حرية التعبير في الأردن: التوازن المفقود بين الحرية والأمن

03/08/2015

موسى بريزات المفوض العام لحقوق الانسان

 

تعتبر حرية التعبير من بين ابرز التحديات التي تواجه المعنيين بحقوق الانسان سواء كانت السلطات الرسمية أو أولئك المدافعين عن هذه الحقوق ليس في الاردن وحده بل وفي غيره من الدول. وتعود جدية هذا التحدي لأسباب عدة ابرزها أهمية هذا الحق في حياة الانسان ونموه الفكري والنفسي وقدرته على التأثير في بيئته ومحيطه الاجتماعي والوطني وكذلك أهمية هذه الحرية لتقدم المجتمع وتطوره واستقراره وللنظام السياسي والأمن الوطني.

لذلك قفزت مسألة حرية التعبير في الاردن الى الواجهة في الآونة الأخيرة ليس كمطلب بحق طبيعي وأساسي يجري التضييق على ممارسته أو تقييده بموجب قوانين نافذة كقانون المطبوعات والنشر أو قانون الحق في الحصول على المعلومات أو قانون اسرار ووثائق الدولة...الخ، بل جراء تكرار حالات –ولو محدودة – لتوقيف وسجن أشخاص بسبب نشر مقالات أو مدونات أو معلومات أو تعليقات يعتبرها الكثيرون – داخلياً وخارجياً- حقوقاً مكفولة بموجب الدستور والمعايير الدولية بينما ترى فيها السلطات تهديداً للأمن الوطني بشكل أو بآخر .

وبهذا تكون الظروف والتطورات الجارية في الاردن وحوله في المنطقة قد دفعت مسألة حساسة هي العلاقة بين حرية الرأي والأمن الوطني الى الواجهة.

1- ولمعالجة هذا الموضوع لا بد ان ينظر المرء –إذا ما اريد الوصول الى فهم موضوعي ومتوازن لهذه الاشكالية – الى عدة جوانب.أولها : واقع حرية التعبير في الاردن. وثانياً : تطورات هذه المسألة في العقد الأخير في ضوء التشريعات الناظمة وما حصل بشأن هذه التشريعات. وثالثاً :ضمانات حرية التعبير في كل من الدستور والاتفاقيات الدولية التي التزم بها الأردن والتقييدات التي تخضع لها ممارسة هذا الحق باسم دواعي الأمن الوطني أو أي حقوق فردية أو أجتماعية أخرى .

أما بخصوص واقع حرية التعبير في الأردن خلال العقد الأخير، أو حتى منذ الربيع العربي،لا يمكن ان يخطئ احد حقيقة أن الأمر كان يتغير صعوداً وهبوطاًوذلك حسب التطورات الداخلية بشكل أساسي(في بداية العقد الاول من هذا القرن واثناء الربيع العربي)، وحسب مقتضيات الظروف الإقليمية حالياً .

فقد شهدت المملكة في فترات سابقة ليست بعيدة حالة انفراج وانفتاح في مجال حرية التعبير ومرافقاتها حرية الرأي وحرية الكلام وحرية الصحافة ، لدرجة وصف معها المعهد العالمي للصحافة (IPI) الصحافة الأردنية قبل حوالي خمس سنوات بأنها الأكثر انفتاحا بين الصحافة العربية في مرحلة ما قبل الربيع العربي .

فقد قامت الحكومة بتعديل قانون المطبوعات والنشر بحيث تم إنشاء غرفة قضائية خاصة بقضايا المطبوعات والنشر تسهيلاً لممارسة القضاء لدوره في التعامل مع مخالفات وسائل الإعلام والصحفيين، وجرى إنقاص مدد تقديم اللوائح وتبادلها أمام محكمة البداية الى النصف (تقرير المركز الوطني لحقوق الانسان 2012 ص:63) . كما تم تعديل القانون بالنص صراحة على عدم توقيف الصحفيين .

وعدلت الحكومة قانون محكمة أمن الدولة لتحصر ولايتها بخمسة جرائم فقط هي : التجسس والخيانة وتزييف العملة والمخدرات والإرهاب. وأصدر جلالة الملك عبدالله الثاني في عام 2009 مرسوماً ملكياً يمنع بموجبه حبس الصحفيين.

