النهج الهاشمي في بناء الدولة العراقية الموحدة

01/03/2006

مركز الرأي للدراسات

الدكتور أحمد خليف العفيف

3/2006

منذ فجر التاريخ العربي والهاشميون يلعبون دوراً رئيسياً ومميزاً في مواجهة التحديات التي تواجه الأمة على كافة المستويات والنضال المستمر من أجل تحقيق وحدة الأمة والدفاع عن كرامتها وعزتها .

والواقع أن دورهم القيادي في تحمل مسؤولية الأمة لم يأت محض صدفة أو نتيجة لموقف عابر، إنما جاء نتيجة لمجموعة من المواقف والتجارب التي أثبتت كفاءاتهم القيادية وحرصهم الشديد على مصلحة الأمة، وتميزهم عن الجميع على كافة المستويات بشكل جعلهم يحصلون على احترام العرب وتقديرهم قبل الإسلام .

وبظهور الدعوة الإسلامية تعززت مكانة بني هاشم ليس بين العرب فحسب بل بين الناس جميعاً، وتأكد دورهم القيادي في تحمل مسؤولية الأمة لما حباهم الله به من تميز على كافة البشر بشكل جعل زعامتهم للأمة تستند إلى شرعية الدين والتاريخ وإرادة وطموحات الأمة. يؤكد ذلك حديث الرسول صلى الله وعليه وسلم حيث قال " أن الله سبحانه وتعالى حينما أراد أن يبعث نبياً يدعوا إلى الإسلام نظر إلى الأمم فوجد العرب أفضلهم ونظر إلى العرب فوجد قريش أفضلهم، ونظر إلى قريش فوجد بني هاشم أفضلهم ونظر إلى بني هاشم فوجدني (أي الرسول صلى الله عليه وسلم ) أفضلهم ".

والمتتبع للتاريخ الإسلامي يجد أن الهاشميين منذ فجر الإسلام حملوا مسؤولية الدفاع عن وحدة الأمة وكرامتها، وشكلوا المظلة التي احتوت البعدين العربي والإسلامي ووزانت بينهما بحيث لا يطغي إحداهما على الآخر ونقطة الارتكاز التي التقت حولها كافة الاتجاهات العربية والإسلامية.

ومن هذا المنطلق شكل دورهم في تحقيق وحدة الأمة ونهضتها في العصر الحديث استمراراً طبيعيا لدورهم الذي مارسوه على مر العصور على المستوى العربي والإسلامي، والتزاماً برسالتهم الدينية والتاريخية في الدفاع عن قضايا الأمة.

لذلك يمكن القول بكل تأكيد أن رؤية القيادة الهاشمية الوحدوية تستند إلى جذور تاريخية طويلة مرت بها الأمة، وتغذيها مبادئ الإسلام الحنيف والثورة العربية وآمال وطموحات الأمة التحررية.

لقد كان للدور الرئيسي المتميز الذي لعبه الشريف حسين وأنجاله في حركة النهضة العربية الحديثة التي توجت بالثورة العربية الكبرى عام 1916م أن وضعوا على رأس قائمة الرجال الذين اسهموا في صياغة التاريخ العربي الحديث، وبلورة آمال الأمة في الوحدة والحرية والاستقلال واخراجها من الإطار النظري والتمنيات إلى أرض الواقع، وإثبات وجود الإنسان العربي بعد تهميشه لأكثر من أربعة قرون متوالية عاشها تحت الحكم العثماني.

وعلى الرغم من إخفاق الثورة العربية في تحقيق هدفها الرئيسي المتمثل بإقامة دولة خلافة عربية إسلامية كبرى في المشرق العربي مستقلة استقلالاً تاماً تعيد إحياء أمجاد دولة الرسول صلى الله عليه وسلم والدولة الراشدية والأموية والعباسية ، نتيجة للمؤامرة الاستعمارية التي فاقت إمكانيات الشريف حسين، إلا أن الشريف حسين وأنجاله نجحوا من جانب آخر في إقامة مجموعة من الدول في المشرق العربي على أساس مبادئ الثورة العربية شكل كل منها منطلق لحركة التحرر والوحدة العربية وهي المملكة السورية والمملكة الحجازية والمملكة الأردنية والمملكة العراقية .

