التعديلات على قانون أصول المحاكمات المدنية لا تعالج تأخير الدعاوي أمام المحاكم بل تعقدها

01/08/2016


إعداد: المحامي فاروق الكيلاني

مركز الرأي للدراسات

تمهيـــد

ان اعادة صياغة التشريعات القضائية سواء من حيث السياسة التشريعية او الفلسفية التي يجب ان تقوم عليها او من حيث موضوعها لضمان عدالتها وعدم تناقضها وضبطها هو امر على قدر كبير من الاهمية من اجل ازالة العقبات التي تحول دون الافراد وحقهم في التقاضي.

واعادة الصياغة هي عملية اجتهاد وابداع ودراسة للنظريات التي جدت في عالم التشريع فتطوير القوانين يجب ان يواجه تغيير العلاقات الاجتماعية والاقتصادية الجديدة في المجتمع حتى تكون النصوص الجديدة متفقة مع متطلبات العصر وتنسجم مع النصوص الدستورية التي تصون حق التقاضي واستقلال القضاء.

والتعديلات التي تم تقديمها مؤخرا على قانون اصول المحاكمات المدنية لا تشير الى اي تطوير او تقدم في هذا المجال بل انها تتسم بزيادة تعقيد الاجراءات و تعطيل سير الدعوى والى وضع العراقيل امام الافراد للحصول على العدالة وفي حالات كثيرة تتسم هذه التعديلات بنظرة رجعية تعيد الاوضاع القضائية للقرن التاسع عشر والعديد منها مخالف لاحكام الدستور.

وان التعديلات التي تمت هي تعديلات كانت صغيرة وضعت (بخجل شديد) وعلى (استحياء) وكثير منها يخالف المبادئ القانونية .

ان طبيعة المرحلة التي تمر بها بلادنا تستلزم معالجة الامور التشريعية وخاصة تلك التي تمس شؤون العدالة بكثير من الاناة والموضوعية وبكثير من الصراحة، حتى لا تنكشف التشريعات بعد صدورها عن تناقضات تؤدي لكثير من المظالم والوقوع في نفس الاخطاء.

وحتى لا تصبح القوانين أداة تعيق التطور وتقف حاجزاً لامال الشعب الكبرى في العدالة فالقوانين يجب ان تكون دائماً قادرة على دفع التطور الوجهة الصحيحة وقادرة على نقل المجتمع بكل قوة من موقع ادنى لموقع اعلى في سلم الرقي الاجتماعي .

ولجنة التعديل لم توجه نظرها الى كثير من النصوص الخاطئة التي تتعارض مع النظريات القانونية الحديثة والتي تتعارض مع قوانين اخرى و مع الدستور كما هو واضح فيما يلي:

اولاً: الادعاء المتقابل

من التعديلات المقترحة على قانون اصول المحاكمات المدنية الغاء الادعاء المتقابل بداعي ان هذا الالغاء يعتبر اختصاراً لاجراءات التقاضي ويجعل الدعوى محصورة فقط بموضوعها دون اقحام اي موضوع اخر فيها.

وهو تعديل مخل بالعدالة لان الادعاء المتقابل هو جزء من اجراءات الدعوى ويكون مرتبطاً بالطلب الاصلي في الدعوى ولا يجوز فصله عنها.

كأن يرفع المدعي دعوى لمطالبة المدعى عليه بمبلغ معين فيقابل المدعى عليه هذه الدعوى بادعاء متقابل يطلب فيه اجراء مقاصة قضائية لوجود دين له على المدعي، فهذا الادعاء يرتبط بالادعاء الاصلي وهو جزء من اجراءات الدعوى ولا يجوز فصله عنها.

كانت النظرية التقليدية في الاجراءات تذهب الى اعمال ثبات الطلب القضائي بحيث لا يجوز اجراء اي تعديل عليه فاذا رغب المدعى عليه تقديم ادعاء مقابل كان عليه اجراءه عن طريق رفع دعوى جديدة مما قد يؤدي الى صدور احكام متناقضة وعدم حسم الخصومة الاصلية، و تعقد الاجراءات مما ادى لظهور نظرية (الطلبات العارضة) ومنها الادعاء المتقابل وهي طلبات ترتبط بالادعاء الاصلي و تؤدي لطرح النزاع بابعاده المختلفة امام القضاء و يهدف المدعى عليه من وراءه الى دفع ادعاء المدعي والحصول على حقوق له.

