مركز الرأي للدراسات
اعداد : حسني عايش
7/2006
مقدمة : يؤمن الذين يتحدثون في الديموقراطية أو لها و عنها ، و الذين يدعون إلى تبنيها بأن الديموقراطية هي الحل و سبيل الخلاص إلى أجل ٍ غير مسمّى . و عليه يجدر بنا بل يجب علينا تحديد معالم هذه الديموقراطية ، لنعرف عن ماذا نتحدث ، و أن نتحدث بالتصريح لا بالتلميح .
الديموقراطية المقصودة أو المرغوب فيها:
يختلط الأمر – ديموقراطيا ً – على الناس و حتى على كثير من المثقفين ، فلا يفرّقون بين الديموقراطية الأصيلة ( Genuine Democracy ) أي بين الديموقراطية الخالية من الرياء و التكلف ، و الديموقراطية الزائفة أو الفاسدة ( False Corrupt Democracy ) و الديموقراطية المراوغة( Manipulative Democracy) أو ديموقراطية التنورة (Skirt Democracy ) كما يسميها الأستاذ سين . ل . يوم ( MERIA, Vol .9, No.4, December 2005). أو الديموقراطية الجزئية ( Partial Democracy ) أو الديموقراطية الدفاعية (Defensive Democracy ) أو الديموقراطية المصغرة ( Micro Democracy ) و الأتوقراطية المبررة ( Liberalized Autocracy ) كما يسميها الأستاذ دانيال برومبيرج( Carnegie Endowment Working Papers,No.37 may, 2003 ) حيث الإصلاح السياسي جزئي و انتقائي و يستعير من الديموقراطية فقرتها الانتخابية ، و ليس العملية الديموقراطية و أركانها ، و يسمح بقدر من المساحة السياسية ، أو بالحرية و المعارضة المقيدتين ، و يستخدم سياسة فرّق تسد ... التي تغطي – أحيانا ً – بمراكز حكومية لحقوق الإنسان كما يفيد الأستاذ يوم ، مما ينتهي بما يسميه الأستاذ برومبيرج بفخ ( Trap ) الأوتوقراطية الليبرالية أو العسر السياسي ( غير المنتج للديموقراطية الأصيلة ) .
و يضيف : " أن هذا الإصلاح السياسي الجزئي ليس من الديموقراطية في شيء ، بل هو أوتوقراطية ملبررة هدفها تنفيس الضغوط المتراكمة ( و كأن المجتمع طنجرة بخار ينفسها كلما كادت تنفجر أو يضعها على الأرض إلى أن تبرد ) ليبدأ مرحلة جديدة لاكتساب شيء من شرعية الإصلاح و المحافظة على البقاء و ليس إطلاق الديموقراطية و مؤسسات المجتمع المدني و الأحزاب السياسية و المعارضة القوية . ربما لأن الحكام المتغطرسين و المترددين يرون في الديموقراطية ثقبا ً أسودا ً يمكن أن يبتلعهم أو يحجم سلطاتهم و سبيلا ً للفوضى و العنف " .
و إذا كان الأمر كذلك فإن للديموقراطية الأصيلة ( Genuine )طريقين :
أ – إما أن تأتي من فوق بالإرادة السياسية الصلبة الصادقة الملتزمة بكل عملياتها أي كاستراتيجية لا رجعة عنها . ب – و إما أن تؤخذ من تحت بفقدان الحاكم أو النظام للشرعية الديموقراطية .
و تتميز الديموقراطية الأصيلة ( Genuine ) بما يلي :
1 – الشعب مصدر السلطات والمصدر النهائي للتشريع والقوانين بالفعل لا بالشكل أو النص فقط .
2 – الفصل بين السلطات و الرقابة المتبادلة بينها .
3 – تداول السلطة في مرحلتي الذهاب إليها و الإياب منها إليها ، أي احترام حق الناس في اختيار من يحكمهم و خضوع المنتخبين للمساءلة .
4 – السلطة و المسؤولية متلازمتان .