وفي هذا الوقت الذي يعيش فيه الوطن العراقي العزيز على كل عربي ذو حمية حالة من الانقسام والتدهور والهيمنة الأجنبية سألقي الضوء في هذا المقال على منهجية حكم وتجربة رائدة طبقت في العراق في بدايات القرن الماضي في وقت كان يمر فيه بظروف وأوضاع مشابهة إلى حدٍ كبير لما هو قائم الآن ،ألا وهي منهجية الحكم الهاشمية ذات الأبعاد العربية الإسلامية والتي اتبعها القادة الهاشميون التزاماً برسالتهم التاريخية والدينية تجاه الأمة في كل المناطق التي شرفها الله بحكمهم .

وقد طبق هذه السياسة بكل عزم واقتدار الملك فيصل الأول بن الحسين النجل الأكبر للشريف حسين، الأمر الذي أدى بالنتيجة إلى قيام دولة عراقية قوية وموحدة خلال فترة لا تزيد عن الاثنى عشر سنة.

تسلم الملك فيصل بن الحسين عرش العراق في 13/آب / 1920م في وقت كان فيه المجتمع العراقي يواجه العديد من التحديات وعلى كافة المستويات من جهل وتخلف وصراعات داخلية بين القوى الاجتماعية المختلفة وضعف في الموارد الاقتصادية وحركات استقلالية خاصة في المناطق الكردية وأخطار خارجية من جهة إيران الطامعة في قسم من الأراضي العراقية وتركيا الطامعة في الموصل وفرنسا في سوريا المعادية للملك فيصل بسبب توجهاته الوحدوية في تشكيل دولة الهلال الخصيب من بلاد الشام والعراق .

إلا أنه استطاع خلال سنوات قليلة كما أشرنا من تجاوز كل هذه التحديات وتحقيق طموحه في بناء دولة عراقية وموحدة تمتلك كافة المؤسسات العصرية السياسية والاقتصادية والإدارية والعسكرية والعلمية وعلى وفق مبادئ الثورة العربية الكبرى بأبعادها العربية والإسلامية وثوابت النهج الهاشمي في الحكم التي تستند إلى العدل والمساواة بين الجميع واعتبار حق المواطنة هو الأساس الأول في التعامل مع الجميع بغض النظر عن الانتماءات الدينية والمذهبية والعرقية والجغرافية .

جاء تتويج فيصل الأول ملكاً على العراق في وقت كان فيه المجتمع العراقي بأمس الحاجة إلى وجود دولة قوية تخضع لقيادة قادرة على تحقيق حالة الأمن والاستقرار التي أصبحت معدومة في كافة المناطق العراقية ، وفشل بريطانيا في السيطرة على الوضع كما تأكد ذلك بشكل واضح في ثورة عام 1920م التي عمت جميع أنحاء العراق ، وأثبتت في الوقت نفسه فشل سياسة الإدارة البريطانية في حكم العراق حكماً مباشراً ثم فشل الحكومة الوطنية المؤقتة التي تأسست في تشرين أول عام 1920م ، برئاسة عبد الرحمن الكيلاني في إعادة الأمور إلى نصابها والتي جاء تأسيسها كمحاولة من بريطانيا لإدارة أمور العراق من وراء واجهة عربية .

