الحكومات البرلمانية وآفاق تطويرها

30/07/2024

إعداد: د.ضرار غالب العدوان

لدى افتتاح أعمال الدورة العادية الأولى لمجلس الأمة السابع عشر-في الثالث من تشرين الثاني عام ألفين وثلاثة عشر- تحدث جلالة الملك عبد الله الثاني عن تطلعه إلى إمكانية الوصول في المستقبل المنظور إلى مرحلة سياسية ناضجة، تتمكن فيها الأغلبية النيابية المنبثقة عن الأحزاب البرامجية من تشكيل الحكومة, في حين تمثل أحزاب الأقلية والقوى السياسية المنافسة –التي تملك مشروعا اصلاحيا- دور المعارضة الوطنية البناءة للبرامج والسياسيات الحكومية المختلف عليها لتشكل بذلك ما يسمى حكومة ظل، واستنادا إلى هذه الرؤية الملكية الاستقرائية القويمة لملامح المستقبل السياسي المنشود، يتم تداول السلطة التنفيذية ما بين مكونات مجلس النواب، وهذا هو الأساس الذي تقوم علية الدولة المدنية العصرية الحديثة، وهذا هو ما ورد -أيضاً- في الأوراق النقاشية التي طرحها جلالة الملك للنقاش العام .
وفي هذا الشأن، ما يزال الحديث عن ماهية الشروط والمتطلبات المنهجية الواجب توافرها حتى نتمكن من الانتقال إلى هذه المرحلة السياسية المتقدمة من أكثر الموضوعات السياسية تداولا، وأشدها غموضا والتباسا لدى السواد الأعظم من فئات المجتمع الأردني تقريبا، ونتيجة لذلك تبدو الحاجة اليوم أكثر إلحاحا من أي وقت مضى, لإجراء دراسة استقصائية شاملة، لتكوين رؤية واضحة ومتكاملة، عن هذا الموضوع المتشعب والمترامي الأبعاد، بدلاً من النظرة المبعثرة المجزأة، ومن هنا نبعث فكرة هذه الدراسة.

ومن المعلوم أن أول حكومة إئتلافية تم تشكيلها في الأردن وفق التنافس على أسس حزبية برامجية، كانت في العام 1956م، ففي ذلك الوقت المبكر من عمر هذه الدولة الفتية –بالمقارنة مع تاريخ تأسيسها- كلف جلالة المغفور له الملك الحسين بن طلال –طيب الله ثراه- زعيم حزب الأغلبية النيابية المرحوم سلمان النابلسي بتشكيل الحكومة, في سابقة لعلها الأولى في التاريخ العربي المعاصر، وذلك بعد أن فاز ائتلافه بأكثر من نصف تعداد مقاعد مجلس النواب الأردني الخامس.

إلا أن هذه التجربة لم يتم استكمالها وفشلت وهي في مهدها, وما ترتب على ذلك من تبعات، أدى إلى تعطل المسيرة الحزبية في الأردن تعطلا شبه تام، والذي امتد إلى عقود عدة، وإذا كان لا بد من ذكر الأسباب التي أدت إلى فشل تلك التجربة، نذكر باختصار-لكل من يجهلها- أن المناخ السياسي الذي كان سائداً –حينذاك- لم يكن مهيئا لاستقبال هذه النقلة الديمقراطية السريعة، ذلك أنها جاءت متقدمة على زمانها، كما أن هذه التجربة لم تتوافر لها شروط الحد الأدنى من مقومات النجاح الذي كنا نتطلع إليه، فوقع ما وقع، وانتهت إلى ما هو أسوأ من الفشل.

وقد واجهت الحياة السياسية والحزبية في أعقاب ذلك مرحلة صعبة وقاسية، والتي كان من أهم مظاهرها إعلان الأحكام العرفية، وحظر النشاط الحزبي, وحل الأحزاب السياسية, ذلك بأن ضررها أصبح أكثر من نفعها, وشرها أكبر من خيرها, ولولا الخشية من أن تطول هذه المقدمة, وتخرج من دائرة التقديم إلى دائرة البحث المستقل, لاستطردنا في بيان ما خلفته تلك التجربة الفاشلة من تداعيات, وما نجم عنها من مضاعفات, ما زلنا نعيش تحت وطأة آثارها السلبية منذ ذلك الحين وحتى وقتنا الحاضر, ويكفي أن أشير هنا أن تلك التجربة لو قدر لها النجاح, لربما تغير الكثير من واقع حياتنا السياسية المضطرب والمهلهل, أو ربما تغيرت معالم الصورة تغيراً جذرياً, ولم تبلغ من دركات التدهور المدى الذي بلغته الآن أو دونه بقليل.

ونحن نشهد اليوم، ما يمكن أن نسميه إعادة الإنتاج لتلك التجربة الديمقراطية الحية، غير أن التجربة هنا تأخذ شكلا مختلفا وأسلوبا جديدا هذه المرة، ولعلنا لا نبالغ إذا ما قلنا إنها تقترب في جوهرها من نموذج الحكومات البرلمانية، ومن الطبيعي أن نقول إن هذا الأسلوب هو الأكثر منطقية، قياسا على ما كان عليه واقعنا السياسي في حينه، وإستطاع أن يسد الفجوة ما بين هو واقع وبين ما هو مأمول، ولكن من المغالاة القول بأنها قد بلغت مرتبة الكمال في ذلك، ونحن نسميها برلمانية تجاوزاً.

والآن، وبعد هذا المدخل، نعود إلى موضوعنا الأساسي، وفي سياق هذه المحاولة الأولية لمقاربة هذا الموضوع, سوف نتناول وبشكل مفصل –تفصيلا شافيا- كل ما يتعلق بمفهوم الحكومة البرلمانية, بوصفه مظهراً من مظاهر أنظمة الحكم الديمقراطية التي نسعى إلى تطبيقها, وهدفا استراتيجيا نتطلع إلى تحقيقه, وقبل البدء بتعريف مفهومها, وتحديد مآهيتها, وتبيان كيفية تشكيلها, وطبيعة ممارستها لأعمالها, ينبغي علينا أولا التعرف على النظام الذي تنبني عليه وتتأسس من خلاله الحكومة البرلمانية, ثم التطرق إلى مدلولات هذا النظام ومكوناته, واستعراض المفاهيم المتصلة به, وذلك كإسهام أولي في موضوع هذه الدراسة, لعلنا نستشف بذلك مبدأ عملها, ومدى أهميتها والحاجة إليها بشكل عام.

 

المفاهيم المتصلة بالنظام النيابي البرلماني

ولعله من المناسب، قبل الحديث عن ذلك, التنوية بأن غالبية الدول التي تطبق نظام الحكم النيابي البرلماني –وبقطع النظر عن شكل نظام الحكم المتبع فيها- تشترك عموما في سمة أساسية وهي أن تركيبة هيكل نظامها السياسي تقوم على أساس وجود ثلاث سلطات مستقلة عن بعضها البعض إستقلالا تاما, وذلك إنطلاقا من اختلاف طبيعة الوظائف التي تؤديها كل سلطة من جهة, واستنادا إلى مبدأ الفصل بين السلطات من جهة أخرى, بحيث تختص كل سلطة بأداء وظائف محددة، وتعمل على تحقيق أغراض معينة, وبالتالي تتوزع الأدوار وتتقسم المسؤوليات بينهما –كل بحسب اختصاصه- فتعمل هذه السلطات مع بعضها البعض بتكامل –دون تناقض أو إنفصام- ودون أن تطغى إحداهما على الأخرى, والحكمة التي ترجى من ذلك لئلا تنشغل أي سلطة بشيء آخر, فتتفرغ للواجبات الموكلة إليها, وتقوم بأداء أعمال مخصوصة-حسب طبيعة المهمة المكلفة بها- وذلك استنادا إلى مبدأ التخصص.

وينبغي علينا التنبه هنا إلى أن هذا الفصل هو في حقيقة الأمر فصلا ظاهرياً، إذ أن العلاقة بينهما –في الواقع– لا تنفصم أو تنفك ولا يمكن فصلها بحال من الاحوال، فهي متشابكة ومتداخلة مع بعضها بعض تداخلاً كبيراً، ومعتمدة على بعضها اعتماداً كلياً –حتى لم يعد ممكنا الفصل بينهما –ولكن سياق الحديث في هذا المقام لا يتناول ذلك، ولعل المصطلح الأكثر ملائمة للتعبير عن هذا الفصل–في ما أرى –هو التمييز بين خصوصية كل سلطة من حيث طبيعة تكوينها، ووسائل ممارستها، والأهداف التي تسعى إلى تحقيقها، فلكل سلطة من هذه السلطات تركيبة مختلفة عن الأخرى، وذلك تبعا لاختلاف الوظيفة المنوطة بها، وعلى الرغم مما بين هذه السلطات من فروقات، إلا أن كل سلطة منها ترتبط بالأخرى إرتباطا وثيقا, فتكون شريكة لها ومتممة لرسالتها, بحيث تكمل هذه السلطات عمل بعضها البعض وتسنده, فيؤدي هذا الترابط والتوازن والانسجام فيما بينهما, إلى وحدة النظام السياسي بأكمله, فإذا حصل خلل ما في منظومة عمل أي سلطة من هذه السلطات, ينتقل تأثيره إلى باقي السلطات الأخرى, مما يؤثر على وحدة النظام برمته، وهكذا.

 

عناصر النظام النيابي البرلماني ودلالاته

والآن, وبعد هذه الإطلالة على بعض المفاهيم الأساسية التي تبين أوجة الشبه والاختلاف بين مكونات السلطة, والتي تميز بينها تبعا لاختلاف طبيعة تكوينها, واختلاف الأغراض التي تحققها, إضافة إلى بيان مدى تأثير هذا الاختلاف على توازن العلاقة واتساقها بين كل منهما, وبعد التعرف على مدلولات السلطة بشكل عام, بات من الضروري التعرف على الأركان التي تؤلف كل منها, والتطرق إلى وظائفها الرئيسة, وبيان من يمثلها, لنستدرك الهدف الذي نحن بصدده, ونصل بتدرج وتسلسل منطقي إلى الإطار المرجعي الذي ترتكز عليه, وتتأسس من خلاله فلسفة نظام الحكم النيابي البرلماني.

وفي ما يأتي سوف نتناول هذه السلطات كلا على حدة, وسنبدأ أولا بالسلطة التشريعية -البرلمان- التي يمثلها مجلس الشعب أو الأمة, وتتكون من أعضاء منتخبين انتخاباً عاماً, وسرياً, ومباشراً, بالإضافة إلى أعضاء معينين لمدة زمنية محددة -إذا كانت الدولة تطبق نظام المجلسين- وذلك وفقاً لما يحدده دستور كل دولة, وتتركز مهمة هذه السلطة بالدرجة الأولى في سن التشريعات الناظمة للدولة أو تعديلها, وإقرار ميزانيتها العامة، والرقابة على أعمال السلطة التنفيذية ومحاسبتها, والتي تمتلك -أيضاً- حق إعطاء أو حجب أو سحب الثقة من الحكومة ككل, أو مساءلة الوزراء كل في مجال اختصاصه, وينبغي أن لا يغيب عن أذهاننا أن هذه السلطة تمتلك -أيضاً- الحق في إدخال التعديلات اللازمة على أحكام مواد الدستور.

أما السلطة التنفيذية فيتولاها حاكم الدولة -سواء أكان ذلك الحاكم ملكا أم رئيساً- ومجلس الوزراء والأجهزة الإدارية المرتبطة به, وتتمثل المهمة الرئيسة لهذه السلطة في تصريف شؤون الدولة, وتسير أعمالها من مختلف النواحي, بما في ذلك تقرير سياساتها وتحقيق أهدافها العامة, إضافة إلى الإشراف والرقابة على جميع المؤسسات والمرافق الحكومية, بما في ذلك تعيين الموظفين وترقيتهم وإحالتهم على التقاعد, وفقا لأحكام القوانين المعمول بها في كل دولة.

كما تتولى هذه السلطة -أيضاً- مسؤولية تنظيم الاقتصاد وإدارة المال العام, وتوزيع موارد الدولة وتوجيهها -بحسب الأولويات- نحو الأنشطة الاقتصادية والتنموية في مختلف المناطق الجغرافية, هذا فضلا عن تقديم برامج لرفع مستوى خدمات الرعاية الصحية والاجتماعية والتعليمية للمواطنين, كما تتولى-أيضاً-مسؤولية إقتراح تشريع القوانين, وإصدار الأنظمة والتعليمات وتنفيذها, وذلك فضلا عن تنفيذ الأحكام التي تصدرها المحاكم بمختلف أنواعها ودرجاتها, بحيث تكون هذه السلطة مسؤولة عن جميع تصرفاتها وأعمالها أمام البرلمان, الذي يحاسبها ويراقبها , وذلك وفقا لما ينص عليه دستور كل دوله, وتبعا لأحكام المواد الصادرة بمقتضاه.

ليس هذا فحسب, إذ أن هذه السلطة تتولى –أيضاً- مسؤولية تقرير السياسة الخارجية للدولة, وتنظيم علاقاتها بالدولة الأخرى, والتي تتمثل في عقد المعاهدات وإبرام الإتفاقيات مع الدول الأجنبية, وتعيين الدبلوماسين في الخارج, وقبول ممثلين وسفراء الدول الأخرى، والأهم من ذلك كله هو السيطره على القوات المسلحه بالدولة, فالرئيس الأعلى للسلطة التنفيذيه هو القائد العام للقوات المسلحة-البريه والجوية والبحرية- وهذا المنصب يخوله تعيين الضباط وإقصائهم وتنظيم القوات المسلحة وتشكيلاتها, وقيادة الحملات العسكرية, غير أن إعلان الحرب وعقد الصلح يتطلب –عادة- مصادقة السلطة التشريعية, وفي الوقت نفسه, هذه السلطة تمتلك صلاحيات استثنائية لإصدار المراسيم في الظروف الطارئة وغير العادية.

أما بالنسبة للسلطة القضائية, فيتولاها مجلس قضائي مختص في شؤون القضاء, ويشكل بموجب قانون يصدر خصيصا لتحقيق هذه الغاية, ويمثلها المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها واختصاصاتها, أما وظيفتها الرئيسة فتنحصر في تطبيق القانون وتحقيق العدالة بين جميع المواطنين –على حد سواء- دون تمييز أو محاباة, وذلك من خلال البت في القضايا والمنازعات الوارده إليها من جرائم, وتجاوزات, ومخالفات, وانتهاكات, هذا فضلا عن فرض الغرامات وإجراء التسويات القضائية اللازمة , وغيرها من الوظائف المهمة التي تؤديها هذه السلطة, فتقضي في كل منها بحسب ظروفها وملابساتها, وذلك طبقا للقوانين الساريه في كل دولة, فيأخذ كل ذي حق حقه, وينال المذنب الجزاء العادل, وتتمتع هذه السلطة بالحصانه والإستقلالية عن باقي السلطات الأخرى, فلا سلطان على القضاء إلا بالقانون, أما القضاة فيعينون ويعزلون وفق أنظمة خاصة تسنها وتصدرها السلطات التشريعية والحاكمة.

 

نشأة النظام النيابي البرلماني وتطوره

هذا، ومن أجل توصيف طبيعة النظام النيابي البرلماني وخصائصه بشكل دقيق, فلا بد من إعطاء فكرة عن أصله وكيفية نشأته, والوقوف على العوامل التي أسهمت في ظهوره, وإلقاء الضوء على المراحل التاريخية المختلفة التي مرت بها عملية تطوره, وبيان القواعد –المقرره- التي ترسو عليها أركانه, ومنهجية بناءه, لمالبيانها من أهميه فيما نحن بصدده, فالبيان عند الحاجة واجب.

وحتى لا نضيع بالتفاصيل ,فقد نشأ هذا النظام وتطور في إنجلترا, ولم يظهر في بادئ الأمر هكذا -على النحو الذي هو علية الآن طفره واحدة -وإنما هو كان يتطور تلقائيا مع تطور المجتمع الإنساني, وبما يتلائم مع التطور المستمر في وظائف الدولة, وإتساع نطاق مسؤوليتها , ونتيجة لذلك, كانت ملامحه تظهر وتتبلور شيئا فشيئا , حتى إتضحت معالمه الرئيسة, وإستقرت بشكل نهائي ,فأصبح لهذه النظام أصوله وقواعده وشروطه التي لا يقوم بغيرها, ومع إنتقاله إلى الدول الأخرى, وإنتشاره في كثير من بلدان العالم, غدا مظهرا من مظاهر الحكم السياسي الرشيد, ونموذجا يكرس مبدأ الفصل –المرن- بين السلطات والذي يؤكد –في الوقت ذاته -على تعاونها وتكاملها مع بعضها البعض.

وقد اتضحت ملامح الصورة الأولية لمعالم هذا النظام في أواخر القرن الثاني عشر الميلادي ,وذلك عندما انتقلت مقاليد السلطة في إنجلترا من يد الملك شارل الثاني إلى يد وزارة مسؤوله عن جميع تصرفاتها وأعمالها أمام البرلمان, فأصبح يراقبها ويحاسبها ماليا وإداريا, طبقا للقاعدة الدستورية التي تقضي بأنه حيث تكون المسؤولية فلا بد أن تكون السلطة, ذلك أن الملك غير مسؤول وذاته مصونة ولا تمس, وإنما تقع هذه المسؤولية في الدول ذات الأنظمة البرلمانيه , على عاتق الوزراء بشكل مباشر, والذين يعتبرون مسؤولون مسؤولية جماعية أو فردية عند تصرفاتهم أمام الملك والبرلمان, وقد ترتب على هذا التطور إستقلال الوزارة عن التاج البريطاني ,فانتقلت السلطة الفعلية بذلك إلى يد مجلس الوزراء -والذي يتولى رئاسته هو زعيم حزب الأغلبية البرلمانية- فأصبح هذا المجلس هو المسؤول عن تقرير سياسة الدولة وتصريف شؤونها من مختلف النواحي.