لكن هذا الانفتاح في ميدان حرية التعبير والحق في حرية القول والرأي في الأردن لم يدم طويلاً.، إذ سرعان ما تعرض مثل هذا الانفتاح في السنوات الأخيرة لكثير من الجزر وقليل من المد.

فعلى اثر الربيع العربي أقدمت الحكومة على عدة خطوات ، سواء بحق الصحافة والصحفيين أو بأقرانهم من نشطاء الحراك ’ السلمي ‘ أدت إلى تراجع تصنيف المملكة في تقارير الرصد العالمية . ففي تقرير بيت الحرية للعام 2011 جاء تصنيف الأردن في المرتبة الخامسة من بين تسع عشر دولة في منطقة الشرق الأوسط .

والحقيقة أن المركز الوطني لحقوق الإنسان الذي تابع حالة حرية التعبير في المملكة عن كثب في تقاريره السنوية بشكل موسع (لا سيما في آخر تقرير له عن العام 2012 الذي أوعز جلالة الملك إلى رئيس الحكومة ورئيس السلطة القضائية بدراسته وتنفيذ ما جاء فيه من توصيات) قد رصد عدداً من الانتهاكات في هذا المجال تركزت في ناحيتين : الأولى تبني واقرار الحكومة لعدد من التشريعات التي ، وأن كانت محدودة،كان لها أثر ملحوظ على حرية التعبير من حيث تضييق هوامش الحرية التي كانت متاحة سابقاً أمام المواطنين – صحفيين أو نشطاء سياسيين أو حتى مجرد محتجين سلميين . والثانية تمثلت بتغليظ العقوبات وتشديد المتابعة بحق من يقوم بانتقاد السلطات (الاردنية أو الدول الأجنبية) ، لاسيما القادة والمسؤولين وحتى المؤسسات بالرغم ان مثل هذا الانتقاد – وحتى التهجم – على السلطات الرسمية والتنفيذية والرسميين امر ليس فقط مباحاً بل وبسقف عالٍ بموجب المعايير الدولية.

ومن أبرز التشريعات التي تم تعديلها ونجم عنها ردود فعل معارضة لدى القطاع الإعلامي كان قانون المطبوعات والنشر. فقد قامت الحكومة في شهر أيلول من عام 2012 بتعديله مطالبة المواقع الإلكترونية التي كان عددها بالمئات بضرورة التسجيل وتصويب اوضاعها والحصول على ترخيص لدى دائرة المطبوعات والنشرالهيئة المعنية آنذاك والتي جرى فيما بعد إلغائها كهيئة مستقلة ودمج كادرها ومهامها مع هيئة الاعلام ليشكلا هيئة واحدة هي هيئة الاعلام. وقد جاء ذلك التعديل مزيجاً من اجراءات تنظيمية ضرورية وصائبة(من وجهة نظر موضوعية) ومن شروط تقييدية ضيقت الفضاء الالكتروني الوطني والمباح امام وسائط التعبير الالكتروني التي كانت تمارس إباحة للحرية في أوقات وان لم تلغِ الحق في التعبير للممارسة السليمة من دائرة النشاط.

وكان المركز قد قدم مطالعة بشأن تلك الاجراءات شدد فيها على ضرورة عدم اشتراط الترخيص لممارسة مهنة الصحافة مع أهمية التزام هذه المواقع وغيرها باحترام الكرامة الإنسانية بتحاشي القدح والذم والتشويه والتشهير ، والتفريق بين النقد وبين الشتيمة أو الإتهام الباطل الذي كانت تقوم به بعض وسائل التواصل الاجتماعي أو المواقع الالكترونية أو أي وسيلة نشر.

ومن المعروف أن خطوة الحكومة تلك والتي جاءت إثر تزايد الشكاوى من مختلف القطاعات (من القطاع العام والقطاع الخاص) بحق عدد من المواقع بسبب قيامها – اي المواقع - بالتعدي على حريات الآخرين والطعن بكرامتهم وتشويه سمعتهم قد قوبلت بدرجة من القبول الشعبي بالرغم من عدم حماسة المجتمع من حيث المبدأ لأي تضييق على حرية الرأي والتعبير بشكل عام.ولذلك كانت اغلبية الشكاوى ضد المواقع الإلكترونية أو غيرها من الوسائل الإعلامية ليس من قبل السلطات بل من قبل اشخاص طبيعيين وبشأن التجريح أو المساس بكرامة أو سمعة هؤلاء ، وبالتالي ليس لدواعي الأمن الوطني أو حماية النظام العام أو الأخلاق العامة.

