أزمات دستورية في بريطانيا بعد قرار الانفصال

27/06/2016


المحامي الدكتور ليث كمال نصراوين

مركز الرأي للدراسات

حزيران 2016

 

بعد أكثر من أربعة عقود قضتها بريطانيا العظمى في أحضان الاتحاد الأوروبي، جاءت نتيجة الاستفتاء الشعبي الذي طالما تعهدت بإجرائه الحكومات البريطانية لصالح الخروج من منظومة الوحدة الأوروبية، حيث صوت الشعب البريطاني بأغلبية متقاربة لصالح «استقلال» بريطانيا عن التبعة الأوروبية، والتي كما يدعي أنصار الانفصال أنها قد أنهكت الاقتصاد البريطاني وأفرزت مشاكل اجتماعية وأمنية جمة تمثلت في تدافع الآف اللاجئين نحو بريطانيا وازدياد أخطار الهجمات الإرهابية عليها.
إلا أن نتائج ديمقراطية صناديق الاقتراع في بريطانيا لا يمكن لها إلا وأن تخلف تبعات دستورية وقانونية جمة لم يكن أكثر المتشائمين يتوقعها، فقد تسارعت وتيرة الأحداث والتطورات السياسية والدستورية في بريطانيا العظمى بعد ظهور نتيجة الاستفتاء، حيث أعلن رئيس الوزراء ديفيد كاميرون استقالته من منصبه طالبا من أنصار حزبه اختيار خليفة له في رئاسة حزب المحافظين في المؤتمر السنوي القادم للحزب والمنوي عقده في شهر تشرين أول القادم. فإلى جانب استقالته، أعلن كاميرون صراحة أنه لن يباشر إجراءات الانفصال القانونية المحددة بموجب أحكام المادة (50) من اتفاقية لشبونة لعام 2007 تاركا هذه المهمة إلى من سيخلفه في رئاسة الحكومة البريطانية. مثل هذا التصريح قد حول الحكومة البريطانية المستقيلة إلى حكومة تصريف أعمال لا تقوى على اتخاذ أي من القرارات المصيرية في إدارة شؤون الدولة، ويعد استحقاقا دستوريا في دولة ديمقراطية كبريطانيا فشل فيها رئيس الوزراء المنتخب في الدفاع عن آرائه ومعتقداته السياسية والمتمثلة في إبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي.
وفي تشرين أول القادم، لن يكون انتخاب رئيس جديد لحزب المحافظين بالعملية السهلة، حيث ارتفعت أسهم عمدة لندن السابق بوريس جونسون لخلافة كاميرون، إلا أنه لا يحظى بإعجاب أغلبية أعضاء الحزب البريطاني على أساس من القول أن نجاحه في قيادة تيار الانفصال عن أوروبا لا يكفي بحد ذاته لتنصيبه رئيسا لحزب المحافظين الأثرياء، فهو شخصية جدلية لا تحظى بإجماع على مستوى قيادات وأعضاء حزب المحافظين، وهذا ما قد يدفع الحزب للتصويت لاختيار تيريزا ماي وزيرة الداخلية الحالية لتخلف ديفيد كاميرون في رئاسة الحزب، وبالتالي لتولي منصب رئاسة الوزراء في بريطانيا.
وأيا كان رئيس حزب المحافظين الجديد ورئيس الوزراء خلفا لكاميرون، فإن أولى قراراته الدستورية لا بد وأن تكون حل البرلمان البريطاني والدعوة لإجراء انتخابات تشريعية جديدة، وذلك لكي لا يعاد الخطأ السياسي الذي ارتكبه غوردن براون في عام 2007 عندما استلم دفة قيادة حزب العمال من توني بلير ولم يدع الشعب البريطاني لإعطاء شرعية دستورية لحكمه بأن رفض حل البرلمان وإجراء انتخابات برلمانية.