5 – بالتعددية بأوسع معانيها و أشكالها ، وبالأحزاب ... و مؤسسات المجتمع المدني و الصحف و وسائل الإعلام ، تـُسجّل للعلم و لا ترخص .
6 – بحرية تعبير سقفها السماء و الحَكـَم فيها هو القضاء ، أي بفك الارتباط ( المشبوه ) بين الحرية و المسؤولية ( الحرية المسؤولة ) كما تراه إدارة الإعلام أو المطبوعات أو الأمن أو المخابرات ، و بإقامته بينها و بين القضاء النزيه و العادل ، دون أن يعني ذلك أن الحرية تعفى من المساءلة . إن الحرية و المسؤولية متلازمتان و لكن ربط الحرية أو المسؤولية عنها بالقضاء يكبل إدارات الإعلام و المطبوعات و الأجهزة الأمنية في تفسيرهما على هواها ، و يوقف استباق القضاء في تقرير مصير أصحابهما .
7 – قاعدة الأكثرية الملتزمة باحترام الحقوق الإنسانية للأقليات و بحقوق أقل هذه الأقليات و هو الفرد / المواطن بالإعتراف بها و قبولها بالسماحة لا بالتسامح ، فالتسامح فضيلة خادعة إذا تجاوزت الحقوق الشخصية إلى الحريات العامة المدنية و السياسية .
8 – تكافؤ الفرص الديموقراطية وتكافؤ التمثيل بين مختلف شرائح المجتمع والرجل والمراة .
9 – المعارضة السياسية فيها مخلصة للوطن ، بمعنى أن جميع الأطراف السياسية تشترك في الإلتزام بالمبادئ الديموقراطية الأساسية و التعاون في حل المشكلات العامة ، و أن السياسيين و إن كانوا متنافسين و لا يحبون – بالضرورة – بعضهم بعضا ً إلا أن كلا ً منهم يتحمّل الآخر و يعترف بشرعيته أو بدوره المشروع و يقبل الخاسرون النتيجة أي قرار الناخبين ، و أنهم لن يفقدوا حياتهم أو يودعوا السجن ، بل بالعكس يستمر المعارض بالمشاركة في الحياة العامة لأن ّ دور المعارضة أساسي لأنها مخلصة للمشروعية الديموقراطية للدولة ، و ليس لسياسات الحكومة.
10 – الديموقراطية الأصيلة صاخبة و شديدة الجلبة : كلما كانت الديموقراطية صحية و قوية اشتد صخبها و بدا للسذج أن المجتمع أو الدولة على وشك الانهيار مع أن الأمر بالعكس ، لأن الناس و إن كانوا ينشدون الأمن و السلامة و الحرية و المساواة ... إلا أنهم يحبون المغامرة و المناكفة أيضا ً . و لذلك تنشأ توترات و تناقضات ظاهرية و حقيقية بل و صراع و توافق و تنازلات بين الأفراد و الأحزاب ... و الحكومة و المعارضة في كل مجتمع ديموقراطي . و إن دل ّ ذلك على شيء فإنما يدل ّ على حيوية الديموقراطية و مؤسسات المجتمع المدني و تطورهما نحو مستويات أعلى .
لعل هذه الحالة الديموقراطية الصاخبة أو الحيوية غير المألوفة في بلاد العرب و المسلمين هي التي تجعل أعداءها فيها يخشون الديموقراطية و يحاربونها أو يدعون إلى تقييدها أو يقبلون بجزءٍ أو فقرة ٍ منها . ربما لأنهم نشأوا في أطر اجتماعية و تعليمية و سياسية أبوية / ديكتاتورية و تعودوا على الصمت و الخمول و الانصياع حيث لا إبداع و لا ابتكار و لا حيوية أو حراك ، فالديموقراطية صيغة ( Figure ) تبرز في خلفيةBack ground ) ) وهي الثقافة السائدة في المجتمع . و للأسف فإن الصيغة الديموقراطية البارزة في بلاد العرب و المسلمين عبارة عن إجراءات أو آلية أي أن الديموقراطية – في نظرها – مجرد إجراءات أو آلية و ليس إفرازا ً أو ثمرة لثقافة ديموقراطية راسخة في المجتمع . و بالرجوع إلى التاريخ الديموقراطي نجد أنه يسبق كل إنطلاقة ديموقراطية أرضية فكرية مؤاتية تمهد لها أقامها المفكرون الديموقراطيون و راكموها . لكن هذا لا يعني التريث أو انتظار التطور ( Evolution ) إلى حين تتكوّن الأرضية أو إلى حين وقوع الثورة ( Revolution ) لتحدث ، بل الدفع نحو تكوين إرادة سياسية صلبة و ممارسة ضغوط شعبية و نخبوية قوية أيضا ً لتأتي بسرعة . و إلا كان مَثـَل المنتظرين لهما ليكون المجتمع ديموقراطيا ً ( بالتطور أو بالثورة ) مثل الذي يرفض النزول إلى الماء قبل تعلـّم السباحة .