لقد كان فيصل بن الحسين في هذه الظروف الصعبة التي يمر بها العراق هو الأقدر على بناء الدولة العراقية واحتواء كافة التيارات المتناقضة ودمجها في إطار بوتقة عراقية واحدة نظراً لمجموعة من السمات والمزايا التي ينفرد بها عن بقية الزعامات العراقية القائمة آنذاك . والتي جعلت من كافة فئات الشعب العراقي ( من سنه وشيعه وعرب وأكراد ومسلمين ومسيحيين وبدو وحضر) ، تجد فيه خير من يمثلها ويحقق طموحاتها التحررية وذلك لما يمتلكه من خبرة سياسية واسعة اكتسبها زمن الدولة العثمانية واشتراكه في حركة النهضة العربية في سوريا والحجاز وإيمانه الكبير بالقضية العربية والدفاع عنها باعتباره أحد قادتها البارزين وابن زعيم الثورة وملك العرب.إضافة إلى انتسابه للأسرة النبوية الشريفة التي تحظى بالاحترام والتقدير والشرعية عند كافة العرب والمسلمين بشكل جعله الأمثل والأكثر قبولاً في مجتمع يمتاز بعدم الانسجام الديني والمذهبي والطائفي والعرقي والجغرافي .

منذ البداية سعى الملك فيصل إلى تأسيس دولة عراقية قوية موحدة لها حكومة وطنية دستورية قادرة على استخدام صلاحياتها كافة وجيش وطني يمتلك كل الاستعدادات التي تمكنه من تحقيق الأمن الداخلي والدفاع الخارجي ومجلس نواب يمثل الشعب يتولى مهمة التشريع وتوجيه السياسة العامة للدولة. متبعاً في سبيل ذلك سياسة خذ وطالب من خلال التحرك التدريجي المحسوب الخطوات والذي يقوم على أساس التغيير من خلال التطوير وليس التثوير مع الحفاظ على صداقة بريطانيا الدولة المنتدبة على العراق وصاحبة الحضور القوي في الشرق الأوسط .

وقد تجسدت هذه السياسة من خلال جهوده بتنظيم العلاقة مع بريطانيا والزمها بدورها الاستشاري في إدارة شؤون العراق ، كما تأكد ذلك في معاهدة عام 1922، بعد أن كان الموظفين البريطانيين يمارسون صلاحيات مطلقة في العراق قبل قدوم الملك فيصل ثم سعى بعد ذلك إلا تحقيق مزيد من الاستقلال للعراق وتخفيف قيود المعاهدة من خلال تطوير البنى المؤسسية وقدرات الدولة العراقية بشكل اقنع عصبة الأمم المتحدة وبريطانيا أن العراق أصبح في مستوى الاعتماد على النفس ويستحق الاستقلال في عام 1932م ، ويثبت وجوده على الخريطة الدولية كعضو في عصبة الأمم المتحدة .

وفي إطار توجهاته في إيجاد القاعدة السليمة لبناء الدولة العراقية القوية والموحدة سعى منذ البداية إلى إقرار الدستور الذي تحدد من خلاله شكل الدولة ونظام الحكم بها والسلطات القائمة وصلاحيات واختصاصات كل منها والعلاقات القائمة بينها والأسس التي تقوم عليها بُنى الدولة المؤسسية .

إضافة إلى إعطاء الدولة وجهاً عربياً شاملاً من خلال الاعتماد في إدارتها على عدد كبير من الشخصيات التي مثلت كافة المناطق العربية والعراقية مع مراعاة من تتوفر فيه الكفاءة والمقدرة من الشخصيات التي لها خبرة واسعة في شؤون السياسة والحكم .

وكانت الإشكالية التي واجهته في هذا المجال هي عدم توفر العدد الكافي من الكفاءات العراقية والعربية اللازمة لتولي الوظائف التي يشغلها الموظفين البريطانيين .