فالادعاء المتقابل اذن هو وثيق الصلة بالادعاء الاصلي و يرتبط به برابطة قوية ويستهدف طرح النزاع بكامله امام المحكمة حتى يصدر به حكم واحد.

والادعاء المتقابل موجود في كل تشريعات الاصول المدنية في الدول العربية وفي القانون الاردني منذ صدروه و حتى الان و حذفه من القانون لا يعتبر تسريعاً في نظر الدعوى وانما يعتبر هدماً لمبادئ استقر عليها الزمن منذ عشرات السنين.

والادعاء المتقابل هو طلب عارض من طلبات الدعوى ولا يعد عرقلة للاجراءات وانما هو جزء من اجراءات الدعوى يجعل المحكمة تنظر الدعوى بكامل اجزائها وابعادها ويحول دون صدور قرارات متناقضة فيما لو تم رفع المدعى عليه بادعاء المتقابل دعوى جديدة.

ثانياً: تنظيم التبليغات بنظام

من التعديلات التي اجريت على قانون اصول المحاكمات المدنية الغاء النصوص المتعلقة باجراء التبليغات وترك تنظيمها لنظام يصدر وكان تبرير ذلك ان النظام يحقق مرونة اكبر في التعامل وان التعديلات اخذت بالوسائل الالكترونية الحديثة لاجراء التبليغ بواسطة البريد الالكتروني للمحامي او بواسطة ارسال رسائل نصية الى المحامي بواسطة الهاتف النقال وان ذلك يساعد على الحد من المماطلة في اجراءات التقاضي وهو تفسير قاصر وفاشل لما يلي:

أ. لان الدعاوى امام المحاكم ليست جميعها تتم بواسطة محامين فمعظم الدعاوى الصلحية تتم دون محام وليس للخصوم فيها بريد الكتروني ولا يحملون هواتف نقالة ولا يعرفون ارسال رسائل نصية لهواتف الخصوم.

ب. ان الاوراق القضائية لا يمكن عملاً بتبليغها بواسطة المحامين او الهواتف المحمولة اذ ان هذه الاوراق يجب ان تشتمل على بيانات معينة لا يمكن ان تتم بواسطة محامين كما ان التبليغ للدوائر والمؤسسات الرسمية التي تكون خصما في الدعاوى لا يمكن ان يتم بهذا الاسلوب لعدم معرفة رقم الهاتف المحمول لمدير الدائرة او المؤسسة.

ج. ان ترك تنظيم التبليغات لاحكام النظام مخالف للدستور لان التبليغات شأن من شؤون المحاكم وبموجب المادة (101) من الدستور لا يجوز التدخل في شؤون المحاكم فجاء في هذه المادة المحاكم مفتوحة للجميع ومصونه من التدخل في شؤونها).

واناطة التبليغات بنظام يصدر عن السلطة التنفيذية هو تدخل في شؤون المحاكم من قبل السلطة التنفيذية مخالف لاحكام المادة (101) المشار اليها.

د. كما ان المادة (103) من الدستور نصت على ان (تمارس المحاكم النظامية اختصاصها في القضاء الحقوقي والجزائي وفق احكام القوانين النافذة المفعول في المملكة)

والممارسة هي الاداة العملية التي يتم بموجبها تطبيق القوانين.

والتبليغات هي صورة من صور الممارسة لعمل المحاكم فلا يجوز ان تتم بموجب نظام وانما يجب ان تتم بموجب القوانين.

فالتبليغات في الدعاوى التي تنظرها المحاكم يجب ان تتم بموجب قانون يحدد كيفية اجرائها و كيفية قيام موظفي المحاكم (المحضرين) باجرائها عملاً باحكام المادة (103) من الدستور المشار اليه.

والنص في الدستور على ان تمارس المحاكم النظامية اختصاصها وفق احكام القوانين النافذة المفعول في المملكة يعني ان التبليغات يجب ان تتم بموجب هذه القوانين وليس بموجب نظام، وهو نص الزامي لا يجوز تخطية.