من هنا يقع الكثيرون في الخطأ أو في الزيف عندما يماثلون ( الإجراءات ) الديموقراطية بالديموقراطية . إن الديموقراطية ثقافة أو قيم تكوَّن عليها الفرد و المجتمع . إنها سلسلة كاملة من العمليات المؤسسية و غير المؤسسية القادرة على إحداث التغيير السياسي و ضمان الحرية و المساواة و العدل في المجتمع . إنها جزء رئيس من هوية الفرد و المجتمع في الغرب الديموقراطي التي لا يستطيع أن يتصور نفسه بدونها ، لأنها تشكل المدماك الرئيس من هويته أو ثقافته الذي لا يهدمه حتى و إن برزت أحيانا ً ممارسات غير ديموقراطية في مجتمعه . المدماك المفقود بعد في ثقافة أو هوية العربي و المسلم .
إن الديموقراطية الأصيلة ( Genuine ) هي مصدر مناعة المجتمع و الدولة داخليا ً و خارجيا ً لأن مصدر التحكم في مصير الفرد و مصير المجتمع و الدولة ( Locus Of Control ) ينتقل بالديموقراطية من خارج الفرد و المجتمع إلى داخل كل ٍ منهما. و بما أن مركز التحكم هو مصدر السيطرة على السلوك و الموجه له ، فإن انتقاله من خارج الفرد و المجتمع إلى داخله يجعل كلا ً منهما مسؤولا ً عن تقرير مصيره . لعل التحول الأكبر أو الأعظم الذي وقع في أوروبا إبان النهضة و بعدها كان نتيجة انتقال مركز التحكم عند الفرد و المجتمع فيها من الخارج إلى الداخل و من فصل الدين عن السياسة لا عن الدولة كما يزعمون . و لعله لذلك لا يريد أعداء الديموقراطية الأصيلة أن تنشأ و أن تستقر و تصبح طريقة حياة و بقاء في بلاد العرب و المسلمين ، و إن ينتقل مركز التحكم من خارج الإنسان و المجتمع العربي و المسلم إلى داخله .
و أستغل هذه المناسبة لأقول : قد يكون التزام الأحزاب الإسلامية بالديموقراطية قلبا ً و قالباً و في مرحلتي الذهاب إليها و الإياب منها ( تداول السلطة ديموقراطيا ً ) وليس بالتكفير أو الإرهاب الفكري ( قمة الإرهاب) مكسبا" عظيما" للديموقراطية في بلاد العرب و المسلمين . لقد بدأت الأحزاب المسيحية الديموقراطية بالظهور في المجتمعات الكاثوليكية في القرن التاسع عشر ، معارضة لسلطة الكنيسة لا بتأييد منها لها . و مثلما هم عليه الأصوليون اليوم لم تقبل الكنيسة آنذاك الفصل بين الكنيسة و الدولة أو بمشروعية الوجود السياسي الخاضع لقاعدة الأكثرية و ليس للقانون السماوي ( الله ) . و قد احتاجت الكنيسة و معظم الكاثوليك إلى وقت ٍ طويل و كذلك إلى فقدان جميع المناطق أو الدول التي كانت تحكمها مباشرة لترويض أنفسهم على التعايش مع ظاهرة الأنظمة العـَلمانية الديموقراطية . و عليه أعتقد أنه ما لم نتعلـّم من تجارب مَن سبقونا فإن المشوار العربي و المسلم إلى ( ثقافة ) الديموقراطية العـَلمانية الإنسانية التي تحترم كرامة الإنسان و حقوقه طويل جدا ً و ربما يبدأ في التحقق في القرن التاسع عشر أو العشرين الهجري لأنه – كما يبدو – لا يقبل فرد أو حزب أو شعب التعلـّم من أخطاء غيره فيكررها .