لذلك بذل جهود كبيرة منذ البداية بهدف إيجاد كادر وطني على درجة من الكفاءة بالشكل الذي يتلاءم مع بنية الدولة العصرية ويمكنه في الوقت نفسه من إنهاء وجود الموظفين البريطانيين ، وقد تمثلت جهوده في هذا الإطار باهتمامه الواسع بالتعليم على كافة المستويات ، والذي كل يرى فيه أساس كل تقدم تصبوا إليه الشعوب التي لا تزال في بداية النهوض، كما كان يرى أن نجاح العرب لا يمكن أن يتحقق بدون علم ، ومن الأمثلة على اهتمامه في هذا المجال تأسيس جامعة " آل البيت" في عام 1922م بهدف إعداد الكوادر اللازمة لمؤسسات الدولة المختلفة من جانب، والعمل على التقريب بين وجهات نظر المذاهب الإسلامية المختلفة ووضع حد للخلافات المذهبية التي كانت قائمه آنذاك بصورة تهدد الوحدة الوطنية العراقية .

كما كان نتيجة لسياسته التعليمية أن ارتفع عدد المدارس الابتدائية من (128) مدرسة عام 1921 إلى (291) مدرسة عام 1931م ، أمـا المدارس الثانوية فقد ارتفعت إلى (15) مدرسة عام 1931 تضم حوالي (1863) طالب وطالبة في حين لم يكن لها أي وجود عام 1920م ،إضافة إلى إنشاء العديد من المعاهد المتخصصة مثل معاهد المعلمين والمدرسة العسكرية ومدرسة الشرطة ومعهد لدراسة العلوم الزراعية ، وإرسال بعثات علمية إلى أوروبا لدراسة العلوم المختلفة.

وانطلاقاً من حرصه على سلامة الإنسان العراقي سعى إلى التوسع في مجال الخدمات الصحية الوقائية والعلاجية مثال ذلك بلغ عدد المستشفيات في العراق مع بداية حكمه ثلاثة مستشفيات موزعة على بغداد والبصرة والموصل بسعة (20 سرير) لكل مستشفى ، ومع نهاية حكمه وصلت إلى (28) مستشفى موزعة على أنحاء العراق كافة وبسعة (1220) سرير.

لقد علمت التجارب الملك فيصل بن الحسين أن الجيش هو الأساس الذي تقوم عليه قوة الدولة وخاصة بعد الإخفاق الذي تعرضت له تجربته في سوريا ، لهذا جهد في اغتنام كل فرصة لإيجاد قوة عسكرية عراقية رغم ما كان يواجهه من تحديات كبيرة في هذا المجال من قبل بريطانيا.

ومن جوانب اهتمامه بالجانب العسكري الذي اعتبره أساس أمن واستقرار الدولة وتفعيل هيبتها في كافة الأقاليم التابعة لها، زيادة الإنفاق على القوات المسلحة وتعزيز قوتها من حيث العدد والعدة وفرض التجنيد الإجباري وتفقد الوحدات العسكرية بشكل مستمر والمشاركة في مناوراتها وتدريباتها .

أما على المستوى الاقتصادي فقد استوعب الملك فيصل منذ البداية أهمية هذا الجانب في بناء الدولة وذلك بتباع خطة لاستثمار الموارد الطبيعية الهائلة في العراق وتسخيرها لتكون ركيزة أساسية في بناء الدولة العراقية وإيجاد اقتصاد عراقي يعتمد بالدرجة الأولى على قواه الذاتية .

لذلك أقام تعاون مع الشركات الأجنبية لاستخراج النفط العراقي والاستفادة من عائداته في تطوير بنية الدولة التي كانت لا تزال في بداية التكوين وتحتاج إلى أموال طائلة لاستكمال بناء مؤسساتها المختلفة وخاصة العسكرية ، واستخدام النفط أيضاً كأحد وسائل الضغط على الدول الكبرى بريطانيا وفرنسا للتجاوب مع المصالح العراقية .