ونصوص التبليغات في قانون اصول المحاكمات المدنية هي نصوص فاشلة يجب ان يتم تعديلها.

و يجب ان يتناول التعديل على النصوص المتعلقة بالتبليغات ما يلي:

1- نقل كافة المحضرين الى مراسلين في المحاكم لعدم حصولهم على شهادات جامعية.

2- تعيين المحضرين من الحاصلين على شهادة جامعية و رخصة قيادة للدراجات النارية لتمكين المحضرين من اجراء التبليغات بواسطة الدراجات النارية.

3- معاقبة المحضر الذي لا يقوم بعمله بشكل قانوني بغرامة لا تقل عن خمسين ديناراً.

4- يجب ان يتم تبليغ الورقة القضائية خلال اسبوع واحد من تسليم المحضر لها.

ثالثاً: سماع الشاهد لدى كاتب العدل

من اغرب التعديلات المقترحة على قانون الاصول المدنية ان يتم سماع شهادة الشاهد في الدعوى امام الكاتب العدل وتنظيم شهادته بمحضر يقدم للمحكمة وهو اجراء غريب يمنح كاتب العدل سلطة القضاء،الامر المخالف لنصوص الدستور الذي يحصر سلطة القضاء بالمحاكم وحدها.

ان سماع الشاهد امام الكاتب العدل لا يمنع من مناقشته امام المحكمة ولا تتحقق سرعة الانجاز المدعى بها بل يؤدي هذا الاجراء لتعطيل سير المحاكم وليس للاسراع باجراءاتها.

ان العبث باجراءت المحاكم الى هذه الدرجة يقطع اوصال الدعوى ويعرقل اجراءات العدالة ويشكل اعتداء على سلطة القضاء.

وهذا التعديل مخالف لاحكام المادة (102) من الدستور التي نصت على ما يلي: (تمارس المحاكم النظامية في المملكة الاردنية الهاشمية حق القضاء على جميع الاشخاص في جميع المواد المدنية والجزائية بما فيها الدعاوى التي تقيمها الحكومة او تقام عليها باستنثاء المواد التي قد يفوض فيها حق القضاء الى محاكم دينية او محاكم خاصة بموجب احكام هذا الدستور او اي تشريع اخر نافذ المفعول).

فهذا النص حصر ولاية القضاء (بالمحاكم) وحدها في جميع المواد المدنية والجزائية فلا يجوز منح هذه الولاية للكاتب العدل ولا يملك الكاتب العدل ان يستمع لشهادات الشهود في اي دعوى مدنية او جزائية فمنح الكاتب العدل حق سماع شهادات الشهود في اية دعوى هو اعتداء على سلطة القضاء التي تملك وحدها ممارسة هذ السلطة.

رابعاً: اجراء المحاكمة تدقيقاً

تنص المادة (182) على ان (تنظر محكمة الاستئناف تدقيقاً في الطعون المقدمة إليها في الاحكام الصادرة عن محاكم الصلح والاحكام الصادرة وجاهياً عن محاكم البداية اذ كانت قيمة الدعوى لا تزيد على ثلاثين الف الا اذا قررت رؤيتها مرافعة من تلقاء ذاتها او بناء على طلب احد الخصوم) و في التعديل الذي تم مؤخراً اصبحت قيمة الدعوى لا تزيد على مائتي الف دينار بمعنى ان تنظر محكمة الاستئناف الدعوى التي لا تزيد قيمتها على مائتي الفا تدقيقاً اي دون حضور الخصوم.

وهذا التعديل يخالف احكام المادة (101) من الدستور.

تنص المادة (101) من الدستور الاردني على ما يلي: (جلسات المحاكم علنية الا اذا رأت المحكمة ان تكون سرية مراعاة للنظام العام او محافظة على الآداب).

بموجب هذا النص لا يجوز لأية محكمة في الدولة أن تنظر الدعوى في غرف مغلقة تدقيقاً ودون حضور الخصوم سواء كانت قيمة الدعوى ثلاثين الفاً او مائتي الف لان (التدقيق) يعني ان تنظر المحكمة الدعوى (سراً) دون حضور الخصوم ومبدأ العلانية الذي نص عليه الدستور يقضي تعيين جلسات محاكمة وحضور الخصوم واداء طلباتهم ومرافعاتهم علناً في الجلسة وكل ذلك بحضور الجمهور.

