اعداد : د. زهير ابو فارس
مركز الرأي للدراسات
نيسان 2012
قضية المرضى الليبيين ، التي تتفاعل بقوة هذه الأيام ، لا تختلف جوهرياً عن قضايا أخرى مرت علينا وتفاعلت اعلامياً وجماهيرياً ورسمياً ، ودفعنا في المحصلة الثمن الباهظ الذي َتعّودنا عليه من سمعة بلدنا ومصالحه الحيوية . هكذا كان عندما تناولنا سابقاً مشاكل الخضار، والمياه ، والتعليم العالي ، والصناعة ، والخدمات ، وأخيراً ، الموضوع القديم الحديث ، بل مسلسل السياحة العلاجية - اذا جاز التعبير - ، الذي لم يتوقف بث حلقاته منذ سنين ، والنتيجة معروفة وواضحة وضوح الشمس في عز الظهيرة ، وهي ضرب وتخريب القطاع الطبي الأردني ، مفخرة الأردن عربياً ودولياً ، من خلال اختلاق ونشر القصص المثيرة والتهويل ، وصولاً الى التشكيك ونزع الثقة محلياً وعربياً .
نعم ، لقد كان للقطاع الطبي الأردني نصيب الأسد من كل حملات التشهير والتشكيك والاساءة ، فمرة من خلال تهويل الأخطاء الطبية بصورة يبدو الأمر وكأن الطب لا يعمل الاّ لقتل المرضى وتحويلهم الى معاقين ، ومرة أخرى من خلال تصوير الأطباء والمستشفيات الأردنية وكأنهم مصاصي دماء لا تعرف قلوبهم الرحمة ؛ ومرة ثالثة من خلال الهجوم على المهنة الطبية وهيئاتها المشرفة عليها والمطالبات المتواصلة لاقرار قوانين صارمة لضبطها والوقوف بالمرصاد للاطباء والكوادر الطبية والمستشفيات عند كل اجراء طبي يقومون به ، وقانون المسؤولية الطبية كان ولا يزال احدى تجليات هذه التوجهات التي يشارك فيها جهات عديدة رسمية وشعبية واعلامية ، بل واقتصادية ، كالشركات ذات العلاقة المباشرة بهذا القطاع الحيوي.
زوبعة المرضى الليبيين
يقيناً أن زوبعة المرضى الليبيين والتي تحولت - ان شئتم - الى تسونامي حقيقي ومحرقة تأكل الأبيض واليابس مما تبقى من سمعة وهيبة وثقة لقطاع بُنِيَ لَبِنَةً لَبِنَةً الى أنْ وصلَ الى ما هو عليه من تميّز ورفعة ، بجهود عظيمة وموصولة ، رسمية وشعبية وفردية ، حيث تَحوّل الى معجزة الاردن وقصة نجاح حقيقية لهذا البلد الصغير بمساحته وامكاناته وموارده الاقتصادية ، الكبير بأهله ورسالته التاريخية . وهنا ، تبرز الاسئلة المنطقية : لمَصْلحةِ منْ هذه المعارك الدون كيشوتية لبعض الكتاب من أبناء وطني الأحباء ؟ وهل يعلم القائمون على مثل حملات التشكيك والتخريب هذه نتائجها الآنية المستقبلية على الوطن وعلى كل واحد منا؟ أم أن اسلوب الإثارة ، وبخاصة في مجال حيوي وحساس يتعلق بالحياة الانسانية، مبرر للوصول الى الشهرة والحالة المسرحية التي يشعر الكاتب معها أنه ُمشَاهَدٌ وباعجاب من الجمهور الذي يستهدفه ، مهما كانت النتيجة ومهما بلغت الخسائر التي يُكبدّها للوطن بشكل عام ؟!
هذه الاسئلة وغيرها الكثير مُحّيرة وتلاحقنا ككابوس مرعب ليل نهار ، والاهم من ذلك، أنْ لا اجابة مقنعة ، ولو واحدة ، يمكن أن تَصلُحَ مفسراً لكل هذه الزوابع الاعلامية غير المبررة.
ولكن دعونا نعود الى مسالة المرضى الليبيين لنـناقشها بأعصاب هادئة وموضوعية ، دونما انحياز حتى لمصلحة الوطن ، التي - ويا أسفاه- لم تعد شعبية لدى البعض هذه الايام.