أما الزراعة فقد اعتبرها محوراً رئيسياً في بناء الاقتصاد العراقي نظراً لتساع رقعة الأراضي الزراعية وتوفر المياه . وتمثلت اهتماماته في هذا المجال بتطبيق سياسة الإصلاح الزراعي ، وإنشاء المصارف والجمعيات الزراعية ، وتشجيع زراعة المحاصيل الصناعية مثل القطن والكتان والأخذ بنظام المكنكة الزراعية الحديثة ، وتحديث الأنظمة والتشريعات الزراعية ووضع نظام دقيق للري تحت إشراف الدولة ، والاهتمام بالمراعي وتربية المواشي، واستحداث المشاريع الزراعية والسدود ومكافحة الآفات وتأمين الأسواق الخارجية لتصدير المنتجات الزراعية الفائضة عن حاجة السوق المحلي.

وفي مجال الصناعة والتعدين فقد كان من أهم أولوياته بناء صناعة وطنية في العراق تلبي احتياجات المجتمع العراقي وخاصة الصناعة التي تعتمد على المنتوجات الزراعية مثل النسيج والورق والصابون وحماية هذه الصناعات ومنحها العديد من الامتيازات حتى تستطيع المنافسة في الأسواق المحلية والدولية .إضافة إلى نقل تجارب الدول المتقدمة في هذا المجال .

وبهدف تأمين البنية التحتية لإيجاد صناعات وطنية متطورة في العراق ، أبدى اهتمام كبير بإيجاد شبكة واسعة من خطوط المواصلات البرية والبحرية والنهرية تربط كافة الأقاليم العراقية مع بعضها البعض من ناحية وتربط العراق بالأقطار المجاورة من ناحية ثانية .

وفي إطار تحقيق الوحدة الوطنية ودمج كافة الفئات في إطار دولة عراقية واحدة كانت أهم التحديات التي واجهته وتمكن من القضاء عليها انطلاقاً من سياسته المستمدة من مبادئ الثورة العربية الكبرى وثوابت منهجية السياسة الهاشمية ذات الأبعاد العربية والإسلامية والإنسانية، هي مشكلة القوى العشائر والمشكلة الكردية.

فقد كانت المجتمعات العشائر وخاصة البدوية تشكل تحدياً أمام بناء وتطور الدولة لما كانت تتسم به من حالة عدم استقرار وتنقل مستمر وصراعات دموية فيما بينها ونفور من سلطة الدولة المركزية وعدم الاستعداد لتقبل الخضوع لسلطة الدولة المباشرة. أن هذه النظرة السلبية من القوى القبلية للسلطة الحكومية لم تتشكل من فراغ إنما جاءت نتيجة فشل الإدارة العثمانية ومن ثم البريطانية في التعاون معها، في الوقت الذي نجح فيه الملك فيصل في احتوائها في إطار الدولة وتحويلها إلى عناصر بناء وتدعيم لقوة الدولة بعد أن كانت عناصر هدم. انطلاقاً من سياسته الرامية إلى تحقيق وحدة المجتمع العراقي وصهر كافة مكوناته في إطار بوتقة وطنية واحدة كمطلب رئيسي في بناء الدولة العراقية الموحدة التي أرادها أن تكون منطلقاً لتحقيق أهداف الثورة العربية الكبرى .

لذلك اتبع سياسة كان من شأنها إزالة الفكرة السلبية التي علقت في ذهنية القوى القبلية عن السلطة الحكومية من جانب وحولت هذه المجتمعات إلى مجتمعات حضرية مستقرة من جانب آخر.

وقد تمثلت هذه السياسة في دمجهم في الحياة العامة للدولة وربط مصلحة الزعامات القبلية بمصالح الدولة الثابتة السياسية والاقتصادية والعسكرية كونها تشكل قوة اجتماعية مؤثرة يمكن الاعتماد عليها في إقرار سلطة الدولة وتفعيل هيبتها في مناطق نفوذهم العشائرية ، وذلك من خلال منحهم العديد من الامتيازات المالية والسياسية والاجتماعية والاعتماد على أبناء العشائر بشكل رئيسي في تشكيلات الجيش نظراً لسماتهم القتالية العالية إضافة إلى تزويد المناطق العشائرية بعناصر الاستقرار إلا ساسية من مياه عن طريق حفر الآبار الارتوازية وقنوات تستمد المياه من دجلة والفرات وطرق مواصلات ومراكز صحية ومدارس ... الخ وإصدار العديد من التشريعات المختصة بتنظيم شؤون المجتمعات العشائرية بالشكل الذي يتلاءم مع طبيعة حياتهم مثل قانون المحاكم العشائرية واجبار القبائل المتصارعة على توقيع اتفاقيات صلح فيما بينها،وعقد اتفاقات مع الدول المجاورة للحد من الصراعات القبلية في المناطق الحدودية .

