ما بعد الانفصال: بريطانيا والاتحاد الأوروبي

18/07/2016


إعداد: عارف عادل مرشد

مركز الرأي للدراسات

جرى استفتاء بريطانيا للخروج من الاتحاد الأوروبي أو البقاء فيه يوم 23 يونيو/ حزيران 2016, وصوّت فيه نحو(17.4) مليون شخص(51.9%) لصالح الخروج من الاتحاد، مقابل (16.1) مليونا (48,1%) لصالح البقاء فيه، وشهد هذا الاستفتاء مشاركة (72%) من (46.5) مليون ناخب مسجل. لينهي بذلك البريطانيون عضويتهم التي استمرت 43 عاما, حيث انضمت بريطانيا للإتحاد في عام 1973، حيث كان الإتحاد الذي تأسس في عام 1951 يعرف باسم الجماعة الأوروبية للفحم والصلب. وهي نتيجة لم يكن يؤملها رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون صاحب فكرة الاستفتاء الذي استمات في إقناع الشارع البريطاني بضرورة البقاء داخل منظومة الإتحاد، إلى حد إطلاقه تصريحات فاقعة من قبيل أن الانسحاب قد يؤدي إلى»حرب عالمية».
وكان كاميرون قد وعد بتنفيذ الاستفتاء قبل نهاية عام 2017، إلى أنه تعمّد تقديم موعده إلى يونيو/حزيران، على أمل أن يقطف ثمرة الاتفاق الذي أبرمه مع الإتحاد خلال قمة بروكسل في فبراير/ شباط الماضي. فقد قدم القادة الأوروبيون في هذه القمة كل ما يمكن تقديمه من تنازلات لإقناع البريطانيين بالبقاء ضمن نقاط تمحورت حول: الهجرة والرعاية الاجتماعية، منطقة اليورو، التنافسية التجارية، وأخيرا الملف الأهم حول السيادة.
كما أن وضع بريطانيا داخل الإتحاد طيلة 43 عاما كان أشبه بنصف عضوية، فلم تحظ بالعضوية الكاملة، حيث أبقت على عملتها الإسترليني ولم تدخل ضمن الإتحاد النقدي لليورو، الذي يضم 19 دولة من دول الإتحاد, كما أنها لم تكن من ضمن دول معاهدة شنغن التي تسمح بتنقل حر عبر حدود الدول الموقعة عليها لحاملي تأشيرة أي منها, وتضم منطقة شنغن حاليا 26 دولة 22 منها أعضاء في الإتحاد الأوروبي.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: ما هي تداعيات هذا الانسحاب على بريطانيا والإتحاد الأوروبي على المدى المنظور؟
على الجانب الأوروبي, شكل الانسحاب ضربة قوية لفكرة الاندماج والتوحد التي قامت عليها أوروبا بعد تجربة الصراع في الحربين العالميتين الأولى والثانية, تلك التجربة التي تمثل أنموذجا في التكامل والتعاون الاقتصادي كمدخل للاستقرار وتحقيق السلام بين شعوب القارة المتباينة الأعراق واللغات والثقافات وصهرها في كتلة واحدة لقيادة العالم سياسيا واقتصاديا. وكان من توابع هذا الانسحاب تصاعد النزعات الانفصالية التي تقودها التيارات اليمنية المتطرفة في العديد من دوله مثل فرنسا وهولندا واسبانيا والتهديد بانفراط عقده.
وعلى رغم محاولات المسؤولين في الإتحاد الأوروبي التركيز على إيجابيات انسحاب بريطانيا باعتبار أنه ينتج «إتحادا أقوى», أبدت مجموعة من أعضاء البرلمان الأوروبي مخاوفها من سلسلة انهيارات على طريقة أحجار الدومينو تقوض الإتحاد في غضون خمس سنوات, وذلك في ضوء ما أنتجه التصويت البريطاني من ضغوطات هائلة على حكومات السويد وإيطاليا وألمانيا وفرنسا لإجراء استفتاءات مماثلة.
وأظهرت استطلاعات في تلك الدول أن نسبة مؤيدي الانسحاب من أوروبا مرشحة للتزايد بشكل مضطرد مع خروج بريطانيا, وثمة توقعات مماثلة بتنامي الضغوط المعادية للإتحاد في الدنمرك وهولندا. ولم يتأخر قادة اليمين المتطرف الأوروبي في استغلال قرار البريطانيين, إذ بادر كل من رئيسة الجبهة الوطنية الفرنسية مارين لوبن والنائبان الهولندي غيرت فيلدز والإيطالي ماتيو سالفيني, بالدعوة إلى استفتاءات في بلادهم.
وبالرغم مما سبق, إلا أنه في المدى المتوسط لا يبدو الانسحاب البريطاني مهددا حتميا لفكرة التكامل, إذ من غير المرجح أن يقود تقدم اليمين في فرنسا, حال حدوثه, إلى تنكر للمشروع الأوروبي, بل سيتركز أثره على تحقيق مكاسب وطنية, دون أن يمتد لضرب الإتحاد من العمق الفرنسي, وهي الدولة التي تنافس على المقعد الأول في قيادته, وتمتلك موروثا ونظرة تاريخية عريقة له على خلاف الحال في بريطانيا.