ومن المعلوم أن هذا المبدأ الديمقراطي, قد نشأ في إنجلترا, وقاعدة عدم مسؤولية الملك هي من القواعد الثابته والمسلم بها في النظام الإنجليزي العام, وإليها يرجع الفضل في نشأة الوزاره في النظام البرلماني, لأنه إذا تقرر مبدأ عدم مسؤولية الملك, فلا بد أن تكون هناك هيئة أخرى تتحمل هذه المسؤولية, ومن هنا إنبثقت فكره تشكيل الوزارة, التي تتولى السلطة وتتحمل المسؤولية نيابه عن الملك ,الذي يباشر اختصاصاته وسلطاته -في مثل هذه الحاله – عن طريق وزراءه الذين يخضعون للمراقبة والمحاسبة والمساءلة من قبل البرلمان, وهذا هوجوهر ما تنادي به المبادئ الديمقراطية, وجل ما تسعى إلى تحقيقه, والتي تتمحور في جعل السلطة والسيادة بيد الشعب-الذي هو مصدر السلطات جميعها- فيكون بذلك هو صاحب الأمر في صنع القرارات التي تمس مصيره ومستقبله, استنادا إلى مبدأ تفويض الصلاحيات.

وحين ننظر إلى وضع رئيس الدولة –في النظام البرلماني- نجد أنه الرئيس الأعلى للسلطة التنفيذية, ويباشر اختصاصاته وسلطاته عن طريق وزرائه الذين يخضعون لتوجيهاته وارشاداته, والذي يمتلك حق تعيينهم وعزلهم, هذا فضلا عن حقه في حل البرلمان، وذلك في حال إن تم إقالة وزارة الأغلبية البرلمانية, وتكليف الأقليةبتشكيلها, والحكمة التي ترجى من مثل هذا المقتضى الدستوري هو إجراء انتخابات مبكره للتعرف على رأي الشعب وموقفه إزاء ذلك الأمر.

ومما يجدر ذكره في هذا المقام, أن مجلس الوزراء إبان ذلك العهد , كان يطلق علية في بداية تكوينه, إسم المجلس الدائم, ولعل أن سبب تسميته بذلك كانت تعود إلى طول فترة إنعقاده, وقد إستمر الأمر كذلك لأكثر من قرن, ومع مرور الزمن تطورت وظائفه, وتشعبت اختصاصاته, فاتخذ صفة جديدة وأصبح يسمى بمجلس الملك الخاص, وما يهمنا هنا أن المجلس كان يشكل من بين أعضائه لجان عمل متخصصه, وكانت كل لجنة تختص بالإشراف على مصلحة معينة من المصالح المختلفة للدولة, وذلك لمراقبة الأداء والتأكد من سلامة سير العمل, وقد كان من بين هذه اللجان لجنة يعينها الملك - فضلا عن اللجان الأخرى - ويطلق عليها اسم لجنة الدولة, والتي كانت تمتلك صلاحيات واسعة, وتحظى بنفوذ كبير وسيطرة مطلقة, وذلك لقدرتها على البت في القضايا العامة, ولحزمها في إصدار القرارات, ونظراً لأهمية الدور التي كانت تضطلع به أعتبرت هذه اللجنه -التي أصبحت تحمل إسم الوزاره فيما بعد -من أهم لجان المجلس على الإطلاق، وتعتبر هي الأصل الذي تطورت منه الوزارة في النظام البرلماني.

 

قواعد النظام النيابي وأركانه

ونظراً لأهمية الدور الذي كانت تضطلع به السلطة التشريعية في المراقبة والمحاسبة والمساءلة, إضافة إلى وظيفتها الرئيسية وهي التشريع, والتي تعكس بمجموعها الإطار المرجعي للمبادئ العامة التي تقوم عليها فلسفة النظام النيابي البرلماني, لذلك كان لابد من وضع بعض الضوابط والقواعد التي تحدد أسس العلاقة بين السلطات بعضها ببعض, والتي يتعين مراعاتها لتسير العلاقة بينهما في الإتجاه الذي يحقق المصلحة العامة للدولة والمجتمع ككل, وبما يكفل بسط الرقابة على أعمال الحكومة ومساءلتها ومحاسبتها عن جميع أعمالها وتصرفاتها, بمنأى عن التسلط والتصيد والتسقط، وبعيدا عن الهوى والتعصب وأساليب الاستماله, لتؤدي واجباتها , وتنهض بمسؤولياتها، في إطار النصوص والحدود المرسومه لها دستوريا.

ومن أجل تحقيق ذلك كله, عمد النظام النيابي البرلماني إلى إعطاء السلطة التشريعية حقا دستوريا مؤداه: حق النائب في توجيه أية أسئلة إلى الوزراء –بحسب الإجراءات التي ينص عليها القانون- وذلك لاستيضاح كل ما يرتبط بأعمال وزارتهم, فإذا لم يقدم الوزراء إجابات شافية, يحق لأعضاء البرلمان تحويل هذه الأسئلة إلى إستجواب, والذي يعتبر بمثابة وسيلة أنجع وأخطر من سابقتها, وتنطوي على درجة عالية من الخطورة والأهمية, وقد تصل إلى نتيجة مؤداها سحب الثقة من الوزير أو من الحكومة ككل, ويترتب على هذه العملية –في مثل هذا الموقف- وجوب إستقالة الوزارة أو الوزير, وهذه المسؤولية هي من الأركان التي يقوم عليها النظام البرلماني ولا يصح بغيرها, ولا يمكن توصيف نظام حكم بأنه برلماني إذا ما تخلف عنه هذا الركن الأساسي.

وينبغي علينا أن نتذكر هنا، بأنه يحق للمجلس النيابي أن يشكل من بين أعضائه لجانا خاصة بالتحقيق، وذلك بهدف الوقوف على حقائق الأمور في الشؤون التي تدخل في نطاق اختصاصاته, لمعرفة أوجه الخلل أو القصور أو العيوب في الجهاز الحكومي، وهذه اللجان تمتلك صلاحيات قضاة المحاكم, وذلك من حيث استدعاء الشهود للمثول أمامها وطلب الخبراء, وحلف اليمين, وإيقاع العقوبة لكل من يرفض أو يتخلف عن أي أمر استدعي لأجله.

ومع الأيام إستطاع مجلس العموم البريطاني, أن ينشأ لنفسه حقا دستوريا مؤداه: حق البرلمان في توجيه الإتهام إلى وزراء الملك ومعاونيه وذلك في حال وقوع فساد مالي أو إداري, وقد أعطي المجلس هذا الحق لمساءلة الوزراء عن تصرفاتهم التي قد تصل إلى مرتبة الجرائم, ومنعا لكل ما يؤدي إلى فساد السلطة الحاكمة, بهدف حماية البلاد وصون مصالح الأمة والمجتمع ككل, وقد كان الإتهام لا يصدر إلا بأكثرية أصوات الأعضاء، وكانت المحاكمة تجري –حينذاك- أمام مجلس اللوردات وبتنسيب من مجلس العموم, حيث كانت هذه المجالس أيضاً تمتلك سلطة مطلقة في تكيف الجريمه, وتحديد العقوبة.

ومن المهم أن أشير هنا إلى أن إتهام الوزراء قد كان في بادئ الأمر مقصورا على الجرائم الجنائية البحته, وقد كان يتم ذلك جزائيا وليس سياسيا, كذلك لم يكن هناك مسؤولية تضامنية للوزراء، وإنما كان كل وزير مسؤولا عن تصرفاته بصفه فردية, وقد كان يترتب عن هذا المسؤولية سحب الثقة من الوزير, وإقصاءه من منصبه, دون المساس ببقية أعضاء الوزارة, وقد كانت هذه الإقالة تحدث نتيجة تصرف فردي لأحد الوزراء في أمر يتعلق بشأن من شؤون وزارته, واستمر الأمر كذلك إلى أن تطورت هذه المسؤولية وأصبحت في القرن السابع عشر ميلادي مسؤولية سياسية تضامنية.

ومنذ ذلك الحين، أخذ مبدأ المسؤولية السياسية التضامنية للوزراء يستقر كقاعدة أساسية في النظام النيابي البرلماني, والذي يحتم عليها – لدى تشكيلها- أن تحظى بثقة البرلمان, وذلك لكي يصبح وجودها في السلطة دستوريا, والعكس صحيح فيما إذا لم تحصل على الثقة, فالنتيجة الحتمية -في مثل هذه الحاله- أن تقدم استقالتها, ومن هنا كانت تلك القاعدة هي أولى علاقات الوزارة بالبرلمان, وهذه القاعده تعتبر ركنا أساسيا في النظام النيابي البرلماني, وهكذا بدأ شكل الحكومة يتضح منذ عهد الملك شارل الثاني, حتى بلغ وضعه الحالي.

ومما يذكره التاريخ, أن أول وزير أقيل من منصبه الوزاري هو البريطاني دآل بول, وكان ذلك بناء على قرار صادر بحقه من قبل مجلس العموم, والذي صدر نتيجة إرتكابه لمخالفات تضر بالمصلحه العامة للبلاد، مما يعني أن سبب الاستقاله جاء استجابة لمشيئة المجلس وتنفيذا لرغبته، وذلك بعد أن تم سحب الثقة من هذا الوزير, والأمر اللافت للنظر أن هذه الإقالة تمت بدون أن يكون هناك محاكمة, مما يعني أن المقصود من هذا المقتضى الدستوري هو إقصاء الوزراء المتورطين عن السلطة وليس محاكمتهم, وذلك حتى تستقيم أمور الدولة, وتسير بالإتجاه الذي يحقق مصالح الشعب بمختلف طبقاته.

وفي أعقاب ذلك, توالت الأزمات الوزارية والبرلمانية في إنجلترا, واشتدت أتون المنافسة ما بين الأغلبية البرلمانية المؤيدة للوزارة, وبين القوى المناوئة لها والمعارضة لسياساتها داخل البرلمان, والتي تطورت رويدا رويدا وتحولت-مع مرور الزمن- إلى صراع للسيطرة على الحكم والإستئثار بالسلطة, وعلى إثر ذلك ظهرت قاعدة دستورية تعتبر من الأسس الجوهرية في النظام البرلماني ومفادها: أنه في حال نشوب خلاف ما بين الوزارة والبرلمان, فإن الوزارة تستطيع عوضا عن تقديم استقالتها اللجوء إلى حل البرلمان, والاحتكام إلى هيئة الناخبين للتعرف على رأي الأمة بصدد هذا الخلاف, ويتوقف وضع الوزارة والبرلمان – في مثل هذا الموقف– على النتيجة التي تفرزها صناديق الاقتراع العام.

ولعل مما نخلص إليه هنا، أن القاعدة الأساسية التي ترسوا عليها أركان هذا النظام، هي وجود وزارة تحظى قبل تشكيلها بثقة الأكثرية المطلقة من مجموع أعداد أعضاء البرلمان, فإذا لم يتحقق هذا الشرط، يعتبر وجودها بالسلطة باطلا وغير دستوريا, وإذا كان الأمر كذلك يتوجب عليها أن تقدم استقالتها مباشرة, ويعتبر جميع الوزراء مستقيلين أو مقالين من مناصبهم بحكم ذلك, هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى إذا قرر البرلمان التصويت على طرح الثقة بالوزارة أو بأحد الوزراء, وقررت الأكثرية المطلقة من مجموع تعداد الأصوات سحب أو حجب هذه من الثقة عن الوزارة –فإن حدث ذلك- وجب عليها أن تستقيل من منصبها على الفور, وكذلك الحال إذا كان القرار خاصا بأحد الوزراء, وجب عليه –أيضاً- في مثل هذا الموقف أن يستقيل من منصبه فورا, وبالنظر إلى ذلك فإن إعطاء أو حجب الثقة هما ألف باء النظام النيابي البرلماني.

ليس هذا فحسب, بل أن الوزارة –وبعد الحصول على الثقة- تكون مسؤولة مسؤولية جماعية مشتركة عن جميع أعمالها وتصرفاتها أمام البرلمان, الذي يراقبها ويحاسبها ماليا وإداريا وسياسيا, أما الوزراء فيصبحوا –جميعا– مسؤولين بالتضامن عن أعمالهم وتصرفاتهم باعتبارهم هيئة واحدة, كما أن كل وزير يكون مسؤول أمام البرلمان عن جميع الأمور المتعلقة بأعمال وزارته.

على أن مما يجب الانتباه إليه, أنه كما يترتب على عاتق الوزاره مسؤولية سياسيه إتجاه البرلمان, إلا أنه في الوقت ذاته هي تمتلك -أيضاً- الحق في حل البرلمان والدعوة إلى إجراء انتخابات مبكرة, وفي مثل هذه الحالة، يتوقف وضع البرلمان والوزارة على النتيجة التي تفرزها صناديق الاقتراع العام–كما ذكرنا آنفا- وهذا السلاح المتبادل هو من الحقوق الدستورية الثابتة التي يكفلها النظام البرلماني لكلتا السلطتين –التنفيذية والتشريعية- على حد سواء, وذلك تأكيدا لمبدأ الفصل بين السلطات.

ومن المتعارف عليه في أدبيات الفكر السياسي المعاصر, أن الفلسفه التي تتبناها الديمقراطية النيابية تقوم فكرتها على مبدأ انتخاب ممن ينوب عن الشعب -الذي هو مصدر السلطات جميعها- في تنفيذ إرادته وتحقيق المصالحة العامة, وذلك بوساطة مجلس –شعبي- مصغر يقام خصيصا لتحقيق هذه الغاية، والذي يتمثل فيما يسمى اليوم بمجلس الشعب أو الأمه أو البرلمان- وهي المجالس النيابية العليا التي تمثل السلطة التشريعية -وبذلك يتمكن الشعب بوساطة هذا المجلس من ممارسة سيادته وحكم نفسه بنفسه, استنادا إلى مبدأ تفويض الصلاحيات, وتبدو الحاجة إلى ذلك لصعوبة حشد الشعب في مجلس واحد, لذا فمن البديهي أن ينتخب الشعب نوابا يقومون بذلك نيابه عنه, لذلك سمي هذا المجلس بالمجلس النيابي, ومن هنا إنبثقت فكرة تحويل المجلس الشعبي إلى مجلس نيابي منتخب بصورة مباشرة من قبل الشعب، بغالبية الأصوات, ولفترة زمنية محددة ومؤقته –عادة ما تكون أربع سنوات شمسية- وقد درج الساسة على تسمية ذلك النمط من الحكم والذي ساد منذ قرنين من الزمان وما زال بالديقراطية النيابية.

 

نشأة البرلمان ومراحل تطوره

وغني عن البيان أن فكرة تشكيل مجلس يمثل جميع أفراد الشعب, ويعبر عن سيادتهم, وينفذ إرادتهم العامة, بوساطة انتخابات عامة، وسرية, ودورية, يعطي فيها كل فرد –مواطن كان أم مواطنة– حق التصويت والانتخاب لإختيار من ينوب عنه أو يمثله في ذلك المجلس, ليحكم نفسه بنفسه وتكون كلمته هي العليا, قد انبثقت في مدينة أثينا وكان ذلك في العصور اليونانية القديمة, دون أن تكون لها دلالة حاسمة, حيث كان المجلس إبان ذلك العهد يسمى بالجمعية العامة, ومؤلفاً من جميع المواطنين الأحرار، والذين كانوا يتمتعون بحق المشاركة فيمناقشة القضايا العامة, وتدارس جميع ما يتعلق بشؤونهم، وذلك لسماع وجهات نظرهم على أوسع نطاق ممكن، ولتحقيق مصلحة المجتمع ككل, فكانت هذه الجمعية تجتمع –دوريا- وتشارك الحاكم في مسؤولية صنع القرار, فأخذت فكرتها تنتشر وتغزو الأمم والمجتمعات الأخرى, التي اقبلت عليها، ولعبتدورا اساسيا في تطويرها، والوصول بها إلى الغاية التي كانت ترجى لها.

ولعله من المفيد هنا الإشارة إلى أن البشرية منذ القدم, قد اعتادت -بتدرج مراحل تطورها- على أنماط مختلفة من الممارسات الديمقراطية, وشهدت على تعاقب مراحل تطور المجتمع الإنساني أصنافاً متعددة من تطبيقات هذه المجالس والهيئات التشريعية، والتي اختلفت في اشكالها وصورها, ولكنها اتفقت في غاياتها ومراميها, وبالرغم من كثرة ما قيل وكتب عن تاريخ ظهورها, إلا أن هذا الموضوع ما زال يكتنفه بعض الغموض, فهو موضوع قديم الإنسانية ذاتها, ويرتبط بتاريخ الإنسان وتطوره على سطح الأرض, وقد اختلف المؤرخون قديما وحديثاً حول هذا الأمر, لذلك نحن لا نستطيع ان نحدد بشكل قاطع تاريخ ظهورها, الذي كان له الأثر البالغ في رقي المجتمع الإنساني وتقدمه.

ويشير المؤرخون إلى أن ثمة أشكال بدائية محتملة قد ظهرت في بلاد ما بين النهرين, ولدى الاغريق القدامى, وبعض مناطق الهند القديمة, وكذلك في مجالس الشيوخ في الإمبراطورية الرومانية, إلا ان الدلائل والشواهد تشير أن أول ظهور منظم ومؤطر لهذه المجالس والهيئات كان – كما ذكرنا انفاً –في مدينة أثينا, والتي كان لها قصب السبق في فكرة تشكيلها –بصورة بدائية – وإن كانت بعض الآراء الأخرى إتجهت إلى أن هذه الممارسات الديمقراطية -وبصرف النظر عن المسميات- كانت قبل ذلك متأصلة في الحكم القبلي لدى العرب, على شكل نظام خاص بالمجتمع الإسلامي، والذي مارسه بطرق مختلفة في الماضي والحاضر، وذلك تبعاً لتعاليم القران الكريم والسنة النبوية الشريفة. التي جعلت من الشورى مبدأً عاماً يجب تطبيقه والتقيد به, وهذا أمر لا يختلف فيه اثنان لأن ذلك مما يقوم عليه الدين الإسلامي.

وقد طرأ على شكل هذه المجالس والهيئات منذ ظهورها وإلى يومنا هذا تغيرات كثيرة, وتطور مفهومها تدريجيا وذلك تبعاً لاختلاف متطلبات الحياة ومستلزماتها في كل عصر, والتي كانت تقتضي –بين حين وآخر– إدخال بعض التعديلات عليها, وإعادة تشكيلها وصياغتها في قالب جديد –وفق ما تفتضيه متطلبات العمل البرلماني – ولذلك كانت في كل مرحلة تأخذ شكلاً جديداً وتظهر بصورة مختلفة عن سالفتها, فلم تظهر في بادئ الآمر كما اعتدنا عليها في مثل هذه الأيام طفرة واحدة, وإنما هي كانت تتطور عبر السنين –بصورة تدريجية تلقائية – مع تطور مفهوم الدولة, واتساع نطاق وظائفها في مختلف الميادين.