لذلك لم يمض وقت طويل على اعتلاء الملك فيصل عرش العراق حتى أخذت القبائل تتحول إلى الاستقرار التدريجي وتتقبل فكرة الدولة وتعمل على مساندتها والاندماج بها لما لمسته من أهمية الدولة في كافة شؤونها الحياتية،بعد أن كانت ترفض الخضوع لأي سلطة حكومية مباشرة زمن الدولة العثمانية والاحتلال البريطاني.

وفي إطار سياسة الملك فيصل الرامية لتحقيق وحدة الأراضي العراقية سعى منذ البداية إلى مواجهة المشكلة الكردية التي لعبت بريطانيا الدور الرئيسي في إثارتها بهدف تفتيت وحدة الأراضي العراقية وإظهار البلاد على أنها نسيج غير متجانس خدمة لمصالحها الاستعمارية خاصة المصالح النفطية في شمال العراق .

لقد أدرك الملك فيصل أن دمج الأكراد في إطار الوطن العراقي الموحد لا يمكن أن يتم إلا بإقرار مبدأ العدالة والمساواة بين الأكراد وبقية العراقيين واعطاء الأكراد كل الضمانات التي تحترم وتحفظ خصوصية الأكراد القومية وإزالة كل الشكوك التي تثيرها بريطانيا لدى الأكراد إذا ما اندمجوا في إطار الدولة العراقية ،وقامت سياسته في هذا الإطار على أساس الاعتراف بالقومية الكردية كأحد القوميات الرئيسية التي يتكون منها المجتمع العراقي واللغة الكردية كلغة رسمية في المدارس والدوائر الحكومية في المناطق الكردية بشكل خاص وبقية المناطق العراقية بشكل عام،ومنح الأكراد مقاعد في مجلس النواب والأعيان والوزراء بنسبة عددهم.

وعلى الرغم من كل الظروف الصعبة التي واجهته في هذا المجال، إلا أنه نجح في تحاشي كثير من الأمور التي تثير حساسية الأكراد وإزالة الشكوك التي روجتها بريطانيا،وتمكن من تطبيق الفكرة القائلة بأن الدولة الموحدة يمكن أن تقوم بوجود عناصر مختلفة بشكل اقنع الأكراد أن مصلحتهم تكمن في الاندماج الكامل في إطار الدولة العراقية الموحدة والتبعية التامة لسلطة الحكومة المركزية في بغداد.

وكان نتيجة لسياسة الملك فيصل الحكيمة التي تقوم على أساس العدل والمساواة والتعددية واحترام حقوق المواطنة لكافة العناصر العراقية بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والعرقية والإقليمية والتي عبر عنها بمقولته المشهورة " الدين لله والوطن للجميع" من ضم كافة مناطق كردستان العراق في إطار الدولة العراقية الموحدة وإخضاعها لسلطة الدولة المركزية قبل انتهاء الانتداب عام 1932م .

وهكذا استطاع الملك فيصل الأول على الرغم من كل الظروف الصعبة التي كانت تواجهه على كافة المستويات من بناء دولة عراقية قوية وموحدة خلال سنوات قليلة انطلاقاً من سياسته الواقعية والعملية التي تستند إلى مبادئ الثورة العربية وشرعية الهاشميين الدينية والتاريخية،بشكل جعل المختصين يجمعون على أنه باني كيان العراق الحديث وباعث نهضته.