إن تكوين الثقافة الديموقراطية و انتقال مركز التحكم من الخارج إلى الداخل ليس بالأمر اليسير أو السريع، فالإجراءات الديموقراطية يمكن أن تتم بسرعة لكن الثقافة الديموقراطية أو القيم الديموقراطية و انتقال مركز التحكم إلى الداخل يحتاجان إلى وقت طويل جدا ً ليرسخا ، كما أن الديموقراطية لا تعمل في فراغ : يجب أن يرافقها و يعززها تعليم ديموقراطي يقوم على حرية التفكير ، و التعبير ، و التفكير الناقد الذي هو " مصدر الكمال الأخلاقي و المواطنة المسؤولة " و الفلسفة ونظريات المعرفة و الأنشطة المعبرة عن ذلك بممارسات ديموقراطية في الفصل و المدرسة و الكلية و الجامعة ، أي تعليم يحرر و لا يهيمن ، و يستلهم فلسفة ابن عربي :
لقد كنت قبل اليوم أنكر صـاحبي : إذا لم يكن ديني إلى دينه دانـــي
فقد صار قلبي قابلا ً كلّ صـورة : فمرعى ً لغزلان و دير ٌ لرهبــان ِ
و بيت ٌ لأوثان ٍ و كعبة ُ طائـف ٍ : و ألواح توراة ٍ و مصحف قـرآن ٍ
أدين بدين الحـــب أنـّى توجـهت : ركائبه فالحب ديني و إيمـــــاني
و يجب أن تدعمها مؤسسات مجتمع مدني قوية و مستقلة ، و صحافة حرّة و شرسة ، و إعلام مفتوح و غير مدجّن ، و قضاء نزيه و عادل ، و دولة تلبي الحاجات الأساسية أو الضرورية للناس من الغذاء و الكساء و المأوى و الأمن لتتعزز و تزدهر ، فعندئذ ٍ يمكن للديموقراطية استيعاب التطرف و المتطرفين و تصريف طاقاتهم سلميا ً ( لأنه لا يجوز محاربة التطرف بالتطرف أو الإرهاب بالإرهاب ) . و في جميع الأحوال فإنه لا يجوز جعل الديموقراطية رهينة للأمن أو للإرهاب أو مقيدة بقدرهما . يجب أن تظل عاملة و فاعلة و قوية لضمان الأمن و كبح جماح التطرف و الإرهاب .
و ختاما ً نقول : لا تصلح هذه الأمة إلا بما صلح به غيرها و هو : العقلانية ، و العلمانية ، و الديموقراطية ، و المعرفة ( العلوم و التكنولوجيا ) ، فهل نحن مدركون ؟!
