم تصل إلى درجة مطالبة الأسد بالرحيل كما حدث مع الرئيس المصري السابق حسني مبارك وكذلك العقيد الليبي معمّر القذافي.

فالتصريحات الأميركية المتتابعة وموقف الإدارة الأميركية، بحسب آخر مشروع أميركي قدّم إلى مجلس الأمن في السادس من مارس/آذار تتركز حول «إنهاء العنف، وفتح ممرات للمساعدات الإنسانية», كما أنّ «الخيارات المفتوحة» التي يتحدث عنها وزير الدفاع الأمريكي بما في ذلك « تدخل عسكري متعدد الأشكال بما فيه توجيه ضربة عسكرية»,

كلّ ذلك لا يزال بعيداً عن جوهر السياسة الأمريكية الحالية وتشديد أوباما على أهمية أن يكون الحل دبلوماسياً ، وكذلك تحذير المسؤولين الأميركيين الدائم من تداعيات الحلّ العسكري.

لا شكّ أنّ ثمة حسابات أميركية كثيرة لها علاقة بالموقف تجاه الانتفاضة السورية, والاعتبارات هنا تُذكر في حال الرغبة الأمريكية المبدئية بإسقاط النظام السوري والنظر في جدوى الخيارات، فالجيوسياسية التي تشغلها سوريا والتي لها علاقة بموقع سوريا في منطقة حساسة من جهة، ومن جهة ثانية لها علاقة بطريقة إدارة النظام للأزمة،

ونجاحه في جعل الأزمة أزمة إقليمية ودولية،

ومن جهة ثالثة لأسباب أميركية لها علاقة بالأزمة المالية التي دفعت بواشنطن إلى الانكفاء على الداخل، خاصة مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية.

كما أنّ واشنطن وبعد ما جرى لها في أفغانستان والعراق باتت تبحث عن نتائج مضمونة لأي عمل عسكري تقوم به, حتى لو لم تكن في المقدمة وفضلّت القيادة من الصفوف الخلفية كما حدث في ليبيا، كما أن عملية عسكرية في منطقة تقع إسرائيل في قلب إستراتيجيتها تعدّ مغامرة.

وعلى الرغم مما سبق الحديث عنه, يرى بعض المراقبين أنّ طريقة تعامل واشنطن مع الأزمة السورية بهذا الأسلوب لا يعني أنها تريد الإبقاء على النظام، وإنما تغييره عبر إستراتيجية مختلفة لما جرى في ليبيا، نظرا لاختلاف الخصوصية السورية, حيث أنّ واشنطن تتبع إستراتيجية دفع النظام إلى الانهيار من الداخل،

عبر سلوك يعتمد على التصعيد التدريجي للعقوبات، وزيادة الضغط السياسي والدبلوماسي في المحافل الدولية والإقليمية، وإعطاء دور كبير للدول الإقليمية -ولاسيما تركيا ودول الخليج العربي- وكذلك جامعة الدول العربية، والأهم دعم المعارضة السورية والتغاضي عن تسليحها..

حيث أن حجم المخاطر والتكاليف بإنهاك النظام السوري أمنيا وعسكريا واقتصاديا، وتفكيك منظومته الخاصة في الداخل بغية دفعه إلى الانهيار تبقى أقل في مقابل الخيارات غير الآمنة على المنطقة والعالم في حال اللجوء إلى الخيار العسكري لإسقاط النظام.

وثمة مراقبين آخرين ينظرون إلى الموقف الأمريكي بصورة مختلفة عما سبق, فيرون أنّ السلوك الأميركي إزاء الأزمة السورية – وفي ظل انشغالات أمريكا الداخلية - لم يلجأ إلى إجراءات حاسمة تضع حدا للنهج الذي يتبعه النظام السوري من جهة, ومن جهة ثانية، لا يطرح حلا سياسيا ممكنا للأزمة,

ومن جهة ثالثة، يشجع على عسكرة الانتفاضة الداخلية، فيزداد المشهد السوري دمويا في كل الاتجاهات.

وهكذا، تُبقي الولايات المتحدة الأميركية موقفها المتحفظ , ما دامت الأزمة بقيت في نطاقها الداخلي , دون دعم فعلي للحسم.

فسوريا التي لا توجد فيها مصالح حيوية لأميركا لن تمثل مشكلة حقيقية لها في حال طال عمر أو حتى بقاء هذا النظام، بجسم سياسي مضطرب ومنعزل عن منطقته العربية على إثر الأزمة السورية والموقف العربي منها كما أنّه غير قادر على الدخول بمواجهة مع إسرائيل لعدة سنوات على الأقل.