فاسلوب (التدقيق) الذي يتم في الغرف المغلقة دون حضور الخصوم والجمهور يتنافى مع مبدأ علانية المحاكمة الذي قرره الدستور كقاعدة عامة باستثناء حالتي مخالفة النظام العام و مراعاة الآداب.

أما في غير هذه الحالة فان جلسات المحاكم يجب ان تكون علنية ولا يجوز ان تكون (تدقيقاً) اي سراً.

ولذلك فان النص على ان يتم نظر الدعاوى امام محكمة الاستئناف في الدعاوى التي لا تزيد قيمتها على (30) الف دينار والذي اصبح بعد التعديل مائتي الف وفي كافة القضايا امام محكمة التمييز تدقيقاً في الغرف المغلقة مخالف للدستورلان علانية جلسات المحاكمة تمثل اصلاً ثابتاً وقاعدة استقر العمل على تطبيقها في كافة الدول الديمقراطية ولا يمكن ان تكون المحاكمة منصفة وعادلة تصون حقوق الخصوم اذا كانت تتم في غرف مغلقة ودون حضور فرقاء الدعوى ودون حضور الجمهور.

ان تعمد مخالفة الدستور لا يعتبر تطويراً وانما يعتبر (هدما) للنظام القضائي وانتهاكاً للدستور اذ لا نص اعلى من الدستور فالنصوص الدستورية هي الاعلى مرتبة في التشريع لا يجوز تجاوزها ولا تخطيها وان القول ان محكمة الاستئناف اصبحت مثقلة بالطعون التي تقدم لها فاستهدف هذا النص تخفيف الاعباء عنها هو قول شديد الخطورة لان كثرة الطعون امام المحكمة لا يجب ان تكون سبباً لاغلاق طرق الطعن امام هذه المحكمة ولا وضع القيود امامها لمساس ذلك بالعدالة التي يجب ان يكون تحقيقها فوق كل اعتبار ولان كثرة الطعون لها سبب آخر يتعلق بنقص الكفاءة لدى القضاه والعجز التام عن فصل الطعون.

ان العدالة يجب ان تكون هي الهدف الاسمى امام التعديلات التشريعية.

فالقوانين لا تسن لاغراض شخصية لتخفيف الاعباء وانما لتحقيق المصلحة العامة و توطيد دعائم العدالة في المجتمع.

فعلانية الجلسات تجعل المحكمة تتحقق بنفسها من حقيقة الدعوى ووفائعها وادلتها وتطبيقاتها القانونية.

كما ان علانية المحاكمة لها (سند سياسي) هي اشتراك الشعب في الاطلاع على المحاكمات وكيف تقوم المحاكم باصدار الاحكام على الافراد وكيف تفصل في القضايا.

(فالمحاكمة) في كافة الانظمة القضائية في العالم لم تعد امرا يهم صاحب الدعوى او المتهم بل اصحبت تهم (الرأي العام).

ان نظام (التدقيق) ينظر الطعون في غرف مغلقة دون حضور الخصوم هو (ابتداع اردني) تفتق عنه اجتهاد وابداع المصلحين الذين ارادوا نسف القضايا المتراكمة دون البحث في العدالة ذاتها فتمت التضحية بالعدالة من اجل انجاز القضايا المتراكمة دون بحث حقيقي في اسباب (تراكم القضايا).

خامساً: منع تمييز

الاحكام دون خمسين الفا

تنص التعديلات على قانون الاصول المدنية التي تم اجراؤها مؤخراً على منع جواز تمييز اي حكم صادر عن محكمة الاستئناف امام محكمة التمييز اذا كانت قيمته تقل عن خمسين الف دينار.