مستقبل الديموقراطية في الوطن العربي
تعاني الديموقراطية المرغوب فيها في الوطن العربي من الصد و الرّد ، و من التشويه المتعمد ، و من تزييف وعي الناس بها بمقابلتها بالشورى في كل مرة يرتفع فيها مدها (1) . و لذلك فإن مستقبل الديموقراطية في الوطن العربي ، بالمعنى و المبني الذين أشرت إليهما بعيد المنال و ضعيف الاحتمال . و لكن الوطن العربي لن يشذ عن القاعدة إلى مالا نهاية ، لأن ( تماثله ) في المنهج الاقتصادي – إنتاجا ً و استهلاكا ً – و المنهج الإعلامي ، و المنهج التعليمي ، و المنهج التكنولوجي ... مع الغرب مؤد ٍ لا محالة إلى تماثله نعه في المشكلات و الإشكالات و التحديات و الحلول . و لكنه بدلا ً من أن يختصر المسافة أو الزمن و الكلفة بالاستفادة من تجربة الغرب و مسيرته ، و يتجنب أخطائهما و كلفتهما ، ¬¬¬¬¬¬¬¬¬يكررها كما هو حادث الآن . و لعل ّ ذلك يعود للعوامل و الأسباب التالية :
1 – معاداة الثقافة العربية الإسلامية للديموقراطية :
و إلى أن تصبح الديموقراطية جزءا ً من هذه الثقافة و جزءا ً من هوية الفرد و المجتمع ، فإن ذلك سيحتاج إلى وقت طويل جدا ً . إن الشارع العربي ينتمي إلى الوعاظ و المعلمين و المعلمات و الأساتذة و الأستاذات و الإعلاميين و الإعلاميات و السياسيين و السياسيات المعادين للديموقراطية مصطلحا ً ( مع أنه تعبير عن آيات الله : " و من آياته اختلاف ألسنتكم و ألوانكم . إن في ذلك لآيات ٍ للعالمين " ( 30 / 22 ) ) و منهجا ً مع أنه كان معروفاً في مكة قبل الإسلام في إدارة شؤون الكعبة و المدينة ، و في دولة سبأ : " قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا ً حتى تشهدون " ( 32 / 27 )
و بعبارة أخرى ليس للديموقراطية جذور في المجتمع العربي بعد ، كما للأحزاب و الحركات ... الإسلامية فيه .
2 – تبعية مؤسسات المجتمع العربي المدني للحكومات :
تعتبر مؤسسات المجتمع المدني التربة أو البنية التحتية اللازمة لانطلاق الديموقراطية في أي مجتمع معاصر . و بما أن المؤسسات المدنية العربية لا تزال عاجزة عن تكوين الكتلة الحرجة المؤيدة للديموقراطية فإن مستقبل الديموقراطية في الوطن العربي سيظل غامضا ً .
إن أيكولوجية السيطرة على الحياة المدنية في الوطن العربي في رأي الأستاذ و الباحث سين .ل .يوم ( MERIA, Vol .9, No.4 , December 2005 ) تتكون من ثلاثة مداميك أو أجزاء و هي :
أ – القمع الناجح أو الملفت للنظر لمؤسسات المجتمع المدني و دعاة الديموقراطية الذي توفره قوانين الطوارئ للحكومات ، لدرجة أنه يقال : لقد فشلت أنظمة الحكم العربي في كل شيء و لكنها نجحت نجاحا ً منقطع النظير في القمع . و بسببه فشلت مؤسسات المجتمع العربي في تكوين كتلة حرجة من المتطوعين المنضمين إليها ، الداعين إلى الديموقراطية و المطالبين بها لأنها :
1. غير مستقلة تماما ً عن الحكومات .
2. لأن أجندات كثير منها غير ديموقراطية .
3. و لأنها عاجزة عن إقامة أوسع التحالفات الديموقراطية مع نفسها .
ب – التضييق القانوني و الإداري و الأمني الإستباقي عليها كي لا تتحول إلى تهديد للنظام القائم.
ج – إقامة مؤسسات بديلة ( عميلة ) ممولة جزئيا ً أو كليا ً من الدولة لجعل مؤسسات القطاع المدني أدوات بيد الحكومات ، لاعتمادها في بقائها عليها . و بدوره أدى إلى ما يسميه الباحث بالعجز في المصداقية ( Credibility Deficit ) عند هذه المؤسسات و ابتعاد المواطنين عنها أو نفورهم منها ، لأنها لم توفر منابر ديموقراطية لهم لمتابعة مصالحهم المشتركة ـ و تعلـّم القيم الرئيسة للديموقراطية كالمشاركة و العمل الجمعي ... و هو ما دعا الباحث ( يوم ) للتساؤل : لكن ما الذي يجعل القسر أو الإكراه أو العنف ( العربي ) قليل الكلفة ؟ يجيب على هذا التساؤل بالقول: إن أقوى تفسير ملزم لذلك يأتي من أطروحة الدولة الريعية . إن كثيرا ً من الأنظمة العربية موجود في دول تتلقى معونات كبيرة من الخارج ، أو من عائدات النفط و ليس من الإنتاج الوطني و الضرائب المتحققة عليه ، مما يجنب النخب العربية و المؤسسات المدنية و الأحزاب السياسية الكثير من المطالب أو الضغوط الداخلية ، لأن دور الدولة يصبح توزيع الثروة السائلة و ليس تكوينها و عدم إعتماد الموازنة الكامل على الضرائب . و من المتفق عليه أن قاعدة لا ضرائب دون تمثيل ( No Taxation without Representation ) لم تصل بعد إلى مسامع العرب و المسلمين . لعل العلاقة بينهما هي التي جعلت بعض الباحثين يربط بين مستوى دخل الفرد و استمرار الديموقراطية ، و إن كانت الهند تشذ – ربما بالإرادة السياسية – عن القاعدة .
