الساعة

أين العالم العربي من علوم وصناعة البيوتكنولوجي؟

اعداد : د. نزار جمال حداد

مركز الرأي للدراسات

نيسان 2012

الأمن الغذائي والمجاعات وتدهور السلامة الأحيائية وتراجع التنوع الحيوي والتلوث البيئي والأمراض الخبيثة وارتفاع أسعار النفط، جميعها أصبحت من مهددات الأمن المعاصر، ولعل العالم العربي واحداً من أكثر مناطق العالم مواجهة لهذه المشكلات الكبيرة والتي يصعب مواجهتها دون اللجوء إلى اجتراع حلول خلاقة قادرة على تعظيم الإنتاج الزراعي على وحدة المساحة إلى أضعاف الإنتاج الحالي، مع التاكد من سلامة الغذاء المتاح والمحافظة على التنوع الحيوي الآيل إلى الانقراض، في بيئة آمنة ونقية ومستدامة النظافة.

و يتجه العالم حاليا إلى ما يعرف بالبيوتكنولوجي (Biotechnology) أو التقانات الحيوية لإيجاد حلول خلاقة لمشاكل هذا العصر وبخاصة على صعيد الإنتاج الزراعي والصناعات الغذائية والطب وإنتاج الطاقة الخضراء، وهنالك العديد من قصص النجاح العالمية بهذا الخصوص، وفي هذا البحث المتواضع نستعرض هذه التقانة المتقدمة ونلقي بعض الضوء على واقعها في العالم العربي، لعلي أحث زملائي الباحثين لبعث الصبغة التنويرية في بحور العلوم البحتة، لتصبح في متناول القارئ الجاد والباحث عن حلول لبعض مشاكل هذا العصر.

تعرف التقانات الحيوية Biotechnology على أنها مجموع التطبيقات العلمية الحديثة التي تعتمد على استخدام الكائنات الحية الدقيقة Microorganisms أو أجزاءاً أو مواد منها واستخدام الخلايا الحيوانية والنباتية ومنتجاتها، مثل الأنزيمات والهرمونات وغيرها، للاستفادة منها في تركيب منتجات جديدة أو تحوير منتج أو تحسين النباتات أو الحيوانات أو الكائنات الدقيقة أو تحسين الإنتاج وذلك لأهداف محددة مفيدة . أما المعنى الضيق للبيوتكنولوجي فيقتصر على الهندسة الوراثية أو ما يعرف بالكائنات المعدلة وراثياً GMOs، ودراسات المادة الوراثية أو ما يعرف بالحمض النووي (DNA)، والبيولوجيا الجزيئية( ).

هذا وتعد أبحاث لويس باستور (1822-1895) Louis Pasteur واكتشافه للكائنات الحية الدقيقة؛ أساس علم الأحياء الدقيقة Microbiology، وتعتبر المهد الذي ولد فيه علم البيوتكنولوجي، وقد تطور هذا العلم بتطور المجهر واكتشاف التركيب الجزيئي للمادة الوراثية عام 1953. و نتيجة للفهم العلمي العميق لآليات عمل الخلايا الحية والتحكم في وظائفها تطور هذا العلم ليصبح علما مستقلا. ويلاحظ اليوم أن استخدام طرائق البيولوجيا الجزيئية والهندسة الوراثية يسهم في إعطاء البيوتكنولوجي خصائص التقانات المستقبلية القادرة على تبديل حياة الإنسان كما فعلت ثورة الاتصالات والمعلوماتية في أواخر القرن العشرين. ويُعد إنجاز خارطة الجينوم البشري عام 2001 م ،أحد النتائج الباهرة للتقانات الحيوية( ).

تطبيقات التقانات الحيوية

يصعب على الباحث الأمين حصر كافة تطبيقات البيوتكنولوجي، فلعل تطبيقات هذا العلم قد دخلت أغلب مجالات الحياة البشرية والعديد من ميادين الصناعة والزراعة، وفيما يلي بعض أهم هذه التطبيقات:

.. في الزراعة

تعتبر زارعة الأنسجة واحدة من أهم وأول التطبيقات العملية للبيوتكنولوجي، وقد بدأت منذ خمسينات القرن الماضي حيث اعتُمدت زراعة الأنسجة لإنتاج الغراس السليمة من الأمراض الفيروسية التي تصيب المحاصيل والأشجار ذات القيمة الاقتصادية العالية ( )، مثل الموز والبطاطا وأشتال النخيل. وقد أصبحت زراعة الأنسجة منتشرة في العديد من الدول العربية ومن بينها الأردن حيث يوجد عدد من الشركات الخاصة التي تنتج أشتال النخيل الخالية من الفيروسات وقد كان المركز الوطني للبحث والإرشاد الزراعي السبّاق إلى إنشاء مختبر زراعة أنسجة متطور في عام 1990 . وقد انتشرت هذه التقانة في اغلب مختبرات الجامعات الأردنية التي تعنى بالزراعة والأحياء بما فيها الجامعات الخاصة مثل جامعة فيلادلفيا على سبيل المثال لا الحصر، و هنالك تطبيقات مشابهة في كل من السودان وسوريا والعراق ولبنان وفلسطين واليمن وعُمان .

أصبح علم البيوتكنولوجي واحداً من أهم دوافع عجلة التنمية في القطاع الزراعي، فقد اتجه العلماء إلى هذه التقانة لتصنيف النباتات بدلا من الاعتماد على التصنيف الوصفي لها، مما ساهم في التعرف على التباين بين الأصناف بناءاً على التباين الوراثي. وقد منح هذا التوصيف الباحثين فرصة في تطوير النباتات باستخدام تقانة جديدة تعرف بالهندسة الوراثية؛ حيث تمكن العلماء من نقل بعض الجينات من نبات إلى آخر لنقل صفات مرغوبة إلى هذا النبات، فقد نجح على سبيل المثال باحث أردني في تطوير صنف من البندورة المقاومة لفيروس (TYLCV) يصيبها . وهنالك بعض قصص النجاح المشابهة؛ حيث تميزت مصر في العالم العربي بتطبيق تقانات التعديل الوراثي لإنتاج القطن المعدل وراثيا ليصبح مقاوماً للحشرات، وتجارب القمح والذرة المعدلة وراثيا لمقاومة الجفاف في مصر. وتجارب التعديل الوراثي لمقاومة الفيروسات في القرعيات والبطاطا. إضافة إلى تجارب أجريت في لبنان على الخيار المقاوم للفيروسات، وتجارب التعديل الوراثي في التفاحيات في سوريا، وتجارب التعديل الوراثي لبطاطا مقاومة لحشرة عثة درنات البطاطا في سلطنة عُمان. وحتى الآن؛ يمكننا القول أن المحاصيل المعدلة وراثياً لا تنتج ولا تزرع في البلدان العربية باستثناء مصر . لذلك؛ يمكن القول أن التعديل الوراثي شبه غائب في برامج المؤسسات العربية ما عدا بعض التجارب البسيطة.

هنالك عدد من التجارب الناجحة في العالم العربي في مجال تصنيف وتوصيف النباتات المحلية باستخدام البصمة الوراثية. وهنالك بعض التجارب الأولية لانتاج الفركتوز والسوربيتول والنشأ (نشأ القمح) من فائض المنتجات الزراعية .

وفي مجال إنتاج الأسمدة والمبيدات الحيوية، نجح العراق في استخدام الريزوبيا المثبتة للنتروجين الجوي في المحاصيل الحقلية إلا أن تطبيقها عمليا لا يزال محدودا، وهنالك تجارب في الأردن وسوريا والمغرب ولبنان في مكافحة الحشرات باستخدام الأعداء الحيوية . وتعتبر مصر هي الرائدة أيضا في هذا المجال حيث استطاع الباحثون المصريون أن ينتجوا مبيدا حيويا (أجيرين) لمكافحة ديدان القطن .

الطب البيطري ..

تعد تطبيقات التقانات الحيوية في الكشف عن الأمراض الوراثية الحيوانية وانتخاب السلالات الجديدة ونقل الأجنة من التطبيقات الهامة لها. إلا أن استخدامات البيوتكنولوجي في المجال البيطري في العالم العربي تنحصر على توصيف السلالات وتشخيص الأمراض سواء كانت وبائية أو حجْريّة والتي تصيب الحيوانات من خلال المعلمات الوراثية. ويعتبر التلقيح الصناعي لأجنة الأبقار والماعز والأغنام التطبيق الأكثر شيوعاً في العالم العربي. وقد انفرد المركز الوطني للبحث والإرشاد الزراعي في العالم العربي في تأسيس مختبر متخصص في استخدام البيوتكنولوجي في تشخيص الأمراض الفيروسية التي تصيب نحل العسل .