وفي حال إجراء انتخابات تشريعية جديدة في بريطانيا قد تجد الملكة نفسها مضطرة للخروج عن القواعد العامة في تكوين الحكومات البرلمانية من الحزب الفائز في الانتخابات لصالح تشكيل حكومة وحدة وطنية تشارك فيها جميع الأحزاب السياسية البريطانية لغايات ضمان مشاركة كافة الأطياف السياسية وفي صف واحد في عملية التفاوض على انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. إلا أن تشكيل مثل هذه الحكومة لن يكون بالأمر الهين، خاصة وأن حزب العمال قد وجد في التطورات السياسية الأخيرة ضالته في التخلص من رئيس حزبه جيريمي كوربين، الذي يواجه عاصفة من الانتقادات الداخلية بسبب سوء إدارته لحزب العمال، والذي رد عليها جيريمي يوم أمس بإقالة وزير خارجيته في حكومة الظل هيلاري بن بحجة استعداده لقيادة انقلاب ضده داخل الحزب العمالي. وفي ظل هذه الظروف السياسية غير المسبوقة في الحياة الحزبية البريطانية سيكون من الصعب جدا الاتفاق السريع على تشكيل حكومة وحدة وطنية تدير عملية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
ومن الأزمات الدستورية الأخرى ذات الصلة بقرار الانفصال عن الاتحاد الأوروبي أن الإجراءات القانونية التي حددتها اتفاقية لشبونة للانسحاب من الاتحاد الأوروبي معقدة وطويلة، وبالتالي ستلقي بآثارها السلبية على الحياة السياسية والدستورية في بريطانيا. فالمادة (50) من الاتفاقية المذكورة تشترط مدة أقلها سنتين لكي تنهي أي دولة انسحابها الكامل من الاتحاد الأوروبي، حيث سيتخلل هذه المدة الزمنية سلسلة من المفاوضات بين بريطانيا والمؤسسات الأوروبية لترتيب الوضع الداخلي في الاتحادـ وللحفاظ على الحقوق المكتسبة بالنسبة للعاملين في بريطانيا من الدول الأوروبية وكفالة حرية التنقل والسفر والتجارة وغيرها من الأمور الشائكة. وفي حال انقضت مدة السنتين دون انتهاء عملية التفاوض، فإنه يجوز تمديد هذه المدة لمدد زمنية أخرى، وخلال هذه الفترة الزمنية للتفاوض ستبقى القوانين الأوروبية نافذة المفعول ومطبقة داخل بريطانيا كما كان عليه الوضع في السابق قبل الاستفتاء. كما ستكون محاكم بريطانيا ملزمة بتطبيق أي قواعد قانونية أوروبية جديدة ستصدر قبل انسحاب بريطانيا الكامل من الاتحاد الأوروبي، ودون أن يكون لبريطانيا دور تشريعي في إصدار مثل هذه القواعد القانونية وذلك على اعتبار أنها دولة في مرحلة الانسحاب.
وفي إطار المنظومة القانونية البريطانية الداخلية، تبرز مشكلة دستورية أخرى تتمثل في أن احترام المنظومة القانونية الأوروبية مترسخ في النظام الدستوري البريطاني، حيث تنص قوانين التفويض Devolution Acts The لعام 1998 والتي بموجبها تم منح صلاحيات تشريعية لبرلمانات اسكوتلندا وإيرلندا الشمالية وويلز على ضرورة احترام هذه المجالس المنتخبة للقوانين الأوروبية، بالتالي فإنه لا بد من إجراء مراجعة شاملة للقوانين البريطانية الداخلية ذات الصلة بالتركيبة الدستورية للمملكة المتحدة قبل اتمام عملية الانسحاب الكامل من الاتحاد الأوروبي.