و في رأي آخرين إن الانطلاقة الديموقراطية في إندونيسيا ، و بلدان الكتلة الشرقية التي كانت تابعة للإتحاد السوفييتي ، ما كانت لتحدث لولا الفشل أو الانهيار الاقتصادي لأنظمتها الحاكمة .
3 – تنافس الديموقراطية التي تدعو إلى الحقوق المجردة ( Abstract Rights ) كالحرية و المساواة و العدل و تداول السلطة ... و عملياتها ( Processes ) مع آيدولوجيات تعد بالمادي أو الملموس ( Tangible Benefits )، الذي تعبر عنه سريعا ً بخدماتها الاجتماعية و الصحية و التربوية و المالية ... عبر مؤسساتها المدنية و بما هو أعظم منها و أبقى أي بجنة عرضها عرض السماوات و الأرض أيضا ً ، لا يستطيع أحد أن يجادل فيها . و من هنا تنبع قوة الحركة الإسلامية السياسية أو الإسلام السياسي – و كذلك اليمين المسيحي و غيره من الأصوليات – و تفوقها على غيرها جماهيريا ً. فما بالك إذا كانت الأحزاب و الحركات الإسلامية محكمة التنظيم ، و الأحزاب و الحركات ... غير الإسلامية تابعة للنظام أو فاقدة للمصداقية أو غير منظمة !!
4 – السلطوية القوية : يدعي كل حزب أو حركة سياسية ... في الوطن العربي أنه الأفضل لحكم البلاد ، و الأمين على مستقبلها ، فلا يقبل بأريحية و عن احترام حقيقي الرأي الآخر ، أو تداول السلطة .
و يبلغ التسلط الأوج بادعاء حزب أو حركة ... إمتلاك الحقيقة المطلقة ، و القول أن منهجها رباني ( و على الرّغم من تعدد تفسيراته و أحزابه و حركاته و جماعاته ) و أنه لا يجوز للإختبارات البشرية التناقض معه . يعني ذلك في بداية التحليل و في نهايته إلغاء الآخر سواء أكان شخصا ً أو رأيا ً أو حزبا ً ...
و بما أن الأحزاب و الحركات و الشعوب لا تتعلم – كما يبدو – من تجارب غيرها لتجنب الكلفة فإن الأحزاب و الحركات الإسلامية ... – في اعتقادي – لن تتعلم من تجارب الأحزاب المسيحية الأوروبية من دون دفع الكلفة .
و إذا كان الأمر كذلك فإن مستقبل الديموقراطية المرغوب فيها في الوطن العربي بعيد جدا ً ، و سيظل سجين نمط ثابت من الحكم و الإسلام السياسي يصعب تجاوزه .
5 – الإلتباس الناشيء عن الخلط بين التحديث ( Modernization ) و الدموقراطة ( Democratization ) : يخلط الناس ( جهلا ً ) و الحكومات ( عمدا ً ) و المثقفون ( إنتهازية ) أحيانا ً بين عمليات أو أشكال التحديث التي تقوم بها أنظمة الحكم ، و الدمقرطة ، مع أنها ليست – إجمالا ً – من الديموقراطية في شيء .