الطب البشري ..

تعتبر تطبيقات الهندسة الوراثية والبيوتكنولوجي من التطبيقات الواعدة جدا في مجال الطب البشري، حيث أصبحت التحاليل المخبرية المعتمدة على البيوتكنولوجي ركيزة أساسية من ركائز تشخيص الأمراض والأوبئة، وعلى سبيل المثال لا الحصر تشخيص مرض انفلونزا الطيور والخنازير. إضافة إلى عمليات فحص ما قبل الزواج وفحص التلاسيميا والإخصاب وأطفال الأنابيب وفصل ونقل الأجنة. ويعتبر الأردن من الدول العربية التي تطبق جميع هذه التقانات، وهنالك العديد من مركز الإخصاب وفصل الأجنة في مستشفيات القطاع الخاص الأردني التي أصبحت رائدة على مستوى المنطقة عامة وهنالك عدد من الأطباء الأردنيين الذين سبروا بحور هذا العلم وأصبحوا ملاذاً ليس للأردنيين فحسب بل وللعرب وبخاصة في تقنية تحديد جنس المولود. إلا أن المشكلة تكمن في استيراد العالم العربي لكافة أدوات ومستلزمات وأجهزة الفحص دون استثناء.

سلامة الغذاء ..

تطبّق تقانات البيوتكنولوجي في الكشف عن الأغذية المعدلة وراثيا، بالإضافة إلى الكشف عن سلامة الغذاء وخلوه من المسببات المرضية، وتستخدم هذه التطبيقات في أغلب الدول العربية وتتولى هذه المهمة في الأردن مؤسسة الغذاء والدواء .

إنتاج الطاقة الحيوية ..

مع تفاقم مشكلة النفط بسبب ارتفاع أسعاره من ناحية وبسبب الآثار السلبية لاستخدام الوقود الأحفوري في التغيرات المناخية ونشوء ظاهرة الاحتباس الحراري من ناحية أخرى، توجه العلماء إلى البيوتكنولوجي لإنتاج الطاقة الخضراء أو ما يعرف بالطاقة النظيفة . و هنالك العديد من التجارب العلمية في هذا المجال، إلا أن أنجح الأمثلة موجودة في السودان حيث يتم إنتاج الإيثانول في إحدى شركات السكر. وتجربة العراق واليمن في إنتاج الغاز الحيوي عبر استخدام الكائنات الحية الدقيقة في تخمير الفضلات العضوية لإنتاج غاز الطبخ الحيوي وللأردن تجارب متواضعة على هذا الصعيد.

 

علاج المشاكل البيئية

يعتبر تحليل المواد العضوية الموجودة في النفايات التي ينتجها الإنسان من أهم المشاكل البيئية التي تواجه الطبيعة وديمومة الحياة على كوكب الأرض، وقد نجح علماء البيوتكنولوجي في إبتداع طرق لتحليل هذه المخلفات والاستفادة منها في صناعة السماد العضوي والمواد العلفية كالسيلاج ، إلا أن المشكلة في العالم العربي تكمن في عدم فصل المخلفات التي ينتجها الإنسان قبل وصولها إلى مكبات النفايات مما يجعل استغلالها صعبا. ينحسر تدوير النفايات في أغلب الأحيان في العالم العربي على استخدام المخلفات غير العضوية مثل البلاستيك والورق والمعادن، في حين لا يتم استغلال المخلفات العضوية بشكل جيد.

هنالك تطبيقات على مستوى العالم في تكسير المواد النفطية والهيدروكربونية المسببة للتلوث، وإنتاج المواد الفاعلة في تحليل المخلفات العضوية في مياه الصرف الصحي إلا أن العالم العربي لا يزال بعيدا عن تطبيق هذه التقانات .

الصناعة

للبيوتكنولوجي تطبيقات هامة في الصناعة، ونخص منها الصناعات الدوائية، حيث يتم استخدام هذه التقانة في صناعات الأمصال والفيتامينات والأدوية، وهنالك بعض قصص النجاح في العالم العربي مثل مصنع أدوية الحكمة الأردني .