وقد تابع ورثائه من بعده هذا النهج إلى أن سقطت المملكة العراقية أمام المؤامرات الاستعمارية التي استهدف تحطيم قوة العراق عام 1958م

وعلى الرغم من انتهاء الحكم الهاشمي في العراق نتيجة انقلاب عام 1958م المدعوم من قبل القوى المعادية لتوجهات الهاشميين الوحدوية ، إلا أن رسالة القيادة الهاشمية في الحفاظ على وحدة الأراضي العراقية بقيت قائمة كما جسدها الملك حسين رحمه الله والملك عبد الله الثاني منذ بداية حرب الخليج الأولى عام 1980م حتى الآن والتي قامت على أساس الإيمان بضرورة الحفاظ على قوة الدولة العراقية واستمرار وحدتها في إطار حدودها الكاملة التزاماً منهم برسالتهم الدينية والتاريخية التي تقوم على أساس تحقيق وحدة الأمة وعزتها ومواجهة كافة الأخطار التي تهددها .

فمنذ البداية بادر الملك حسين بتسخير كافة جهوده وإمكانياته وعلى كافة المستويات لتدعيم وحدة العراق وقوتها في مواجهة الأطماع الإيرانية بالأراضي العراقية ، متناسياً كل الخلافات والتوترات التي أصابت العلاقات الأردنية العراقية بعد سقوط الملكية في العراق ، وذلك إيماناً منه بأن المصلحة العربية يجب أن تكون مقدمة على كل المصالح وأن كان هناك اختلاف بين الحكومات وسياسات الأنظمة الحاكمة .

وبعد أن تعرض العراق لهجمة قوى التحالف الدولية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية التي استهدفت تحطيم قوته وتفتيت وحدته على أثر الأزمة العراقية الكويتية عام 1990م ، سعى الملك حسين بكل جدية لحل الأزمة في إطار عربي وتحت مظلة الجامعة العربية ومن خلال لغة الحوار والمفاوضات الدبلوماسية وتفعيل دور المبادرات السلمية العربية والدولة ورفض اللجوء إلى الحل العسكري واستدعاء القوات الأجنبية.

وكان هدفه من وراء ذلك الحفاظ على وحدة الصف العربي بشكل عام وحماية قوة العراق ووحدة أراضيها بشكل خاص إيماناً منه بأن قوة العراق تشكل سنداً داعماً وعمقاً استراتيجياً للأمة العربية ، وأن مقدرات العراق العسكرية والاقتصادية والبشرية والعلمية هي مقدرات كل العرب .

وبعد توجيه الضربة العسكرية تركزت جهود القيادة الهاشمية التي بدأها الملك الحسين وتابعها بكل إخلاص واقتدار الملك عبد الله الثاني على فك الحصار عن العراق والحفاظ على سلامة ووحدة أراضيه وإعادته إلى ممارسة دوره الريادي في المنطقة، من خلال عرض القضية العراقية التي أصبحت محوراً رئيسياً في السياسة الأردنية على المستوى الدولي.وتقديم كافة أنواع الدعم المادي والمعنوي للشعب العراقي والتقريب بين التيارات السياسية والمذهبية العراقية المتضاربة، وتدعيم مساعي الحكومة العراقية القائمة على كافة المستويات المحلية والعربية والدولية لتحقيق حالة الأمن والاستقرار الشامل لكافة أجزاء الوطن العراقي، وإعادة بناء الدولة العراقية الموحدة. وذلك انطلاقاً من إخلاصه المطلق لمبادئ الثورة العربية الوحدوية والموروث الهاشمي الأصيل الذي يستند إلى قاعدة صلبه قوامها الشرعية الدينية والتاريخية الضاربة في أعماق التاريخ العربي والإسلامي. والذي جعل من القيادة الهاشمية منذ أقدم العصور حتى الآن رمزاً وعنواناً لوحدة وقوة وكرامة العرب.