مركز الرأي للدراسات
اعداد : د. أمين محمود
تشرين الثاني 2012
كشف صدور وعد بلفور بكل وضوح وجلاء عمق التحالف البريطاني الصهيوني وأوضح مدى أهمية الآمال التي كان يعلقها الصهاينة على الوجود البريطاني في فلسطين من أجل إنشاء دولة لهم. غير أن الخلافات ما لبثت أن نشبت بين الطرفين مع بداية الحرب العالمية الثانية، إذ أخذ قادة الحركة الصهيونية يزعمون أن السياسة البريطانية تمالئ العرب على حسابهم مستندين في ذلك إلى إصدار بريطانيا الكتاب الأبيض عام 1939، والذي اعتبره الصهاينة مناقضاً لطموحاتهم ومعادياً لها. كما أخذ الصهاينة يتهمون بريطانيا بالمماطلة في الوفاء بالتزاماتها نحو إنشاء كيان سياسي يهودي مستقل في فلسطين.
وقد أثارت هذه الخلافات البريطانية الصهيونية اهتمام السوفيات لا سيما بعد تلقيهم تأكيدات من زعماء المستوطنين الصهانية بأنهم على استعداد لاستخدام شتى وسائل المقاومة للتخلص من عبء الانتداب البريطاني، وقد تعزز هذا الاهتمام بعد إعلان بن غوريون استعداده، إذا دعت الحاجة، لاستخدام القوة العسكرية لتحقيق الطموحات الصهيوينة التوسعية متفقاً في ذلك مع المنظمتين المتطرفتين: الأرغون (اتسيل) وشتيرن (ليهاي).
وكان موقف السوفيات تجاه هذه المنظمات الصهيونية المتطرفة موقفاً إيجابياً بدعوى أن هذه المنظمات لم تقم –في راي السوفيت- سوى لمحاربة الإنجليز. وكان هناك اتصال وثيق بين قادة هذه المنظمات ورجال مخابرات سوفيت وآخرين من أوروبا الشرقية. كما كانت الاتصالات قائمة أيضاً بين هذه المنظمات وزعماء شيوعيين بارزين في أوروبا الشرقية، ودعت هذه المنظمات الصهيونية منذ البداية إلى التحالف مع السوفيات على أمل أن يتمكنوا متعاونين من التصدي للنفوذ البريطاني ولو بالقوة إذا اقتضت الضرورة. وقد جاء في احدى الوثائق المرسلة من القنصل الأميركي العام إلى وزارة خارجية بلده في واشنطن ما يكشف عن وجود علاقات بين قادة شتيرن والأرغون وبين المفوضيات السوفياتية والأوروبية الشرقية في بيروت. وكان مما جاء فيها أن قائد الأرغون مناحيم بيغن، كان يتلقى أموالاً بانتظام من السكرتير الثاني في المفوضية السوفياتية في بيروت.
وأخذ السوفيات من جانبهم يتقبلون تدريجياً فكرة تخفيف الحظر المفروض على هجرات اليهود السوفيات ذوي التوجهات الاشتراكية إلى فلسطين، على أمل أن يساعد هؤلاء في التعجيل بقيام ثورة تحررية قد يمتد أوارها ليشمل الشرق العربي بمجمله. وقد أدى الهجوم النازي على الاتحاد السوفياتي عام 1941 إلى إحداث تغييرات واسعة في سياساته وتكتيكاته الخارجية والداخلية، إذ أخذ السوفيات يقومون بتعبئة جميع إمكاناتهم لمقاومة الغزو النازي. واتبعوا سياسة أكثر تساهلاً وأكثر ليبرالية في علاقاتهم الخارجية مع الدول الغربية ما مهد السبيل للدخول معها في ما بعد في تحالفات ضد ألمانيا النازية.
كما أخذ السوفيات ينادون بضرورة ايجاد حل للمسالة اليهودية وعدم الوقوف في وجه الطموحات الصهيونية الرامية إلى إنشاء «وطن قومي» لليهود في فلسطين. ويعزى أحد أهم الأسباب التي أدت لاتخاذ السوفيات مثل هذا الموقف إلى إدراكهم أهمية الدور الذي كان بمقدور اليهود القيام به في التأثير على القرار السياسي الغربي والأميركي منه بشكل خاص وذلك لتيسير التواصل والتقارب بين هذه الدول الغربية من جانب والاتحاد السوفياتي من جانب آخر.