استعمالات البيوتكنولوجي في الصناعات العسكرية

تختلف الأسلحة المصنعة بيوتكنولوجيا (أو ما يعرف بالأسلحة البيولوجية) بحسب الهدف المراد إصابته ونوع الكائن المستخدم في إلحاق الإصابة، فنجد أن هناك أسلحة هدفها إصابة الإنسان بالمرض، وأخرى هدفها إصابة النباتات والحيوانات الاقتصادية بأمراض قد تؤدى إلى موتها مما يؤدي إلى نقص في الغذاء وحدوث المجاعات، وأيضا يمكن أن يكون الهدف هو البيئة المحيطة بالإنسان كالأرض والأنهار والمياه والآبار. وداخل كل قسم من هذه الأقسام تفرعات كثيرة تعتمد على قوة الإصابة المراد وحجم الخسائر التي يود مطلق هذا السلاح إحداثه في الخصم . ولعل سرية هذا الموضوع تعد من المعاضل في معرفة واقع تطبيقات البيوتكنولوجي العسكرية في العالم العربي، إلا أن معرفتنا الدقيقة بالعقيدة القتالية للجيش الأردني التي تتميز بالشفافية والمصداقية وتحرم استخدام الأسلحة المحرمة دوليا تجعلنا على يقين بعدم وجودها في الأردن، وقد أُشيع قبل حرب العراق الأخيرة إلى امتلاك العراق مثل هذه الأسلحة ثبت لاحقا أنها مجرد أقاويل، ويظهر بين الفينة والأخرى أقاويل وإشاعات هنا وهناك عن امتلاك بعض الدول العربية لهذه الأسلحة رغم عدم تطور هذه الصناعات في العالم العربي مما يجعل وجود مثل هذا الأسلحة مستبعدا، إلا إذا تم استيرادها من أحد الدول الشمولية ككوريا الشمالية.

المراكز والمؤسسات العاملة في علوم البيوتكنولوجي في العالم العربي

هنالك عدد من المراكز والمؤسسات العربية التي تهتم بعلوم البيوتكنولوجي، ومن المؤسسات العربية الرائدة في هذا المجال؛ مركز الأميرة هيا للتقنات الحيوية الأردني ، والمدينة التقنية الحيوية بالسعودية، ومعهد بحوث الهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية المصري ، ومجمع دبي للتقنيات الحيوية والأبحاث ، والمركز العربي للدراسات الجينية بالإمارات ، إلا أن جميع هذه المراكز وغيرها لا تنتج في الغالب أي جهاز أو أداة أو مادة كيميائية أو عضوية تدخل في صناعة البيوتكنولوجي. وتنحصر أنشطة كافة المراكز العربية في بعض التطبيقات العملية لصناعة البيوتكنولوجي.

المعوقات

تُخرّج بعض الجامعات العربية طلبة في البيوتكنولوجي، إلا أن جميعهم يتخرج في مجال استخدامات وتطبيقات البيوتكنولوجي، ويندر أن يرتقي أي من التخصصات في الجامعات العربية إلى المستوى التصنيعي لمدخلات البيوتكنولوجي من أجهزة ومعدات وكيماويات ومواد عضوية. ويعتمد العالم العربي بنسبة اقرب إلى المطلقة على عملية الاستيراد لهذه المواد من الخارج، كما أن أغلب الأعمال البحثية لا تصل إلى المستوى الإبداعي بل تحمل في طياتها تقليد للأبحاث التي تتم في الغرب، مما يبقي إمكانية اللحاق بالركب العالمي صعبا. كما أن الكفاءات العربية المبدعة في هذا المجال تتسرب إلى أوروبا وأمريكا .

التوصيات

لا بد من تضافر الجهود بين الجامعات ومراكز البحوث الكهروميكانيكية ومراكز البحوث الكيميائية والفيزيائية ومراكز البيوتكنولوجي في العالم العربي، للعمل على تصنيع ولو جزء بسيط من مدخلات الإنتاج والأدوات والمعدات حيث أن تكلفة استيرادها عالية جداً علماً بأن التكلفة التصنيعية لها بسيطة جداً. كما إن هنالك حاجه إلى التوقف عن تأسيس مراكز صغيرة مبعثرة على مستوى العالم العربي والتوجه إلى العمل العربي المشترك في تأسيس مراكز عالمية ريادية على مستوى العالم العربي واستقطاب الخبرات الأجنبية لنقل تكنولوجيا صناعة البيوتكنولوجي حيث أن القيمة المضافة على هذه الصناعة عالية وذات جدوى اقتصادية عالية على المدى البعيد والمتوسط.