أما فرضية انسحاب بقية أعضاء الإتحاد كأحجار الدومينو فلا تبدو مرجحة أيضا في ظل الفاتورة الباهظة للانسحاب التي لا تقوى عليها العديد من الدول, لاسيما دول الشرق التي ما زالت بالمجمل تتلقى مساعدات مجدولة من الإتحاد الأوروبي, إذ لن تسعف هذه الدول إرادتها السياسية أو الشعبية مشفوعة باستفتاء من أجل الصمود في مفاوضات الانسحاب الصارمة مع الكتلة الأوروبية.
أما بالنسبة للتداعيات هذا الانسحاب على الجانب البريطاني, فنتيجة الاستفتاء لم تشكل فقط «ضربة موجهة إلى أوروبا» كما اعتبرتها المستشارة الألمانية أنغيلا مركل, بل أيضا شكلت ضربة قوية لتماسك المملكة المتحدة التي بدأت تترنح مع تجدد مطالبة الاسكتلنديين والأيرلنديين بتقرير مصيرهم- الاستقلال- بعيدا عن بريطانيا بعدما اختارت الأخيرة مستقبلها بعيدا عن أوروبا. فقد صوتتا اسكتلندا وأيرلندا الشمالية بكثافة كبيرة جدا للبقاء داخل الإتحاد الأوروبي, حتى أن رئيسة وزراء اسكتلندا وزعيمة الحزب القومي الاسكتلندي نيكولا ستورجين قالت عقب صدور النتائج: «إن اسكتلندا ترى مستقبلها في داخل الإتحاد الأوروبي», وذلك في إشارة واضحة إلى أن الحزب القومي الاسكتلندي سيسعى لإجراء استفتاء ثان- أجري الاستفتاء الأول عام 2014 وكان لصالح البقاء مع بريطانيا- على استقلال اسكتلندا عن الإتحاد البريطاني.
فيما علت أصوات في أيرلندا الشمالية تطالب باستفتاء حول انضمامها إلى الجمهورية الأيرلندية جنوبا, الأمر الذي قد يعيد إحياء الصراع التاريخي في الإقليم التابع لبريطانيا. كما تفاقمت حدة الموقف في أيرلندا على اعتبار أن الخروج من الإتحاد الأوروبي يستدعي عودة الحدود بين أيرلندا الشمالية باعتبارها تابعة للمملكة المتحدة والجمهورية الأيرلندية العضو في الإتحاد, مما يقيد حرية الحركة للآلاف من السكان بين الشطرين, ويعيد مشاعر الاستياء من واقع تقسيمي, خصوصا لدى الجالية الكاثوليكية في المقاطعة الشمالية.
أما بالنسبة للتداعيات هذا الانسحاب على العلاقات البريطانية الأوروبية, فمع إعلان خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي يصحو البريطانيون و الأوروبيون على أسئلة كثيرة كانت تطرح بشكل افتراضي في الأيام الماضية لكنها أصبحت الآن واقعا. منها: ماذا سيحدث للأوروبيين المقيمين في بريطانيا وللبريطانيين المقيمين في دول الإتحاد الأوروبي؟ ماذا سيحدث للأعمال والاستثمارات وحسابات المصارف؟ ماذا سيحدث لحرية تنقل المواطنين عبر الحدود بين الجزر البريطانية والقارة الأوروبية؟ ليست هناك إجابة سريعة, ولن يحدث أي شيء على الفور, وتتوقف الإجابة على مفاوضات طويلة قد تأخذ عامين على الأقل كما أنه ليست هناك حالة مماثلة تماما يمكن القياس عليها, فالبلد الوحيد الذي خرج من الإتحاد الأوروبي كان غرينلاند- بلد عضو في مملكة الدنمرك تتمتع منذ عام 1979بالحكم الذاتي, وهي جزيرة تقع بين منطقة القطب الشمالي والمحيط الأطلسي- عام 1982, ولا يتجاوز سكانها 57 ألف نسمة, ويصعب قياس حالتها على وضع بريطانيا
ومن المهم التأكيد على أن نتيجة التصويت لن تعني الخروج الفوري من الإتحاد, إذ ستبقى معاهداته وقوانينه ملزمة لبريطانيا وستبقى امتيازاته أيضا متاحة لها- فيما عدا المشاركة في صناعة القرارات- إلى حين اكتمال المسار القانوني الذي أشارت إليه معاهدات الإتحاد الأوروبي.
فقد نصت معاهدات الإتحاد الأوروبي على آلية قانونية تنضم انسحاب أعضائه منه, وأدرجتها في بند الانسحاب من المادة 50 في معاهدة لشبونة التي دخلت حيز التنفيذ عام 2009. وتحدد هذه المادة سبل انسحاب إحدى الدول الأعضاء في الإتحاد الأوروبي بشكل طوعي ومن طرف واحد, وهو حق للأعضاء لا يتطلب استخدامه تقديم أي تبرير له, كما هو الحال بالنسبة لبريطانيا التي قررت الانسحاب من الإتحاد.
ووفقا لهذه المادة, ينتهي مفعول تطبيق المعاهدات الأوروبية على الدولة المنسحبة اعتبارا من تاريخ دخول « اتفاق الانسحاب» حيز التنفيذ, أو بعد سنتين من تسلم الإتحاد رسميا قرار الانسحاب إذا لم يتوصل الطرفان إلى أي اتفاق في هذه الأثناء. وبوسع الإتحاد والدولة المنسحبة منه أن يقررا تمديد هذه المهلة بالتوافق بينهما, بشرط تصويت دول الإتحاد على ذلك بالإجماع.