الساعة

سلبيات حياتنا العصرية.. والدولة العصرية.. وأسئلة

24/02/2016

إعداد: ياسين الجيلاني

في تصوري؛ أن الحياة العصرية، لا تقوم على النواحي المادية وحدها، كالعلم والتكنولوجيا والانتاج والقوة، وإنما على النواحي الفكرية، كالشخصية والنفسية الجماعيتين، والطابع القومي والسلوك الجماعي في الروحيات والأخلاقيات، وهذا لا يعني عدم بذلك الجهود لبناء شخصية المجتمع، وبناء العلاقات بين الأفراد، على أساس من التوازن والعدل والمساواة والكرامة، بما يؤثر إيجاباً على أفراد المجتمع، وبما يعانيه الوطن من مشكلات وهموم، وبمايحاط به بأسوأ الكوارث وأبشع صور الدمار والموت.
فالحياة العصرية؛ لا تتحقق للمواطن إِلاَّ بالدولة العصرية، والدولة العصرية، ليست قوة سياسية واجتماعية، منفصلة عن البناء الاجتماعي القائم، وليست مجموعة من الموظفين أو العاملين، في أجهزة الدولة المختلفة، وإنما الدولة العصرية، هي سلطة التنظيم والتشريع والتوجيه والانضباط والردع. فالأصل في الدولة العصرية أن تتساوى مع روح العصر، تواكبه، تعايشه، وتتسق في سياقه الحضاري، أمَّا إذا كانت الدولة بعيدة عن هذه المفاهيم أو أهملت أو فشلت في تطبيقها، أو ما يعانيه الوطن من قضايا ومشكلات وأزمات، فلا أتصور قيام الحياة العصرية في مجتمعنا الأردني على المدى القريب.
والسؤال: أين يقع مجتمعنا الحالي من مفهوم الحياة العصرية هذا ومتطلباته، وكيف يصل إليه ويحققه؟ لنستدرك أولاً؛ أن المقصود بالدولة هو جهاز الحكم – أي الحكومة – فليست الحكومة الحالية، هي الدولة العصرية بالمقياس الحضاري، رغم ما تبذله الحكومة، من جهود مخلصة، في التنظيم والجديد والتفاني... الخ. إنما المطلوب هو الجذور، تربية جذور العصرية من القاعدة، جنباً إلى جنب مع العصرية من أعلى ومن القمة. فالشعب هو الرافعة الحقيقية أولاً وأخيراً، الدولة العصرية التي نتطلع إليها، هي التي يقصد بها المجتمع والحكومة معاً، أي كل ما على رقعة الوطن وداخل الحدود، أو بتحديد أقطع، الدولة بمفهومها في علم الجغرافيا السياسية.
فإذا بدأنا من المجتمع، فإن مستوى المعيشة المرتفع شرط لازب للدولة العصرية، بمثل ما أن هذه تمكن للمزيد منه، فنحن في الأردن لن نحصل على شعب عصري متفتح، متمرس بثمرات الحضارة وإنجازاتها، متحرك في العالم الواسع بالأسفار، واعٍ بالاختلاط والاحتكاك، إلاَّ إذا وفرت للمواطن مفاتيح العصرية وفرصها وإمكاناتها، وكل هذا لا يأتي مع الفقر والبطالة أو المرض أو مع تدني مستوى التعليم العام والجامعي ، ولا يأتي إِلاَّ بحصة وقوة الإنفاق عند المواطن، أي إلاَّ بمتوسط دخل قومي مرتفع.
وهذا ما ينقلنا إلى سلبيات أخرى في حياتنا العصرية ومنها، إنَّ الكثير من تقاليدنا وسلوكنا الذي كان في الماضي سائداً قد تغيّر، مما جعل المواطن يتخلى عن الكثير منها، ولعل الإنحلال والتفسخ في –قيمنا العامة – مَردّهُ إلى مشكلة الضمير الفردي، الذي تتأثر به حياتنا على إختلاف أنواعها ومستوياتها أشد التأثر، وفيها يفسد الفرد أعظم الفساد المالي والإداري، وهذا الضمير لا يفسد حياتنا العامة فحسب، ولكنه يفسد شؤون حياتنا، ويكاد يجعل بعضنا لبعض عدواً، وآية ذلك:
إنَّ معظم علاقاتنا الاجتماعية باتت معقدة، وباتت مغلفة بسمات الشر، الذي يمارسه بعضنا مع الآخرين، كالاستيلاء على المال العام والخاص دون مشروعية حق أو قانونية أصول، إذ كثيراً ما يظن الذي يظفر بالمال الحرام، أن سلوكه وتصرفه هذا حضاري أو ذكاء ينفرد فيه!. وبعضهم يذهب إلى أبعد من ذلك، فنراهم يعتزون ويفاخرون بما فعلت أيديهم العابثة!!.