لكن بالمقابل اشتكى البعض بأن السلطات قد استغلت حالة الامتعاض المتنامية أنذاك من عدد محدود من المواقع الإلكترونية لتقلص الحرية والمساحة أمام النقد البناء والذي إن لم يكن جميعه فجله في محلة؛ لا بل كان هناك ترحيب شعبي بعملية النقد الواسع الذي شهدته الأردن في تلك الفترة والتي قامت به مواقع الكترونية ووسائل إعلامية أخرى متزنة وبشكل موضوعي بتسليط الضوء على العديد من قضايا الفساد والمخالفات الإدارية الكبيرة التي ارتكبها مسؤولون استغلوا مناصبهم ومواقعهم لتحقيق ليس فقط مكاسب شخصية بل والإضرار بالأمن الاقتصادي والإجتماعي للبلد والمجتمع.

وجاءت شكاوى الصحافة والنشطاء السياسيين والنقابيين وحتى قطاع واسع من الجمهور في تلك المرحلةنتيجة قناعة مفادها أن الحكومة قد تجاهلت ضمانات الحماية التي يوفرها الدستور للحريات . بما فيها حرية الصحافة .فالتعديلات الدستورية للعام 2011 أكدت على أهمية الإلتزام بحماية حقوق الأردنيين وعدم المساس بحرياتهم كما جاء في المادة رقم 128 (التي نصت على ألا يمس أي قانون يتم سنه بجوهر الحق الذي ينظمه هذا القانون)لكن الحكومة استبقت ذلك التعديل الدستوري وقامت عام 2010بتعديل قانون العقوبات لتغليظ العقوبات ضد ليس فقط الأفراد بل وبحق أشخاص معنويين ومؤسسات باستخدام المادة (149) من القانون المذكور التي تعاقب على جرائم مثل تقويض نظام الحكم والتجمهر غير المشروع والتحريض على المقاومة في إطار محاربة الإرهاب.

ولم يكن آنذاك موضوع التوتر بين الأمن الوطني وحرية التعبير مطروحاً بالشكل الذي هو عليه الآن. بتاريخ 30/4/2014 أي بعد ثلاث سنوات على انطلاقة الربيع العربي عدل البرلمان قانون مكافحة الإرهاب ليصار إلى التوسع في تعريف جريمة الإرهاب لتشمل «تعكير صفو علاقات الأردن مع دوله أجنبية».

وبررت الحكومة هذا التعديل بتشديد العقوبات المنصوص عليها في قانون العقوبات على حرية التعبير المكفولة ليس فقط بموجب الدستور بل وبموجب المادة 19/ب من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية بأنه تم.»لتمكين الأردن من التعامل مع تدفق المقاتلين العائدين من سوريا « على حد قول وزير الدولة لشؤون الإعلام.وكأن الحكومة قد استبقت الاحداث ولجأت الى الفقرة (ج) من المادة المذكورة والتي تضع قيوداً على حرية التعبير وذلك تحوطاً من تداعيات نشاطات دعوية واعلامية فكرية وأيدولوجية كانت معالمها قد أخذت تظهر في الأفق الوطني وقد تشكل مصادر تهديد للأمن لحماية الأمن الوطني والنظام العام والاخلاق وحقوق الآخرين وحرياتهم الشخصية.

وهكذا يكون التبرير قد انطلق هذه المرة للسياسة الجديدة المتشددة بحق الإعلام وحرية التعبيرمن إعتبارات الامن الوطني واستنادأ الىظروف جيوسياسية أكثر منه من أجل المحاسبة علىتجاوزات على حرية الأخرين وكرامتهم ولحماية الأخلاق العامة . وهذه الاستثناءات تسمح بها المادة رقم (19) من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسيةالمذكورة أنفاً.فمن المعروف أنه لا يوجد حرية تعبير مطلقة .فالفقرة (ج) من المادة (19) من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية تنص على تقييدات على حرية التعبير . لكن هذه التقييدات وضعت بدورها الشروط في ذات المادة بحيث تبقى مسألة حماية الحق في الحرية هو الأساس والتقييد عليه هو الاستثناء .