وقد استمر الأمر كذلك لأكثر من قرن، إلى أن وصل مرحلة استنفذت فيه الأطر التقليدية التي سادت في العصور السالفة أغراضها, ولم تعد قادرة على مجاراة التطور الحضاري المتسارع أو بلوغ الغاية المتوخاة منها, مما استدعى إعادة ابتكارها من جديد لتواكب المتغيرات المستجدة, بمعنى إعادة بناء هذه المجالس والهيئات وتشكيلها بطريقة مختلفة عما كانت عليه –اعتماداً على أسس مغايرة– لإستكمال النقص وسد الثغرات، وقد بلغ هذا التطور أوجه في بداية عصر النهضة العلمية التي اجتاحت مختلف ارجاء أوروبا منذ القرن الثاني عشر الميلادي.

ومما لا ريب فيه، أن هذه النهضة التي شملت مختلف مناحي الحياة, وقطعت بالحضارة الإنسانية أشواطاً بعيدة في مضمار التقدم والازدهار, كان لها دورا هاماً في التطور والاستقرار الذي شهدته هذه المجالس والهيئات منذ ذلك الحين, حيث تم تأطيرها, وتأصيل مفهومها, وترسيخ صورتها, وتقنين احكامها, وتوطيد أركانها على أسس وركائز متكاملة, وتحديد طبيعة عملها, ووسائل ممارستها, وأساليب تنفيذها, وبيان حدود اختصاصاتها, ومدى صلاحياتها, ووضع ضوابط ومعايير ومقاييس تحدد كيفية اختيار أعضائها, وتنظيم علاقتها بالسلطة التنفيذية –إلى أن أصبحت تحظى بالاستقلالية التامة عن باقي السلطات الأخرى- وهلم جرا فالمقام لا يتسع للتفصيل أو الإفاضة أكثر من ذلك.

وإذا كان المقام لا يتسع لبسط جميع التطورات التي طرأت على نمطية الممارسات الديمقراطية منذ نشأتها –بشكل مفصل– لذلك فإنني سأكتفي بالقول أنها تطورت تدريجياً –عبر السنين– من نظام ديمقراطي مباشر إلى نظام ديمقراطي نيابي –تمثيلي– بمعنى أن يقوم الشعب بممارسة السلطة عن طريق نوابه الذين ينتخبهم لمدة زمنية محددة, بخلاف النظام الديمقراطي المباشر الذي يقوم فيه الشعب مقام السلطة التشريعية من خلال اجتماعه بكامله على فترات مختلفة، كما هي الحال في بعض المقاطعات السويسرية, أما في النظام الديمقراطي شبه المباشر فإن الشعب يختار ممثلين عنه مع الاحتفاظ بحقه في المشاركة –كلما دعت الحاجة لذلك– من خلال الاستفتاء الشعبي أو قياس الرأي العام.

وحين نعود إلى عصر النهضة الأوروبية، نجد -حينها- أن إيسلندا من أوائل الدول التي كان لديها برلمان وذلك في القرن التاسع الميلادي, وابتداء من القرن الثالث عشر الميلادي بدأت هذه المجالس والهيئات تظهر بصورة منتظمة في إنجلترا, وقد اصطلحوا على تسميتها منذ ذلك العهد بالبرلمان –أي المكان الذي يعقد فيه الاجتماع– وقد استخدم هذا المفهوم فيما بعد باللغة الإنجليزية ليعبر عن الهيئة التشريعية، ومن ثم انتقلت التسمية إلى بقية بلدان العالم اعتباراً من القرن التاسع عشر الميلادي, فأصبحت كلمة برلمان تستخدم في اللغات المختلفة للتعبير والدلالة عن المجالس النيابية العليا.

وحري بنا في هذا السياق الاستيعابي لمعطيات نظام الحكم النيابي البرلماني، لفت الانتباه أن هذا النظام رغم ثبوت قواعده وأركانه إلا أنه يختلف من دولة لأخرى, وذلك تبعاً لاختلاف أنظمة الحكم الدستورية السائدة في الدول التي تطبق هذا النظام -دون أن يختل هذا النظام أو أن يمس في جوهره أو أصله- والذي يختلف فيه تبعاً لاختلاف شروط العضوية والانتخاب والترشيح وتوزيع الدوائر الانتخابية التي تتنوع من دولة لأخرى، هذا فضلاً عن الاختلاف في تعداد الأعضاء, وفي نسبة التمثيل بالمقارنة مع مجموع التعداد العام للسكان, وغير ذلك مما ذكر، ومما لم يذكر، وعلى الرغم من كل هذه الاختلافات إلا أن جوهر النظام واحد وأصوله واحدة , وإنما الاختلاف بينهما يكون في جزئيات بسيطة وليس في الأصول والعموميات , لذلك نجد أن وحدة الأصل والقواعد مأخوذ بها ومطبقة لدى مختلف الدول التي تطبق هذا النظام.

ومن تمام هذا الموضوع الإشارة إلى أن إمكانية التطابق والتماثل بين الأنظمة الانتخابية –في الدول التي تطبق هذا النظام– يعدّ أمراً في غاية الصعوبة , فمن الطبيعي أن تتبنى كل دولة النموذج الذي يستجيب لمتطلبات حياتها السياسية, وان تتبع النظام الذي يتناسب ويتوافق مع واقع مجتمعها, وينبني على ذلك الفهم أن النظام الانتخابي ليس نقلاً حرفيا -فوتوغرافيا- للنموذج المطبق في الدول الأخرى –بكل ما في هذه التسمية من معنى– ويبين ذلك تبيانا جلياً أنه لا يوجد نموذج متفرد أوقالب -في حد ذاته- يصلح لكل الدول ولكافة المجتمعات, إذ إن لكل مجتمع خصوصية محددة ينطبع بها نظامه الانتخابي, ويتمايز احدها عن الآخر، إما مضيفاً إليه, أو منقصاً منه، أو معدلاً فيه, وذلك تبعاً لمخزونه الفكري وتراثه الثقافي ومعتقداته الأيدولوجية.

أشكال نظام الحكم النيابي البرلماني

وحري بنا في هذا السياق لفت الإنتباه -أيضاً- إلى أنه كما تتشابه السلطة التشريعية في بعض الخصائص. فإنها تختلف – أيضاً– في تركيبتها من دولة إلى أخرى, وذلك تبعاً لاختلاف النظم الدستورية السائدة في كل دولة, فبعض الدول التي تطبق نظام الحكم النيابي البرلماني، تتجه نحو الأخذ بنظام المجلس الواحد –الفردي– في حين يتجه بعضها الأخر نحو تطبيق نظام المجلسين –المزدوج– وذلك حسب طبيعة المنطقة التي يظهر فيها , وتبعاً للقواعد الحضارية والبواعث الاجتماعية لكل دولة, وطبيعة الأوضاع الاقتصادية والسياسية التي يعيشها مجتمعها.

وقد يسأل سائل, عن الخصائص التي تميز نظام المجلس النيابي الفردي عن نظام المجلس التشريعي المزدوج, وما هي موجبات ومبررات الأخذ بكل واحد منهما؟، وفي ما يأتي بيان لذلك, ولعل أن اهم ما يميز بينهما –على الاطلاق– هو طريقة اختيار أعضائهما, ففي نظام المجلس النيابي الفردي يتم ذلك عن طريق الانتخاب العام السري والمباشر –الذي نشأ في إنجلترا عام 1872م– كما هي الحال في سويسرا وألمانيا والنمسا وفنلندا، وبعض دول أميركا اللاتينية، وقد ظهر هذا النظام في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، نتيجة لظهور نظرية مفادها أن السيادة ملكاً للشعب, وأن الإعراب عن الرأي العام يجب أن يكون بقانون عام, وأن سيادة الأمة وحدة واحدة متكاملة لا تتجزأ, لذلك فلا يمكن أن تمثلها أو أن يعبر عن إرادتها إلا هيئة واحدة.

وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة لنظام المجلس النيابي الفردي, فإن الصورة تختلف كلياً في نظام المجلس التشريعي المزدوج –الاعيان, اللوردات, الشيوخ– والذي تختلف فيه باختلاف طرائق الاختيار وعدد الأعضاء, التي تتنوع من دولة إلى أخرى, ففي بعض الدول يتم ذلك من خلال الوراثة, كما هو حال في مجلس اللوردات البريطاني، والذي يحمل فيه أعضائه لقب اللوردية بالوراثة, وهناك دول أخرى تلجأ إلى التعيين المباشر من قبل السلطة التنفيذية, كما هو الحال في مجلس الشيوخ الإيطالي والياباني والكندي وجنوب افريقيا, وكذلك بعض الدول العربية, على أن يكون اختيار هؤلاء الأعضاء من بين طبقات وفئات معينة وذات مواصفات محددة.

وتلجأ بعض الدساتير إلى اختيار أعضاء المجلس التشريعي الثاني من خلال الانتخاب العام المباشر, كما هو سائد في مجلس الشيوخ في الولايات المتحدة الأميركية, وأستراليا, وتشيكوسلوفاكيا, ونيوزلندا, وغالبية دول أميركا اللاتينية, وحتى لا تكون هذه المجالس صورة طبق الأصل عن المجلس النيابي الأول –المنتخب بالكامل– فقد استخدمت تلك الدول وسائل متعددة لتفادي ذلك الاجترار أو التكرار، مثل وضع شروط محددة في الأهلية, أو أن تكون مدة العضوية غيرها عن العضوية في المجلس النيابي الأخر.

واخيراً، لابد من الإشارة إلى أن هناك ثمة دول اتجهت نحو طريقة الانتخاب غير المباشر, بحيث يقوم أعضاء الهيئات والمجالس التشريعية بانتخاب أعضاء هذه المجالس, كما هي الحال في فرنسا وهولندا والدنمارك وغيرها.

أما في الأردن, فأن طريقة تشكيل المجلس التشريعي الثاني– مجلس الاعيان – فتتم بحسب نص المادة (26) من أحكام الدستور الأردني, والذي قرر أن جلالة الملك هو الذي يعين أعضاء مجلس الاعيان, وهو الذي يقبل استقالاتهم, وهو الذي يختار رئيس هذا المجلس, كما يقرر الدستور الأردني في المادة (64) أنه يشترط فيمن يشغل عضوية مجلس الأعيان أن يكون من إحدى الطبقات المنصوص عليها في هذه المادة, وهم: -

• رؤساء الحكومات والوزراء الحاليون والسابقون.

• من أشغل سابقاً مناصب السفراء والوزراء المفوضين.

• رؤساء مجالس النواب.

• رؤساء وقضاة محكمة التمييز.

• رؤساء محاكم الاستئناف النظامية والشرعية.

• الضباط المتقاعدين من رتبة امير لواء وصاعداً.

• النواب السابقون الذين انتخبوا للنيابة في دورتين على الأقل.

• كل من شاكل هؤلاء من الشخصيات العامة الذين تتوافر فيهم السمات القيادية.

• الحائزين على ثقة الشعب واعتزازه بأعمالهم وخدماتهم للوطن والأمة.

وبعد أن تعرفنا على الخصائص المتنوعة التي تميز بين أشكال نظام الحكم النيابي البرلماني, وبعد أن أدركنا أن لكل نظام سماته ومميزاته الخاصة به، والتي تميزه عن الآخر –على الرغم من اشتراكها في خصائص أخرى– سنتحدث الآن عن موجبات ومبررات الأخذ بأي نظام منها, ولعل أهم هذه المزايا على الإطلاق أن نظام المجلس الفردي- المنتخب بالكامل- يمنع التعارض والتضارب الموجود في نظام المجلسين, مثلما يمنع الاحتكاك الذي قد يؤدي في بعض الأحيان إلى تعطيل أعمال السلطة التشريعية, هذا فضلاً عن قدرة هذا النظام –الذي يعتبر أقل تعقيداً– في انجاز مشاريع القوانين المدرجة على جدول أعمال البرلمان في أقصى مدة ممكنة.

وبالرغم من كل ذلك, فإن هذا لا يعني بالضرورة أن نظام المجلس الفردي الذي يتم عن طريق انتخاب كامل أعضائه، لا يخلو من العيوب ولا يعتريه نقص أو ثغرات –فالعكس هو الصحيح– لذلك كان لا بد من البحث عن نظام بديل يكون أكثر كفاءة وفعالية للتغلب على عيوب هذا النظام, ومن هنا جاء نظام المجلس التشريعي المزدوج –والذي ظهر نتيجة لتطور البرلمان البريطاني إلى مجلس اللوردات والعموم– أما بالنسبة لمبررات وموجبات اتباع نظام المجلسين، فتتلخص في أن هذا النظام يمتاز في التركيز على تجويد نوعية أعضاء البرلمان, وذلك لرفع مستوى كفاية الهيئة التشريعية, ومعالجة الضعف الذي يعاني منه المجلس الأول, بحيث تجمع بين ما تتطلبه هذه الهيئة من عمق التخصص –الذي يؤهلها للقيام بواجباتها على نحو سليم– مما يعطيها القدرة الذاتية على تلبية الاحتياجات المتنوعة التي تقتضيها متطلبات العمل البرلماني, وبين تحقيق التوازن النسبي ما بين جوانبها المختلفة، بحيث لا تبدو هذه الهيئة –شتاتاً- من عناصر مختلفة، ومفصومه عن بعضها ولا يربط بينها رابط أو مجردة مما كان يجب أن يقترن بها من كفاءات, وبالتالي هو يهدف إلى تمكين الهيئة التشريعية من أداء رسالتها والقيام بوظائفها على الوجه الأكمل والأمثل.

ولعلنا نستخلص بعد هذا كله، أن طبيعة هذا النظام -بحدوده السالفة- تقوم اساساً على مبدأ بناء الثغرات وسدها، لمعالجة أوجه الضعف واستدراك النقص الذي يعاني منه المجلس النيابي الأول، وذلك من خلال تدعيم البرلمان بمجلس تشريعي ثان يضم عناصر على قدر من الكفاءة, والتي لديها خبرة واسعة ومعرفة متكاملة بتفاصيل العمل العام، مما يجعلها قادرة على اتخاذ القرارات المناسبة وتبني السياسات المثالية, وبالتالي –هذا النظام– يهدف إلى بناء البرلمان بناءاً سوياً ومتوازناً ومتكاملاً.

كل ما تقدم ينتهي بنا إلى أن نظام المجلسين يخدم اتجاهات متعددة, ويحقق أكبر منفعة ممكنة, فهو يضمن تجويد نوعية المخرجات, ويعطي نتائج أكثر دقة وفعالية من النظام السابق، وليس أدل على ذلك من أن عملية تشريع القوانين المحالة إلى البرلمان –وفقاُ لأحكام هذا النظام– تتم عبر مرحلتين يختلف بعضها عن بعض, وذلك وفق خطوات محددة ومنظمة تخضع خلالهما –القوانين– إلى المراجعة والتدقيق والتمحيص, بغرض تنقيحها والتحقيق من صحتها, ومعالجة أوجه الخلل او القصور –فيما إذا دلت النتائج على ذلك– أو إذا ما ثبت مخالفتها أو تقصيرها.

هذا فضلاً عن إزالة كل ما يبدو فيها من غموض أو تناقضات –أينما وجدت– والعودة بها إلى الأصول الصحيحة التي يجب أن تقوم عليها, وذلك فضلاً عن أي أمور أخرى تتعارض مع المصلحة العامة أو لا تتفق مع سياسات الدولة, سواءً أكان ذلك بالتغيير أم بالتنقيح أو بالحذف أو بالإضافة –كلما دعت الحاجة لذلك– شريطة أن تكون الأسباب مبررة ومعززة بسند قانوني ودستوري -وبحسب الأصول المرعية- مما يكفل تلافي أوجه القصور، وتفادي أخطاء كل مجلس من المجلس الاخر، ومن هنا كان هذا النظام هو الحل –البديل الموضوعي– الذي وجدته بعض الدول ملاذاً للتغلب على عيوب نظام المجلس الواحد، مما أدى إلى شيوع أستخدامه واعتماده في كثير من بلدان العالم التي تطبق نظام الحكم النيابي البرلماني.

ليس هذا فحسب، بل إن نظام المجلسين هو الطريقة الأكثر كفاءة وفعالية لتحقيق الوصول إلى قطاعات المجتمع على نطاق واسع, فهو يسمح بتمثيل المصالح والأقليات، ناهيك عن إمكانية الانتفاع من الخبرات والكفاءات التي لا تتوافر في المجلس الأول, محققا بذلك تفوقاً على نظام المجلس الواحد, والأهم من هذا وذاك, أن نظام المجلسين يمنع استبداد الهيئة التشريعية في عملية صنع القرار, وهذا مالا يتحقق في المجلس الفردي, ذلك أن كل مجلس يوقف الآخر عند حدود سلطته المشروعة, فإذا ما اتفق المجلسان في الرأي، فإن هذا الاتفاق يخضع السلطة التنفيذية لرأي البرلمان في نهاية المطاف.

كيف تتشكل الحكومة البرلمانية ؟

من المعلوم أن الفقه الدستوري قد اشترط توافر ثلاثة عناصر تجتمع معاً –ويتبعها جملة من المبادئ– التي لا يمكن فصلها عن بعضها البعض لتشكيل الحكومة البرلمانية:

أولهما: -وجود برلمان منتخب من قبل الشعب عبر انتخابات عامة حرة ونزيهة.

ثانيها: أن يحصل حزب سياسي –أو ائتلاف حزبي– على الأغلبية المطلقة من مجموع تعداد مقاعد مجلس النواب, وبالتالي يعهد إلى رئيسه بتشكيل الحكومة.

ثالثهما: أن يشكل الحزب أو الائتلاف الخاسر –في الانتخابات العامة –حكومة موازية للحكومة المنتخبة تسمى حكومة ظل، وتكون مهمتها بالدرجة الأولى مراقبة أداء الحكومة ومعارضة سياساتها –الخاطئة– والانقضاض عليها بهدف إسقاطها، من أجل الوصول إلى سدة الحكم, وبذلك يتحقق التداول السلمي للسلطة بين الأحزاب السياسية.

ومما يجدر ذكره في هذا المقام، أن الحكومة المنتخبة –في مثل هذه الحالة– هي التي تتولى مسؤولية تصريف وادارة شؤون البلاد، مما يعني أنها هي صاحبة الولاية العامة، وتمارس السلطة الفعلية نيابة عن الشعب، وهذا هو الأساس الذي يقوم عليه نظام الحكم النيابي البرلماني، لذا اصطلح البعض على تسميتها الحكومة البرلمانية.