ونظراً للحاجة الملحة إلى تأمين الحصول على مساعدات عسكرية من الولايات المتحدة للتخفيف من وطأة الضغط العسكري الألماني عليها، لجأ الاتحاد السوفياتي إلى تعزيز علاقاته وتحسينها ليس مع مواطنيه اليهود فقط، وإنما أيضاً مع مختلف التنظيمات والقوى الصهيونية في كل من أوروبا والولايات المتحدة على حد سواء. كما أن القيادات الصهيونية الموجودة في فلسطين وخارجها لم تجد حرجاً في استغلال تطور الظروف السياسية والعسكرية على الجبهة الروسية للقيام بمساع جدية لايجاد قنوات اتصال مع الاتحاد السوفياتي، رغم مواقفه المعلنة والمعارضة عقائدياً للفكر الصهيوني، وذلك لاعتبارين رئيسين: أولهما كون الاتحاد السوفياتي أصبح قوة سياسية من المتوقع لها أن تلعب دوراً رئيساً في تقرير مستقبل العالم بعد الحرب، وثانيهما وجود أعداد كبيرة من اليهود السوفيات الذين كانوا يشكلون أكبر احتياطي بشري لرفد الدولة اليهودية القادمة بما تحتاجه من مهاجرين ومستوطنين للمشاركة في تأسيسها واستقرارها.
وفي أعقاب مؤتمر يالتا Yalta في شبه جزيرة القرم الذي حضره كل من روزفلت وستالين وتشرتشل، تمكن الاتحاد السوفياتي بمهارته الدبلوماسية وانتصاراته العسكرية خلال الحرب إلى جانب الحلفاء من تغيير صورته السابقة كلية على الساحة الدولية، وأصبح يشكل واحدة من القوى العالمية المؤثرة في مستقبل العالم. وقد اتسع النفوذ السوفياتي ليشمل أوروبا الشرقية بأكملها إضافة إلى الجزء الشرقي من ألمانيا، وامتدت حدوده لتشمل مناطق فاقت بحجمها جميع التوقعات التي كان الاتحاد السوفياتي يحلم بتحقيقها في أي مرحلة من مراحل تاريخه بعد أن كان يعيش قبل الحرب في شبه عزلة على الساحة الدولية. وقد أعلن ستالين في أعقاب المؤتمر التزام بلاده بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وإيلاء الاهتمام الكافي لموضوع الهجرات اليهودية إليها، ودراسة إمكانية فتح الأبواب التي كانت موصدة في وجه هذه الهجرات.
وفي تصريح نُسب إلى روزفلت بعد المؤتمر قال فيه: «إن ستالين منذ الآن فصاعداً لن يعارض قيام دولة يهودية». وكانت هذه إشارة إلى أن ستالين أصبح يتخذ موقفاً إيجابياً تجاه الطموحات الصهيونية. ومما أكد هذا الموقف قول وزير خارجية تشيكوسلوفاكيا لناحوم جولدمان الزعيم الصهيوني المعروف إنه تلقى تأكيدات أثناء زيارته الأخيرة لموسكو أن الاتحاد السوفياتي سوف يؤيد قيام دولة يهودية في فلسطين.
ولم تمض فترة طويلة على هذه التصريحات والمواقف الداعمة لفكرة الدولة اليهودية، حتى بادرت الأحزاب الشيوعية في العديد من الدول إلى إعلان مواقف مؤيدة وداعمة لهذه الفكرة. كما انطلقت الأصوات المؤيدة لفكرة الدولة اليهودية وأخذ المسؤولون السوفيات يتسابقون في التعبير أيضاً عن دعمهم وتأييدهم لهذه الفكرة. ففي بيان صدر عن القنصلية السوفياتية في بيروت عام 1945، أشار إلى أنه بات من حق اليهود استكمال إنشاء وطن قومي لهم في فلسطين، كما أشار إلى أن الاتحاد السوفياتي سيتخذ الموقف الذي يتمشى مع التطلعات اليهودية لدى عرض قضيتهم على الأمم المتحدة.
وفي المقابل كانت تصدر باستحياء بين الحين والآخر أصوات مؤيدة للحق العربي في فلسطين، ولكن مثل هذه التصريحات والمواقف لم تكن تمثل الموقف السوفياتي الرسمي المتجه نحو إنشاء دولة يهودية في فلسطين. وبادر الاتحاد السوفياتي في عام 1945 إلى الاعتراف بالوكالة اليهودية وسمح لها بفتح مكتب في موسكو. كما أخذ يضغط على طرح القضية الفلسطينية أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة على أمل أن يتم التوصل لتشكيل لجنة وصاية تشرف على انسحاب البريطانيين بحيث يكون الاتحاد السوفياتي عضواً فيها مما يضمن له تحقيق مبتغاه الهادف إلى ايجاد موقع يتيح له التدخل في شؤون المنطقة. وكان الاتحاد السوفياتي يرى أن قيام دولة يهودية في الوسط العربي الذي يعيش حياة «تخلف وجمود» وتتحكم فيه أنظمة تدور في فلك الإمبريالية الغربية، سيؤدي لا محالة إلى تثوير المنطقة وخلق حالة من حالات القلق وعدم الاستقرار، وتكون بمثابة الشرارة التي ستلهب المنطقة في وجه الإمبريالية الغربية، كما أن بإمكان الاتحاد السوفياتي توظيف الدولة اليهودية فور قيامها لخدمة مصالحه الاستراتيجية لا سيما وأنه أصبح قوة مرهوبة الجانب لها دورها المؤثر في أي تسوية سياسية يتم التوصل إليها.