وجاء في تعليل ذلك ان الهدف هو تخفيف العبء على محكمة التميز لتمكينها من الفصل بالدعاوى المنظورة امامها بالسرعة الممكنة وهذا النص يعني ان الاحكام التي تقل قيمتها عن خمسين الفاً لا تقبل الطعن امام محكمة التمييز فحرمان اصحاب الدعاوى التي تقل قيمتها عن خمسين الفاً من الطعن بالتمييز يعني جعل محكمة التمييز محكمة خاصة بقضايا الاثرياء و المترفين و بفقدها رسالتها في الاشراف على كافة الاحكام باعتبارها محكمة قانون تستهدف تصحيح الاخطاء في الاحكام لاعلاء حكم القانون وبسط ظلال العدالة في المجتمع.

وهذه التعديلات تشكل انتهاكا لمبدأ وحده القضاء في الدولة.

فمحكمة التمييز لها وظيفة اساسية هي مراقبة تطبيق المحاكم للقانون ولا تعمل فقط على تأكيد احترام القواعد الموضوعية ولذلك لا تبحث في الوقائع ولا تفرض رقابتها على تحصيل محكمة الموضوع لفهم الواقع او تقدير الادلة وانما تقوم بتطبيق القاعدة القانونية على كافة الحالات المماثلة حتى تكفل وحدة تفسير القانون فهي توحد التفسير والاجتهاد وتعطي النص القانوني صفة الالزام فاذا انحسرت سلطتها عن القضايا مهما كانت قيمتها اختل مبدأ (وحدة القضاء) اذ تصبح الاخطاء الواردة في هذه الاحكام ثابته ولا تقبل التصحيح.

ومحكمة التمييز هي الحارس للقانون فاذا اقتصرت اختصاصاتها بقضايا معينة فانها لا تستطيع ان تمارس وظيفتها في حراسة القانون بشكل كامل.

فالاحكام بحاجة دائما الى مراجعة من قبل محكمةاعلى لاعمال الحكم الصحيح للقانون طالما ان القضاة معرضون للخطأ، مهما كانت قيمة الدعوى.

فاذا غابت السياسية التشريعية التي ترسم للعدالة طريقتها وتضع الخطوط الاساسية لمواجهة العقبات التي تقف امامها فان المشكلة ستزداد تفاقماً وخطورة وسيظل اصحاب الحقوق يعانون من عدم الوصول الى حقوقهم.

ولان القضاة في محاكم الاستئناف كثيراً ما يخطئون فاذا لم يتم الطعن في احكامهم فان الاخطاء تصبح مبادئ مستقرة وهو امر يعيب النظام القضائي باسره.

لذلك كان هذا النص الغاء للقيم الاساسية للعدالة، والضمانات الضرورية للتقاضي.

وتختل موازين التقيم والتقدير حتى تلك التي يفترض ان تتقيد بها عملية صياغة القوانين القضائية ويتم ابتكار النصوص الشاذة التي تضعف القضاء وتنتهك العدالة.

ان العدل في الامة هو عنوان حضارتها وهو سبب تقدمها و بقائها وهو الملاذ لكل مظلوم فهو ليس منحة من احد حتى يتم استرداده باسلوب او بآخر.

وهذا النص يشكل (مصادرة لحق التقاضي) لانه يمنع الخصوم من الطعن في الاحكام طلباً للانتصاف ومصادرة حق التقاضي امر محظور بنص المادة (101) من الدستور التي وردت كما يلي (المحاكم مفتوحة للجميع).

وهذا يعني انه لا يجوز اغلاق ابواب المحاكم في وجه اية منازعة ولا اغلاق طرق الطعن امام الخصوم مهما كانت الذرائع والدوافع.

ان الالتزام الملقى على عاتق الدولة بموجب المادة (101) من الدستور يقتضيها تمكين كل متقاض من النفاذ الى القضاء نفاذا ميسرا ومن الطعن في الاحكام دون اية عوائق اجرائية بحيث لا يجوز اغلاق ابواب المحاكم او الطعن في الاحكام في وجه من يطلبها.

بل يجب ان تبقى هذه الابواب مفتوحة دائما والطريق اليها معبدا.

ان حق التقاضي للناس كافة هو حق دستوري اصيل اكده الدستور القائم بنص صريح.

وان القول ان محكمة التمييز اصبحت مثقلة بالطعون التي تقدم لها فاستهدف هذا النص تخفيف الاعباء عنها هو قول ينتهك العدالة لان كثرة الطعون امام المحكمة لا يجب ان تكون سببا لاغلاق طرق الطعن امام هذه المحكمة وحرمان الافراد من الحصول على العدالة.

