اعداد: أ.يوسف عبدالله محمود
هل حقًّا أنّ ثقــافتنا العربيّة الإسلاميّة، كما يقــول البــاحث والمفكِّر د. خلدون النقيب، «قد ظلّت تعيد إنتاج نفسها منذ عصر التدوين؟»، وهل حقًّا أنّها كانت، ولا تزال، في الأغـلب الأعـمّ مجـرّد «تقديم نظـام معـرفيّ عـلى آخر»، ولا تشــكّل حــركة «نَقـلة» تحوّل وتبدّل أو ثورة معرفية كتلك التي عرفها الغرب الرأسماليّ الصناعيّ؟ (د. خلدون النقيب، الدّولة التسلطية في المشرق العربيّ المعاصر، ص38).
قد تختلف الآراء حول وجهة النّظر هذه، فثمّة علماء لا يوافقون هذا المفكِّر على رأيه هذا، خاصّة أولئك الذين ينظرون إلى «التّراث» نظرة تقديس، فهو في رأيهم تراث قد تطوّر عبر العصور وظلّ محافظًا على أصالته ونقائه، فيما هنالك آخرون، ومنهم محمد عابد الجابري، الذي عدَّ الحضارة العربيّة الإسلاميّة «حضارة فقه»، يرون أنّه منذ عصر التّدوين حتى يومنا هذا لم يُضَف إلى الثّقافة العربيّة أي جديد يستحق الذكر (المصدر السابق نفسه، ص329).
ويمضي د. خلدون النقيب قائلاً: «يستطيع المثقّف العربيّ أنْ يرتحل من الجاهلية إلى الوقت الحاضر دون أنْ يشــعر بأنّ هنـاك مسـافــة زمنيّة تفصله عن شخصيّات المسرح الثقافيّ العربيّ الخالد من مختلف العصور (المصدر نفسه، ص328).
وقريبًا من وجهة النّظر هذه ما يقوله هشام جعيط في كتابه «أزمة الثّقافة الإسلاميّة»، الصادر عن دار الطليعة، بيروت، (ص13). يقول: «لكنّ تراثنا من وجهة الإسلام التاريخيّ، وليس القـيميّ أو الـرّوحيّ، يـتــعارض مع قيم الحداثة».
والسؤال المشروع هو: ما سبب ذلك؟ لماذا غَلَبَ الاتجاه الفقهيّ على ثقافتنا العربيّة والإسلاميّة؟ لماذا لم تُحدِث هذه الثّقافة «نقلةً» أو ثورةً معرفيّة حتى الآن تشابه الثورة المعرفيّة في الغرب الرأسماليّ؟
أعتقد أنّ السّبب الرئيسيّ يعود إلى ممارسات الاستبداد والقمع التي سادت عصورنا العربيّة حتّى اللحظة الحاضرة، والتي عدّت «المعرفة» أو قيم الحداثة متعارضة مع أصالة الثّقافة العربيّة الإسلاميّة.
من هُنا لا أرى مَنْ ذكروا أنّ ثقافتنا العربيّة الإسلاميّة – كما أشار د. خلدون النقيب وغيره من المفكّرين، ومنهم زكي نجيب محمود - مُغالين حين أشاروا إلى أنّ هذه الثّقافة ظلَّت حتى الآن تُعيد إنتاج نفسها منذ عصر التّدوين. فهذا زكي نجيب محمود يقول في كتابه «تجديد الفكر العربيّ» (ص27): «نميلُ إلى الدوران فيما قاله السّلف وما أعادوه ألف ألف مرّة، ولا أقول إنهم أعادوه بصور مختلفة، بل أعادوه بصورة واحدة تتكرّر في مؤلّفات كثيرة. فكلّما مات مؤلِّف لبسَ ثوبه مؤلِّف آخر، وأطلق على مؤلَّفه اسمًا جديدًا. فظُنَّ أنّ الطعام الواحد يصبح أطعمة كثيرة إذا تعدّدت لَهُ الأسماء.»
قُلت: ثمّة من يوافق من مفكّرينا وعلمائنا المُعاصرين على وجهة النظر هذه؛ في حين يعترض عليها آخرون مُنزّلين «التّراث» منزلة «المقدّس» من دون أنْ يبحثوا في مدى تطوّره أو عدم تطوّره. وفي تصوّري أنّ المعترضين يعتمدون «سُلطة النّصوص» في قراءاتهم للتّراث. وتلك ظاهرة غَلَبَت على الثّقافة العربيّة والإسلاميّة منذ أقدم العصور، وجعلت «الفقهاء» – كما أرى – هم الذين يتحكّمون غالبًا في مسار هذه الثقافة؛ ما دفع مفكّرًا كخلدون النقيب – وعلى نحو ما أسلفت – إلى أن يقول: «إنّ ارتحال المثقّف من الجاهليّة إلى الوقت الحاضر لا يُشعره بأنّ هناك مسافة زمنيّة تفصله عن الأقدمين»!
