04/04/2016

إعداد: د. م. منذر حدادين
تابعت تطورات قناة البحرين عبر ما تنقله الصحف وخشيت أن تدفن قصة نشأتها وتطورها بمرور الزمن إذ قرأت في عمود أحد كتابنا المرموقين أن أول تقدمة للمشروع كانت في مفاوضات السلام، ولم يكن الأمر كذلك. ولعدم إلمام العامة بنشأة الفكرة وتطورها وأدوار أبناء الأردن فيها ارتأيت إعداد هذا التوثيق المختصر عله يشكل سجلاً كافياً بذلك.
تمخضت فكرة القناة عام 1977 من بنات أفكار المهندس المرحوم عمر عبدالله دخقان رئيس سلطة وادي الأردن ومديرها العام آنذاك، وكان كاتب هذه السطور نائباً له. وساءنا ذات صباح ما بثه راديو إسرائيل من أن إسرائيل تدرس تدارك انخفاض منسوب سطح مياه البحر الميت بإيصال مياه إليه من البحر المتوسط عبر نفق تشقه أسفل جبل الكرمل في حيفا تليه أنابيب تعبر مرج بن عامر وسهول بيسان إلى نهر الأردن فالبحر الميت. استدعاني رئيسي إلى مكتبه في المبنى المستأجر لسلطة وادي الأردن خلف مستشفى الخالدي (وهو اليوم بنك الدم) ذلك الصباح وبدأ حديثه:
- هل سمعت ما بثه راديو إسرائيل هذا الصباح؟
- إن كنت تعني نيتهم في ربط البحر الميت بالبحر الأبيض فقد سمعت.
- إسمع يا دكتور جيداً: سيلجأ العرب إلى الأمم المتحدة للشكوى على إسرائيل، ولن يكون لشكواهم وقع حسن لا في الجمعية العامة ولا في مجلس الأمن، ولن يدعمهم الكثير من الأعضاء ذلك لأن هدف المشروع الإسرائيلي جيد، وستظهر الشكوى العربية كأنها محاولة لإيقاف مشروع جيد. وليس لدينا فرصة كعرب إلا منافسة المشروع الإسرائيلي بمشروع آخر له نفس الهدف: تدارك تداعي منسوب مياه البحر الميت بربطه بالبحار المفتوحة، وليس لدينا سوى خليج العقبة.
قلت لرئيسي إن الصهيونية لها سجل تاريخي في تطوير مصادر مياه حوض الأردن ومن مشروعاتها في سبعينيات القرن التاسع عشر ربط البحر الميت بالبحر المتوسط ورفع منسوب مياهه حتى تصبح أريحا مدينة ساحلية وتشجيع السياحة والرياضة المائية وتربية الأسماك في الجزء المضاف إلى مياه البحر الميت. فلا غرلبة أن فتح الإسرائيليون ملفات الصهاينة المعدة في القرن الماضي وإعادة طرح مشاريعها.
وتحدثنا في الفكرة وإمكاناتها الهندسية والفنية وعن توفر الخرائط الطبوغرافية، وكانت منطقة وادي عربة والبحر الميت وساحله وأغواره الجنوبية قد ضمت مسؤوليات تنميتها إلى سلطة وادي الأردن في أيار 1977. وكان كلانا مدركاً أن لا بد من ضخ مياه خليج العقبة إلى علو يناهز 255 متراً لتتجاوز تلك المياه ريشة غرندل ثم تنساب بالجاذبية إلى البحر الميت، ويتم استيلاد الكهرباء وتحلية المياه من سقوط تلك المياه من جبال «خنيزيره» إلى غور خنيزيره وتنساب بعدها إلى البحر الميت عبر «قناة الهدنة».
وبدأت بتعليمات من رئيسي عمر بدراسة مبدأية لفكرة المشروع واستعنت بمدير السدود آنذاك المرحوم المهندس محمد ظافر العالم، وبرئيس قسم الرسم عوض الراجح دون أن أفصح ما الذي نبتغيه من عملنا. عرضت نتائج العمل المبدأي على رئيسي (الذي شارك فيه بالقدر الذي سمح به وقته) واتضح أن هناك إمكانية فنية ويلزمها دراسة هندسية واقتصادية وكتبت وصف الأعمال المطلوبة من بيت خبرة مؤهل وتم تلزيم العمل إلى شركة هارزا الهندسية لما وراء البحار (أميركية) عام 1979.