نقول .. عندما قامت الثورة في ليبيا الشقيقة ، استجاب الأردن قيادة وشعباً ومؤسسات وطنية لنصرة أخوتهم الليبيين ، وكان القطاع الصحي الأردني في المقدمة ، حيث قام هذا القطاع بفتح أبواب مؤسساته ومراكزه ، وسخّر كل امكاناته وطاقاته الطبية والبشرية في خدمة الجرحى والمرضى الليبيين ، دونما شروط أو عقبات ، وكان هَمَُه الرئيسي هو الاستجابة لنداء الواجب القومي والاسلامي والانساني الذي تعوّدنا عليه كتعبير عن شيم النخوة والشهامة التي تُمّيز شعبنا الطيب المعطاء ، نِبْراسُنا في ذلك نهج قيادته الحكيمة صاحبة الرسالة والمواقف التاريخية تجاه الامتين العربية والاسلامية .
لقد قامت مستشفياتنا باستقبال آلاف الجرحى والمرضى الذين تدفقّوا بأعداد هائلة دونما تنظيم أو ترتيبات مسبقة في التحويل ، وعملت على استيعابهم ، وقدّمت لهم الخدمة الطبية رفيعة المستوى في ظروف بالغة الصعوبة والاستثنائية بسبب الاكتظاظ وعدم التنظيم ، وكان المريض هو هدُفنا ومحطُ اهتمامنا ، وقد تحمّل قطاعنا الطبي نتيجة ذلك مصاريف هائلة والتزامات مالية اتجاه شركات الادوية وموردي الأجهزة والمستلزمات الطبية ، واستطعنا وبجهود كوادرنا الطبية من تخطي المرحلة الحرجة التي فرضت علينا ونجح قطاعنا الطبي الأردني في مواجهة التحدي بامتياز ، مما يشكل في المحصلة نجاحاً لقطاعنا الصحي في مختلف قطاعاته ولبلدنا بشكل عام . لقد كان بحق انجازاً هاماً وتمريناً تعبوياً لعمل قطاع حيوي في ظروف استثنائية وطارئة ، وهذه مسألة بالغة الأهمية تحتاج الى تحليل واستنتاج لعبرها وابعادها للمستقبل .
لقد توقّع القطاع الطبي الأردني الذي عملت كوادره ليل نهار لانجاز المهام النبيلة التي وضعها الوطن ونداء الواجب أمامها ، أن تُقَدَّر جهودُها وقدرتها على التعامل المهني رفيع المستوى مع ما سُمّي بأزمة المرضى الليبيين ، لكن المفاجأة جاءت ليس من جهة الاخوة الليبيين مرضى ومسؤولين ، الذين وجدوا الضيافة الحقيقية والخدمة الطبية عالية المستوى ، بل من جهات أردنية تطوّعت ، كعادتها ، في التشكيك واختلاق القصص والاخبار المثيرة وجلد الذات ، لتكون المحصلة ادخالُ الشك وعدم الثقة لدى المسؤولين الليبيين ، وتشويه الصورة المشرقة لخدماتنا الصحية ، وبالتالي تدمير وكنس كل الجهود الجبّارة التي بُذلت من قطاع فرَّغ كافة كوادره ومؤسساته ومراكزه لاستيعاب آلاف الجرحى والمرضى الذين قصدوا الأردن بحالات بالغة الخطورة والتعقيد ، وإنْ كانت على حساب المرضى الأردنيين والعرب من غير الليبيين . إننا نعرف جيداً أنّ من بين من تبرّع بالتشكيك والاساءة الى القطاع الصحي الأردني هم جهلة بمكانة وقوة ومهنية هذا القطاع الذي يمثل مفخرة لكل الأردنيين والعرب ، وبتفاصيل ما قام به هذا القطاع ، بكوادره ومراكزه الطبية ، من جهود جبّارة لا تقل في مستواها ونتائجها عن أكثر دول العالم تقدماً ، وكان هَمُّه الأول والأخير هو الكتابة المثيرة والنرجسية ،ولم يتعدى نظره في هذه المسألة الحسّاسة وأبعادها التخريبية مقدمة أنفه . وهذا الفريق هو حقاً جاهل لا يعرف مصلحته ، ويقوم بالانتحار وتدمير الذات من حيث لا يدري .