وينبغي علينا التنبه هنا إلى أن النظام النيابي البرلماني، لا يقوم على مبدأ ان الأغلبية لها حق الحكم فحسب، وإنما -في الوقت نفسه- هو يعطي الأقلية الحق في المعارضة، وانتقاد سياسات الحكومة, وكشف أوجه القصور والخلل ومدى مسؤولياتها عنه، ويقابل ذلك –أيضاً– حق رئيس الدولة في حل البرلمان والاحتكام إلى صناديق الاقتراع العام، لحسم الخلاف الذي قد ينشأ بينهما في حال تعذر الوصول إلى تفاهم أو اتفاق، ويعدّ هذا الحق من أكثر أغراض الحل شيوعاً، وهو من الحقوق الدستورية الثابتة التي يكفلها النظام النيابي البرلماني.

 

هل المناخ مهيأ في الأردن لتشكيل حكومات برلمانية حزبية

 

لقد تعرفنا سابقاً على القواعد والأركان التي يرسوا عليها نظام الحكم النيابي البرلماني، وتعرفنا على الأسس المعتمدة التي يتعين مراعاتها لتشكيل الحكومة البرلمانية، وهي –كما ذكرنا آنفا –وجود برلمان منتخب من قبل الشعب عبر انتخابات حرة ونزيهة، وأن يحصل حزب سياسي أو ائتلاف حزبي على الأغلبية المطلقة من مجموع تعداد مقاعد مجلس النواب، وبالتالي يعهد إلى رئيسه بتشكيل الحكومة، على أن يشكل الحزب الخاسر –في الانتخابات العامة– حكومة موازية للحكومة المنتخبة، تسمى حكومة ظل، وبذلك يتم تداول السلطة سلميا بين الأحزاب السياسية.

وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة للدول المتقدمة والمجتمعات الناهضة والمتحضرة، فإن الصورة تختلف كليا في العديد من بلدان دول العالم الثالث بصفة عامة والأقطار العربية بصفة خاصة، والتي يقل فيها عمر التجربة الديمقراطية عن خمسين عاما، أو نحوها.

 

وجه آخر

أما في الأردن, فإن الحقيقة التي نريد ذكرها منذ البداية, هي أن أحزابنا الوطنية –التي أصابها التصدع والوهن في وقت مبكر من عمرها– لم ترق إلى هذا المستوى الديمقراطي المتقدم بعد –أسوة بغيرها من الأحزاب في الدول المتقدمة– وما زالت قاصرة قصوراً شديداً عن القيام لو بجزء يسير من مهامها الوطنية, وإذا ما أضفنا إلى ذلك تدني مستوى الإقبال الجماهيري عليها، وانعدام روح المبادرة لديها، لاتضحت لنا معالم الصورة الحقيقية لحالة الضعف والانحطاط التي تعيشها أحزابنا الوطنية –على اختلاف توجهاتها ومشاربها الفكرية والسياسية –ولست أعدو الحقيقة إذا ما قلت بأنها عاجزة إلى أقصى درجات العجز عن أداء رسالتها, أو الوفاء بالتزاماتها التي أنشئت من أجلها, وهذه الحالة عامة تمر بها معظم أحزابنا الوطنية -دون استثناء- وإن كان بعضها يؤدي أدواره على تردد واستحياء.

ولعلها لا تكون مفاجأة إذا ما ذكرنا أن معظم أحزابنا الوطنية تعدّ بمثابة أحزاب مبتدئة وحديثة العهد بالعمل السياسي العام، فهي قد استأنفت مسيرتها منذ عقدين من الزمن لا أكثر، بل أن الغالبية العظمى من أحزابنا استهلت مشوارها وبدأت ممارسة أنشطتها بعد ذلك الوقت بكثير، ولعل ما قلناه الآن يلخص أهم إشكاليات العمل الحزبي.

ولعله من المؤسف القول إن أحزابنا قد وصلت إلى حالة مزرية لا يقدم وجودها من عدمه في شيء، ونتيجة لذلك، نجد أن قدرتها في التأثير على توجهات الرأي العام ما زالت ضعيفة ولا تكاد تذكر, وبذلك زالت عنها مسوغات بقائها واستمرارها, فهي تعاني من نقاط ضعف كثيرة والتي تتزايد يوماً بعد يوم دون أن تجد حلولا مقنعة لها, وذلك على الرغم من كل الجهود والمساعي التي بذلت وما زالت تبذل –حتى يومنا هذا– للنهوض بالعمل الحزبي وتنمية الحياة السياسية وتنشيطها , ما زالت تراوح في أمكنتها ولم تتقدم خطوة إلى الأمام، وما زالت بعيدة كل البعد عن تحقيق أهدافها، أو بلوغ الغايات التي انشئت من أجلها، وهذه الحقيقة يجب ألا يستاء منها وإن جرحت, فمن غير المعقول أن تستمر المعادلة بهذه الصورة.

ومن تمام هذا الموضوع لفت الانتباه إلى أن المجتمع الأردني قد عاش ردحاً من الزمن الذي ليس بالقصير دون وجود أحزاب سياسية, وذلك في أعقاب تعطل المسيرة الديمقراطية في الأردن تعطلاً شبه تام , نتيجة إعلان الأحكام العرفية، وحظر النشاط الحزبي، جراء فشل التجربة الحزبية في عام 1957 والذي امتد حتى نهاية ثمانينيات القرن الماضي- وما رافق ذلك من تبعات أدى إلى انصراف الجماهير عنها وعدم الاكتراث بوجودها، وهكذا فقدت أحزابها الوطنية –التي كانت تمارس انشطتها في الخفاء- فاعليتها وحيويتها وقدرتها الذاتية على التجدد والتطور وبدأت تضمر شيئاً فشيئاً, بل إن بعضها قد ضعف إلى درجة الاضمحلال, ولم يعد لها إلا وجود باهت ولم تكن ذات جدوى في كثير من الأحيان.

فاقد الشيء لا يعطيه

ومن خلال هذا الاستقراء العام لواقع حياتنا السياسية والحزبية, نجد أن النظام البرلماني -في الأردن- قد افتقد ركناً أساسياً لا يكتمل المشهد بدونه، ألا وهو وجود أحزاب سياسية فاعلة ونشطة, وبما أن العمل الحزبي لم يأخذ الدور الذي يجب أن يلعبه حتى الآن, فإنه من الصعب المراهنة عليه للقيام باي دور إيجابي لا سيما في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ وطننا، وأياً كان الأمر فأننا لا نرمي أن تغدو دراستنا هذه هدفا يقلل من شأن الدور التي تتطلع فيه الأحزاب الأحزاب.

ومما لا شك فيه أن الأحزاب –نفسها- لا تحبذ هذا التراجع والتقهقر، وتشعر أن دورها أصبح لا يشكل شيئاً -بل لا قيمة له- ولا ترغب في أن يستمر الوضع كما هو عليه، وتلقي اللوم على جهات كثيرة، وأتصور أن الداء المستعصي الذي يعاني منه العمل الحزبي هو أن الطبقة السياسية -سواء كانت سلطة أم معارضة– على حد سواء، لم تدرك حتى الآن خطورة هذا الوضع المتردي، وراح كلٌ منها يحمّل الآخر مسؤولية التراجع والتقهقر، ولم يدرك كلاهما أنهما جناحان لطائر واحد، فإذا ما انفصل احداهما عن الآخر سقط وهوى.

 

الموقف الحرج

وأمام هذا الواقع السياسي المأزوم والمعقد, وبما يفرضه من تحديات, وفي ظل غياب القدرة على الانتظار، وللخروج من هذا المأزق, ومواجهة هذه الإشكالية التي تقف حجر عثرة في طريق مسيرتنا الديمقراطية، وتعبئة الفراغ السياسي الناجم عن ضعف الحياة الحزبية، قرر جلالة الملك عبد الله الثاني بحكم ما أوتي من وعي وحكمة وإدراك لمجمل الوقائع والمعطيات، تكليف رئيس الديوان الملكي العامر-الدكتور فايز الطراونة-لإجراء مشاورات مكثفة واتصالات موسعة مع مختلف الكتل النيابية والنواب المستقلين, وذلك في قصر بسمان العامر, لتسمية شخص رئيس الوزراء, كصيغة توافقية تحقق توازناً مقبولاً بين ما هو مطلوب وبين ما هو متوفر, سعياً إلى اختيار الأنسب والأصلح للتعامل مع تلك المرحلة وفق معطيات الواقع السياسي المعاش وتحدياته، وذلك بهدف الإستجابة إلى الحد الأقصى المسلم به من طموحات الشارع الأردني وتطلعاته, بغية الوصول إلى واقع افضل في نهاية المطاف.

 

آفاق مفتوحة – فهل نحن فاعلون ؟

أما وقد استقر الأمر على ذلك النحو, فإن هذا لا يعني بالضرورة أن هذه التجربة الديمقراطية الجديدة لم تكن خالية من بعض أوجه النقد أو القصور, ولا يعتورها خلل أو عيوب, بيد أنها رغم كل ذلك كانت أحدى المحاولات الجادة التي تستهدف في المقام الأول إحياء فكرة تشكيل الحكومات البرلمانية، وبالتالي هي تهدف إلى إعادة الاعتبار لهذا النهج الديمقراطي المعطل، ومن هنا تأتي أهميتها, إذ أن هذا الأمر يعتبر بمثابة الخطوة المنهجية الأولى في الطريق الذي سيمكننا من تطبيق هذا النهج في المستقبل المنظور، بعد استكمال الخطوات التمهيدية اللازمة لذلك.

وثانياً: هي تستهدف إعادة تأهيل دور مجلس النواب وبناءه من جديد, وبما يعزز من مشاركته في عملية صنع القرار، وبخاصة فيما يتعلق بطريقة اختيار رئيس الوزراء, وهذا هو ما تحتاج إليه ديمقراطيتنا, بل أن غياب ذلك هو الذي جعلها مستلبة وناقصة.

وثالثاً: هي تستهدف تعبئة الفراغ السياسي الناجم عن ضعف الحياة الحزبية، باعتبار أن ذلك هو البديل الموضوعي للوصول إلى أقرب نقطة من مقاصد الشارع الأردني وتطلعاته، وهذا ما يكشف عن سعة الأفق في التصور الملكي.

وما دمنا ندور في فلك الحديث عن إيجابيات هذه التجربة , فإن اول ما يستوقفنا في هذا الشأن، هو أنها تبتعد كثيراً عن الأسلوب الذي ألفناه سنين طويلة في طريقة تشكيل الحكومات الأردنية، وبذلك هي تشكل نقطة تحول مفصلية في تاريخ حياتنا الديمقراطية, وتؤسس لمرحلة سياسية جديدة, بل إنها تكاد توفر فرصه تاريخية نادرة تفتح أمامنا نوافذ نطل منها على آفاق واعدة من التطور والتقدم، وربما تكون نواة التغيير المنشود, وهي في أول الأمر وآخره ليست سوى خطوة في طريق الإصلاح الشامل, ولن تكون نهاية المطاف, بل هي محطة تؤدي إلى محطات أخرى، لأن باب الإصلاح ما زال مفتوحاً على مصراعيه, والمهم إننا وضعنا أقدامنا على الطريق الصحيح، وقديماً قالوا من سار على الدرب وصل، فهل نحن فاعلون ؟؟.

وما من شك في أن كل ما تقدم ليس سوى خطوة أولى تواكب استحقاقات المرحلة وتتماشى مع توجه الدولة نحو البدء في استكمال المتطلبات اللازمة لتحقيق الهدف الذي نسعى اليه جميعاً, وتعدّ بمثابة المدخل المنهجي إلى المرحلة التمهيدية- التي تسبق في العادة المرحلة الانتقالية- لأن عملية التحول والانتقال في حياة الأمم والشعوب من نمط في الحكم إلى آخر، ومن مرحلة سياسية إلى آخرى, تتطلب بالضرورة فترة حضانة طويلة نسبياً, ولا يمكن أن تحدث هذه النقلة بشكل سريع ومفاجئ, وإنما تتم بالتدرج والعبرة الرئيسة من ذلك هو أن يكون لدى كافة شرائح المجتمع فكرة عامة عن رؤية الدولة المستقبلية, لمعرفة ما سيكون عليه الحال في العقود القادمة, مما يمكنها من التكيف والتأقلم مع كافة المستجدات.

 

الفكرة تقاس بنفعها

أما ما يمكن أن يقال عن إن هذه الحكومة لا ينطبق عليها صفة الحكومة البرلمانية –بمعناها الواسع وبمفهومها الشامل– انطلاقا من أنها لم تتولى السلطة -ولم تتشكل– بحسب الأصول والقواعد المتعارف عليه في نظام الحكم النيابي البرلماني, بيد ان ذلك الأمر لا ينفي عنها الصفة بأنها ذات طابع شبه برلماني، ولا يعني بالضرورة أنها فقدت قيمتها البرلمانية, بل ربما يكون العكس هو الصحيح، هذا هو ما يعطي تلك التجربة أهمية استثنائية, باعتبار أن عكس ذلك أمر متعذر في المرحلة الراهنة, وفي حقيقة الأمرهي خطوة في الإتجاه الصحيح, وبداية الشروع الحقيقي في إعادة بناء وتقويم مسيرتنا الديمقراطية, وينبغي علينا أن نبني على ما تم إنجازه –والمراكمة عليه– لننتقل خطوات أخرى إلى الأمام.

 

الملك وخيارات الخروج من الأزمة

أقول قولي هذا, وأنا أعلم –يقيناً– بأن الاعتراض عليه ربما يكون معد سلفاً, ولكن المسألة هنا تحتاج إلى مزيد من التوضيح والتفسير, وعلى هذا النحو, سنفترض جدلاً ونسلم بأنها كما يدعي البعض ليست حكومة برلمانية, وبالمناسبة, هي لا تدعي لنفسها ذلك, وان لم يكن بصورة مطلقة, وفي مثل هذه الحالة، فليس من المستغرب ان يكون الذين لا يبصرون سوء الجزء الفارغ من الكأس –ومن يدور في فلكهم– بعيدين كل البعد عن الفهم الصحيح للنهج الملكي ومنطلقاته إزاء التعاطي مع حيثيات وأبعاد هذا الوضع السياسي المعقد, والذي تعامل مع الحدث تعاملاً منطقياً, وكان جريئاً في مواجهته لوقائعه, مثلما كان ايجابياً في التعامل مع متغيراته, فقد تبصر البدائل والخيارات المتاحة, وقلب أوجهها طويلاً, باحثاً عن مخرج يستطيع أن يسد الفجوة بين ما هو واقع وبين ما هو مأمول، لأنهاء حالة الارتهان السياسي والخلاف في وجهات النظر بين الأوساط الحزبية والفكرية والسياسية حول الآلية المناسبة لاختيار رئيس الحكومة، وقد يضيف المطلعون أسباباً يعرفونها.

وقد نجح جلالته في صياغة البديل الموضوعي وإيجاد الحل الامثل, وتبنى نهجاً يبعدنا من الضياع في متاهات الواقع –وما يفرزه من علل– فقد استلهم روح المرحلة ومتطلباتها, واستطاع بعقلية المتفتحة تحريك المياه الراكدة, بل تمكن من إرتياد آفاق جديدة من خلال طرح صيغة بديلة تختلف عن ما كان عليه الحال قبل ذلك، متجاوزاً الأطر التقليدية ومتوسلاً إحداث الانعطاف في آلية تشكيل الحكومات في الأردن, ولعل أن جلالة الملك كان محقا في ذلك, وفيما أرى أن لهذه النظرة- التي لا تخطئها الا العيون الرمداء –ما يبررها في التصور الملكي, فقد بلغت أحزابنا الوطنية –حينذاك- حالة من التجمد والسكون، التي لا تستطيع معها في ظل حالتها تلك أن تحقق ما كان يتطلع إليه الشارع الأردني.

ولتوضيح الصورة أكثر فأكثر، فإنني ادعو لإلقاء نظرة موضوعية متفحصة لواقع حياتنا السياسية العامة، فإذا ما تم ذلك فإننا سنجد بعد الرصد والتمحيص، أن الفراغ الحزبي قد ألقى بضلاله على مجمل الوقائع والأحداث, وان الأبواب موصدة في وجه البدائل والخيارات الأخرىوأن أوحت المظاهر احياناً خلاف ذلك، فقد شهدت تجربتنا الديمقراطية في سنواتها الأخيرة تراجعاً رهيباً في الوجود المؤثر –الفاعل والمتفاعل– للتيارات الحزبية والتنظيمات السياسية في واقع حياة المجتمع من جوانبها المختلفة, وأسباب ذلك عديدة ومتنوعة, ولست في حاجة إلى إعادة سردها أمامك من جديد.

وليس سراً أن تاريخ الحركة الحزبية الحافل –بالتوقف والتعثر والإنقطاع– كان مرده هو أن التجربة الحزبية في الأردن قد تعرضت منذ بداية انطلاقتها الأولى إلى انتكاسة حادة أصابتها بالشلل, فتيبست عروقها ودب العجز في أوصالها, وبذلك فقدت حيويتها وفعاليتها وقدرتها على الحركة، ثم ما لبثت ان تعطلت بشكل جزئي, وتتابعت الأحداث وتوالت وحدثت ممارسات خارجة عن القانون- من قبل بعض التنظيمات- أدت إلى تأزيم حدة الموقف، وفي غضون ذلك سرعان ما تجمدت واحتجبت اضطرارياً نتيجة ظروف قاهرة لا نريد ان نخوض في أسبابها وتفاصيلها التي باتت معروفة لدى الجميع، فقديما قالوا: إذا نصب الحاضر نفسه قاضيا لمحاكمة الماضي سيضيع المستقبل.

 

التباعد يورث الجفاء

وإذا ما تجاوزنا العوامل التي أدت إلى فشل تلك التجربة –وما أكثرها– فلا مناص من الإعترافهنا بأن أحزابنا الوطنية التي عانت كثيراً -وما زالت- من تبعات طول فترة التوقف والانقطاع والتجمد السياسي- والتي طال أمدها وامتدت إلى أكثر من ثلاث عقود- وحينما تهيئت الظروف وتحققت الشروط التي يجب ان تتوافر لاستئناف مسيرتها, عاودت من جديد المسير وهي على أسوأ حال من الضعف والتفكك والوهن, لكن كان يحدوها الأمل العريض في ان تتجاوز الآثار السلبية التي خلفتها تلك التجربة الفاشلة, والتي اثخنتها بالجراح وافقدتها جزءاً كبيراً من مصداقيتها لدى قواعدها الشعبية.

