الساعة

خمسة وأربعون عاماً منذ الخامس من حزيران 1967

اعداد : د. سمير مطاوع

مركز الرأي للدراسات

حزيران 2012

حين نصل في مفكرتنا اليومية الى صفحة اليوم الخامس من حزيران – يونيو تتوقف الذاكرة الجمعية العربية وقفة اسى ومرارة، فما حدث في مثل هذا اليوم قبل خمسة واربعين عاماً ظل يتسرب من ذاكرتنا الى عظامنا.. والى نخاعنا الذي حفرت في تجويفاته كلمة «الهزيمة» لتصبح جزءاً من كياننا الانساني والحضاري لعشرات السنين بعده.. هل اضيف لحين ان ينهض جيل عربي متحرر من عقدة الهزيمة التي سكنت رؤوس جيلنا فأصابته بالخذلان والانهزامية فيعيد الكرامة لهاماتنا التي انكسرت عام 1967.

استطيع ان افعل ذلك.. لكن الالتزام بالبحث والدراسة في موضوع الحرب والهزيمة.. اسبابها وحقائقها لماذا نشبت وما الذي تسبب فيها او نتج عنها.. وما هي الظروف والملابسات التي دفعتنا اليها.. وعشرات العناوين الاخرى سخرت ابحاثي ودراساتي لها عشرات السنين، منذ ذلك اليوم في مطلع شهر كانون الثاني – يناير عام 1964 حين سافرت الى القاهرة كصحفي يسعى لتغطية وقائع وقرارات مؤتمر القمة العربي الاول الذي دعا اليه الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر قبل ذلك بشهر في خطابه في عيد «النصر» .. والمقصود بالنصر وهو العدوان الثلاثي البريطاني – الفرنسي – الاسرائيلي عام 1956..

كان العالم العربي في حينه يمور من اقصاه في المشرق الى اقصاه في المغرب بمشاعر التفاؤل والترقب ان الامة العربية على وشك ان تجمع كلمتها على مقاومة العنجهية والصلف الاسرائيلي.. و»تحرير فلسطين» ذلك ان كل دعوة عربية لوحدة الكلمة والهدف والعمل المشترك كان لا بد ان تتضمن تعبير «تحرير فلسطين» والا فان الجماهير العربية ستعتبرها جعجعة بلا طحين، خصوصاً وقد تعودت على سماع الشعارات الطنانة بتحرير فلسطين منذ الهزيمة العربية المذلة عام 1948.

واذا كنت بدأت قراءة ورقة هذا العام الخامس والاربعين من هزيمة حزيران – يونيو 1967 منذ بداية البدايات حين كلفت كصحفي بتغطية حدث القمة العربية في مطلع عام 1964 فلأني تعلمت في مدرسة الحياة فيما بعد، ان من لا يحسن قراءة التاريخ قراءة تحليلية معمقة لن يستطيع ان يتولى بجهله مهمة التنطع لاقتراح شروط صنع المستقبل الذي يعيد الحقوق لاصحابها، اولاً وقبل كل شيء، ويرد الكرامة لأمة اوصلتها فئة ممن اوصلتهم الاقدار الى صدارة مسؤولية قيادتها الى الهوان.

وهنا عليّ ان اعترف اني ادين بهذه المعرفة للراحل العظيم الحسين الذي خصني بسبع ساعات من التسجيلات دار جلها حول تلك الحرب المشؤومة ودور الاردن فيها ولماذا شارك فيها على الرغم من قراءة طبيعة النظام الدولي ومكانة واسباب اقامة دولة لليهود في فلسطين وما كان يعني ذلك من هزيمة عربية مؤكدة قبل وقت طويل من اطلاق الرصاصة الاولى فيها.