المشككّون ومثيرو الزوابع
أما الفريق الآخر من المشككّين ومثيري الزوابع في مواجهة القطاع الطبي الخاص فهم من أصحاب المصالح الخاصة ، من الطفيليين الذين يعتاشون ، أفراداً وجمعيات وشركات من جهود وتعب الأطباء والمستشفيات ، بغض النظر عن التسميات التي يقدمون أنفسهم بها ، وهذه الفئة لا يهمها إلاّ جيوبها ، حتى لو كان الثمن تدمير قطاع حيوي ، وتعريض مصالح الوطن للخطر والتدمير .إننا نعلم ان هناك في بلادنا جهات تعمل في مجال الوساطات والكومشن وتدير جمعيات وشركات تعتاش من المريض والمستشفيات والأطباء لقد قام البعض من هؤلاء وغيرهم بالتشكيك في فواتير الأطباء والمستشفيات ، وعملوا بشكل مباشر ، من خلال الوسطاء من بعض الكتاب الموجّهين ، لاقناع الجهات الليبية المسؤولة بأنهم الأقدر على حماية مصالحهم واستعدادهم لخفض التكاليف والفواتير بنسب عالية ، ومحرّكهم في كل هذه العروض السخية هو جيوبهم وما سيتقاضونه من الجانب الليـبي ، مقابل هذه الخدمات «النبيلة جداً « والتي تتناسب طردياً مع كل فلس «يشطبونه « جزافاً من فواتير المستشفيات والأطباء ، هذد الجهات مكشوفة لنا جميعاً ، ولا يقبل جُلّ الجسم الطبي ان يتعامل معها .
وهذا لا يعني بتاتاً أننا ننكر وجود مخالفات وتجاوزات من قبل بعضنا ، ولكنها تجاوزات يمكن كشفها وتحديدها وازالتها ، وهناك جهات رسمية ونقابية ( وزارة الصحة ، نقابة الأطباء ، جمعيات المستشفيات ) ، ومن خلال الصلاحيات الموكلة اليها ضمن القانون، قادرة على التعامل معها بفاعلية ، وهي لا تختلف عن تلك الاجراءات التي تتخذ لحماية المريض الاردني دونما تدخل من جهات لا يهمها الا ّ جيوب القائمين عليها . وليسمح لنا المشككون ومثيرو الزوابع أن يجيبونا على هذا السؤال : هل الماية مليون دينار بدل علاج أكثر من 60% من الجرحى والمرضى الليبيين خلال الشهور الستة الماضية في الاردن رقم منطقي، بالمقارنة مع الفاتورة الكلية لجميع مرضى وجرحى ليبيا ، والتي بلغت حوالي المليار ونصف المليار دولار ( وهي معلومات رسمية وعلى لسان وزيرة الصحة الليبية) . بالله عليكم : أين المبالغة والاستغلال في هذه الارقام الصارخة ؟! فالطب الأردني ، ايها السادة ، يبقى الأقل تكلفة في العالم ، مقارنة بمثيله في المستوى والكفاءة . هذه هي الحقيقة التي لا يريد البعض منا أن يراها ؛ والبعض الآخر يعرفها جيداً ، لكنه يتجاهلها ، بل ويدوس عليها .
في الختام ، أرجو الله أن ُيصَفّي قلوَبنا اتجاه بعضنا البعض ، ويهدينا الى قول الحق والانحياز دائماً الى الحقيقة ، بعيداً عن الأهواء والمصالح الذاتية . فالقطاع الطبي في بلادنا ُيمثّل قصة نجاح وانجاز وتميّز ، ونجاحُه واستمراره في أداء واجبه وتطوره وازدهاره يعني خدمة جيدة للمريض الأردني في وطنه ، وهو ما يتمنّاه اخوة لنا في دول عربية عديدة ، وهو أيضاً رافد هام للاقتصاد الوطني ، فلا تُسيؤا اليه ، فالاردن بحاجة الى كل جهود أبنائه وبناته لتعزيز بنيانه واعلاء شأنه ، وصولاً الى الوطن النموذج .