الساعة

المشاركة السياسية فـي الدولة الحديثة

اعداد : المحامي خالد العموش

مركز الرأي للدراسات

تموز 2012

النظريات العامة, التي تتحدث عن سبب اشتراك الناس في السياسة, تجعل الأحزاب السياسية بوصفها البؤر, التي تكمن فيها طاقة الوعي والفعل السياسيين, موضوعا مركزيا لتحليلها 0

إن دراسة هذه الأحزاب, بنيتها الاجتماعية وطبيعتها الأيديولوجية, تتيح لها إمكانية التنبؤ بالسلوك السياسي للمواطن إلى حد كبير, دوافعه ومقاصده. كما تتيح لها إمكانية البحث عن البيئة السياسية النموذجية للمشاركة السياسية 

هناك نسق معرفي معتمد في الجامعات والمعاهد العالمية العليا, تحت اسم علم الأحزاب السياسية المقارن, ينطلق الباحثون فيه من القناعة بأن ازدياد حجم المشاركة السياسية وتطوير أساليبها من خلال الأحزاب السياسية والجمعيات الأهلية والأطر المدنية, هو المدخل الصحيح اليوم إلى مواطنة صحيحة والى حياة وطنية أرقى وأشد تماسكا. وخلاف ذلك يعني الحكم بالبؤس السياسي على المجتمع وتهميشه وتردي الشعور بالانتماء والمسؤولية لدى المواطن 

العديد من الأنظمة والشعوب صارت تأخذ اليوم مثل التعددية والديمقراطية السياسية على محمل الجد, وباتت تراهن على حياة سياسية-إنسانية أرقى بكثير مما لو احتكر فرد أو حزب أو عرق أو طبقة الحياة في نفسه, وهذه النظرة أو الأسلوب غدا علامة صحيحة على تقدم المجتمعات سياسياً وحيويتها 

الأطروحة الشهيرة التي هيمنت على النظم السياسية في العالم العربي ودول العالم الثالث ومنظومة الدول الاشتراكية في القرن العشرين على اختلاف أنماطها, كانت تقول بأن المصلحة الوطنية الحقيقة وسلامة النظام سياسيا واجتماعيا تكمن في التماهي بين الدولة والمجتمع وحزب وحيد يمنح نفسه احتكار الشرعية السياسية والقانونية وينطق باسم المجتمع وشرعيته بعد أن استعار صوته ولغته. وقد شخص عالم الاجتماع الفرنسي ريمون آرون خمسة عناصر رئيسة مشتركة بين هذه الأنظمة :

1ـ احتكار النشاط السياسي ليقتصر على حزب واحد 2ـ تحرك ذلك الحزب بفعل إيديولوجية تغدو الحقيقة الرسمية للدولة 3ـ تمنح الدولة نفسها احتكار وسائل القوة والإقناع 4ـ معظم النشاطات الاقتصادية والمهنية مندمجة بالدولة وخاضعة للحقيقة الرسمية 5ـ الخطيئة الاقتصادية أو المهنية تغدو خطيئة ايديولوجية وعليه فينبغي أن تعاقب بإرهاب إيديولوجي وبوليسي في آن معاً 0

واقع الحال أن هذه النظم عمدت انطلاقا من هذه القناعة الإيديولوجية إلى تقويض الحياة السياسية الحزبية داخليا وقلصت الحراك الاجتماعي المدني إلى أدنى حد له, وحالت دون نشوء فاعلين سياسيين وقضت على كل أشكال المشاركة أو المساهمة السياسية 00

إن أحد أبرز معايير ضعف هذه الدول ومجتمعاتها كا يشير علماء الاجتماع السياسي يتمثل في هبوط المساهمة السياسية أو ما يسمونه بأزمة المشاركة السياسية وهو يعد في الوقت ذاته سببا في إحساس العديد من الأفراد في تلك المجتمعات بأنهم هامشيون ومنبوذون في دول ومجتمعات لا يشعرون بأنهم يساهمون فيها كل ذلك يدفعهم إلى الشعور المضاد للانتماء إي العزلة والاغتراب الاجتماعي ومن ثم إلى التطرف السياسي والى الفوضى والعنف.وهنا تكمن أحدى البؤر المولدة للعنف والتطرف الأصولي , كما نلاحظ في عالمنا 0