فالعدالة يجب ان تكون الهدف الاسمى امام التعديلات التشريعية.

فالقوانين لا تسن لاغراض شخصية ولا لتخفيف الاعباء وانما لتحقيق المصلحة العامة وتوطيد دعائم العدالة في المجتمع.

ان تخفيف الاعباء عن محكمة التمييز اذا كانت مثقلة بالطعون التي تقدم لها فيجب ان يتم بزيادة هيئات المحكمة وليس باغلاق الابواب امام الافراد لتقديم طعونهم لان اغلاق هذه الابواب يحرمهم من العدالة و من الانتصاف ويؤدي الى انتشار الظلم والفساد ويجرد الدولة من اهم وظائفها وهي تحقيق العدالة و سيادة القانون.

وهذا الاسلوب ايضاً يتنافى مع مبدأ آخر هو مبدأ المواجهة بين الخصوم فالمحاكمة امام اية محكمة يجب ان تتم بمواجهة الخصوم من اجل تمكينهم من ابداء دفاعهم وشرح الطعون التي يتقدمون بها امام المحكمة علنا.

وهذا التعديل مخالف لاحكام الدستور من ناحية اخرى فالسلطة القضائية تختص بمقتضى الدستور بالنظر في (جميع) المنازعات بين الافراد فولايتها هي ولاية عامة شاملة لكافة المنازعات ومن ثم فلا يملك المشرع الانتقاص من هذه الولاية مطلقاً فيده مغلوله عن المساس بهذا الاختصاص فلا يجوز لمشرع ان يمنع منازعات معينة من طرق ابواب المحاكم للانتصاف فاحكام الدستور لا يجوز تعديلها بنصوص القانون.

ففي الدستور الاردني تنص المادة (102) منه على ان (تمارس المحاكم النظامية في المملكة الاردنية الهاشمية حق القضاء على جميع الاشخاص في جميع المواد المدنية و الجزائية بما فيها الدعاوى التي تقيمها الحكومة او تقام عليها باستثناء المواد التي قد يفوض فيها حق القضاء الى محاكم دينية او محاكم خاة بموجب هذا الدستور او اي قانون آخر نافذ المفعول).

فبمقتضى هذا النص الدستوري فان السلطة القضائية بمختلف جهاتها هي صاحبة الولاية العامة والحق الاصيل في نظر (جميع) المنازعات بين الافراد وفي سائر المواد المدنية و الجزائية ولا يستطيع المشرع العادي ان يمنع هذه السلطة عن نظر اي نزاع وان كان من الجائز له ان يفوض حق القضاء في منازعة معينة الى محكمة خاصة او دينية بدلاً من المحكمة النظامية فسلطة المشرع العادي اذ تقتصر على توزيع الاختصاص بين جهات القضاء المختلفة ولكن هذه السلطة لا تمتد ابداً الى اهدار الاختصاص والانتقاض منه.

فعبارة (جميع) الواردة في المادة (102) تعني (الكل) فتشمل المنازعات التي تختص بها السلطة القضائية كاملة فاخراج جزء منها بموجب القانون يخالف احكام الدستور.

فحجب المحاكم عن نظر نزاعات معينة من شأنه ان يؤدي لوجود منازعات ليس لها قاض الامر الذي يتعارض مع المبادئ التي قررتها المادة (102) من الدستور.

واذن فان التعديل الذي تم اجراءه يمنع محكمة التمييز من نظر الطعن في الاحكام التي تقل قيمتها عن خمسين الف دينار هو تعديل غير دستوري يخالف احكام الدستور صراحة وهو تعديل فاشل يجب العمل على استبعاده.

ان التطور الان يتجه الى بسط سيطرة محكمة التمييز على كافة الاحكام مهما كانت قيمتها لانها تعتبر محكمة قانون لا محكمة موضوع.