أنجز المستشارون العمل وتبينت الجدوى الفنية والاقتصادية للمشروع وقدم المستشارون تقريرهم بعد تعليق كلينا (عمر عبدالله وأنا) في شهر تشرين الثاني 1981. وسلم رئيسي نسخة منع إلى معالي وزير الخارجية باليد (معالي السيد مروان القاسم) وكتب رسالة موصومة ب (مستعجل وسري جداً) أرفق بها نسخة من الدراسة وبعث بها إلى كل من:
رئيس المجلس القومي للتخطيط (د. حنا عوده)، نائب رئيس سلطة المصادر الطبيعية (م. أحمد دخقان)، وزير الصناعة والتجارة، مدير عام شركة البوتاس العربية (علي الخصاونه) ومدير عام سلطة الكهرباء الأردنية (م. علي النسور)، طالباً إبداء مطالعة كل منهم على محتويات التقرير. وأحيل رئيسي في نيسان 1982 على التقاعد وهو في الولايات المتحدة في رحلة عمل وكنت تسلمت قيادة سلطة وادي الأردن أثناء غيابه وعينت في حزيران من نفس العام رئيساً للسلطة بالوكالة.
وكنا نتابع المشروع الإسرائيلي فقد غيرت إسرائيل في مشروعها ونقلت مأخذ المياه إلى الشمال من قطاع غزة ويسيرنحو البحر الميت ماراً إلى الشمال من ديمونة حيث المفاعل النووي الإسرائيلي ثم يدخل أنفاقاً في جبال الخليل إلى الجنوب منها ليصب المياه في الجزء الجنوبي من البحر إلى الشمال من مشروع البوتاس الإسرائيلي. وكانت قد سنت قانون ضم الجولان في خطوات كانت متتابعة لبث اليأس في نفوس العرب.
ونتيجة لشكوى العرب لدى الأمم المتحدة أرسلت الأخيرة لجنة استقصاء عام 1982 برئاسة أستاذ من جامعة كولمبيا البريطانية (كندا) أحضره إلى مكتبي الأستاذ عون الخصاونه وكان أول لقاء بيني وبين الخصاونه ولم يكن كذلك مع الأستاذ الكندي الذي سألني:
- ما أسباب اعتراضكم على المشروع الإسرائيلي؟
- لأن رفع منسوب مياه البحر الميت سيؤدي إلى تسرب مياه البحر إلى خزان مياه جوفي نعتمد عليه في صناعة البوتاس وفي الزراعة المروية.
- وكم هي قيمة المتر المكعب من المياه؟
هنا أدركت أنه يميل إلى إجابة الشكوى العربية بالتعويض المالي فقلت:
- المياه في مناطقنا الجافة وشبه الجافة هي ركيزة الحياة بل هي الحياة، وأسألك ما هي القيمة المالية لحياتك أنت أقول لك كم يسوى المتر المكعب من المياه لدينا! وانتهى اللقاء
وفي صبيحة يوم من أيام حزيران وكانت قوات إسرائيل تسارع باتجاه بيروت سمعت بث راديو إسرائيل أنباء مصدرها نيروبي حيث كان مؤتمر منظمة حماية البيئة التابعة للأمم المتحدة منعقداً، وألقى رئيس الوفد الأردني كلمته في المؤتمر قدم فيها المشروع على رؤوس الأشهاد! وكان المندوبون العرب للمؤتمر يهاجمون المشروع الإسرائيلي، وبذلك سنحت فرصة إعلامية نادرة لإسرائيل للتندر بتصرفات تلك الوفود في الوقت الذي يزمع الأردن القيام بمشروع يشابه المشروع الإسرائيلي. وما أن وصلت مكتبي حتى وجدت قبلي فيه مدير وكالة الإنماء الأميركية. فسألته ما الذي جاء به مبكراً على غير العادة أجاب:
- اسمعني جيداً. نحن نعرف القدرات الفنية لأجهزة الحكومة، وقد سمعنا ما جاء من نيروبي من أخبار، ويقيننا أن لم يفكر في مشروع كهذا إلا أنتم. فما القصة؟
- وما اهتمامكم في مشروع كالذي وصفت؟
- نحن مهتمون بمشروع تطوير مياه اليرموك وبناء سد المقارن، واليرموك يرفد البحر الميت، وهذا منبع اهتمامنا.
لم أصدق تبريره، ولم أخبره نشأة المشروع، ولكني كنت أشك أن المستشارين (هارزا) الأميركان ربما كانوا على اتصال بحكومتهم بسبب طبيعة المشروع.
وما أن غادر مدير الوكالة مكتبي حتى جاءني استدعاء عاجل من دولة رئيس الوزراء (مضر بدران) الذي بادرني غاضباً:
- كيف تقومون بدراسة مشروع مهم كهذا دون إعلامي؟
- آسف دولة الرئيس فلقد بدأ التفكير به منذ ثلاث سنين ونيف، واعتقدت أن رئيسي قد أبلغك وأخذ موافقتك.