غير أن السوفيات بالرغم من ذلك، لم يتمكنوا من مجاراة الولايات المتحدة التي تصدرت المشهد الجديد في المنطقة، وأخذت تحل تدريجياً محل البريطانيين فيها فأصبحت هي القوة المهيمنة على منابع النفط ومستولية على الوضع الاستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط بمجملها. وقد أبدى السوفيات قلقهم من هذا التدخل الأميركي المباشر في شؤون المنطقة، وخاصة حينما ساند الأميركيون إيران في مقاومتها للمحاولات السوفيتية الرامية إلى التوسع في الشمال الإيراني. كما تزايد القلق السوفياتي أكثر فأكثر بعد قيام الولايات المتحدة باتباع سياسة مناوئة لأي تدخل سوفياتي في أي جزء من منطقة الشرق الأوسط لا سيما بعد تزايد الاكتشافات النفطية فيها وتنامي أهميتها الاستراتيجية بالنسبة للدول الكبرى. ومن ناحية أخرى، أدى تدهور الأوضاع الأمنية في فلسطين إلى قيام بريطانيا باستخدام ذلك كمبرر لتثبيت وجودها العسكري ونفوذها الاستعماري بحجة المحافظة على أمنها واستقرارها. وفي تعليق لأحد المحللين السوفيات حول هذه السياسة البريطانية قال: «لا شك أن القضية الفلسطينية حولت انتباه العرب عن قضاياهم المتعلقة بالتخلص من الاستعمار ونيل الاستقلال وقصر تركيزها على الصراع العربي الإسرائيلي فقط، مما حدا بأحد الساسة البريطانيين إلى القول إنه لو لم تكن القضية الفلسطينية موجودة لكانت تستحق ايجادها».
وكان السوفيات من جانبهم يرقبون الأوضاع عن كثب، ويتابعون السياسة البريطانية القائمة على مبدأ «فرق تسد» والتي لم ينتج عنها سوى إثارة المزيد من الاضطرابات والقلاقل في المنطقة، إضافة إلى تعميق النظرة السلبية لدى العرب تجاه الاتحاد السوفياتي بدعوى تأييده ومساندته للأهداف الصهيونية.
وبالرغم من كل مظاهر القوة والهيبة العالمية التي حققتها بريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية، إلا أن بذور الضعف والوهن بدأت تتسلل إلى جسمها الإمبراطوري مما بات يهدد مكانتها العالمية وهيبتها الدولية. وقد ولد هذا قناعة لدى السوفيات بأن بإمكانهم في ظل تضاؤل الدور البريطاني تأدية دور أكثر تأثيراً حينما يتم بحث القضية الفلسطينية في الأمم المتحدة. وكانت وجهة النظر التي استقر عليها الموقف السوفياتي عشية قرار التقسيم هو أن لكل من العرب واليهود الحق في تقرير المصير وتشكيل حكومة مؤقتة على أن يتولى مجلس الأمن الإشراف عليهما لحين توفر الأدلة الكافية لديه باستكمال استعدادات كل منهما لإعلان استقلال الدولة الخاصة به. وقد حدد غروميكو عشية التصويت على مشروع التقسيم في الجمعية العامة، موقف الاتحاد السوفياتي الرسمي من تأسيس الدولة اليهودية في كلمته التي ألقاها في الجمعية، حيث ورد فيها: «إن ممثلي الدول العربية يزعمون أن مشروع قرار تقسيم فلسطين سيذكره التاريخ على أنه قرار غير عادل وغير منصف. ولكن وجهة النظر هذه غير مقبولة لأن للشعب اليهودي حقاً تاريخياً وثيقاً في فلسطين. وبالإضافة إلى ذلك فانه يتحتم علينا عدم تجاهل الظروف التي وجد الشعب اليهودي نفسه فيها نتيجة للحرب. إن حل القضية الفلسطينية على أساس دولتين منفصلتين له دلالة تاريخية كبيرة، إذ إن هذا القرار سيحقق المطالب المشروعة للشعب اليهودي، حيث أن مئات الآلاف منه ما يزالون من دون وطن أو مأوى».