وعلى الرغم من انتظام مسيرتها للمرة الأولى منذ إعلان الغاء الأحكام العرفية, وإرساء قواعد التعددية الحزبية عقب صدور قانون الأحزاب السياسية في عام 1992، إلا أن ما جرته تلك التجربة الفاشلة من مضاعفات وتراكمات، وما رسمته في ذاكرة الناس من انطباعات، ما زال ماثلاً في الاذهان وما زالت فصوله تتوإلى حتى وقتنا الحاضر, والذي نأمل ألا يطول لما ينطوي عليه من آثار سلبية على مستقبل الحياة السياسية في الأردن.

 

فكرة مشوهة

وتبعاً لذلك, فإن ظاهرة انصراف الجماهير الشعبية عن المشاركة في الحياة السياسية العامة, او الإنخراط في العمل الحزبي, ما زالت قائمة ومستمرة في المجتمع الأردني, وياليت ان الامر اكتفى عند هذا الحد فحسب، بل يمكن القول إن هذه الظاهرة أخذت تتصاعد وتتنامى في الآونة الأخيرة – على نحو غير مسبوق – وأصبحت متغلغلة في حياة الناس, وتفرض نفسها على توجهاتهم الفكرية والسياسية, حيث ينظرون إليها على أنها عمل غير مقبول، وذلك نتيجة لتحكم الهاجس الأمني في وجدانهم.

فالحقيقة التي تتجاوز هذا كله, هي أن الوهم الماثل في أذهان الكثير من المواطنين يصور لهم أن فعل ذلك – من وجهة نظرهم –من الأمور التي تثير شبهة أمنية, وهذا تصور خاطئ وبني على أنقاض صورة نمطية مغلوطة عن تجربة حزبية فاشلة عفى عنها الزمن, بل وأصبحت من مخلفات الماضي, وعلى الرغم من مرور أكثر من نصف قرن على إنقضائها، وانشاء وزارة للتنمية السياسية، وتخصيص دعم مالي للأحزاب، بهدف تدعيم قدراتها وتفعيل أدوارها، إلا أن أثرها –كما قلنا– لم يتوقف ولم يطمس من ذاكرة الناس, ومثل هذه الانطباعات ينبغي أن تذهب من أذهان أصحابها إلى غير رجعة.

ومما يذكره التاريخ، هو أن حصيلة تجربتنا السابقة- التي لم تكن على مستوى الآمال والتطلعات- قد أظهرت لنا وبما لا يدع مجالاً للشك، أن هناك فرقاً شاسعاً بين الشعارات الغوغائية المعدولة عن وجهتها القومية الصحيحة، والتي أضحت خارج القاموس السياسي المتداول, والخطب الرنانة التي دفعنا ثمنها غالياً, وبين حقائق الواقع المرير, الأمر الذي رسخ في ذهن كثير من المواطنين قناعة لا تتزعزع, بأن هذه الأحزاب لا تملك القدرة على تغيير الواقع أو التأثير فيه –بأي شكل من الأشكال – فهي ما زالت مصرة على إتباع نفس الطرق والوسائل العقيمة التي كانت سببا من أسباب كل الانتكاسات التي حلت بنا , ليس هذا فحسب، بل ظلت متمسكة بطروحاتها التي نادت بها قبل نصف قرن من الزمان وأكثر، متناسية أو متجاهلة كل المتغيرات والتقلبات التي شهدها العالم عبر كل هذه العقود العديدة, بل وأكثر من ذلك، فهي ما زالت تعيش في عالم من الأحلام والرومانسية، وبعيدة كل البعد عن بلوغ حاجاتها.

وسندلل فيما يلي على صحة ما سبق ذكره, ولعل أصدق الأوصاف دلالة على هذا الوضع الحزبي المتردي, هو ما أفرزته نتائج الانتخابات النيابية السابقة -وذلك منذ استئناف المسيرة الديمقراطية في عام 1989 وتفعيل دور البرلمان وصدور قانون الأحزاب السياسية في عام 1992 -إذ تفصح الأرقام والتحليلات الإحصائية الراصدة –لنتائج هذه الانتخابات– بصورة لا لبس فيها ولا إبهام, عن حالة العجز والانحطاط التي تعيشها أحزابنا الوطنية –على اختلاف توجهاتها ومشاربها الفكرية والسياسية- إذ انها لم تتمكن من إيصال سوى عدد محدود جداً من مرشحيها إلى قبة البرلمان.

 

إنما الأعمال بالنيات

وعلى الرغم من وصول بعض القيادات –الذي يكاد يكون محصوراً في الزعامات التقليدية– إلا أن ذلك الوصول لم يكن اعتماداً على القواعد الحزبية بقدر ما كان اعتماداً على الولاءات العشائرية أو الجهوية أو المناطقية، ولعل أن هذا القصور يكشف لنا عن أحد اكبر صور العجز الحزبي, وهو ما يرجع في اعتقادنا إلى نقطة ضعف حاسمة –تكمن في عقلية مجتمعنا– تصدر عنها جميع الأسباب, وتتمثل في إنحدار مستوى الوعي السياسي العام بمقتضيات تحقيق المصلحة الوطنية العليا, جراء عدم نضوج مفهوم المواطنة بقدر كاف -من جهة- وبفعل تأخر ظهور مؤسسات المجتمع المدني -من جهة أخرى- ويحمل هذا في طياته إمكانية الوصول إلى الفهم الكامل لأسباب الضعف والركاكة في نتاج العمل الحزبي.

ومفاد هذا كله هو أن مجتمعنا ما زال مرتبطاً بقناعة انتخاب مرشح العشيرة أو القبيلة، وما دون ذلك فهو خارج إطار هذه القناعة، وهذه تقاليد راسخة في مجتمعنا منذ عقود خلت , وقد نقلها السلف إلى الخلف, فهي – على براءتها – تجسد بحسب معتقداتهم روح التآخي والتكاتف بين أبناء العشيرة الواحدة, وترقى إلى مستوى الواجب المقدس، وتشكل جزءاً من وحدة النسيج الكلي لعادات الأردنيين وتقاليدهم، ولعل هذا ما يذكرنا بنظرية –دور تايم- في اتجاهات السلوك الاجتماعي والتي تقول: إن الفرد نفسه لا قيمة له داخل المجتمع، ولكن العرف والتقاليد –بصفه عامة –هي التي تحدد الأفراد مسارهم، هذا في علم الاجتماع أما في علم السياسة فهذا اعتقاد خاطئ وفوائده متوهمة، على عكس ما يبدو للوهلة الأولى, وذلك لما فيه من آثار سلبية وعواقب وخيمة على نتاج العملية الانتخابية, وسنتبين مغزى ذلك لاحقاً.

وإذا ما نظرنا إلى واقع المشهد الانتخابي بمجمله, لرأينا أن ما يزيد الأمور تعقيداً، ويضيف بعدا جديداً لإشكاليات العمل الحزبي، هو أن غالبية المرشحين لا يترشحون –أساسا- كممثلين عن أحزاب أو تنظيمات سياسية, فحينما يتوجه الناخبون -على اختلاف ألوانهم واطيافهم السياسية- إلى صناديق الاقتراع العام لممارسة حقهم الدستوري في انتخاب من يرون أنه لديه القدرة على تمثيلهم في البرلمان، يجدوا أنفسهم وجهاً لوجه أمام تحدي مزدوج، ينحصر في اتجاهين:

• يتمثل أولهما: بمواجهة عدد كبير من الأحزاب -المنقسمة- التي تفتقر إلى البرامج الحزبية الهادفة.

 

• أما الثاني: فيتخلص بوجود كم هائل من الشخصيات العامة والنخب السياسية التي تتنافس وتتسابق فيما بينها لاستقطاب الجماهير، وكسب التأييد الذي يمكنها من الحصول على المقعد النيابي.

بيد أن القشة التي قصمت ظهر البعير, وقلبت حال المشهد الانتخابي رأساً على عقب, هي شيوع ظاهرة ما أصطلح على تسميته بالمال السياسي، والذي فرض نفسه بقوة وطغى على كل الولاءات الأخرى, بما يمتلكه من سطوة ونفوذ وتأثير, ولعل السبب في ذلك يعود إلى تأثيرات العولمة وتجلياتها التي غيرت مختلف أوجه الحياة العصرية.

 

إلى أين نتجه من هنا

ولعلنا لا نجانب الصواب إذا ما قلنا بأن العملية الانتخابية – على النحو الذي أشرنا إليه– قد تتحول من نعمة إلى نقمة, ونرجو أن نكون على خطأ، فالأضرار التي يتكبدها المجتمع أكبر بكثير من نفعها أو فائدتها, وتنطوي على مخاطر بعيدة المدى، ذلك أن الناخب في مثل هذه الحالة، قد ينحاز تحت وطأة احتياجاته ومتطلباته لتحقيق كل ما يلبي مصلحته الخاصة, دون مراعاة ادنى اعتبار للمصلحة العامة, وتبعاً، لذلك تفقد العملية الانتخابية جوهرها ومعناها الحقيقي وتصبح مفرغة من محتواها، وبذلك يتمخض عنها نتائج خطرة وانعكاسات سلبية، يمكن أن تؤدي بشكل قاطع وحاسم إلى تواضع كفاءة ممثلي الشعب، مما يعني إن إدارة الشؤون العامة موضوعة في غير نصابها الصحيح، وإن المسؤولية موسدة إلى غير أهلها الشرعيين.

ومتى استقرت السلطة في أيدي أولئك, تكون المحصلة أن تتحكم هذه النخبة في مصالح المجتمع من كافة النواحي, وذلك مؤذون بتفشي ظواهر الفساد والتفكك والإنحلال في أركان الدولة –لا سمح الله– ويتجلى ذلك في مظاهر مختلفة على صعيد الممارسة العملية، ولعل أن أهمها -على الاطلاق- هو تهميش دور الجماعة لصالح الفرد، الذي يصبح في هذه الحالة متحكماً بأمورها وموجهاً لحياتها, أما الجماعة فتصبح وفقاً لمركزها هذا تابعة وخاضعة ومحكومة ومسلوبة الإرادة, وبالتالي تفقد إستقلاليتها وقدرتها على ممارسة سيادتها, فلا تستطيع النهوض بما يدور في خلدها من رؤى وتطلعات، لأن ناصية قرارها بيد غيرها لا بيدها, الأمر الذي يؤدي إلى سيادة مفهوم التبعية الفكرية والسياسبة, وترسيخ مبدأ تبادل المصالح والمنافع وجر المكاسب, وهذه المظاهر تعزز بعضها بعضا, مما من شأنه ان يهدد بنية المجتمع الأساسية, أوان يؤدي إلى عدم استقراره, وهناك ثمة احتمالات قائمة بانهياره –لا قدر الله-.

إلا أن الخطر الأكبر المترتب على ذلك الوضع، هو الخشية من أن تتحول الانتخابات -وفق هذا المنظور- إلى أداة يسيطر من خلالها نخبة من ذوي الجاه والنفوذ وأصحاب المال السياسي على مقاليد السلطة، وبالتالي تمكينهم بطريقة شرعية من الانفراد بإدارة شؤون المجتمع, وسن التشريعات واتخاذ القرارات وتوجيهها الوجهة التي تحقق مصالحهم، وتخدم اجندتهم الخاصة, حتى ولوكان ذلك خرقاً للمصلحة العامة.

وخلاصة القول في هذا الشأن, فيما إذا خرجت الانتخابات عن نطاقها, فإن وبال ذلك كله عائد على الدولة, ومرد ذلك هو أن حال الدولة لا ينفصل بحال عن نتاج العملية الانتخابية، التي تعكس صورة دقيقة حية لواقع هذا المجتمع -بل هي صورة مصغرة عنه- فهو يختل باختلالها, ويفسد بفسادها، ويصح العكس تماماً، لا سيما اذا ما علمنا ان المجتمع لا يصلح إلا بصلاحها، ولا يتقدم إلا بتقدمها، وإن دعائم الديمقراطية لا تستقيم إلا باستقامتها، وهذا لا يتحقق إلا اذا كان الجميع أمامها سواسية –كأسنان المشط- من دون اعتبار لمكانة هذا أو ذاك, ولا يتم بتهميش أو استبعاد فئة من فئات المجتمع.

بقي استكمالا لموضوعنا هذا, أن نورد بعض ما حكاه الفيلسوف سبينوزا في هذا الصدد: إذا كان الناس مستعبدين في جهلهم ، فإن حرية الاختيار غير الواعية قد تؤدي إلى الكارثة، ومن هذا المنطلق يعارض بعض المفكرين الديمقراطية، ذلك أنهم يخشون من أن يؤدي جهل الجماهير، أوغباء القطيع كما يسمونه، من تحويل الديمقراطية إلى موبقراطية (mobcrace) أي ديكتاتورية المغفلين او الغوغاء.

 

أهل مكة أدرى بشعابها

ومن هنا يمكن التوصل إلى حقيقة لا جدال فيها, وهي أن الأخذ بأي نظام انتخابي آخر, دون وجود أحزاب سياسية فاعلة ومجتمع مدني نشط, وبدون استكمال متطلبات التحول الديمقراطي, أو مراعاة محددات البعد الداخلي والديمغرافي والإعتبارات السياسية، سيضر كثيراً بالمصالح الشعبية، لأن يبقى غالبية الناخبين بدون تمثيل حقيقي, ويخل بتركيبة البرلمان التي تراعي مسألة إحداث التوازن-النسبي- في التمثيل المناطقي، ولعل الأكثر أهمية أن ذلك سيؤدي حتما إلى احتكار السلطة والسيطرة على الحكم من قبل حزب معين أو فئة قليلة وهذا في حد ذاته يتنافى -كلياً- مع أبسط المبادئ الديمقراطية.

وفي ضوء هذه الحقائق الشاخصة للعيان -والتي لا تخطئها- إلا العيون الرمداء، فإن الدعوات التي يطلقها البعض حول إعادة النظر في قانون الانتخاب-الذي أقر مؤخراً- وذلك لإدخال تعديلات جوهرية على أحكامه، تمهيدا لإجراء انتخابات نيابية وفق التنافس على أسس حزبية، هو أمر غير ممكن إن لم يكن مستحيلا في هذه المرحلة بالذات، فنحن مازلنا نعيش حياة سياسية ناشئة، وفي ظل مجتمع ينقصه الوعي السياسي العام بمقتضيات تحقيق المصلحة الوطنية العليا، مثلما يفتقر إلى المقومات التي تمكنه من الانتقال إلى نموذج الدول العصرية الحديثة، ليس هذا فحسب، بل نحن مازلنا نوصف بأننا دولة حديثة العهد بالديمقراطية، فتجربتنا لم تبلغ بعد سن الرشد أو النضج، مما يعني أنها مازالت في طور يسمح بالتغير والتقلب.

 

مأسسة العمل الحزبي، مفتاح الحل

ينبغي علينا وضع النقاط على الحروف، كي ندرك أن الخلل الذي يعيشه العمل الحزبي، يحتاج إلى مراجعة شاملة وإعادة نظر, وذلك لتصحيح مواطن الخلل واستكمال النقص، لأن نجاح عملية التحول الديمقراطي والمضي قدماً في مسيرة الإصلاح السياسي وتنمية الحياة الحزبية, وصولاً إلى مرحلة تشكيل حكومات برلمانية حزبية –منتخبة– تتداول السلطة سلمياً عبر الاحتكام إلى نتائج التي تفرزها صناديق الاقتراع العام، إنما هو يعتمد بالدرجة الأولى على قدرة أحزابنا الوطنية على تخطي العوائق التي تقف حجر عثرة في طريق تقدمها، وذلك انطلاقاً من مبدأ بأن لا ديمقراطية ولا تنمية سياسية بدون وجود أحزاب فاعلة ومشاركة شعبية وأهلية واسعة في عملية صنع القرار، فهما وجهان لعملة واحدة, وتوأمان لا ينفصمان, آخذين بنظر الأعتبار أن المشهد لا يكتمل إلا بوجود الأثنين معاً, وهنا تبرز الحاجة إلى وجود مؤسسات دستورية ذات حضور وفاعلية، لكي يمارس الفرد حقوقه من خلالها, فالتنظيمات السياسية النشطة شرط أساسي للتطور والتقدم الديمقراطي، ويأتي دورها مكملاً لدور الحكومة، لأن الإرادة السياسية تنبثق بادئ ذي بدئ عن إرادة حزبية.

ولتوضيح الصورة أكثر فأكثر، إن ظهور تيارات حزبية سياسية كبرى, ذات قواعد شعبية واسعة، وبرامج تنموية نهضوية شاملة، هو ما يعبد الطريق ويمهدها مستقبلاً لتشكيل الحكومات من الأغلبية النيابية، كما هو سائد في الدول المتقدمة والمجتمعات الناهضة والمتحضرة، وهذا هو ما نتوق إليه جميعا، وننتظره بفارغ الصبر.

وقد آن الأوان لتحقيق ذلك الهدف، وهذا يستدعي بالضرورة بناء مجتمع مدني نشط وفاعل، وفي الوقت ذاته صياغة نظام انتخابي يلبي طموحات الشارع الأردني وتطلعاته، وينسجم مع متطلبات المرحلة القادمة، ولا يخل بالتوازنات القائمة، ويضاعف من فرصة الأحزاب السياسية من الوصول إلى البرلمان، كما يفسح المجال أمام التيارات الحزبية-في المستقبل المنظور- من تشكيل الحكومات وتداول السلطة بشكل سلمي، ويضمن وجود معارضة وطنية منظمة تسهم بتقويم وترشيد عمل الحكومة.

فإذا ما أردنا لأردننا مستقبلاً مشرقاً ونهضة سياسية شاملة ومستدامة, فلا سبيل امامنا لتحقيق ذلك, إلا من خلال مأسسة العمل الحزبي، وتحريره من كل معوقات تقدمه, وتنقيته مما علق به من شوائب، ومما لحق به من سوء فهم وتطوير التشريعات المتعلقة به، وإيجاد الآلية المناسبة لتفعيل أدواره وتحسين أدائه، ليمارس مسؤولياته الوطنية إلى جانب قطاعات الدولة الاخرى بكفاءه واقتدار، واذا لم نسرع في تحقيق ذلك، فان إمكانية التداول السلمي للسلطة ستبقى املا بعيد التحقق، ان لم تكن مستحيلة.