- لا لم يبلغني ولم يأخذ موافقتي، ولقد علمت به من السفير الأميركي الذي طلب لقائي مستعجلاً هذا الصباح وعبر عن عدم رضاهم أننا نقوم بالإعداد لتنفيذ مشروع كهذا دون التشاور مع طرف آخر له حصة في البحر الميت (يعني إسرائيل). ماذا علي أن أجيبه؟
- دولة الرئيس، يعمل معي مهندس من الخليل وأبوه هناك يحتضر، ولا يستطيع زيارة والده إلا بتصريح من إسرائيل. ثم تعمل معنا مهندسة من محافظة نابلس ينوي أخوها الزواج قريباً ولا تستطيع حضور عرس أخيها إلا بتصريح من إسرائيل. وخذ أمي رحمها الله لم تكن تستطيع الحج إلى القدس منذ 1967 إلا بتصريح من إسرائيل. أما أنا اليوم فإني أحلم بمشروعنا هذا، أمكتوب علي أن آخذ تصريح من إسرائيل كي أحلم؟! ولسعادة السفير الحق في الانتقاد لو حركت آليات ووفرت الأموال اللازمة لتنفيذ المشروع!
وجد الرئيس معقولية في الجواب وفارقت وجهه تعابير الغضب، وشكرني وانصرفت.
وأعتقد بأن جهوداً حميدة للقيادة الأردنية قد ساهمت في وضع عقبات أمام قدرة إسرائيل على توفير المال اللازم لبناء مشروعها فقد أصبح علنياً وجود مشروع منافس. ونام المشروعان ولم يفيقا إلا بعد بدء عملية السلام عام 1991. إذ جاهدت بعزم من أجل وضع المشروع على جدول أعمال المفاوضات الأردنية الإسرائيلية وكان لي ذلك في تشرين أول 1992 تحت البند السادس من جدول الأعمال.
وكان لسمو الأمير الحسن بن طلال جهد حميد في التهيئة للتفاوض حول المشروع، وأدخل مفهوم التنمية المتكاملة لأخدود وادي الأردن للتفاوض بموجبها. وكان كنائب لجلالة الملك قد ترأس اجتماعاً للجنة التنمية الوزارية 14/02/1994 (صادف آخر أيام شهر شعبان) بحضور دولة رئيس الوزراء (د. عبدالسلام المجالي) وأقرت اللجنة الوثيقة التي أعددتها بعد مفاوضات تمهيدية مع الجانب الإسرائيلي في فرانكفورت في شهر تشرين الثاني 1993 شاركني فيها الاقتصادي المحترم علي الظاهر الغزاوي وبحضور مندوبين اثنين عن وزارة التعاون الاقتصادي الألمانية. واعتمدت الوثيقة الأردنية مفهوم التنمية المتكاملة لأخدود وادي الأردن بحيث تتناول تنميته كافة المجالات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية في أراضي المشاركين في الأخدود، وكون مشروع قناة البحرين الأردني عمود التنمية الفقري ويرافقه مشروعات أخرى في النقل (سكة حديد الصافي–العقبة مع وصلة إلى ميناء أشدود) ومشروعات أخرى في الزراعة والصناعة والتعليم والتعدين و..... وعرضت محتويات الوثيقة في اجتماع للجنة الثلاثية (بعد وسلو) في وزارة الخارجية الأميركية في 24/ 02/ 1994. وكان وفدنا من رئيس هو الدكتور فايز الطراونة وعضوين الدكتور فايز الخصاونه. وكان الوفد الإسرائيلي من اثني عشر مندوباً برئاسة إلياكيم روبنشتاين أما الأميركيون فكانوا كثراً برئاسة دينيس روس. وكان الإعجاب الأميركي بالعرض واضحاً أما الإسرائيلي فكان ناقداً لموقف الأردن الذي لم يسارع إلى إبرام معاهدة سلام. ولم تتهيأ الفرصة للخوض في تفاصيل المشروع الذي أعددت وقدمت بسبب مذبحة الحرم الإبراهيمي في الخليل وانسحابنا من المفاوضات. وتبعنا في أول آذار إلى عمان السيد دينيس روس ورفاقه وطلبوا نسخة من الوثيقة وحصلوا عليها وانطلقوا بها إلى إسرائيل في اليوم التالي.
