02/03/2016

اعداد : ياسين الجيلاني
منذ بدأت قضية التعليم تحتل مكاناً بارزاً في أذهان الناس، على مختلف المستويات، إزداد الإلحاح على ضرورة إعادة النظر في المناهج الدراسية، وبخاصة مناهج العلوم والرياضيات، في المراحل التعليمية المختلفة، بل أن هناك من يخطئون فيتصورون أن تطوير التعليم نحو العالمية، يقتصر على وتطوير مناهج العلوم والرياضيات، بإعتبار أن هذين الميدانين، هما جوهر الثورة العلمية والتكنولوجيا المعاصرة. ومع أننا ندين هذه النظرة الجزئية لتطوير العلم، إلاَّ أننا نؤيد أن مناهجنا في العلوم والرياضيات بصورتها الحالية، تعد أحد مظاهر تدني مستوى تعليمنا العام، قياساً لما هو في الدول المتقدمة وبعض الدول العربية.
وبالرغم من كل الجهود التي تبذلها وزارة التربية والتعليم في تطوير المناهج والكتب المدرسية في العلوم والرياضيات، بما في ذلك الاستفادة من خبراء من دول مختلفة، إلاّ أن عوامل الخبرة اللازمة لدى المؤلفين، والتفرغ، وتوفير المصادر المرجعية المناسبة، والوقت، والمكافأة المالية، تلعب دوراً كبيراً ، في عدم ظهور كتب العلوم والرياضيات، بالشكل الذي يقارب ما توفره السلاسل العالمية في التطوير والتحديث، وغالباً ما يقتصر المنهج على كتب الطالب، ودليل المعلم، وبعض الدروس الإلكترونية متوسطة، أو ضعيفة الجودة.
لعل نظرة فاحصة، إلى كتب العلوم والرياضيات، التي صدرت وتصدر منذ بداية القرن الحالي، توضح جانباً مهماً من واقع عمليات التطوير التربوي الحديثة، إذ لا تزال مفردات المناهج ومحتوى الكتب المدرسية، تدور تقريباً في الفلك نفسه، الذي جاءت به المناهج والكتب المدرسية، في التسعينيات من القرن الماضي، كنتاج لعملية التطوير التربوي الشاملة، التي بدأت في الأردن في أواخر الثمانينيات، ومثّلت بحق علامة بارزة في مسار التعليم وتطوير القدرات التربوية في الأردن. فالموضوعات والبنود نفسها تقريباً، إِلاَّ من تعديلات هنا وهناك، في المحتوى، وإختلاف في طريقة العرض؟!.
في الآونة الأخيرة؛ كثر الحديث من المسؤولين في وزارة التربية والتعليم، عن تطوير تربوي، ويشيدون بمخرجاته من مناهج وكتب مدرسية، ومنها العلوم والرياضيات، لكن قد يكون لأهل الميدان التعليمي رأي آخر... ولو تم تكليف لجان متخصصة من خارج الوزارة، أو حتى من خارج الأردن، بتقييم هذه المنتجات أو مقارنتها (في حالة العلوم والرياضيات)، بأي سلسلة عالمية جيدة، لربما تكون الصورة مختلفة عما يتم التحدث به.
اليوم... لم يعُد المطلوب في عصرنا الحالي،وسط تحديات التقنية الهائلة والمتلاحقة، بتنظيم مناهج، أي مناهج، بل تنظيم مناهج ذات محتوى ومستوى لا يمكن التنازل عنه، وإعداد الطالب بقدرات ومهارات وإمكانات خاصة، لا يمكن التهاون أو التقصير فيها. فإذا أخذنا بالاعتبار؛ أن كثيراً من الدول، بخاصة المتطورة منها والمهتمة بتطوير مناهجها الدراسية من وقت لآخر، وفق أحدث المعايير العالمية، إضافة إلى ما يتبع ذلك من اهتمام بأمور التدريب والامتحانات والتجهيزات والمواد الداعمة، لوجدنا أن أنها تستفيد من سلاسل العلوم والرياضيات المتميزة التي يزخر بها العالم، والتي تعدها شركات متخصصة عملاقة، وتتصف كل من هذه السلاسل بنمطية خاصة تميزها، وبالترابط والتسلسل والحداثة في المحتوى، والتي تشمل:
كتاب للطالب، ودليل أنشطة وتجارب (يتضمن مختلف أنماط التجارب).
دليل تقويم (يتضمن مختلف أشكال التقويم).
دليل معلم شامل مفصّل، لكيفية تنفيذ الحصة الصفية، ودروس تعليمية / تعليمية الكترونية، ومختبرات افتراضية، وأفلام فيديو، ووسائل سمعية، ورسوم متحركة، ومشاريع بحثية.
مثلما تتضمن أيضاً؛ الربط مع مختلف المباحث الدراسية الأخرى، والربط مع المنزل والمهن والمعلوماتية والتكنولوجيا والإعلام، وتاريخ العلم ومستقبله، وجهود العلماء وسيرهم، إضافة إلى أساليب التعليم النشط المختلفة، التي تغطي مختلف عمليات العلم، ومواد موجهة لمختلف مستويات الطلبة، بما في ذلك صعوبات التعلم والموهبة والابداع.