من الواضح إن بوسع الدولة إن تكون دولة سلطة سياسية حاكمة, دون إن تكون دولة مواطنين إذا لم تعترف بأن مهمة النظام السياسي, هي الاهتمام بمصالح المحكومين ورعايتها وبتنمية الدور السياسي للمواطن وضمان مساهمته الحرة بوصفه فاعلا سياسيا, إذ ينبغي إن يشعر المواطنون أنهم يساهمون في بناء الحياة والمجتمع السياسيين, فإذا لم يتعمق لديهم هذا الشعور بالانتماء إلى المجتمع السياسي, وإنما إلى أسرة فقط, أو قرية, أو طائفة, أو عرق , أو دين,فإن هذا الوعي بالانتماء الأخير يترسخ على حساب شعورهم بالمواطنة العمومية والمشتركة 0

تقاس المساهمة السياسية للمواطن بمعايير واضحة تتعلق بقدرته السياسية على التعبير عن آرائه بحرية وبترجمة قناعاته السياسية وتجسيدها من خلال العمل الفردي أو الجماعي المنظم وبدرجة تأثيره على آليات عمل النظام السياسي وقرارته, وتحكمه بسلوك ممثليه 0

فمبقدار ما يمتلك المواطنون الوعي السياسي والأدوات والوسائل التي تتيح لهم ترجمة هذا الوعي في سلوك حر بعيد عن الإكراه , تكون البيئة السياسية هي الأمثل, وقد وجد الفلاسفة السياسيون أمثال لوك Locke وميل Millوتوكفيل Tocqeville وغيرهم إن هذه المعايير هي أساسية لنظام ديموقراطي ناجح قائم على التعددية وحرية التعبير وحقوق الأقليات0

 

النظام السياسي لا يستطيع الدفاع عن المجتمع وحمايته من دون مواطنين أحرار يستشعرون حريتهم, مهما ادعى ذلك النظام الذي يؤثر القمع يولد الخوف في الأذهان ويخلق مقدارا كبيراً من عدم الثقة,ويؤدي كل ذلك في نهاية المطاف إلى القطيعة, بينه وبين الأساس الاجتماعي لشرعيته وبقائه النظام السياسي الذي لا يثق بالوعد السياسي الوطني لمواطنيه, ليس له أن يفرض وعياً وطنياً مشتركاً بالقوة من دون أن يغامر بإثارة العداء والكراهية نحوه. إن عملية التعبئة الأيديولوجية, التي تبدو مفروضة هنا, لا تخلق شعوراً وطنياً مشتركاً وفاعلاً, من ثم عوضاً من أن تحقق تواصلاً سياسياً محتملاً بين النظام السياسي والمجتمع المدني, فإنها تحدث صدعاً بين الطرفين.

إنها في أحسن الأحوال تجعل المجتمع يتحرك ويتكلم بشعارات لا تخترق وعي أفراده وضمائرهم. إن من شأن الكوابيس الأيديولوجية, التي تنجم عن تما هي المجتمع والدولة مع أيديولوجية حزب حاكم, أن تضعف الشعور بالمواطنة لدى الأفراد وتخنق لديهم كل ابتكار أو تنوع خصب في الرؤى, وتقيد روح المبادرة. فالمجتمع الديموقراطي الحديث في أبرز تعريف له, هو المجتمع الذي يشرك أكبر تنوع ثقافي ممكن وتنوع في الآراء مع أوسع استخدام ممكن للعقل مع ضمان أكبر قدر ممكن من الاحترام للتطلعات الفردية والجماعية ودون اللجوء إلى أي شكل من أشكال العنف أو القهر أو الإقصاء00