غير أن تعديل قانون مكافحة الإرهاب جاء بمواد جعلت من السهل محاكمة أشخاص على جرائم بسيطة باعتبارها أعمالا إرهابية مما قد يجعل من هذا «الحق» هو الاستثناء وتصبح «القيود» هي القاعدة. هذا الى جانب غموض بعض مواد قانون العقوبات وعموميتها الى الحد الذي ينتج المخاوف- وليس بدون وجه حق – بأن السلطات قد توسعت في الاستثناءات وفي تقليص المساحة أمام الحرية بدواعي القلق لاعتبارات الأمن الوطني في أكثر الأوقات، ولحماية النظام العام والأخلاق في حالات محدودة جداً.فأصبحت مسألة الأمن الوطني وبشكل متدحرج محوراً أساسياً في مواقف الحكومة الأردنية من حقوق الإنسان. وأضحى هذا الأمر يشكل تحدياً جوهرياً وجدياً للأطراف كافة لان طرفي المعادلة : الحرية والأمن ضروريان للمجتمع وبذات الدرجة من الأهمية. وأخذ الداخل الوطني يتململ والحكومة تبرر خطواتها بدوافع محاربة التطرف والفكر التكفيري والإرهاب والخارج المتربص-ومنه حلفاء الدولة- ينتقد ويستثمر دبلوماسياً وسياسياً .

ولما كانت حرية التعبير لا تقتصر فقط على حرية النشر والكتابة وبالتالي حرية الصحافة والاعلام بل وحرية التجمع والاضراب والاحتجاج والتظاهر السلمي وكذلك النقد، جرى اعتقال نشطاء الحراك في الربع الأخير من العام 2012 على خلفية مطالبة هؤلاء بشكل عام بالإصلاح ومحاكمتهم من قبل محكمة أمن الدولة. واستمرت هذه الممارسة - ولو بشكل محدود ومتقطع- حتى بداية العام الحالي. واستخدمت الحكومة مواد من قانون العقوبات رقم 16 لعام 1960 المادة (149, 164 , 195) حول التجمهر غير المشروع وتقويض نظام الحكم وإثارة الشغب وكذلك إطالة اللسان لمحاكمة مدنيين تطاولوا على رأس الدولة وشخصيات عامة أخرى .

الحاجة لتشريع يحدد طبيعة التقييدات على حرية التعبير

وكانت الحكومة قد عدلت قانون المطبوعات والنشر لفرض غرامة على الصحفيين تصل إلى حد 20.000 دينار أردني في حال الحكم بالتشهير وتشويه السمعة والمس بالكرامة لشخصية عامة . ويتذكر المراقب أن السلطات كانت حتى فترة قريبةتسمح بمساحة واسعة للنقد.وكانت تتغاضى بشكل ملحوظ عن ملاحقة أشخاص صدرت عنهم تهم تتضمن الإساءة الشخصية والمس بالسمعة والكرامة لرسميين (ولو من الصف الثاني) . بالمقابل كان نشطاء الحراك يتعرضون للتوقيف والإحتجاز وتوجه اليهم تهم مثل «إطالة اللسان» أو «تقويض نظام الحكم» أو «التجمهر غير المشروع وإثارة الشغب».وتولت محكمة أمن الدولة النظر في مثل هذه القضايا وبموجب قانون محاربة الإرهاب العتيد، وان كانت الاحكام التي أصدرتها بحق هؤلاء الأشخاص مخففة بحيث أمكن تحويلها إلى غرامات مالية مع إخلاء سبيل المذكورة. وهذه الوقائع تطرح تحدياً أساسياً حول العلاقة بين حرية التعبير وحقوق الإنسان بشكل عام والأمن بما فيها ذلك مدى مواءمة التشريعات الوطنية لكل من الدستور والمعايير الدولية التي التزم بها الأردن على حد سواء.

لكن ما يهمنا هنا هو اين يكمن الخلل؟ هل هو في التشريعات او في الممارسة؟وهل هو من جانب السلطات او من أصحاب الحق؟ وهل الإشكالية في المجتمع أم في السلطات ؟

والحقيقة أن الاجابة على هذا السؤال ليست سهلة ولا يمكن ان تكون صريحة أو مباشرة «بنعم أولاً»، أو «بتوجيه اللوم والتقصير لهذه الجهة أو تلك فقط».