هذه الأمور جميعاً، تراعي مهارات القرن (21) وتؤكد على مهارات التفكير الناقد وحل المشكلات والتنبؤ، وإتخاذ القرار، وإصدار الأحكام والتعميم والتطوير والابتكار، مثلما تؤكد؛ البعد الصحي والبيئي والقيم والأخلاقيات، والتفاعل مع المجتمع. وإنَّ المهم أيضاً؛ أنها النمطية تأتي موحدة لجميع الكتب ومحتوياتها، إبتداءً من صفوف الروضة وصولاً إلى الصف الثاني الثانوي، حيث تتضمن الحداثة، وعدم وجود أخطاء في الطباعة واللغة والعلم والصياغة والتسلسل المنطقي للمادة.
في هذا الإطار كله؛ اتجهت كثير من الدول العربية والإقليمية، أمثال السعودية والبحرين والإمارات العربية وإقليم كردستان، إلى الاستعانة بسلاسل عالمية وترجمتها، ومواءمتها لبيئاتها المحلية، وإنّ معظم من أعدّ مناهج وكتب هذه الدول، اعتماداً على هذه السلاسل العالمية، خبراء أردنيين.
والسؤال: هناك أعداد هائلة من الباحثين والمؤهلين المهاجرين الأردنيين في الدول العربية والأجنبية، أصحاب والدرجات العليا، والخبرات العلمية المتميزة، فلماذا لا يستفاد بهم، وهؤلاء يعملون حالياً في مؤسسات عربية وأجنبية مرموقة، يبدعون ويتألقون، هم محط اهتمام ورعاية مادية ومعنوية مشجعة... أنهم يعملون في تطوير المناهج كافة، وفق محدثات العلم ومكتشفاته الفنية والتكنولوجية؟!.
بهذا الصدد؛ هل نتوقع من وزارة التربية والتعليم، تطويراً حقيقياً لمناهج العلوم والرياضيات؟ أم نظل ننحي على المعلمين باللائمة إن كانت نتائج الطلبة دون المستوى؟. إنّ مقتضيات المصلحة الوطنية، تدعونا إلى إعادة النظر، في مفهوم إعداد مناهج وكتب العلوم والرياضيات، فكل من هذين المبحثين عالمي الطابع في جوهره، ويمكن بسهولة تكييف المحتوى الدراسي، بحيث يتلاءم مع بيئة أي بلد، وبما يناسب ثقافة المجتمع وواقعه وتطلعاته... علماً بأن كلفة تبنيّ أي سلسلة عالمية، تُعادل أو تقل عن كلفة التطوير كما نشهدها حالياً، خاصة وأن الخبرات الأردنية في هذا المجال متوفرة، إضافة إلى واقع وجود لجان متخصصة تعمل على ضبط عملية انتاج هذه الكتب، بما يناسب قيم المجتمع الأردني وثقافته وحاجاته وتطلعاته، بخاصة مجلس التربية والتعليم الموقر.
وبعد؛ فإن أي محاولة لإعادة النظر في مفهوم إعداد وتطوير مناهج وكتب العلوم والرياضيات، تتطلب بالدرجة الأولى عمليات متكاملة لا جزئية، فلا جدوى من إصلاح منهج ما في مادة ما، دون دراسة وتصحيح وافيين لكل جوانب العملية التعليمية فيه. ما نرمي إليه أنه إذا فهمت العملية التربوية على أساس أنها عملية متكاملة تراعي التطور التكنولوجي والعلمي العالمي، فعلينا أن نأخذ بهذا الأساس فيما يمكن أن نطلق عليه «التكنولوجيا في تطوير التعليم» وأعتقد أن المسألة حينئذ ستكون أعمق من مجرد اجتماعات ومناقشات وتشكيل لجان للدراسة وكتابة التقريرات.
وفي إعتقادي أيضاً؛ أن التطوير – علمياً – يعني إعادة دراسة وتقييم كل وسيلة تؤثر في العملية التربوية، والدراسة تعني شيئاً أبعد وأعمق من مجرد مناقشات ومحاورات كلامية، وعبارات مشحونة بكلمات الولاء والإيمان والحماس الانفعالي.
في المنطق العلمي؛ لن يكون هناك إهدار لكرامة فرد، أو تقليل من مكانته إذا قال: «لا أعرف» وهي في ميدان التربية والتعليم – بالذات – ليست الخبرة المكتبية بعدد السنين، أو من يحمل شهادة البكالوريوس أو الماجستير أو الدكتوراه في العلوم والرياضيات، فهؤلاء ليسوا فقط أصحاب الكلمة العليا، في عملية التطوير والتحديث أو إعادة البناء. ولهذا فإن من المصلحة الوطنية تدعو إلى استبعاد النمطية التقليدية، في تطوير المناهج والكتب المدرسية، والاستفادة من الخبرات العالمية في هذا المجال بما هو أكثر مما هو الواقع الحالي.
في الجملة، ما زالت مناهجنا الحالية في العلوم والرياضيات تعاني في فلسفتها من ذلك الصراع بين الفكر النظري والتجريدي، وبين الفكر الوظيفي... وما زالت تلك المناهج رغم ما نالها من تغييرات «القص واللصق» بمنآى عن الواقع الحقيقي للتطوير والتحديث التربوي وآلياته في الإبداع وتسخير التقنيات في التعليم ومناهجه، وما زال الميدان التربوي يترقب ولادة المولود الطبيعية لا القيصرية في مناهج العلوم والرياضيات، حتى لا يأتيها الباطل من بين يداها أو من خلفها، وحتى تقرُّ به أعين أهل الذكر بما فعلوا. وإنا لمنتظرون.