من جانب آخر, فإن الاعتقاد بأن المصلحة الوطنية تقتضي هذا التماهي بين المصادر الثلاثة إن ما يقوض كل أساس سياسي أو قانوني لمعارضة تعسف السلطة ويطيح بكل إمكانية بتصحيح مثالبها وتعويضها, وبالتالي يعد العدة لشرعنة أخطائها بجعلها القاعدة الناظمة للحياة السياسية فيصير لزاماً على الدولة إذا شاءت أن تكون وطنية وديمرقراطية حقاً أن تعترف لمواطنيها بحقهم في المعارضة ضمن إطار القانون, بالأسلوب الفردي أو الجماعي فلا تقوم الدولة فقط بتحديد سلطتها على هذا النحو, وإنما تفعل ذلك من موقع وعيها بأن شرعية نظامها السياسي واستمراريته مرهونتان بدرجة تفاعلها وتواصلها مع المجتمع المدني وبقوة الأخير ومقدار تأثيره, وإذا لم تفعل ذلك, فإن ادعاءها بأن شرعيتها مستمدة من تمثيل مواطنيها يعد نفاقاً بلا طائل 00

إن اجتماع المساهمة السياسية للمواطنين مع تحديد السلطة وتقييدها بوساطة الحقوق الأساسية الأساس الراسخ لأي مجتمع سياسي حديث, الذي من دونه لا تكون الدولة دولة مواطنين أحرار لكن يتعين أن يتوج كل ذلك غياب مبدأ مركزة السلطة ونفي كل صفة جوهرية عنها, بوصفها حزباً واحداً, تنطق باسم الشرعية الأخلاقية والسياسية للمجتمع. الأمر الذي يمكن ترجمته بشكل ملموس في التداول السلمي للسلطة عبر انتخابات حرة ونزيهة تعتمد رغبة الأغلبية قانوناً لها 0

تحقق الأحزاب في هذا السياق تواصلاً بين المواطن والعملية السياسية وممارساتها. وهي تمثل هنا إطاراً مرجعياً لقيم سياسية وأهداف, عامة ومشتركة, ينبغي لها أن تستجيب لمصالح المجتمع الأكثر حيوية. هكذا تلعب هذه المؤسسات دوراً كبيراً في توجيه السلوك السياسي للمواطنين, فإذا كان غيابها الطبيعي مؤشراً على الجمود وبؤس الحراك السياسي, فإن حظرها ومنعها بقرار تعسفي من شأنه أن يخلق فراغاً سياسياً وأيديولوجياً يتعذر على الخطاب الأيديولوجي للنظام السياسي أن يشغله بمفرده وعلينا ألا نقلل من مخاطر مثل هذا الموقف إذ يخبرنا التاريخ القريب أن النظم السياسية, التي صادرت أسس المشاركة السياسية الحرة والديمرقراطية ووسائلها, وقاومت كل مساهمة فردية أو جماعية, للمواطنين, مهدت بذلك الطريق لاكتساح أيديولوجيات في غاية التطرف سواء دينية كانت أو طائفية أو عرقية, ومن ثم عززت النزوع الارتدادي إلى انتماءات عصبوية متخلفة عمقت من تفكك المجتمع المدني وأسست بالتالي للتناحر الداخلي بين مكوناته, بعد أن أتلفت كل فضاء تواصلي بينها 0

الانتقال من المساهمة السياسية الفردية إلى الشكل الحزبي الجماعي لها , هو الأسلوب العقلاني الحديث للممارسة السياسية , الذي يلازم تحرر الفرد من أشكال الانتماء المجتمعي السابقة وتراتبيتها, التي كانت تقيد الفرد وتلزمه بمكانة اجتماعية ووظيفة تحول دون اكتسابه صفة العمومية , بوصفه مواطنا في مجتمع سياسي حديث .

إن ظهور المجتمع السياسي الحديث يعد مؤشرا نهائيا على تحرر الفرد- الإنسان من النظم الاجتماعية السابقة , وعلى ارتقائه وتحوله إلى كائن سياسي عمومي مساهم , لا يكتفي بتموضعه في أطر جزئية محددة , وإنما يلتقي مع غيره في أشكال أسمى من الانتماء . إن الحزب السياسي بوصفه هيئة منظمة وحديثة, يتخطى في بنيته الانتماءات الفردية السابقة ويتجاوزها في أهدافه ومقاصده العملية, إلى مستوى النشاط الجماعي الواعي القصدي للكل الذي لا ينفي داخله كل اختلاف أو تعدد في الرؤى والانتماء