 

أما لهذا الليل من آخر

وخلاصة الرأي في هذا الشأن، إن مسؤولية تنمية الحياة الحزبية وتنشيطها، وتوطيد أركانها وفتح الآفاق أمامها، ورفع المحاذير عن ممارسة العمل السياسي العام، وذلك من خلال تشجيع المواطنين في الانتساب إلى الأحزاب ذات الغايات المشروعة , وتغيير النظرة المجتمعية المغلوطة على أن فعل ذلك هو من الأفعال التي تجلب المتاعب وتثير الشبهات الأمنية , لا يقع على كاهل الحكومات وحدها -رغم أهميته- وإنما هي من المسؤوليات الملقاة على عاتق التيارات الحزبية والتنظيمات السياسية على وجه الخصوص، وذلك بأن تبادر من تلقاء نفسها –بصورة فردية او جمعية– بأجراء مراجعة نقدية شاملة لمنظوماتها الفكرية وطروحاتها السياسية التي لم تحقق آيا من أهدافها، والتخلي عن النظم والشعارات المألوفة والمتداولة التي عفى عنها الزمن، بل وأصبحت من مخلفات الماضي، بعد أن فشلت في حشد التأييد الشعبي.

والأمر الآخر، ولكي تتجنب أحزابنا الوقوع في أخطاء الماضي، واستعادة مصداقيتها لدى قواعدها الشعبية، ينبغي عليها اولاً –وقبل كل شيء– تجديد خطابها الماضوي وتحديثه بما يتناسب مع معطيات هذه المرحلة واستحقاقاتها، وذلك لإستيعاب التغير الجذري حدث في تركيبة المجتمع الأردني الذي يوصف بانه مجتمع فتي, وذلك أن غالبية سكانه – تقريباً – هم في سن الشباب الأولى، مما يعني أن النسبة الأكبر من مجمل التركيبة السكانية هم أما على مقاعد الدرس, أو طاقات عاملة أو مدربة أو عاطلة عن العمل، وهذا يستدعي بالضرورة تعديل خططها وصياغة برامج عمل قابلة للتطبيق، وتحاكي هموم الوطن والمواطن، وتضع حلولاً ناجحة للمشاكل التي تواجهنا في شتى مجالات الحياة، وذلك من خلال طرح رؤية واقعية تبين كيفية معالجة الأوضاع المأزومة التي يعيشها مجتمعنا بعيداً عن التنظير، واستنباط أفضل الوسائل لبلوغها.

ليس هذا فحسب، وإنما ينبغي عليها –أيضاً– إعادة النظر في منطلقاتها ومواقفها, وعدم التشدد والتصلب والتمترس في الخنادق السابقة والتحرر من المفاهيم والأفكار التقليدية، وتغير عقليتها ومنهجية تفكيرها، وإسقاط نظرية المؤامرة وفكرة الاستهداف والتخوين والإقصاء، وتجنب العزلة السياسية وتحاشي السباحة ضد التيار, وتغليب المصلحة الوطنية العليا على كل ما سواها، بحيث يكون هدفها -أولاً واخيراً- مصوبا نحو أردنة الاجندات، ولعل أن الأهم من هذا وذاك, هو التخلي عن سياسات المناكفة والتشكيك والممانعة، وعدم اللجوء إلى خيارات التصعيد والمقاطعة، والبحث عن آليات جديدة وفاعلة لبناء شراكة حقيقية مع الحكومات ومد جسور التواصل مع مؤسسات المجتمع المدني.

 

هل من سبيل للخروج من هذا المأزق؟

ومن هنا فإن الحل الجذري لهذه المعضلة التي تؤرق ديمقراطيتنا وتعيق مسيرتنا السياسية, وتحول دون إمكانية تشكيل اغلبية برلمانية حزبية تتولى مقاليد السلطة وتتداولها بشكل سلمي, لن يتحقق إلا -كما يرى جلالة الملك -من خلال التحالف والاندماج بين التيارات الحزبية والتنظيمات السياسية، لتشكيل ائتلاف حزبي منظم يتكون من جبهتين أو ثلاث جبهات -على الأكثر- بحيث تضم كل جبهة عدد من التيارات الحزبية المتقاربة في الاتجاهات، والمتماثلة في الأفكار والطروحات، وهذا مطلب ضروري، واستحقاق دستوري لا بد منه, ولا يمكن الاستغناء عنه اذا ما أردنا مشاركة الجميع في الحكم.

وفي إطار هذه النظرة، يصبح لكل حزب أو تيار عدد من المؤيدين والمناصرين يقارب أو يوازي العدد في الحزب الذي يقابله، ويكون نتيجة لذلك أن يتبادلا السلطة بشكل سلمي، وفي مثل هذه الحالة، يصبح لدينا حزب يحكم وحزب يعارض, فيقوم الحزب الذي يحظى ممثليه بالأغلبيةالبرلمانية بتشكيل الحكومة من بين أعضاءه, في حيث يتولى الحزب الخاسر دور المعارضة الوطنية المنظمة تبعاً لذلك، وهكذا.

 

على أبواب مرحلة جديدة

إن المسؤولية التي تنتظرنا جسيمة وإن التحدي كبير, ومما لا شك فيه أن امتلاك الرؤية السياسية والرغبة في الإصلاح -وحدها- لا تكفي لإحداث التغير الديمقراطي والنقلة النوعية المنشودة, ولا يعني هذا سوى إننا نسير في الطريق الصحيح, نحو بناء حياة سياسية حزبية فاعلة وناضجة.

ومن المؤكد أن الحاجة ما زالت ماسة إلى عمل جماهيري -شعبي- منظم ومؤطر تشترك فيه كافة شرائح المجتمع، بحيث ترتقي بأدائها إلى مستوى المسؤولية الوطنية لتجاوز عقبات المرحلة الانتقالية التي تتطلب في العادة فترة حضانة -طويلة نسبيا –وذلك لكي تؤمن عثارها، وبالتالي نطمئن بأننا سنقف بالمستقبل على أرض صلبة تمكنا من الثبات في أي إتجاه نذهب إليه، وإذا كان لذلك أن يتحقق فالمطلوب منا جميعاً في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ وطننا، هو تحديد أولوياتنا والإسراع في تنفيذ ما وضعناه من خطط وبرامج, والأهم من هذا وذاك هو أن نهيء أنفسنا للمرحلة الجديدة, لننطلق في هذا الطريق الوعر بالتدرج –خطوة خطوة– وفي مراحل متعاقبة متكاملة، وفق رؤية منهجية واضحة لملامح المستقبل المنشود.

ومن أجل هذا كله, ولأسباب أخرى، فإن الخطوة الأولى والحاسمة التي ينبغي علينا القيام بها، هي تخليص أحزابنا الوطنية من هذه الحالة المتردية التي وصلت إليها، من أجل بث روح جديدة في الحياة السياسية وتنشيطها، وهذا يستدعي تفعيل طاقات المجتمع المدني، وتعميم الثقافة الديمقراطية في المدارس والجامعات، وتنوير الرأي العام بمقتضيات تحقيق المصلحة العامة, وتوسيع قاعدة المشاركة الشعبية في عملية صنع القرار.

 

الاتجاهات الديمقراطية المعاصرة من وجهة نظر إسلامية

نسلم منذ البداية أن الديمقراطية هي خيارنا الاستراتيجي الذي لا رجعه عنه, وثابت من ثوابتنا الدستورية التي لا يجوز المساس بها, فنحن ومنذ بواكير تأسيس الدولة الأردنية –مطلع القرن الماضي- قد اخترنا وبمحض إرادتنا النهج الديمقراطي منهجاً صالحاً لحياتنا السياسية العامة, إذ نرى فيه وفقا لنهجه وغاياته ومراميه, أسلوباً ناجعاً في إدارة الحكم وممارسته, فهو يقوم على مبدأ يضمن إتاحة الفرصة أمام الجميع للمشاركة في عملية صنع القرار وتحمل المسؤولية, وذلك عبر الوسائل السلمية المشروعة لتحقيق هذه الغاية, ولعل في هذا ما يثبت بأن اختيارنا للنهج الديمقراطي –المستند إلى إرادة الشعب- لم يكن عبثيا أو عشوائيا, ولم ينطلق من فراغ, وإنما جاء هذا الاختيار من إيمان ينبع من قناعة مطلقة, بأنه الخيار الأنسب والأصلح دون سواه.

وكاستهلال لابد منه, ينبغي علينا أولا -وقبل كل شيء- التأكيد على أن الديمقراطية التي ندعو إليها, ونسعى إلى تكريس مبادئها، هي ليست ترفا سياسياً أو تكلفا لما لا فائدة فيه، ولا هي مطلبا موسميا أو مجرد شعار يرفع ويردد في المناسبات العامة, وإنما هي حاجه لا يمكن الاستغناء عنها, وضرورة مجتمعية وقومية تقتضيها متطلبات اللحاق بركب الحضارة الأنسانية المتجددة, والدوران مع التطور البشري الجارف حيثما دار, وبعكس ذلك، فإن مكاننا سوف يكون موضعه في ذيل القافلة, ولن نتقدم إلى الأمام قيد أنمله, وهذا ما لا يقبله كل ذي بصر وبصيره.

ومما تجدر الإشارة إليه أن مصطلح الديمقراطية –في أدبيات الفكر المعاصر- يتضمن مفهوماً واسعاً وشاملاً, فقد أصبح لها على مستوى الاستخدام اللفظي والاصطلاحي والسياسي والفلسفي ما لا يقل عن ثلاثمائة تعريف مختلف, لذلك فمن الصعب أن نجد للديمقراطية تعريفا ثابتاً ومحدداً يعبر بدقه عن كافة محتوياتها, أو تفسيراً جامعاً و مفصلاً لجوانبها المختلفة.

غير أن أكثر هذه التعريفات شيوعا وتداولاً، هي أن الديمقراطية: كلمة إغريقية-يونانية الأصل- تعني حكم الشعب أو الحكم الذي تكون فيه السلطة للشعب, أي أن يحكم الشعب نفسه بنفسه, إما بالمشاركة السياسية أو بالتمثيل السياسي, وذلك من خلال إعطاء الحق لجميع المواطنين –سواء بسواء- في ممارسة العمل السياسي العام, وذلك لمنع أي شخص أو فئة من احتكار السلطة أو الاستئثار بالحكم, وتعدّ أثينا المكان الأول الذي تم فيه تطبيق هذا النوع من الحكم, وقد كان ذلك في القرن الخامس الميلادي.

وعلى الرغم من اختلاف الآراء وتفاوتها حول تعريف مفهوم الديمقراطية, فإنها جميعا تلتقي حول معنى أساسي واحد, وهو أن الديمقراطية وسيلة من وسائل الشعب لحكم نفسه بنفسه، وشكل من أشكال الحكم الذي يتم فيه صنع القرار بمشاركة الغالبية العظمى من أفراد الشعب أو الأمة, والذي يتجسد في واقع حي وملموس من خلال الدعوة إلى إجراء انتخابات عامة -حرة ونزيهة- وتطبيق مبدأ تفويض السلطات، وحق تأليف الجمعيات والأحزاب السياسية والانتساب إليها, وحق الوصول إلى السلطة, وتشكيل هيئات قضائية مستقلة عن سلطات الدولة, وسن الأنظمة والتشريعات الرامية إلى صون الحريات العامة, وحماية حقوق الإنسان, وتكريس قيم العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص، وسيادة القانون على الجميع–بدون إستثناء- وإلى ما شاكل ذلك من أشكال ممارستها.

ومن المتعارف عليه أن الديمقراطية تقوم على مبدأ حكم الأكثرية, على أن تتولى الأقلية دور المعارضة الوطنية البناءة, بمعنى امتثال الأقلية لرأي الأكثرية -وفي الوقت ذاته- احترام الأكثرية لرأي الأقلية, وحقها في التعبير عنه, بشرط أن لا تتجاوز حدود القانون، وحري بنا في هذا المقام لفت الانتباه إلى أن التعددية التي تنادي بها المبادئ الديمقراطية –لا تعني أن تدعي فئة أو جهة احتكار الحقيقة دون سواها, أو تظن أن من حقها توزيع صكوك المواطنة الصالحة والحرص على المصلحة الوطنية دون غيرها.

وينبغي علينا التنبه هنا أن الحريات –التي تكفلها المبادئ الديمقراطية- لا تعني أن يتعدى أحد على حرية غيره, فالحرية تعني احترام الفرد لحريته، وعدم التطاول على حرية الآخرين, ذلك أن الحرية المطلقة تؤدي إلى الفوضى والاضطراب, وإذا لم تكن منضبطه ومسؤولة تؤدي إلى التسيب والانفلات، وأخيراً وليس آخراً ينبغي علينا الإشارة إلى أن وجه الديمقراطية –المشرق- يتجلى بالحوار البناء الهادف إلى الاقناع والتفاهم بعيداً عن التعصب والهوى.

 

هذه هي حقيقة الديمقراطية

ومما يجب الانتباه إليه أن الديمقراطية –بصفة عامة- ليست نظرية سياسية أو مذهب فكري, وليست معلومات مجردة تحفظها الذاكرة, ويرددها الفرد دون وعي بمضمونها, وإنما هي ممارسة تتجسد في واقع حي وملموس بالسلوك الإنساني الواعي والمنضبط, كما أن نظامها لا يشكل في صميمه إيديولوجيا أو عقيدة –بأي وجه كان- وإنما هي في واقع الأمر عبارة عن منظومة قيمية متناسقة ومتكاملة, تختص بتنظيم السلوك الإنساني، وتحيط بجوانبه المختلفه، وتؤثر بشكل أو بآخر, في تحديد أنماطه, وتشكيل أبعاده, وضبط اتجاهاته، ومما ساعدها في ذلك هو أنها تفهمت طبيعة الوجود البشري واستوعبت الغاية من خلقه.

وبناء عليه, تم تصميم نظامها وتشريع أحكامها, وصياغة مبادئها –على النحو الذي عليه الآن- لتستجيب لاحتياجات المجتمع الإنساني وتنظيم مسلكياته المتشعبة, وبالتالي هي نعمة من نعم الله على الإنسان الذي كرمه الله, وجعل منه خليفة له بالأرض, ليقوم بإعمارها وفق ما أمر -جلت قدرته- غير أن ذلك لم يأتي طفرة واحده، وإنما جاء عبر حلقات متصلة من النضج الفكري والتطور البشري الموجه بهداية الوحي الإلهي نحو تنظيم مجرى السلوك الإنساني في الكون ليكون منظما تنظيما دقيقا.

وربما يقودنا تحليل مكونات هذه المنظومة, وتشخيص عناصرها, ومن ثم تفسيرها تفسيراً واقعيا, في الوصول إلى تحديد ماهيتها, ومنهجية ممارستها, والتعرف على الإطار المرجعي الذي ترتكز عليه, وتتأسس من خلاله, والوقوف على المعايير والضوابط التي تحكمها, فإذا ما تم ذلك, فإننا سنجد –بعد الرصد والتدقيق– أنها مكونة من مجموعة عناصر متنوعة ومتعددة تتفاعل وتتداخل في ما بينها، لتتكامل في نسق جامع لا تعارض فيه أو تناقض, لتشكل بمجموعها منظومة متآلفه ومتجانسة, تربط بين المكونات وتتناغم فيما بينها, ومن ثم تتحول في نهاية المطاف –بشكل تلقائي- إلى سلوك إنساني يتصف بدقة التنظيم.

وإلى حد بعيد, قد تبدو عناصر هذه المنظومة لأول وهلة, وكأنها مستقلة ظاهريا, ولكنها في حقيقة الأمر ليست كذلك، فهي متداخلة ومتشابكة بصورة دقيقة, بحيث يفضي بعضها إلى بعض, ولا يمكن لأي منها أن يقوم بذاته دون إعتماده على بقية العناصر الأخرى , إذ إن كلا منها يكمل الآخر ويحتمه أيضاً, ذلك أن فلسفة عملها قائمة على أساس ارتباط الكل بالجزء –ويصح العكس تماما- وبالمعنى السالف مكونات هذه المنظومة لا تقبل التجزئة, وإنما هي تتساند مع كافة العناصر لإكمالها وإتمامها, وبهذا المفهوم هي منظومة واحدة, ذات وجوه مختلفة, مندرجة في سياق بناء متماسك مترابط يشد بعضه بعضا, وهذه المنظومة لها أصولها وضوابطها وشرائطها وقواعدها التي لا تقوم بغيرها, ولا تقتصر على الأخذ بجانب دون الآخر, أنما هي اتجاه شمولي يطال مختلف الجوانب.

وربما لا يكون من المغالاة القول أن النظام الديمقراطي يعد-بلا ريب- نظاما دقيقا ومتطورا- لا يجاريه اي نظام وضعي آخر- ويمثل نهجا مسلكيا متفردا في نوعه، فهو يحمل فكرا متقدما ترك في الفكر الإنساني أثرا يصعب قياسه, كما أن رقعة تداوله واسعة جداً، وتشهد اقبالا منقطع النظير، ولا يظن ظان بأننا نهدف من هذه الإشادة إلى تعظيم الديمقراطية, وإنما هدفنا هو لفت الأنظار إلى أنها وسيلة مهمه لا يمكن الاستغناء عنها, أو التقليل من أهميتها التي تزداد يوما بعد يوم.

ونحاول أن تتوقف هنا ونتساءل, لو تتبعنا المضامين الأساسية التي اشتملتها المبادئ الديمقراطية, وما تنطوي عليه من خصائص فريده ومزايا سامقة, وعلى ما لها من فوائد يصعب حصرها, فهل نأتي بجديد إذا ما قلنا أن الديمقراطية ليست أسلوب حياة, ونمط تعامل, وأداة تواصل فحسب, بل هي –أيضاً- إلى جانب ذلك كله قد شكلت ثقافة –قائمة بذاتها– يستطيع أن يفهمها الناس على اختلاف مستوياتهم العقلية والفكرية, وإذا كانت بذلك القدر من الأهمية, فإن هذا يعني بأنها تصلح للناس جميعا, على اختلاف ألوانهم وأجناسهم وأوطانهم, فهي لا تميز بين صغير وكبير أو غني وفقير, ولا يستأثربها قوم دون آخر, ولا تنحصر بأمة -بعينها- دون غيرها من الأمم, إنما هي ملك للإنسانية جمعاء.

وفي الوقت ذاته, هي لا تقتصر على زمان معين أو مكان محدد, مما يوحي بأنها ستبقى صالحة, مهما تعاقبت الأزمان أو تغيرت الأمكنه, أو تغير الناس في طرائق معيشتهم أو أساليب حياتهم, وإذا كان الأمر كذلك، فلا غرو -إذن -إن قلنا هي خير لا شك فيه- ولا تشوبه شائبة- وأمر مسلم به ولا يمكن مغالبته أو معاندته أو اسقاطه من الاعتبار, ذلك أن الوقوف في وجهها أو محاولة تجنبها, إنما هو خروج عن لغة العصر وتخلف وراءه, لأنها أصبحت في عالم اليوم أشبه بالمسلمات التي تفرض وجودها في الحياة، ولا غرابة في هذا, لا سيما إذا علمنا أنها مما هيأه الله لاسعاد البشرية وخدمتها, ومما سخره لتطوير حياتها نحو الأفضل.