لقد أوجد «الفقهاء» المسلمون – ولا أقول جميعهم – فجوةً وتصادمًا بين «العقل» و«النّصّ»؛ مُناهضين أي تمرّد حتّى لو كان مشروعًا على سلطة «النّصّ». ومع الأسف، فإنّ الكثير من مثقّفينا المعاصرين سمحوا لبعض الفقهاء أنْ يكونوا «أوصياء» على فكرهم وكتاباتهم. فجاء هذا الفكر يُكرّر ما قاله القدماء أو يشرحه من دون أنْ يعمل على إضاءَته ونقده بما يتواءم و«حداثة العصر». هنا أقتطف عبارة وردت في كتاب «التّفكير في زمن التكفير»، للدكتور نصر حامد أبو زيد، (مكتبة مدبولي، القاهرة، ص 12)، وفيها يقول: «كيف يُرجى ممّن دأبهم الإعادة والتّكرار والتّلخيص، الذي هو قرين التّشويه منذ زمن طويل، أنْ يكونوا قادرين على الاختلاف والنّقاش؟».
لقد أصبح «الاختلاف والنّقاش الحُرّ» مرفوضًا بشدّة من جانب بعض أصحاب النّظرة الفقهيّة، الذين امتدّت فتاواهم إلى حدّ «تكفير» مفكّرين وباحثين إسلاميّين يريدون «للوعي الإسلاميّ الرّاهن» ألاّ يظلّ محصورًا في إطار التّرديد والتّكرار وشرح ما تركه الأقدمون من السّلف؛ بل أنْ يتبنّى البحث الحرّ القادر على محاكمة التّراث والتجادل معه والإضافة إليه.
أقول بصراحة: نحن اليوم بحاجة إلى ثورة معرفيّة وحداثة مسؤولة تضع أُسسًا للحوار الحرّ «الذي تتعادل فيه قامات الناس»، كما قال زكي نجيب محمود في كتابه «تجديد الفكر العربيّ» (ص30).
وعليه، لا يجوز لأيٍّ كان أنْ يلغي دور العقل تحت أي مبرّر. فهو القادر أنْ يوفِّر لنا المعرفة، وهو القادر أن ينشئ حوارًا «متعادل الأطراف»، حوارًا لا سلطة فيه لأحد أنْ يُملي أوامره على غيره. فما يؤسف له أنّ واقعنا العربيّ المعاصر لا يريد الانفتاح على الحداثة بمفهومها الإيجابيّ.
ثمّة مَنْ يريدون في مجتمعاتنا العربيّة والإسلاميّة «تسييس» الإسلام على نحوٍ يحوّله من منظومة للقيم والأخلاق إلى إسلام ذي طابع سياسي يُؤزِّم الواقع الاجتماعيّ الذي نعيش فيه، ويفتعل خصومات ومعارك سياسيّة، الإسلام بوصفه قيمًا روحيّة وأخلاقيّة بعيد عنها كلّ البُعد.
مِن هُنا، فإنّ على مُثقّفينا من العرب والمسلمين بَلْورة المبادئ الحقيقية لـلإسلام التي تنأى به عن التسييس، وتُبقيه داخل إطار منظومة القيم والأخلاق. وتلك مُهمّة ليست بالسهلة في ظلّ تسلّط سياسيّ عربيّ يستعين أصحابه بشريحة من «الفقهاء» تبرّر قمع الاستنارة الفكريّة، وتستعدي الأنظمة على كل مثقّف مستنير.
لم يعد مقبولاً أنْ تظلّ حضارتنا «حضارة فقه» – كما في قول المفكّر الجابري – بل آن لها أنْ تخرج من «عباءَة» الفقهاء، وتنظر إلى أفق أرحب، لا يقاوم التغيير؛ بل يحتفي به ما دام تغييرًا مشروعًا يواكب عصر التقدّم الإنسانيّ.
وعليه، يجب أنْ تتمرَّد ثقافتنا العربيّة والإسلاميّة على سلطة «الخضوع والطّاعة» التي تحارب الإبداع، وتُرغم المثقّف على أنْ يقبل بالأمر الواقع ويستسلم لمشيئة غير مشيئته، على حدّ تعبير الباحث والكاتب د. حليم بركات في كتابه «الاغتراب في الثّقافة العربيّة» (ص126).
نحن بحاجة إلى عقلية جديدة تختلف عن العقليّة السائدة، التي رسّختها أنظمة وبنى اجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة لا تؤمن بإحداث التّغيير في هذه العقليّة المهيمنة عربيًّا. نحن بحاجة إلى توسيع دائرة الفكر النّقديّ والتساؤليّ ونحن نتعامل مع ثقافتنا العربيّة والإسلاميّة.