6 - الإلتباس الناشيء عن الخلط بين ديموقراطية الاستهلاك و الديموقراطية السياسية : تركز الرأسمالية ( الأمريكية ) المتوحشة على توسيع الإستهلاك باضطراد ، حتى لا تتوقف عجلتها . و نتيجة لذلك يرى الناس في تنوع السلع التي تعج بها أرفف البقالات و الأسواق و المولات مجالا ً واسعا ً للإختيار ، مما يجعلهم يحسون – بخداع ذاتي – بالحرية و الديموقراطية .
و الحقيقة أن نزعة الإستهلاك انتقلت إلينا بقوة في السنوات الأخيرة بالإنفتاح و العولمة و أن مراكز التسوق الجديدة أخذت تحل محل مؤسسات المجتمع المدني و المرافق و الميادين و الحدائق العامة التي يجتمع فيها الناس و يتلاقون و يتحدثون و إن كانت بغياب المجتمع المدني القوي ، كالمراكز لا تزيد من وعيهم السياسي .
تســــاؤلات :
1 – هل تساعد خيبة أمل الشعوب العربية في الأنظمة الديكتاتورية و الشمولية على إعطاء دفعة جماهيرية قوية للديموقراطية ؟ أم أن عليها أن تنتظر إلى حين فشل أنظمتها التام إقتصاديا ً ؟ كيف نجعل الناس أو المسلمين يفسرون الظواهر و الأحداث علمياً لا دينيا ً لأنه كلما وقعت أزمة و كارثة أو هزيمة سارع رجال الدين إلى تفسيرها بالابتعاد عن الدين و إعادة لناس إلى المربع الأول . إن هذا طبيعي أو عادي في المجتمعات غير المستقرة أو غير الناضجة كما يرى علماء النفس و الاجتماع لأن كل ثقافة تشعر أنها محاصرة تعود إلى الأساسيات ، و كلما اشتدت الهجمة على الإسلام في الغرب زاد تمسك المسلمين به ، و لجوء بعضهم إلى التطرف فيه .
2 – إلى أي مدى يؤثر ديموقراطيا ً ( سلبيا ً أو إيجابيا ً ) وجود إسرائيل في قلب الوطن العربي ، على الحركة الديموقراطية العربية ؟ لعل ذلك يدعونا عند التفكير في الإجابة على هذا السؤال ، إلى ما يلي :
أ- البعد العنصري لديموقراطيتها .
ب- الضغوط الأمريكية و الأوروبية على بلدان الوطن العربي لتبني الديموقراطية و احترام حقوق الإنسان .
ت- تأثير هذه الضغوط السلبي أو الإيجابي على الضغوط الشعبية و النخبوية العربية من أجل الديموقراطية .
إن الشعوب العربية و أجزاء من نخبها الثقافية و الديموقراطية تشك في نوايا الغرب ( الازدواجية ) بما في ذلك نواياه الديموقراطية لها ، لكن ذلك لا يعفيها من مواصلة الضغوط ( Sustained Pressure ) لتحقيق ماغناكارتا ديموقراطية ( واحدة على الأقل ) لتحدث الانطلاقة.
و ختاما ً نكرر القول : إن مستقبل الديموقراطية في الوطن العربي في المدى المنظور معتم ، و أنه لن ينير أو يستنير بدون صياغة ثقافة ديموقراطية مستدامة و قوية في الأسرة و المدرسة و الجامعة و الإعلام و المجتمع ، و من إرادة سياسية صلبة – منعا ً للمحظور – و تلبية حاجات الناس الأساسية من طعام أو كساء و سكن و أمن .
(1) لم تكن شورى عملية (process) مستقرة او في التاريخ العربي الاسلامي. وان كانت الشورى او التشاور حالة يومية في كل جماعة ومجتمع. وكما يذكر المفكر الاسلامي حسين احمد امين لم يستشر ابو بكر ( رضي الله عنه) احدا عندما عين عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه) خليفة على المسلمين من بعده. كما لم يستشر عمر (رضي الله عنه) احدا حين عزل خالد بن الوليد من القيادة.