وبالمناسبة, الديمقراطية لا تقدم نفسها بسمو مبادئها أو بنبل مقاصدها, أو باتساع نطاق تداولها, أو بقدرتها التلقائية على مواكبة حركة الزمن والحضارة, ومسايرة روح العصر ومستحدثاته, وإنما هي تقدم نفسها بما تحتويه من نهج عملي، ورؤية شمولية تكاملية مبنية على قواعد –مسلكية- منضبطة في أحكامها, وبما تتميز به من يسر وسهوله وقدرة على استيعاب مراحل التطور البشري, وبما جاءت به من صلاح للفرد والجماعة, وبما تمتلكه من وسائل لتحسين نوعية سلوك الناس, وتغير واقع حياتهم –قدر المستطاع- نحو الأفضل, وأثر ذلك في بناء مجتمع سوي وفاضل, وكل هذا يوحي إلى أنها –بحكم ذلك- أداة مثالية لإدارة الحكم وممارسته, كونها تفضي بالنهاية إلى رقي المجتمعات رقيا عصريا, وحين المقاربة بما سبق من خصائص ومزايا فريدة, ندرك بأنها السبيل الأمثل إلى الترقي والتحضر في الحياه.

وعلاوة على ما تقدم, إذا ما عدنا إلى الوراء قليلا, وحاولنا النظر إلى مبادئها المتداولة -نظرة متفحصة- ومن ثم معاينة فلسفتها القائمة- بصورة دقيقة– فإذا ما تم ذلك، لرأينا أنها تلتقي وتتقاطع –نصا وروحا- مع كثير من القيم والمبادئ التي تنادي بها تعاليم الدين الإسلامي الحنيف, وهذه قيمة جديده ترفع من منزلتها, والحقيقة التي نريد تأكيدها أن الديمقراطية من المنظور الإسلامي ليست غريبة عنا كعرب ومسلمين -بأي وجه كان- ولا تحتوي على وجود أي مخالفة لأصول الشرع –بأي صيغة من الصيغ- وإنما هي بنصها وروحها تحقق ما جاءت به الشريعة الإسلامية، التي تستوعب النشاط الإنساني كله, وتنظم كل جزئية من جزيئاته.

ولعلنا لا نجانب الصواب إذا ما ذكرنا أن العرب والمسلمين هم من استوحى فكرة الديمقراطية –بمفهومها الحديث- لأول مرة, وهم الذين وضعوا تصورا أوليا لقواعدها, فلم يقتبسوها عن غيرهم, ولم يترجموها عمن سبقهم -فالعكس هو الصحيح- لم يسبقهم إليها أحد بل كان لهم الفضل الأكبر في صياغة مبادئها, مثلما كان لهم قصب السبق في تطبيق قواعدها التي عمت العالم بعد قرون من مسيرة التاريخ البشري, وقد تطورت بتدرج مراحل النضوج الفكري, ورقي الحضارة الإنسانية.

ومما لا مراء فيه أن الحضارة الإسلامية التي سخرت نفسها لخدمة البشرية جمعاء, والسير بها نحو المثل العليا, قد كانت منهلا سائغا استقت منه الحضارة الغربية –عبر حركة المستشرقين والترجمة- العناصر الأولى لنهضتها العلمية وتقدمها الفكري, وأن مبدأ الشورى هو الذي أوقد الشعلة التي أضاءت أمامهم الطريق -فيما بعد- للتعرف على مبادئها وقواعدها، وهذا يعني بحكم ذلك أننا -كعرب ومسلمين- قد سبقنا الحضارة الغربية في إقرار مبادئها وتكريس نهجها كأسلوب ناجح في إدارة الحكم وممارسته.

وفي الحق أن الحضارة الغربية –مع مرور السنين- قد أجرت عليها بعض التعديلات والإضافات –التي أملتها التطورات التي طرأت على مفهوم الدولة الحديثة- دون المساس بجوهرها الأصلي والذي عرفته عن طريق الحضارة الإسلامية, واستنادا إلى هذا الفهم، فليس هناك ثمة تناقض بين أن تكون فكرة الديمقراطية مستوحاة من مبدأ حكم الشورى في الإسلام, والذي ورد -في مواضع عدة- بصريح آيات الكتاب الكريم ونصوص الحديث النبوي الشريف, وبين أن يكون هناك -في الوقت ذاته- دور للحضارة الغربية في تطوير آلياتها وصياغة نظمها الحديثة.

ومن المهم أن نلاحظ هنا, بأن مصطلح الديمقراطية –بالمعنى الشائع- هو لفظ أعجمي ومستحدث في لغة العرب, ويذهب البعض إلى أنه دخيل -في أصله- على ثقافتنا وغريب عن حضارتنا, إذ إنه يوناني الأصل ومصدره مشتق من كلمة إغريقية تعني حكم الشعب, أو الحكم الذي تكون فيه السلطة للشعب، بحيث يكون هو سيد نفسه في صنع القرارات لكل ما يتعلق بشؤونه من النواحي الحياتية العامة، سواء كانت سياسية أم اقتصادية أو اجتماعية، فالمواطن هو الذي يعطي مجلس الشعب أو الأمة السلطة التي يتمتع بها نيابة عنه.

وعلى الرغم من أن مصطلح الديمقراطية لم يكن معروفا لدى فقهائنا المسلمين الأوائل, وقد ظهر في عصور متأخرة, ولم يرد بصريح العبارة في الفقه الإسلامي -في أي من مذاهبه الاجتهادية- إلا أن جوهره ومعناه مستقرا فيه ضمناً, ومتسقا في مراميه ومضامينه مع الأصل الذي قام عليه التشريع الإسلامي كله, وذلك بما نهض به من أدلة في القرآن الكريم والسنة النبوية الثابتة, اللذين هما المصدر الأول للتشريع الإسلامي.

هذا ويمكن الاستدلال والاستشهاد بعدد من آياته البينات, وكذلك ببعض النصوص النبوية الشريفة، التي تدل بمجموعها على صحة هذا الاستنباط الدقيق, ومن الأمثلة التي يمكن أن نسوقها على ذلك هو ما جاء بقوله تعالى في سورة البقرة (لا إكراه في الدين) وكذلك قوله تعالى في سورة المائدة (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط, ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا, إعدلوا هو أقرب للتقوى, واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون) ولا أريد الخوض في سوق الأدلة الشرعية أكثر من ذلك, فيكفي أن أشير إلى قوله تعالى في سورة النساء (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل)صدق الله العظيم

 

الديمقراطية من وجهة نظر إسلامية

وقبل أن نميط اللثام عن حقيقة رأي الإسلام بالديمقراطية, ونظرته إليها, وبيان موقفه إزاء التعاطي معها, وتكريسها نهجا صالحا في إدارة الحكم وممارسته في المجتمع الإسلامي, وقبل أن نسترسل في سبر أغوار هذه الحقيقة, واستجلاء عما اعترى بعض جوانبها من لبس أو غموض, وذلك من خلال استنباط الحكم الشرعي الذي يكشف عن وجهها الصحيح, ويبين مدى إتفاقها واختلافها مع مبادئ الشريعة الإسلامية, وبالتالي استخلاص قاعدة شرعية يركن إليها, قد يكون من الضروري أن ننبه -قبل هذا- على أن جاهيلة البعض في فهم حقيقة هدي تعاليم هذا الدين الحنيف, وعدم قدرتهم على استلهام مقاصده ومراميه الصحيحة, يدفعهم إلى الاعتقاد –الخاطئ- بأن القيم والمبادئ التي تنادي بها الديمقراطية تتعارض -كليا أو جزئيا- مع ثوابت الشريعة الإسلامية, وتخالف أحكامها ونصوصها الغراء, التي ما تركت لا شاردة ولا واردة إلا وتصدت لها بما يقتضي ويستوجب, متجاهيلين أن ما من قضية تمس حياة البشر إلا وفي القرآن الكريم والسنة النبوية ما يعالجها.

ليس هذا فحسب, بل إن جاهيلتهم بأصول الحضارة العربية الإسلامية العريقة, وجذورها الراسخة منذ ما ينوف عن أربعة عشر قرن خلت, بالإضافة إلى غفلتهم عن إدراك مدى النقلة النوعية الفسيحة التي أحدثها الفكر العربي الإسلامي في الحياه الإنسانية قاطبة, يدفعهم إلى الظن عن جهل وعماية أن هذه القيم والمبادئ دخيله على مجتمعنا, ولا تنسجم أو تتوافق مع عاداته وتقاليده وتراثه الخالد, ذلك أنهم توهموا أن أصولها ومصادرها مستقاة من الحضارة الغربية, وأنها جاءت وافدة إلينا في ركاب الغزو الفكري والثقافي جراء الحملات الصليبية والمغولية, والهجمة الاستعمارية والتبشيرية التي تعرضت لهما الأمة العربية والإسلامية.

ويا ليت أن الأمر اكتفى عند هذا الحد فحسب, بل إن نطاق تفكيرهم الضيق جعلهم يتوهمون أيضاً أن الإقبال عليها وتطبيقها يعني فقدان الهوية, وإنعدام الشخصية, والقضاء على مقوماتها, ويقطع الصلة بيننا وبين تراثنا الخالد, ويشكل تمردا على مألوف التقاليد, وإخلالا بمنظومة القيم والمبادئ التي يتحلى بها المجتمع العربي والإسلامي.

وهذا بلا أدنى ريب زعم باطل, ولا أساس له من الصحة, ويفتقر إلى الموضوعية, وفيه تجني وإفتئات على الشريعة الإسلامية, ويدل- مما يدل- على أن هناك فهم قاصر لمقاصدها وأغراضها السمحة, فليس في الديمقراطية -قديمها وحديثها- ما يخالف أحكام الشريعة, أو ما يصادم أي نص من نصوصها, وهناك أدلة شرعية تثبت ذلك, والأمر الذي لاشك فيه أن جوهر القيم التي تنادي بها الديمقراطية, وجل المبادئ التي تسعى إلى تكريسها, لا تتعارض مع ثوابتها العامة –في أي جانب من جوانبها-وإنما هي منسجمة معها جملة وتفصيلا, وتحقق ما جاءت به وحثت عليه تعاليمها السامية التي لم يرقى إليها أي تشريع آخر.

ومن السهولة بمكان الوقوف على هذه الحقيقة وتجلية جوانبها وتبيان وجهها الصحيح, وكتوطئة لذلك، فإن الربط الواعي بين الغاية التي تنشدها هذه القيم والمبادئ الديمقراطية, وبين المقاصد التي تهدف الشريعة الإسلاميةإلى تحقيقها, يعيننا على تجلية جوانب هذه الحقيقة –التي لا يتطرق إليها الشك- واستخلاص التصور السليم واستنباط الحكم الشرعي, ومعرفة أن العلاقة بينهما التي تتطابق في الهدف والفلسفة العامة -تطابقا تاما- هي في الواقع علاقة جوهرية, تتعدى الصيغ النظرية, وتصب في خدمة الإنسانية, وترفدها بما ينفعها، ويقضي حوائجها, ويلبي مصالحها.

أما ما يؤكد هذا الاستنباط الدقيق فإن أصدق ما يقص خبره هو قوله صلى الله عليه وسلم- في صحيح حديثه -(ما رآه المسلمون حسناً, فهو عند الله حسن) وكذلك انسجامه مع القاعدة الشرعية المقررة التي تبناها شيخ الإسلام ابن تيميه حينما قال (حيثما تتحقق المصلحة فثم شرع الله)، وأخيرا وليس آخرا هو استناده إلى ما ذهب إليه جمهور الفقهاء -بالقياس والاجماع- من أن الحكم على الأمور يجب أن يكون بناء على مقاصدها، فإذا كانت تلبي الحاجة وتفي بالمصلحة, وتدفع المفسدة, فلا ضير من إباحتها وجوازها، ما دامت محصورة في نطاقها الذي لا يخرجها عن الغاية التي كانت ترجى لها.

كما أن الدارس للشريعة الإسلامية السمحة, يجد أن أحكامها وتعاليمها –التي لا تمارى-تراعي مصالح الناس وتؤمن متطلبات حياتهم وضروراتها, ولا تقف عائقا أمام مقتضيات التطور البشري، ذلك أن الإسلام قد دعى المسلمين في كل عصر و مصر إلى الأخذ بجميع الأسباب والسبل المؤدية إلى رقي المجتمع الإسلامي وتقدمه, ويتجلى ذلك بوضوح من خلال المرونة التي يتمتع بها الفقه الإسلامي, والذي ترك أبواب الاجتهاد مشرعة على مصرعيها أمام علماء المسلمين، وذلك لمعالجة كل ما يطرأ أو يستجد من أمور لبيان الحكم الشرعي في المسائل النازلة –التي لم تكن في عهد فقهائنا الأوائل ليعالجوها- وتخريجها على قواعد الشريعة وأصولها السمحة قال تعالى في سورة النحل (فسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون).

وكل هذه الحقائق توصلنا إلى أن الفقه الإسلامي غير متحجر أو متصلب، ولم يكن يوما ما في حالة تجمد أو سكون أو ثبات، فهو يطاوع التطور ويماشي مسيرة الحياه, ويساير روح العصر, ويواكب التغيرات التي تطرأ على المجتمع الإسلامي، وذلك إستنادا إلى القاعدة الفقهيه المقررة في مراجعه المعتبرة التي تنص (لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان).

وتأصيلا على ما تقدم, فقد أجار الفقه الإسلامي إستنادا إلى نصوص شرعية صريحه وقطعية الثبوت والدلالة، كافة السبل والوسائل التي تفضي إلى إقامة مجتمع إنساني فاضل يتصف بالتكافل والتعاضد والتعاون، وتسوده القيم المثلى من الحق والعدل والحرية والمساواة، وذلك وفق الضوابط الشرعية المقررة وفي إطار الحدود المرسومة لها والتي حددها الإسلام وصاغتها المرجعية الأسلامية.

ولم يكن إقبال الفقه الإسلامي على ذلك، إلا لأن فضل ومنزلة منظومة هذه القيم والمبادئ قد ورد -في مواضع عدة -بصريح آيات الكتاب الكريم ونصوص الحديث النبوي الشريف، التي تحدد سلوك المسلمين أفرادا وجماعات, وتنظم شؤون حياتهم في كل زمان ومكان، وتحرص -كل الحرص- على جلب النفع لبني الأنسان وتحقيق رفاهيته وسعادتة, وتمكينه من أداء رسالته في الحياة الدنيوية, وبلوغ الغاية التي يحيا من أجلها، وقد أوردت لتحقيق ذلك وسائل وآليات متعددة مبسوطة في الأحكام الشرعية.

ومن يزن الأمور بميزان الشرع ومنهج الدين الإسلامي القويم، سيجد أن إقرارها وإجازتها كان نابعا من الفهم الصحيح لمقاصد الشريعة الإسلامية، التي بنت مقاصدها على أساس تحقيق مصالح العباد واسعادهم, وجلب الخير والمنفعة لهم. ودفع الضرر عنهم وتوثيق عرى التواصل بينهم، وتنظيم شؤون حياتهم العملية أفرادا وجماعات, كما أن الحضارة الإنسانية عبر تاريخها العريق ومسيرتها الطويلة-منذ عصر الإسلام الأول- قد أعطت مثلما أخذت من ثقافات الأمم والشعوب الأخرى كل ما هو صالح ونافع ومفيد، ليؤصل أسباب الحضارة فيها، فالحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق وأجدر بها.

وإذا كان المقام لا يستوعب الحديث المفصل، فإننا نذكر على سبيل المثال -لا الحصر- أن الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قد أمر بنقل نظام الدواوين الذي كان مستخدما حينذاك في الحضارتين الفارسية والرومانية، وطالب من علماء المسلمين تعريب هذه الأنظمة حتى يسهل استخدامها وتؤدي الغاية التي كانت ترجى لها.

أضف إلى ذلك أن هذه القيم والمبادئ –الديمقراطية- أغلبها شرقي، وتعود في أصولها إلى الحضارة العربية الإسلامية التي كانت منطلقا لنهضة أوروبا الحديثة، وسرا من أسرار تقدمها, فقد اقتبس الأوروبيون فكرتها عن العرب ولم تكن معرفة لديهم من قبل, وذلك بحكم التفاعل الحضاري الناتج عن التلاقح الذي حدث ما بين الفكر الثقافي العربي والفكر الأوروبي, وبذلك فليس لأي حضارة فضل على حضارتنا في هذا المضمار, ولا غرو في ذلك لاسيما إذا ما علمنا أن النهضة العربية قد سبقت النهضة الأوروبية بستة قرون، والتي ربما يكون تاريخها إلى ما قبل ذلك, بعد أن تفرد العرب -حينذاك- في معرفة ما لم يكن يعرفه غيرهم من الأمم والشعوب الأخرى، فحينما كانت أوروبا غارقة في سبات عميق، كان العرب في القرون الوسطى قوامين على علوم القدماء, وضربوا بسهم وافر في مختلف ميادين المعرفة الإنسانية، ولولاهم لتأخرت نهضة أوروبا الحديثة قرون لا يعلم مداها إلا الله, وقد اعترف المنصفون من علماء الغرب بفضل العرب على حضارتهم, وحسبك أن تعلم ما قاله (جوستاف لوبون): "ما من مؤلف أوروبي حتى القرن الخامس عشر إلا وعلمه منقول من علوم العرب".

ومن أجل تقديم ما يعين على الإحاطة بالموضوع بدون تكلف عناء الرجوع إلى المصادر, نشير إلى أن مقاصد الشريعة تحمل في جوهرها كل القيم التي تنادي بها وتسعى إلى تكريسها المبادئ الديمقراطية, كالحرية والعدالة والمساواة, وفي هذا الشأن فقد قررت الشريعة الإسلامية مبدأ المساواة بين جميع البشر-وإن اختلفوا في العرق أو اللغة أو الدين- فلا فضل ولا ميزة لأحد عن الآخر -أيا كان عرقه أو جنسه أو لونه- إلا بالتقوى والعمل الصالح والعلم النافع, فالتقوى وحسن الأداء الإستقامة هما أساس المفاضلة بين الناس.