وفي السياق نفسه نسأل: لماذا يلجأ بعضنا إلى هذا السلوك الخاطئ بلا قيم وبلا دين، ولماذا لا يسدد بعضنا ما اقترضه من مال غيره، إلاَّ تحت طائلة التهديد والوعيد، أو خشية عقاب القانون. ثم لماذا يتخلى بعض عن قيمه الإنسانية، بأن يعطي «شيكاً بلا رصيد» ويرغب أن يغتصب مالاً لا حق له في إمتلاكه، ثم يكذب بأن يرده، مع علمه بعجزه عن البر بوعده، أليس الوعد الكاذب يناقض مفهوم الوعد الصادق، مهما حسنت نية فاعله وشرف مقصده؟
ومن السلبيات الأخرى في حياتنا العصرية، أن المواطن بات يعاني وهناً في الروابط الإنسانية، التي تصله بأفراد مجتمعه وأسرته، وهذا جعله يعيش حالات الاغتراب النفسي والتكنولوجي معاً، وفيهما يستشعر المواطن البعد والانفصال عن الناس، ويستوي في ذلك المواطن العبقري والسوي والمجنون، وفيهما بات الواحد منا عبداً لما صنعت يداه، فكلما إزدادت القوى التي يفكها من عقالها قوة وضخامة، إزداد شعوره بالعجز أمام مكتشفاته العلمية بوصفه كائناً بشرياً، بمعنى؛ أن الإنسان لم يعُد يملك نفسه ولم يعد في وسعه مع تكنولوجيا العصر وتقنياتها سيداً عليها، بل عبدا لبراثنها، وآية ذلك:
أن الواحد منا – صغيراً أم كبيراً- رجلاً أم إمرأة – يقضي معظم أوقاته إمَّا أمام جهاز الكمبيوتر أو مع هاتفه المحمول، وكأنهما له نعمة ونقمة في آن واحد، وأنه ليتفرغ عن هذا الاغتراب التكنولوجي أحياناً، إزدياد حالات الطلاق بين الأسر بنسب عالية، عما كانت عليه في الماضي، وللطلاق خطورته على الأسرة وتفككها، وتشريد أطفالها. فالطلاق وإن كان «محظور في نفسه مباح للضرورة» لكنه كما يقول رسولنا الكريم: (أبغض الحلال إلى الله الطلاق) ويقول: (لا تطلقوا النساء إلاَّ من ريبته، إن الله لا يحب الذواقين ولا الذواقات) وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه «تزوجوا ولا تطلقوا، لأن الطلاق يهتز منه عرش الرحمن».
أضف إلى ذلك؛ الاختلال في قيمنا وأخلاقنا التربوية، وبالعمل التعليمي والأسري... ما نلاحظه في هذا السبيل، إنحياز الآباء والأمهات إلى أطفالهم ضد معلميهم، في كل صغيرة وكبيرة، قبل معرفة السبب من المعلم أولاً، ونلاحظ أن بعض المعلمات ينتقدن أو يلمن سلوك الآباء والأمهات عن طريق أطفالهم، فالأطفال يشعرون دائماً بالفخر بأن أمهاتهم وآبائهم، أشخاص أقوياء وذوو قوة وحكمة، حتى لو كانوا غير ذلك... لكن المؤسف حقاً في حياتنا الأسرية، أن بعض الآباء إما لجهلهم أو لتعسفهم، ما زالوا يتمسكون بالقيم البالية القديمة أو المعتقدات الجاهلية، في التحيز والمفاضلة لجنس دون الآخر، وبعضهم ليرحب ويهلل بالمولود الذكر، بينما تلقى ولادة البنت غير قليل من سوء الترحيب، أو الشعور بخيبة الأمل؟!.
لقد غدت حياتنا العصرية، مليئة بالتناقضات والعيوب والنقائص، فهي لا تسير على نسق واحد، فهناك الحكماء والعقلاء فيها، وهناك شخصيات تملك إعجابنا وإجلالنا، أو تستثير ضحكنا وسخريتنا... وهناك الذين لا يستطيعون أن يستقلوا «برأي، لأنهم يتلقون وينصتون، هؤلاء نجدهم دائماً يهزون برؤوسهم للمسؤولين موافقين، ولا يهزونها معارضين... وليت الأمر يتوقف عند هذا التناقض وتلك المفارقات، لكانت حقيقتهم أن تهون، وإن لم تكن في حد ذاتها من الهينات... أمّا من يدعي الفهم المطلق في كل شيء، فيحاول الواحد منهم أن يرفع صوته خاصة، في حوار المنتديات السياسية، الاقتصادية، الدينية، والاجتماعات والاحتفالات الوطنية... الموضوعية لم تعد قضيته، والحق كالباطل، والصدق كالكذب، والأمانة كالخيانة... غايته لفت الأنظار إليه، وإن كان كلامه بلا قيمة أو وزن!! يصدر أحكامه استجابة لنزواته الذاتية، وقلما تضم جوانبه الحكمة والعقل أو المنطق!؟.