ثم كان النزال بين المشروعين حين التقيت وحيداً بتوجيه سامٍ في بلدة بضواحي فرانكفورت بممثلين عن الصناعات العسكرية الإسرائيلية وممثلين عن شركتي مقاولة ألمانية وعن بنوك أوروبية وأخرى يابانية وكان النزال على جبهات متعددة من المشروعين وكانت الغلبة للفكر الأردني، وتلا ذلك النزال مواجهة أخرى في واشنطن أعانني فيها رئيس الوفد الدكتور الطراونه وعضو الوفد الدكتور الخصاونه وانضم إلينا بعد الظهر لدى وصولهما واشنطن كل من الأستاذ عون الخصاونه والدكتور هاني الملقي، وكانت الغلبة في تلك المواجهة للمشروع الأردني على هيئة قناة البحرين هذه تتوسط فكرة التنمية المتكاملة للأخدود الأردني. وعملت على إدخال مادة خاصة بالمشروع المتكامل لإخدود وادي الأردن في معاهدة السلام.
وعرضت المشروع مع شريك إسرائيلي في أول قمة اقتصادية للشرق الأوسط وشمالي إفريقيا المنعقدة في الدار البيضاء بالمغرب في تشرين الأول عام 1994، ثم عملت على توفير منحة بمليون دولار من منظمة تطوير التجارة الأميركية لتمويل دراسة جدوى المشروع وكتبت الشروط المرجعية للمستشارين وطرح البنك الدولي عطاء للدراسة ورافقني إلى واشنطن لإحالة العطاء المرحوم المهندس ظافر العالم والمهندس بولص كفاية (من وزارة التخطيط آنذاك) وكان قرار الإحالة مشتركاً مع الوفد الإسرائيلي وعمل بموجبه البنك الدولي. وأشرف على إعداد الدراسة من قبل المستشارين نيابة عن الأردن الدكتور دريد المحاسنه أمين عام سلطة وادي الأردن يومئذ.
وتلت المعاهدة وفي عامي 1997 و 1998 مباحثات ثنائية بخصوص المشروع بعد انتهاء الدراسة بين كاتب هذه السطور ونظيره وزير البنية التحتية الإسرائيلي آنذاك أرئيل شارون، وتوقفت المباحثات لدى اندلاع الانتفاضة الثانية. وفي قمة البيئة في جنوب إفريقيا مثل الجانب الأردني وزير المياه والري ووزير التخطيط وآخرون وعجبنا من طرح الوفد الأردني للمشروع، فقد تقزم حتى انحصر في شكل مشوه لمشروع قناة البحرين وأصابه مزيد من التشوه بحصر التفكير في توفير المياه فقط دون التنمية المتكاملة.
ودخل الفلسطينيون على خط المشروع عند إعداد الدراسة النهائية للجدوى عام 2005، وكان الفضل في إدخالهم للأردن حيث عمل وزير الخارجية آنذاك الدكتور هاني الملقي بإقناع رئيس الوزراء الإسرائيلي أرئيل شارون بذلك ووافق هذا الأخير على إدخالهم ك «طرف مستفيد» من المشروع وليس كطرف مشاطئ على البحر الميت! وكانت دراسة الجدوى النهائية للمشروع بصفته المتكاملة التي وردت في المعاهدة وأشرف على إعدادها نيابة عن الأردن المهندس موسى ضافي الجمعاني أمين عام وادي الأردن آنذاك. وبدأ التشويش على فحوى المشروع قبل إحالة الدراسة وتم تجاوز ذلك التشويش الذي اقترح أن يصار إلى تحلية المياه عند ريشة غرندل.إلا أن التشويه عاد واعترى المشروع مجدداً إذ اقتصر على تنفيذه على مراحل لقناة البحرين وانتقل مكان تحلية مياه البحر إلى موقع قريب من العقبة لتضخ المياه العادمة عبر وادي عربه إلى البحر الميت واستيلاد الكهرباء من سقوطها إلى غور خنيزيره من جبال الطيبة (خنيزيره) قبل انسيابها إلى البحر الميت. وبشكله المشوه هذا تكون فائدة المشروع محصورة في استيلاد المياه بالتحلية عند العقبة ومقايضتها مع إسرائيل واستيلاد الكهرباء وفي الفائدة البيئية بالتحكم في منسوب مياه البحر الميت، إلا أنه يحرم وادي عربة من فرص التنمية التي توفرها مياه البحر بجريانها عبره فقد حلت محلها مياه عادمة عالية الملوحة عديمة الفائدة تحمل مخاطر بيئية للوادي. وفي ذلك غضاضة وأجر واحد فقط، ولو أصاب من اجتهد لكان له أجران.
هذه نشأة وتطور مشروع قناة البحرين الذي تم طرحه في مناقصة عالمية وتأمل الجهات المسيرة لتطوره أن تحيل العطاء بحلول نهاية هذا العام والله الموفق.