تركيا

خلال الأشهر الأولى من الأزمة السورية، دأبت تركيا على مطالبة النظام السوري بإجراء إصلاحات تشريعية ودستورية وسياسية جوهرية في بنية النظام, وذلك بصفة تركيا حليفة وثيقة ومجاورة لسوريا, إلا أنّ لقاءات المسؤولين الأتراك المتكررة بالرئيس السوري لإقناعه بذلك لم تفلح في تحقيق ما تأمله الأتراك.

ومن ثمّ فإنّ تزايد أعداد الضحايا على يد قوات النظام السوري, مع تكرار نداءات المتظاهرين السوريين لتركيا بالتدخل، أدت إلى تلاشي الثقة بين أنقرة ودمشق بصورة حثيثة.

كما أن زيارة داوود أوغلو لدمشق في شهر آب واجتماعه بالرئيس الأسد , في نتائجها, عززت عدم ثقة أنقرة بجدية النظام السوري تجاه إجراء الإصلاحات الجوهرية التي ناشدت بها تركيا منذ بداية الأزمة.

وحول احتمالات التدخل التركي في سوريا.

فإنّه وبعد التفكير في حدود جدوى هذا التدخل على الأزمة السورية وتداعياته, فمن الواضح أن ثمة محددات لذلك. فالتدخل التركي العسكري المباشر في سوريا يتطلب غطاءً قانونياً دولياً وغطاءً عربياً سياسياً، إضافة لقرار برلماني تركي.

وفي ضوء الموقفين الروسي والصيني في مجلس الأمن الدولي، يمكن القول إن الغطاء الدولي غير متوفر في المدى المنظور، بالإضافة إلى التساؤل عن إمكانية تحقيق دعم عربي وبرلماني تركي له, مما يجعل خياراً كهذا مستبعداً أيضاً في المدى المنظور.

وفيما يتعلق بفرض عقوبات اقتصادية تركية على سوريا, فإنّه نظراً للعلاقات الاقتصادية والتجارية الوثيقة بين البلدين فإنّ أي خيار كهذا لابد أن يترك تأثيراً سلبياً على الأوضاع المعيشية للشعب السوري.

إذن يبدو أنّ الموقف التركي حتى الآن وصل إلى إيقاف التواصل مع النظام السوري وتبني خطاب معارض لسياساته تجاه الحراك الشعبي إضافة إلى فتح أبواب البلاد لقوى المعارضة السورية المختلفة سواء لعقد اجتماعاتهم أو للتعبير عن مواقفهم وإيواء بعض عناصر الجيش السوري المنشقين.

إيران

تمثل سورية قاعدة إستراتيجية بالغة الأهمية للنفوذ الإيراني في الجوار العربي المشرقي، حيث توفر نافذة على المتوسط، وطريقاً آمناً إلى لبنان وشريكاً يعتمد عليه، يجعل من إيران طرفاً في الصراع العربي – الإسرائيلي.

كما أن التحالف الإيراني–السوري يعتبر ضمانة حيوية للنفوذ الإيراني في العراق.

إيران – كما هو جليّ منذ بداية الأزمة - تبذل كل جهد ممكن لمنع سقوط نظام الحكم في سوريا, على الرغم من محاولة بعض المسؤولين الإيرانيين، بما في ذلك أحمدي نجاد، وضع مسافة بين طهران والتصاعد المستمر في مستويات القمع الدموي الذي يمارسه النظام السوري ضد الحراك الجماهيري.

كما أن إيران ترى حل الأزمة السورية من خلال إصلاح النظام حيث أنّ الإصلاح الذي تقبل به إيران في سوريا يوافق تصور النظام السوري تقريباً، بمعنى أن تنتقل سوريا لنظام سياسي أكثر انفتاحاً، وبتعددية سياسية حذرة ومتحكم بها، تتعلق بتكليف الحكومة ورئيسها والإطاحة بهما، ولا تمس رئيس الدولة وسلطاته الواسعة والأجهزة المرتبطة به.

ومن الناحية العملية, فإنّ إيران تقدم دعماً سياسياً وعسكرياً واسعاً للنظام السوري بما يمكنه من الصمود أما الضغوط الداخلية والخارجية ومستمراً في طريق الحلّ الأمني لقمع الانتفاضة السورية.

أوروبا

تمثلت ردود الفعل الأوروبية تجاه الأزمة السورية في إصدار بعض البيانات والتصريحات المُدينة لعمليّات النظام منذ بداية الأزمة, وبعض القرارات التي تشدد العقوبات الاقتصادية على دمشق, بالإضافة إلى وضع بعض المسؤولين السوريين على قائمة الممنوعين من السفر إلى دول الاتحاد الأوروبي, حيث لجأ الاتّحاد الأوروبيّ إلى 13 رزمة من العقوبات منذ بدء الأزمة السّوريّة شملت إلى الآن أكثر من مئة شخصية مرتبطة بالنظام السوري بالإضافة إلى عشرات الشركات.