وتتوالى الأزمات الدستورية الداخلية في بريطانيا جراء قرار الانفصال، حيث أفرزت نتائج الاستفتاء الشعبي وجود انقسام حاد بين الولايات الداخلة في الاتحاد البريطاني، فكل من استكوتلندا وإيرلندا الشمالية قد صوت الأغلبية العظمى من سكانها لصالح البقاء في الحضن الأوروبي، في حين غردت ويلز خارج السرب الملكي لصالح الانفصال. هذه النتائج غير المتوقعة قد دفعت التيار الوطني في اسكوتلندا للمطالبة بإجراء استفتاء ثان على الاستقلال عن المملكة المتحدة، وذلك على أساس من القول أن الاسكوتلنديين قد أعلنوا رغبتهم الصريحة في البقاء في المنظومة الأوروبية، وأنه لا يمكن تجاهل مثل هذه الإرادة الشعبية وجرهم خارج الاتحاد الأوروبي دون رضاهم. إن اي استفتاء جديد على استقلال اسكوتلندا ستكون نتيجته حتما مغايرة للاستفتاء الأول الذي أجري في عام 2014 والذي لم يفلح فيه الاسكوتلنديين في التصويت لصالح الاستقلال.
على الصعيد الشعبي، فقد تسارعت الأحداث وارتفعت الأصوات المعارضة لقرار الانفصال بشكل لافت بأن وقع ما يقارب ثلاثة ملايين بريطاني على عريضة تطالب بإجراء استفتاء جديد على الانفصال، جلهم من جيل الشباب. فقد أظهرت نتائج الاستطلاع أن نسبة المصوتين على قرار الانفصال من كبار السن كانت مرتفعة، في حين صوت جيل الشباب البريطاني لصالح البقاء مع الدول الأوروبية الأخرى.
إن هذه العريضة الشعبية، وبموجب الأعراف الدستورية في بريطانيا، يكون البرلمان البريطاني ملزما بمناقشتها وإصدار القرار المناسب بشأنها، وهذا ما دفع رجال القانون الدستوري في بريطانيا إلى القول بضرورة الاحتكام إلى المبادئ العامة التي يقوم عليها النظام الدستوري البريطاني والمتمثلة بسمو البرلمان البريطاني في ظل عدم وجود دستور مكتوب ينسب له السمو.
فالبرلمان البريطاني له الكلمة العليا في إصدار القرارات ذات الصلة بإدارة شؤون الدولة ، وبالتالي فإن التساؤل الأبرز في هذا المجال يتمثل في مدى أحقية البرلمان البريطاني في الالتفات عما أفرزه الاستفتاء الشعبي من نتائج غير ملزمة لصالح الانفصال والإبقاء على بريطانيا في الاتحاد الأوروبي وذلك باعتباره ممثلا للشعب البريطاني وموكلا نيابة عنه في الحكم والسيادة، وأيهما أفضل لنظام الحكم الديمقراطية النيابية غير المباشرة التي قوامها وجود مجلس نواب منتخب من الشعب يمارس كافة مظاهر السلطة، أم الديمقرطية شبه المباشرة التي يحتفظ فيها الشعب بجزء من السيادة إلى جانب البرلمان المنتخب ومن أهم مظاهرها الاستفتاء الشعبي.
إن الأيام القادمة ستكون حبلى بالتطورات السياسية والدستورية في بريطانيا حيث ستتجه عيون المراقبين والقانونيين إلى الدولة العظمى لكي تتابع الأسلوب والطريقة التي ستخرج منها المملكة المتحدة من هذه الأزمات الدستورية. إلا أن خلاصة القول أن ما جرى في بريطانيا يعد تمرينا بالذخيرة الحية للتطبيقات التي يمكن أن يولدها الحكم الدستوري بالمستوى الذي وصلت إليه بريطانيا العظمى ، وتجربة غنية للشعوب المتطلعة نحو تجذير ديمقراطية صناديق الاقتراع وذلك من خلال استقراء الواقع وتبعات حق الشعب في تقرير مصيره على أرض الواقع.