وباستقراء نصوص الشريعة المتعلقة بأحكام الميراث والزكاة, يتضح أنها تعمل على تحقيق توزيع عادل ومتوازن للثروات, ولا أريد أن أخوض في سوق الأدلة الشرعية على عدالة الإسلام, ويكفي أن أشير هنا أن من فضل الله وعدله بأن جعل جميع البشر من أصل واحد, فجميعهم من آدم وآدم من تراب, ثم جعل مصير كل إنسان الموت, وذلك بأن تفارق روحه جسده, فلا يستثني الله تعالى أحداً من هذا المصير المحتوم, سواء كان فقيرا أم غنيا, صغيرا أو كبيرا فالجميع سواسيه أمام الله -أيا كانت المناصب والمراتب والمقامات- إسمع قول النبي عليه الصلاة والسلام (لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها).

إن أصدق الكلام هو كلام الله تعالى، وقد جاء في محكم كتابه العزيز أنه -جل وعلا- قد جعل من الإنسان خليفة له في الأرض، وهذا الخليفة مكلف بمهمة محدده, وهي نشر العداله الإلهية والشهادة على وحدانية الله وتفرده, وأداء الرسالة التي عهد بها إليه, وبعد أن بعث إليه الرسل والأنبياء، وبين له سبل الهداية والرشاد، وأبعده عن طرق الضلال والفساد, ترك له حرية الاختيار بعد ذلك، قال الله تعالى في سورة البقرة: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي)

وقد قام عدل الله تعالى على أساس تسجيل جميع ما يصدر عن الإنسان من أعمال وتصرفات وذلك ليجازيه عليها يوم القيامة, فإن كانت خيرا فأجر وثواب, وإن كانت شرا فعقاب وعذاب, ذلك أن لله -جلت قدرته -ميزان يزن فيه أعمال خلقه الحسنات منها والسيئات, قال تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره, ومن يعمل مثقال شر يره).

ومن وحي ذلك التوجيه الرباني أنبثق المبدأ الذي ينادي أن حرية الإنسان يجب أن تكون منضبطة ومسؤولة، فقد وهب الله الإنسان العقل وميزه عن سائر مخلوقاته بنعمة الإدراك والفهم, ومنحه حرية التفكير والاعتقاد والاختيار, وأعطاهحرية إعتناق الدين الذي يقتنع به, وترك له حرية الإيمان أو الكفر, وذلك حتى لا تكون حياة الإنسان مبنية على الدجل والنفاق , قال تعالى (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فاليكفر).

 

الإسلام وحقوق الإنسان

وقد أقر الإسلام حقوقا لغير المسلمين -من الشعوب التي تعيش في ظله- لا نجد لها نظيرا في أي ديانة أخرى, فقد جعل من حق الزوجة اليهودية أو النصرانية على زوجها -إذا كان مسلماً- أن لا يمنعها من الذهاب إلى مكان تعبدها, كما أن الحرية التي وجدها أهل الذمة في رحاب الدولة الإسلامية –حرية القيام بشعائر الأديان والعقائد- لم يتح لهم مثلها في أي مكان آخر, ولا عهد للتاريخ بمثلها من قبل, وما كتبه النبي عليه الصلاة والسلام إلى أهل نجران كان تعبيرا صادقا على ذلك, حينما قال (ولنجران وحاشيتها جوار الله وذمة محمد النبي رسول الله على أموالهم وملتهم وبيعهم وكل ما تحت أيديهم من كثير أو قليل).

ولعل من المناسب في هذا المقام الإشارة إلى أن اليهود عندما تعرضوا للتنكيل والاضطهاد في أوروبا والأندلس-بعد الاحتلال الصليبي لها-لم يجدوا ملجأ وملاذا إلا في رحاب الدولة الإسلامية, وفي موقف يذكره التاريخ رد عمر بن العاص البطريرك بنيامين إلى كرسيه بعد تغيبه عنه ما يقرب ثلاثة عشر سنة, ليس هذا فحسب, بل أمر باستقباله وإكرامه.

ومن الحقائق الثابتة أن الحقوق التي أعطاها الإسلام للمرأه -لم تحصل عليها إلا بعد ظهوره- ونذكر على سبيل المثال حق الميراث الذي كانت محرومة منه في الجاهلية, والأمر نفسه ينطبق أيضاً على حق اختيار الزوج، كذلك أعطاها حقوقا لم تحصل عليها المرأة الفرنسية إلا في قانون عام 1965م كل هذا -وغيره كثير-هو ما جعل من الإسلام متقدم تاريخيا على الحضارة الغربية والأنظمة المعاصرة–التي لا تدانيها منزلة- في موقفه من صون حقوق الإنسان وحرياته, التي أقرها قبل نحو أربعة عشر قرنا خلت من صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان, والذي صدر في عام 1948م.

وبعد كل هذا الذي قيل، أود أن أضيف بأن النبي قد أكد في توجيهه للمسلمين على ضرورة صون حقوق غير المسلمين من أي تجاوز أو تعسف, وحمايتهم من كل أشكال التفرقه والتمييز المستنده إلى أساس عنصري, ودعا عليه الصلاة والسلام إلى تحرير الرقيق, بالكتابة والكفارة وغيرها, وأمر بتحسين معاملته حتى يحسب الكرامة الإنسانية الذاتية, وإلى هذا أشار النبي عليه الصلاة والسلام بقوله (من قتل عبده قتلناه, ومن جوع عبده جوعناه, ومن أخصا عبده أخصيناه) ومن يقرأ سيرة النبي ويتأمل مسيرته العملية العطرة, يجد في جوانب حياته الكريمة الكثير من مثل هذا المواقف الجليلة.

وإذا ما عاد أي منا إلى مجرى التاريخ -في مختلف عصورة- وحاول أن يستنهض ذاكرته, فإنه سيجد أن البشرية ومنذ بدء الخليقة, لم تعرف عبر مسيرتها الطويلة, نظاما متكاملا ومتوازنا في أحكامه وتشريعاته, إلا بعد ظهور نظام الحكم الإسلامي, الذي كان سببا في إنقاذ البشرية من الوهدة التي تردت فيها, واستطاع دون غيره من الديانات الأخرى, إطلاق العقل من أساره, وتحريره من أغلال الخرافات والبدع, وانتشاله من غياهب الأساطير والأباطيل والمناكير، التي كانت ثمره من ثمرات البدائية والجهل الذي كان سائدا حينذاك.

ومن الملفت للنظر, أن أرقى التشريعات التي توصلت إليها الحضارة الإنسانية قبل نزول الوحي وتبليغه الدعوة كانت هي التشريع الروماني, والذي كان غير واقعيا أو منطقيا ومثيرا للسخرية والغرابة في كثير من نصوصه وأحكامه، تخيل -عزيزي القارئ- فقد كان يحاكم الجماد والحيوان, وينزل بهما العقوبه, أنظر على سبيل المثال, كيف كان يتم بمقتضى هذا التشريع تقديم الحجارة والأتربة للمحاكمة, ويصدر عليها حكما بإبعادها وترحيلها خارج حدود البلاد, فقد كان ذلك مظهرا من مظاهر سذاجة هذا التشريع, أما المظهر الثاني -وغيره كثير- فقد كان يحكم على الشخص المدين الذي لا يستطيع الوفاء بالدين بالرق، فيضع الدائن حبلا في عنقة ويتملكه, عوضا عن سداد الدين الذي بذمته.

ولئلا يتشعب الحديث ويطول أكثر، نقول إن نظام الحكم في الإسلام- المنبثق عن الدين الحق, الذي ارتضاه الله للبشرية كلها- ينبثق عنه نظام كامل وشامل يضبط جميع الممارسات الإنسانية, ويدخل في نطاقه كل سلوك إرادي صادر عن الإنسان, ويحيطه بسياج منيع من القيم والأخلاق الفاضلة, فهو ينظم كل ناحية من نواحي الحياة العامة والخاصة, ويجمع بين تلبية متطلبات الجسد, وإشباع حاجات الروح، ويحدد حقوق كل فرد, ويوضح ما عليه من واجبات- دون تميز جانب على آخر- ويضمن تحقيق الحياه الكريمة لكل إنسان, ويصون كرامته, ويكفل حريته, فهو لا يظلم أحد, ولا يهضم حق أحد، ويوفر للحياه البشرية كل أسباب التقدم والنهوض والنجاح, ويسير بها نحو المثل العليا.

وفي ضوء هذه الحقائق التي سبق إثباتها ومقطوع بصحتها، يعدّ نظام الحكم في الإسلام -بما فيه من مبادئ وتشريعات وأنظمة عادلة- نظاما سويا لا إعوجاج فيه ولا إنحراف, ونظاما متوازنا لا تفريط فيه ولا إفراط, فهو يعطي كل شيء حقه, ولا يغالي أو يبالغ في إشباع أي جانب من جوانب الحياة, كما أنه يقوم على منهج عملي يبين الغايات ويحدد المقاصد, ولذلك مهما تداورت الأيام وتعاقبت الأزمان, سيبقى صالحا لكل زمان ومكان.

هذا، وتتجلى عظمة الإسلام في مرونته وبساطته, فهو من أكثر النظم سماحة ويسرا, ومن أكثرها استعابا وشمولا, فالشريعة لا تعارض الاجتهاد الذي شرعه الله تعالى, ليتعرف الناس -بتدرج مراحل تطورهم- على الأحكام غير المنصوص عليها في الكتاب والسنة, ولم ينعقد عليها اجماع المجتهدين في عصر من العصور, وذلك من خلال استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية في الشريعة -لحل المشكلات الناشئة أو الحوادث الواقعة أو الممكنة الوقوع- في كل عصر ومصر, ذلك أن المسلمين سيواجهون باستمرار مستجدات وتطورات تحتاج إلى حلول مناسبة, ومستمده من نصوص الشريعة وروحها.

وإذا ما عدنا إلى الإجتهاد في سيرته الأولى -في عصر الخلافة الراشدة- إثر وفاة النبي عليه الصلاة والسلام، فأننا سنجد أنه كان يتسم بطابع الشورى حيث كان الخلفاء الراشدون يجمعون الصحابة للتباحث والتشاور وإبداء الرأي في الحوادث الطارئة, ويستشيرونهم في استنباط الحلول الشرعية المناسبة، وذلك وفقا للتوجيه القرآني للشورى والتي هي أصل من أصول الحكم الإسلامي, فالله خاطب نبيه الكريم بقوله تعالى (وشاورهم في الأمر) وكذلك قوله تعالى واصفا حال المؤمنين (وأمرهم شورى بينهم).

وبالنظر إلى ذلك يمكن القول: أن نظام الحكم في الإسلام ليس نظاما فرديا, فهو يجسد في نواحيه العملية مبدأ حكم الاغلبية, ويقوم على أساس تمثيل الشعب وإستشارته والإستئناس برأيه، والإستفاده من خبرة أهل العقد والحل فيه, على أن يتم كل ذلك في أجواء من الحوار الهادف البناء, الذي يحرص على مصلحة سواد الأمة وعامة الشعب, بعيدا عن الهوى والتعصب، ودون أن يتنازل أحد بالضرورة عن رأيه أو موقفه.

ولعل مما نخلص إليه هنا أن نظام الحكم في الإسلام, ليس نظام فرديا أو متعصبا -دكتاتوريا- بأي وجه كان, ذلك أن فلسفة الديمقراطية ومنطلقاتها الأساسية, متماشية جملة وتفصيلا, مع قاعدة حكم الشورى بالإسلام, الذي أعتبرها قاعدة من قواعد الحكم الرشيد, ووسيلة من وسائل تنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم, وضرورة لازمة لتطوير حياة الأفراد والمجتمع والدولة, بها يستئنس الرأي الواحد بالأراء والمواقف المختلفة، وذلك لتقيم الأمور من منظار مشترك وليس من وجهة نظر واحدة, وبها تتلاقح الأفكار والتوجهات مع بعضها البعض, لتستعين بذلك على معرفة وجه الصواب من الخطأ, واستبيان صحة المنهج, واستخلاص التصور السليم الموصول إلى القرار الصحيح.

على أن مما يجب الانتباه إليه أن الديمقراطية بجميع أركانها وقواعدها, وبكل مبادئها وقيمها, هي ظاهرة من الظواهر الإنسانية التي أوحاها الله إلينا بهداية الوحي الإلهي -الذي لا يضل- لتهذيب السلوك الإنساني, وتنظيمه في كل ناحية من نواحي الحياة العملية, ذلك أن الإنسان بطبعه ضعيف ويعتريه النقص, ومهما بلغت مداركه أو تعاظمت قدراته العقلية والجسمية, فهو محدود الفكر-ولا يدرك شيئا من المغيب عنه- وبالتالي فهو لا يستطيع رسم طريق سعادته ورفاهيته بنفسه, دون الاستعانه بتشريع إلهي, فالله هو الخالق الذي خلق النفس البشرية، وهو من نفخ الروح فيها, وهو الذي يعلم ما يضرها وما ينفعها, وهو الذي يعلم ما يتوافق مع فطرتها ويستوعبها, وبالتالي هو –وحده- صاحب الحق في وضع النظام الذي تسير عليه البشرية في الحياة الدنيوية, فكل ما يأتينا من عند الله -الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه-يحقق الغرض المرجو منه, بخلاف ما يصدر عن البشر من مناهج وضعيه، فلا بد أن يعتريها خلل أو نقص شأنه في ذلك شأن أي عمل إنساني آخر, قال تعالى في سورة الملك (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير).

والحقيقة التي نسعى إلى تأكيدها منذ البداية، بما أن الله تعالى عليم ومحيط بكل شيء-بما فيه عالم الغيب- ومتعالي بصفات الكمال المطلق من كل وجه, ومنزه عن الخطأ والزلل, وهو خالق النفس البشرية, فهو يعلم –إذن- ما يتجاوب مع طبيعتها، وما يتوافق مع فطرتها التي فطرها جلت قدرته عليها, فأودع فيها العقل البشري، ووهبها نعمة الإدارك والفهم, وميزها بهذه الخاصية عن سائر مخلوقاته, وجعلها موجهة في مسيرها, وخاضعة لنظام موحد, وسخركل ما في الكون لتحقيق منفعتها ومصلحتها, وتلبة مطالبها وقضاء حوائجها, وذلك لتحقيق مبدأ الإستخلاف في الأرض وعمارتها, وحمل الرسالة السماوية, فنظام الكون المحكم المتناسق لم يخلق هكذا عبثا, وإنما خلق لغاية عظيمة, وكل قوانينه وخصائصة ونواميسه, إنما وجدت لتهيء للبشرية سبل الحياة الكريمة على هذا الكون, وتلك هي سنة الله في خلقه, حتى يرث الأرض ومن عليها, قال تعالى في سورة الجاثية (وسخر لكم ما في السموات والأرض جميعا منه).

ولسنا نشك بعد ذلك كله في أن التنكر لهذه الحقائق -المقطوع بصحتها- غير جائز شرعا وعقلا, لما فيه من إنكار لحقائق علمية ثابته قدرها الله تعالى لمنفعة البشرية, ولما فيه أيضاً من تجاهل لدلائل تثبت بالدليل القاطع قدرة الله وكماله المطلق, ولما فيه أيضاً من تعامي عن آثار تستحضر عظمته، وتظهر بالبرهان الساطع أن لهذا الكون خالقاً مدبراً ومتحكماً ومالكاً, ينظم كل جزيئة من جزيئاته, فكل شيء فيه يسير بنواميس ثابته, ويتم وفق نظام وتقدير خاص وحساب معلوم, وكل شيء يحصل فيه هو صادر عن علم الله وإرادته, التي هي فوق كل إرادة, ولو اختلف شيء عما أراده–جلت قدرته- لما أمكنت على هذه الأرض حياة, قال تعالى في سورة فاطر (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ).

وما يهمنا هنا أن الإنسان -كائن من كان- يقوم بجميع الأعمال الدنيوية إما لقضاء احتياجاته العضوية, أو لاشباع غرائزه وتحقيق رغباته الذاتية, وفي مثل هذه الحالة, تنشأ لدية روابط وعلاقات ما بينه وبين كل من له علاقه بتحقيق هذه الغاية، لذلك فمن البديهي أن يكون الإنسان خاضع إلى نظام معين يحكم سير حياته العملية, فينظم به طريقة سلوكه، ونمط تعامله مع الآخرين من بني جنسه, وينبغي أن يكون هذا النظام مرتبط بواقع الإنسان, ومنسجما مع ما توصل إليه من تقدم ورقي حضاري, بمعنى أن يكون هذا النظام محققا لمصالحه, وملبيا لمطالبه واحتياجاته القائمة, بحيث يضمن له جلب المصلحه، ودرء المفسده, وهذا هو جل أو كل ما تهدف إليه العملية الديمقراطية.

ومن المهم أن أبين هنا, أن الظواهر الإنسانية والطبيعية وحتى الغيبية, هي سنة من سنن الله تعالى, يصل إليها الإنسان بعقله, ويفتح مغاليقها بعلمه, فالإنسان بفطرته يشعر بالحاجة إليها, والاعتماد عليها لتنظيم شؤون حياته الدنيوية –لأنها متأصلة في طبيعته الإنسانية، ولا يمكنه العيش من غيرها- وحين يحيل المرء بصره إلى الطفل الوليد, ويحلل ويعلل كيف اهتدى ذلك الطفل الرضيع -بالهدي الرباني- إلى الرضاعة من ثدي أمه, ويربط الأمور بمسبباتها, يدرك إدراكا عميقا, صدق ما ذهبنا إليه, ويستطيع حينئذ أن يفسر ما يحيط به من ظواهر وأشياء, وعما يجول في خواطره من أفكار وتساؤلات.

والحقيقة التي نسعى إلى تأكيدها منذ البداية، أن العملية الديمقراطية بمختلف صورها وبجميع تفصيلاتها، هي عبارة عن ممارسة مسلكيات إنسانية مكتسبة بالفطرة، وموحى بها من عند الله-عز وجل- لصقل السلوك الانساني وتهذيبه، عن طريق ايجاد وسيلة خلاقه تنظم علاقة الفرد بغيره من بني جنسه من جهة، وتحدد قواعد الاجتماع البشري من جهة أخرى، ويكون ذلك من خلال ممارسة أنماط محددة من السلوك العملي الواعي والمنضبط، والذي يتشكل بفعل تناغم مجموعة من العناصر التي تتفاعل وتتداخل فيما بينها، لتظهر على شكل سلوك أنساني يتصف بدقة التنظيم.

وبإمعان النظر في عناصر أو مكونات هذه العملية، فإننا نجد أنها منظومة من القيم والمبادئ والمعايير والمقاييس التي لابد أن يخضع لها الجميع، وهذه العملية لها أصولها وقواعدها وشروطها التي لا تقوم بغيرها، وتسير على منهاج ومنوال محدد.