في تلك اللقاءات وجدت ان الف باء اية قراءة للأحداث الكارثية التي افرزتها الحرب تبدأ من الكلمة التي القاها رئيس الدولة السوري – في حينه – الفريق امين الحافظ واتهم فيها الزعماء العرب بالجبن والتخاذل والعمالة للاستعمار لأنهم لا يريدون محاربة اسرائيل صارخاً في وجههم انه لو وضعت قوات دول المواجهة العربية والقوات الداعمة لها من الدول الشقيقة الاخرى تحت امرته لأزال اسرائيل من الوجود في ست ساعات!! يا لله.. قلت في نفسي في ذلك اليوم لو ان امرءاً قاد سيارة من صفد في شمال فلسطين الى رفح في جنوبها يحتاج الى يومين، فكيف يمكن لامين الحافظ ان يمحو اسرائيل من الوجود في ساعات وعلى ميمنته في البحر الابيض المتوسط الاسطول السادس الاميركي بكامل بوارجه وسفنه وغواصاته في اتم جاهزية للتدخل لحماية اسرائيل لو ان حربا عربية – اسرائيلية افتراضية اوصلتها الى نقطة الخطر على كيانها ووجودها.

وحين ذكّرت الحسين رحمه الله بخطاب الحافظ في مؤتمر قمة 1964، ابتسم ابتسامة الالم الممض القاسي، واشار عليّ بمراجعة وثائق التغطيات الصحفية كتلك الحقبة وكنت قد حصلت على آلاف الصفحات مما نشرته الصحف العربية والعالمية والاسرائيلية حول موضوع الصراع العربي الاسرائيلي منذ الانقلاب العسكري السوري الذي قام به حسني الزعيم عام 1949 وحتى الانقلاب الذي اوصل الرئيس الراحل حافظ الاسد الى الحكم عام 1970. وكانت الحصيلة الاكبر في هذه التغطيات تتناول الحقبة التي بدأ القادة السوريون يطرحون فيها شعار «حرب التحرير الشعبية» كوسيلة مؤكدة لتحرر فلسطين واعادة الشعب العربي الفلسطيني الى وطنه، بعيد وصول امين الحافظ الى قيادة الدولة السورية، مرورا بانقلاب صلاح جديد الذي اختار ان تكون واجهته السياسية ثلاثة اطباء كانوا قد تطوعوا لمساعدة الجزائر في حربهم التحريرية التي اوصلهم المليون شهيد ثمنا لها الى الاستقلال والحرية عام 1962، كان هؤلاء الاطباء هم نور الدين الاتاسي ويوسف زعّين وابراهيم ماخوس، تولى اولهم رئاسة الجمهورية والثاني رئاسة الوزراء والثالث وزارة الخارجية، وقد اظهرت الوثائق التي حصلت عليها ان كل ما كانوا يعرفونه عن موضوع «حرب التحرير الشعبية» هو ما شاهدوه في الجزائر وما قرأوه من ترجمات كتب زعيم الصين الكبير ماو تسي تونغ الذي قاد المسيرة الكبرى التي اوصلت شعبه الى اقامة دولة الصين الشعبية.

وحين ذكرت ذلك للمغفور له الحسين طلب اليّ مراجعة وثائق التغطيات الصحفية التي اشرت اليها لتكون موضوع لقائنا التالي عند عودته الى لندن في المرة القادمة حيث جرت اربعة من خمسة من هذه اللقاءات هناك.

بعد بضعة اسابيع فقط دعيت للقاء الحسين في لندن لمتابعة النقاش. وما ان ادخلت للسلام عليه رحمة الله حتى بادرني بالسؤال : هل تمكنت من مطالعة التغطيات الصحافية التي تناولت القادة السوريين؟. وحين اجبت بالايجاب سألني وماذا خلصت منها؟. وقبل ان اجيب انطلق يقول: بالتأكيد «امران»! أولهما أنهم كانوا يزاودون على جمال عبدالناصر الذي منحته الشعوب العربية - صوابا او خطأ في حينه - ثقتها بعد غزوة السويس عام 1956 ان يقود النضال العربي لتحرير فلسطين. لكن صلاح جديد ورفاقه كانوا يعتقدون انهم احق منه بزعامة الامة العربية والامر الذي - مضى الحسين الى القول - ان تصريحات القادة السوريين حول حرب التحرير الشعبية وهزيمة اسرائيل توضح بكل جلاء جهلهم الكامل بحقيقة القدرات العسكرية الاسرائيلية وما يمكن ان يواجهوا لو نجحوا في اشعال نار الحرب. وكان من الطبيعي ان يشرح لي رؤية. قال: كنا نحن في الاردن نعرف حجم وقدرات الآلة العسكرية الاسرائيلية. وكذلك كان عبدالناصر الذي واجهها في حرب السويس عام 1956.