إن الأسوأ في حياتنا العصرية أننا، ما زلنا نواجه خضماً متلاطماً حافلاً بالمآسي البشرية – سواء أكانت بقصص الأطفال اللقطاء أو بجرائم القتل الأسرية، أو بحوادث السير المميتة، أو في انتشار المخدرات في صفوف الشباب، التي تجسد أبشع صور الموت والهلاك، ناهيك عن حالات الغش والخداع والتلاعب بالأسعار، من تجار المواد والسلع الغذائية، كبيع اللحوم والأسماك والدواجن الفاسدة أو المنتهية صلاحيتها... أما حالات الانتحار وحالات الشرف والثأر وتلك القضايا المنظورة أمام المحاكم، عن الاعتداءات على المعلمين والأطباء، فهذه الحالات ومشكلاتها، باتت تعتصر قلب الوطن، وتؤرق حياة الناس الذين «أوردهم إنفعال محموم» مورد التهلكة.
أهذا هو إنسان حياتنا العصرية؟ أهذه مقدسات عواطفه وقيمه الخلقية والدينية، التي تربطه بأمه وأبيه وأفراد مجتمعه؟ أهذا مكنونه الحقيقي وراء مظهره النظيف الجميل، وحرصه على النقاء والسمو؟
إذاً ماذا تبقى في جوف حياتناالعصرية، فالأمراض تتسع دائرتها وتشتد، وعن هذه الأمراض كثيراً ما يتولد عنها حالات الضغط النفسي والسخط الشديد على حياتنا العصرية، وعن الضيق والسخط النفسي، يتسبب ضغط الدم والجلطة الدماغية، والقروح المعدية، وعصبية القولون، وتفشي أمراض السرطان «الذي لا يبقى ولا يذر» وغيرها من أمراض القلب عند الشباب قبل الشيوخ. وليس في الواقع لهذه الأمراض من علاج، سوى أن تتغير ظروف الغذاء والاستهلاك القائمة، ويعي المواطن ويدرك معنى ما يأكل وما يستهلك... لقد باتت طريقتنا الخاطئة في المأكل والمشرب، تنتهي بنا حتما، إلى نهم لا يشبع، وجشع لا يقنع، إذ كثيراً ما نحاول أن نشبع وهماً – كحب التظاهر – بوهم مصدره الإعلانات الزائفة في الأسواق والمولات، التي تفرد إلى السلع، صفات ليست في صميمها من شيء!؟
ومع كل ما في حياتنا العصرية من سلبيات ومشكلات وكوارث وهموم وأمراض متعددة، فلا ينبغي لنا أن ننجرف في موجة التفاؤل، أو ننساق في التشاؤم الحاضر، أو ننجرف وراء فوضى العالم وإرهابه، لأن الهدف الأسمى في حياتنا الدنيوية، أن لا يكون اليأس حجة نواجه بها، ما تعانيه شخصيتنا الإنسانية حصراً تحت ضغط آلية العصر المعقدة، بل أن نعنى بالتغيير والتطوير، في موضوعية مدروسة وغير مبالغ فيها، ثم أن نعرف ماذا نغير وماذا نريد في نمط حياتنا السريعة التجديد والتطوير، فالعصرية تعني الانضباط في سلوكنا وقيمنا، وتعني تقبل النقد والنقد الذاتي، ومواجهة عيوبنا بصراحة حتى تستقيم أوجه حياتنا كافة.
في اختصار شديد؛ علينا في حياتنا العصرية أن نحتفظ بطابعنا الأصيل، في الرقي الفكري والوجداني لكافة المواطنين، كل بحسب ما يستطيع أو يطيقه، وترجمة ذلك أن تكون مرافق الدولة كلها مؤسسة على ما وصل إليه العالم المتقدم، من قدرات علمية وتكنولوجية وحضارية، حتى يتحقق للوطن المواطن الأردني العصري، الذي يعيش في مجتمع عصري، في ظل دولة عصرية كاملة الأوصاف لا ناقصة الجوانب، وبخلاف ذلك ستظل حياتنا الراهنة دراما كبرى هيهات أن نتنبأ بنهايتها!؟