ولدى عرض مشروع التقسيم رسمياً على الجمعية العامة للأمم المتحدة تم التوصل إلى إقراره بأغلبية الأصوات في الجمعية العامة، وذلك في التاسع والعشرين من تشرين ثاني/نوفمبر 1947. وقد صوت إلى جانبه 33 دولة وعارضته 13 دولة وامتنعت عن التصويت 10 دول. ودعا القرار أيضاً إلى تصفية الانتداب البريطاني وتقسيم فلسطين إلى دولتين: عربية ويهودية بحدود إقليمية محددة. كما دعا إلى تدويل القدس وقيام تعاون اقتصادي بين الدولتين. وقد بذل كل من الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة جهوداً مكثفة لتأمين موافقة ثلثي الأصوات اللازمة للمصادقة على القرار، وقام ممثلو الدولتين الكبريين باستخدام شتى وسائل الضغط على العديد من مندوبي الدول الأعضاء وخاصة ممثلي الدول الآسيوية ودول أميركا اللاتينية. ومن الملاحظ أنه كثيراً ما يشار إلى أن قرار التقسيم وفر الأساس القانوني لإعلان قيام دولة إسرائيل، وإذا كان هذا الأمر صحيحاً، فمن الصحيح أيضاً أن قرار التقسيم يشكل ضمناً، هو الآخر، أساساً قانونياً لإنشاء دولة عربية في فلسطين.
رحبت القيادة الصهيونية بقرار التقسيم وأقرته مرحلياً دون تخليها بالطبع عن هدفها النهائي بإقامة الدولة اليهودية مستقبلاً على أرض فلسطين بأكملها. وقد ورد في تقرير لهيئة الأركان المشتركة الأميركية أن «الاستراتيجية الصهيونية سوف تسعى في سلسلة من العمليات التي تتسع وتتعمق باطراد لتحقيق أهدافها». وسرد التقرير هذه الأهداف كالآتي: أ. سيادة يهودية في البدء على جزء من فلسطين. ب. قبول الدول الكبرى بحق الهجرة اللامحدودة. ج. بسط السيادة اليهودية على فلسطين بكاملها. د. توسيع رقعة «أرض إسرائيل» نحو الأردن وأجزاء من لبنان وسوريا. هـ. بسط السيطرة اليهودية العسكرية والاقتصادية على الشرق الأوسط بأسره». وأضاف التقرير أن بعض القادة الإسرائيليين يعترفون بهذا البرنامج علناً. كما باح به في الخفاء إلى رسميين أميركيين قادة الوكالة اليهودية.
أما بالنسبة للجانب العربي الذي فقد مثلته الهيئة العربية العُليا والتي أعلنت رفضها قرار التقسيم وساندتها في ذلك دول الجامعة العربية التي أعلنت استعدادها لمقاومته بشتى الوسائل، وكان الحزب الشيوعي الفلسطيني المتمثل بعصبة التحرر الوطني هو الجهة الفلسطينية الوحيدة التي أيدت القرار.
استغل الصهاينة مقاومة العرب الشديدة لقرار التقسيم الذي حرمهم بجرة قلم من 57% من وطنهم. فقاموا بتجاوز ما خصص لهم ضمن قرار التقسيم، واحتلوا أكثر من نصف ما خصص للعرب أيضاً، وذلك في أعقاب القتال الذي دارت رحاه بين الطرفين عام 1948، ثم ما لبثوا أن اعلنوا فيما بعد رفضهم النهائي لقرار التقسيم. ومن اللافت للنظر أنه لم ترد أي إشارة إلى حدود الدولة اليهودية. ويبدو أن غالبية الزعماء الصهاينة كانوا من دعاة رسم الحدود بقوة السلاح، بحيث تتغير كلما ازدادت دولتهم توسعاً.
وبعد..! فإنه كان من المثير للاستغراب في أوساط العديد من المراقبين أن يقوم الاتحاد السوفياتي بالوقوف إلى جانب قيام دولة إسرائيل على الرغم من مواقفه السابقة المعادية للصهيونية ومشاريعها الاستيطانية، إضافة إلى تعرض سياسته إلى ردود فعل قد تؤدي إلى فقدانه تعاطف عشرات الملايين من العرب، مما سيؤثر سلباً على وضعه المستقبلي في منطقة الشرق الأوسط. وكان تبرير هذا الموقف السوفياتي الداعم لإسرائيل ما ورد على لسان أندريه غروميكو نفسه: «.. بالنسبة لنا هناك دائماً منطق واحد في السياسة الخارجية وهو منطق: ما هو الأفضل للاتحاد السوفياتي».