كما قامت بعض الدول الأوروبية بإعلان دعمها وتواصلها مع المجلس الوطني السوري كممثل للشعب السوري, والذي يضم أغلب مكونات المعارضة السورية, دون صدور موقف جماعي من كافة دول الاتحاد الأوروبي بهذا الشأن.

إلا أنّ المراقبين يرون أنّ هذه الإجراءات (العقوبات الاقتصادية) تشترك في افتقارها إلى الآليّات التي تسمح لها بأن تكون ذات تّأثير مباشر وفعال على جهاز الدولة السورية وعناصره الأساسيّة وبالتالي على مجرى الأزمة السورية واتجاهها.

وبذلك فإنّ الاتحاد الأوروبي الذي قاطع النظام السوري دبلوماسياً منذ بداية الأزمة, لا يبدو أنه يشكل طرفاً ضاغطاً على هذا النظام من أجل إجراء تغيير ما, كما أنّه لا يشكل قوة وضغطاً حاسماً بسياسة العقوبات الاقتصادية للمساهمة في إضعافه, وفي ظل السيناريوهات المحتملة لتطوّر الأزمة السورية, يبقى دور الاتحاد الأوروبي غير واضح المعالم.


سيناريوهات تطوّر المشهد السوري:


عبر قراءة المشهد الحالي للأزمة السورية والذي يتمثل بدعم دولي سياسي للمعارضة السورية مقابل استمرار دعم روسي سياسي وعملي للنظام ، يبدو من الصعب التوصل إلى حل داخلي أو عربي أو أممي في الوقت القريب ،

والأرجح أن يستمر النظام في الحل الأمني، مع بقاء الروس مساندين له لمراهنتهم على قدرته على البقاء في السلطة، وفي المقابل،

تقوم بعض القوى الإقليمية والدولية على مساندة المعارضة والتغاضي عن تسليحها, لمنع سحق الانتفاضة، وإضعاف النظام، حتى يتفكك تدريجيًّا من الداخل، فتتناقص قدرته على السيطرة على الوضع وعندها يمكن أن تتدخل الدول المعنية - بما فيها روسيا والصين.- لترتيب مرحلة ما بعد الأسد.

وفي هذا السيناريو مدّ لعمر الأزمة السورية وتوجيهها نحو المجابهة الشاملة وما تحمله من استنزاف للنسيج الاجتماعي والوطني السوري، إضافة إلى مخاطر تداعي بنية الجيش والدولة، وتصبح سوريا ساحة مفتوحة لصراع دولي.

وفيما يتعلق بالموقف الروسي» الأكثر فاعلية» في الأزمة السورية, فإنه وفي حال تطويره أو تغييره في سبيل إزالة الدعم الكامل عن النظام السوري بسلوكه الحالي, بالإضافة إلى الدعم الغربي والعربي السياسي والمادي,

في هذه الحالة يمكن القول بأنّ هذا التحول سيُفقد النظام أحد أهم أسباب الرهان عليه داخليًّا، وهو ما سيؤدي لتزايد الانشقاق في هيئات الدولة،

علاوة على أن تدهور الوضع الاقتصادي سيُفقد النظام الفئة الاجتماعية المنتفعة من سياسته الاقتصادية.

ويبقى السيناريو الذي تخطئه التوقعات القريبة, مع بقائه وارداً ضمن التغيرات والأحداث المتسارعة على المستويين الإقليمي والدولي, وهو التدخل الدولي العسكري باتجاه حماية المدنيين (باعتبار الظروف القائمة في السيناريو الأول من استمرار الدعم الروسي للنظام السوري..)

حيث أنه قد يدفع تزايد عنف النظام في قمع المتظاهرين والتخوّف من تدهور الأوضاع نحو حرب أهلية تخرج من السيطرة مع فشل المهمات الأممية في وقف عمليات النظام العسكرية، قد يضطر المجتمع الدولي حينها إلى تجاوز الاستعصاء في الأمم المتحدة (الفيتو الروسي والصيني)،

فتلجأ القوى الإقليمية والدولية إلى الخيار العسكري, والذي يتضمن تدخل تحالف دولي لحماية المدنيين بفرض منطقة حظر جوي ومناطق آمنة، وتوجيه ضربات للقوى الجوية وللمدرعات والمدفعية التي تقتحم المدن والبلدات المنتفضة.

هذا السيناريو الذي قد يبدو حاسماً لصالح الانتفاضة السورية نظرياً, إلا أنه في تداعياته وتوقعات ردود الأفعال الإقليمية والدولية عليه يبقى الخيار الأخطر

والكفيل – ببعض احتمالاته - بتفجير منطقة حساسة كمنطقة الشرق الأوسط والخليج العربي.