فالصكوك الدولية تضع نصوصاً وقواعد عامة معيارية توفر سلطة ضاغطة على الدولة من جهة وضمانة لأصحاب الحقوق من جهة أخرى. ولكن وبذات الوقت تضع حدوداً على أصحاب الحقوق وبشكل تقييدات على ممارسة الحق من ناحية .وتشكل هذه القيود التي يمكن فرضها – ولو بشروط – على الحق في حرية التعبير نوعاً من الرخصة للسلطات تمكنها من تقيد حرية التعبير حمايةً للمجتمع وأمنه واستقراره . لكنها – أي المعايير الدولية – تضع لممارسة هذه الرخصة شروطاً على كيفية تحديد هذه القيود من ناحية أخرى. فالتقييدات علىحرية التعبير والتي شبهناهابالرخصة المتاحة للسلطات يجب أن تستخدم ومنحت لحماية المجتمع والنظام العام وليس من اجل توفير الحصانة للنظام السياسي أو للرسميين والتنفيذيين والسياسات العامة ضد النقد الشعبي والمساءلة من قبل المواطنين.إذ لا بد ان تخضع مثل هذه القيود على الحق في ممارسة حرية التعبيرللشروط المنصوص عليها في المادة (19/ج) . وتشمل هذه الشروط ان يكون تطبيقا لقيود المشار اليها من قبل السلطات لغايات مشروعة ، وضرورية ، وبموجب قانون واضح وفي مجتمع ديمقراطي.ويكمل ذلك ويقترن به بشكل عضوي حقيقة ان وجود مثل هذه الشروط أمر هام لمحاسبة اصحاب الحق (المواطنين) اذا تجاوزوا القيود او التقييدات على حرية التعبير .

وهنا يبرز السؤال الكبير والجوهري وهو: هل أن القيود التي وضعتها الحكومة الاردنية على حرية التعبير سواء بدواعي الحفاظ على الامن الوطني أو لحماية الحرية الشخصية وكرامة الآخرين وحقوقهم والأخلاق العامة والنظام العام قد استوفت الشروط الموضوعية التي تضمنها النص الدستوري المادة (128) والمعايير الدولية المشار اليها أنفاً؟ وهل هذه الشروط صيغت بشكل واضح ومفهوم للمواطن وفي ظل عملية تشريعية سليمة متكاملة وحسب مضمون النصوص الدستورية والمعايير الدولية التي التزم بها الاردن؟ وأخيراً هل تمت في اطار مجتمع ديمقراطي؟ وانظروا هنا الى النص الذي يتضمن ضرورة أن تصاغ القيود على الحق في حرية التعبير في ظل مجتمع ديمقراطي قبل الحديث عن نظام سياسي ديمقراطي. فالمجتمع الديمقراطي هو المقدمة –أي القاعدة الاجتماعية – للنظام السياسي الديمقراطي. ووجود مثل هذا المجتمع هو أحد الشروط الواجب توافرها لفرض أية قيود على حرية التعبير. ولذلك يثور التساؤل فيما اذا كان المجتمع الاردني فعلاً مجتمعاً دمقراطياً. واذا كان الجواب بالنفي (وهو الأرجح) فما هي الأسباب لغياب الديمقراطية ؟ هل للنظام السياسي دور في استمرارية وادامة نظام اجتماعي اردني عشائري ، تقليدي غير تعددي، وغير حداثي. أم أن المجتمع هذا هو الذي كرس بتلقائية وتصميم هذا النمط الإجتماعي والثقافي ؟

ختاماً، يمكن للمرء أن يسجل وفي سياق وصف عام جداً اولي وخاضع للنقاش والحوار الملاحظات الأتية : أولاً - أن التشدد الحكومي في العقوبات والتقيدات على حرية التعبير أتى في أغلب الأوقات كرد فعل على تطورات معينة تقع في المجتمع وعلى صعيد ممارستها هذه الحرية بطريقة يتجاوز فيها اصحاب الحق أحياناً الإطار أو السقف الذي تسمح به حتى المعايير الدولية. ثانياً - غياب الشرط الديمقراطي الناجز عن المجتمع الأردني كأحد الشروط المطلوبة لوضع التقييدات على حق المواطنين المبدئيفي حرية التعبير ، ثالثاً – أن هذا القول بعدم ديمقراطية المجتمع الأردني ’ على وجاهته ‘ لا يحسم الجدل القائم حول ثنائية القيود على حرية التعبير باسم الأمن الوطني والشروط المفروضة على وضع أو استخدام هذه الرخصة من قبل السلطة . بل يعيدنا الى المربع الأول وهو: ماهيةأو طبيعة العلاقة بين النظام الاجتماعي والنظام السياسي في الأردن ؟ من حيث أي منهما المسؤول في الدرجة الأولى عن غياب السمة الديمقراطية الناجزة للحالة الوطنية العامة ؟