ومضى الحسين مضيفا: هذا الادراك دفعنا ومنذ اليوم الاول الذي تولينا فيه المسؤولية الى المحافظة على الوضع القائم

the preservation of the status quo» لحرمان اسرائيل من اي عذر تتحجج به لاحتلال الضفة الغربية التي كانت جزءا من «ارض الميعاد» وما كان يمثل صلب المشروع الصهيوني في كامل ارض فلسطين، بل وحتى احتلال الضفة الشرقية التي يصر المتطرفون اليهود ان الملك المؤسس عبدالله بن الحسين قد تمكن من اقناع بريطانيا في استثنائها من جغرافيا وعد بلفور. كما ان ادراكنا لحقائق القوة العسكرية الاسرائيلية قد دفعنا لمحاولة اقامة نظام دفع اقليمي عربي مشترك يسندنا في الدفاع عن الضفة الغربية فيما لو سعت اسرائيل لاحتلالها. وذلك ما فعلناه في عدد من معاهدات الدفاع المشترك مع الدول العربية الشقيقة، بما في ذلك انضمامنا للقيادة العربية المشتركة التي انبثقت عن القمة العربية التي بدأت بها وعقدت عام 1964 واتفاقية الدفاع المشترك التي وقعناها في القاهرة قبل ايام من بدء المعركة.

كل التفاصيل التي رويت تمثل بعض ذكريات اعداد كتابي «الاردن في حرب 1967» الذي نشرت النسخة الانجليزية من دار جامعة كمبردج في بريطانيا من خلال ذراعيها في لندن ونيويورك قبل خمسة وعشرين عاما وهو الكتاب الذي مكنني بحمد الله من جمع اضخم مكتبة وثائقية يمتلكها شخص او مؤسسة تتعلق بالصراع العربي الاسرائيلي بمجمله وحرب عام 1967 بشكل خاص بما في ذلك التسجيلات المشار اليها مع الحسين رحمه الله. وهذا بالذات ما يدفع الكثير من الباحثين والدارسين الاتصال بي بين فترة واخرى والسؤال عما اذا كنت املك هذه الوثيقة أو تلك مما يحتاجون لاعداد كتبهم او رسائلهم الجامعية.

ما لا استطيع ان اتجاهل ذكره في ختام هذه الوقفة الحزينة ان كتابي بيع منه في اسرائيل – وفق تقارير الناشرين – الف نسخة وبيع في الاردن سبع نسخ فقط!!

اما مسعاي لطرح دور الاردن في تلك الحرب بكل التوثيق والدقة التي اعتمدتها فقد دفع العشرات من الصحف العالمية للكتابة عنه خصوصاً وأنه اعتمد مرتكز رواية التاريخ من منظور «المهزوم» بعكس اسلوب الكتابة التاريخية المعتمد وهو رواية التاريخ من منظور المنتصر. وقد اشارت الى هذه الميزة صحف مثل «الواشنطن بوست» التي خصصت افتتاحية الصفحة الاولى بقلم المعلقين الاميركيين «جاك اندرسن وديل فان آتا» والصحيفة الاسرائيلية «الجيروسالم بوست» التي لم تجد ما تنقد روايتي للاحداث فيه الا انني هدفت الى تبرأة الحسين من «خطيئة» الاشتراك في الحرب. ولم يكن الحسين رحمه الله بحاجة الى رأي صحيفة اسرائيلية كانت تتبجح من منظور المنتصر.

في هذه الذكرى الحزينة لا اظنني اجد عزائي الا في تلاوة الفاتحة على روح الحسين الاعز والاغلى والاكثر صدقاً ووفاء من كل من ولدتهم امهات العرب في تلك الحقبة الكارثية من تاريخ العرب الحديث.

ورحم الله الحسين.