لكن دعونا نعود بسرعة وقبل الغوص بعيداً في السؤال حول موضوع فكري واستراتيجي واسع والعودة الى الإجراءات التي تتبناها الحكومة خاصة في ميدان التشريعات الناظمة للحق في حرية التعبير لنجد أنها - أي التشريعات – تخرج عن ما تقتضيه المعايير الدولية والدستورمعاً ، وذلك بإحالة المخالفين إلى محكمة أمن الدولة وبتوسيع نطاق الجنحة لتصبح جريمة في أكثر من مناسبة ، وصدور الأحكام عن محكمة أمن الدولة – وهي المحكمة غير المخولة لمحاكمة المدنيين -ولو بقضاة مدنيين وأحكاماً مخففة في قضايا عديدة خاصة بتهم التجمهر غير المشروع وتقويض نظام الحكم وإثارة الشغب أو المقاومة بحق نشطاء الحراك . كما ان القانون او القوانين التي تنظم عملية ممارسة الحرية - وفي اغلب الأوقات - ليست واضحة ومبسطة بحيث يفهمها صاحب الحق ويعرف أين تبدأ حقوقه ورخصة التعبير وأين يجب ان يتوقف. كما ان الدافع أو الدوافع لمثل تلك التقييدات ليست دائمة مشروعة أو شرعية (بغض النظر عن قانونيتها) وليست ضرورية بمعنى انه يمكن تحقيق الغاية منها بوسيلة اخرى غير التقييد، مثلما انها لا تمثل الحد الأدنى من القيود المطلوبة لتحقيق الغاية المشروعة منها كمت تقتضي الممارسات الفضلى في هكذا حالة .كونها– أي الأحكام – تتعدى ما هو ضروري لردع المخالفة . ويبدو الأمر وكأن الحكومة وضعت تلك التشريعات وهي في حالة استنفار أمني. من جهة ثانية تؤشر الحكومة على أن هناك استثمارا ماديا في القضايا الحيوية والحساسة في البلاد ، وأن حرية التعبير تستخدم أوقاتاً وفي حالات محدودة لاعتبارات التمويل بعيد عن المهنية والإستقلالية والبحث عن الحقيقة . وتطالب أن يرفض الجميع حالة الاستثمار المالي والسياسي– مدنياً ودبلوماسياً -( خارجياً وداخلياً) التي تستخدم في قضايا حقوق الإنسان بمن فيها قضايا حرية التعبير وحرية الصحافة والصحفيين ، وأن يتخلص المجتمع الأردني من هذه ’ الوصمة ‘ وتسمو قضايا حقوق الإنسان على اعتبارات التسيس (من قبل مختلف الجهات )والبزنيس .

كل هذا يمكننا من القول أن الأساس للإجراءات الحكومية في وضع بعض التحوطات على حرية التعبير قد تكون سليمة من حيث المبدأ الذي تنطلق منه لكنها معيبة بطريقة التشريع والتطبيق. وان هناك حاجة لتشريع واضح يحدد طبيعة التقييدات على حرية التعبير ونوعيتها ، ويّصاغ بشكل مفهوم وبموجب الشروط والأسس التي تضمن انسجامه مع الدستور والمعايير الدولية.

لأن الأمن الوطني والأمن بشكل عام قيمة اساسية وحيوية ،والحرية قيمة اساسية وحيوية ويجب أن يتوافقا والطريقة السليمة لذلك في وجود قانون واضح ومبني على توافق مجتمعي حقيقي يحترم الحق في حرية التعبير كحق أساسي وحيوي والأمن الوطني كضرورة قصوى وينطلق من الإنسجام التام مع الدستور والمعايير الدولية ذات الصلة .