فالطعن في قرارات محكمة الاستئناف امام محكمة التمييز يستهدف كشف الاخطاء والرقابة على القضاة الذين اصدروا الحكم فهي ليست درجة ثالثة من درجات التقاضي فاختصاصها ينحصر في الرقابة القانونية على الحكم المطعون فيه و لذلك لا تبحث في الوقائع ولا تفرض رقابتها على تحصيل محكمة الموضوع لفهم الواقع او تقدير الادلة وهذه الرقابة الخطيرة للمحكمة يجب ادائها مهما كانت قيمة النزاع فلا يجوز تحديد اختصاصها بالطعون التي تزيد قيمتها على خمسين الف.

يجب عدم اغفال اهمية الدراسة المقارنة حول وظيفة محكمة التمييز لانها تعكس الحضارة التي ينبثق عنها هذا النظام.

واذا رجعنا الى الانظمة القضائية في مختلف التشريعات الحديثة تبين انها جميعاً تسلم بوجود محكمة عليا واحدة تقف على راس الهرم القضائي تقوم بوظيفة تفسير القانون و مراقبة صحة تطبيقه والوصول الى وحدة التطبيق القضائي.

وهذا يعني ان اختصاصها غير محدد (بقيمة معينة ولا بدعاوى محددة) فاختصاصها شامل لكافة الاحكام التي تصدر عن محاكم الاستئناف او عن محاكم البداية بصفتها الاستئنافية.

لانه طالما كانت وظيفتها هي الاشراف على تفسير القانون وحسن تطبيقه فقد وجب ان تخضع لاشرافها كافة الاحكام الصادرة بالدرجة الاخيرة لان هذه الاحكام قد تنطوي على تفسير خاطئ للقانون فاذا لم يتم تصحيحة اختلت العدالة.

سادساً: تعليق الطعن بالتمييز على اذن

نصت التعديلات على قانون الاصول المدينة على ان: (لا يقبل الطعن امام محكمة التمييز في الاحكام الصادرة عن محاكم الاستئناف في الدعاوى التي تقل قيمتها على خمسين الف دينار الا باذن من ثلاثة قضاه)

هذا النص يجعل الطعن بالتمييز في القضايا التي لا تزيد قيمتها على خمسين الف دينار يكرس مبدأ قديما كان تم وضعه لعرقلة سير العدالة هو مبدأ تقييد الطعون امام المحكمة العليا باذن.

فالطعون في الاحكام يجب ان يكون الباب امامها مفتوحاً و ميسراً.

ان حق الالتجاء الى القضاء في العصر الحديث اصبح من الحقوق العامة فلكل شخص اعتدى على على حقه ان يلجأ للقضاء وان يرفع الدعوى دون حاجة لوجود نص يمنحه هذا الحق او الاستئذان من اية جهة برفع الدعوى.

فتقييد الطعن بالحكم بالتمييز في بعض الحالات بوجود اذن هو تقييد لهذا الحكم الهام وهو حق التقاضي الذي كفل الدستور اصله بنصه في المادة (101/1) على ان المحاكم مفتوحة للجميع، وهذا يعني انه لا يجوز وضع اية قيود على الطعن بالاحكام فالتقاضي يجب ان يكون الباب امامه مفتوحاً.

والقول بان تقييد الطعن امام المحاكم ببعض القيود ليس فيه مساس بحق التقاضي قول غير صحيح لان حق التقاضي لا يتجسد الا بوسيلة اقتضاءه وذلك باقامة الدعوى او بالطعن بالحكم واستنفاذ كافة طرق الطعن المنصوص عنها في القانون.

كما ان تعليق تقديم الطعون في الدعاوى على (اذن) اي منحه يمكن الحرمان منها بسبب المزاج هو امر يخالف الدستور لانه من قبيل وضع القيود والعقبات امام المواطن وممارسة حقه في التقاضي.

ان توطيد دعائم العدل يتطلب اعطاء الحقوق لأصحابها بسهولة ويسر دون عقبات.

ان عدم القدرة على مجابهة التحديات التي تعترض تطور القضاء ودفع عملية الاصلاح يؤدي إلى تراكم المخاوف من الاحتمالات الغامضة حول (فقدان العدالة) و (سقوط القانون) و (انتشار الارهاب) حيث تفقد العدالة معناها وتشكل (مراكز القوى) وتصبح حقوق الناس وحرياتهم رهناً بالمزاج .

ومن هنا كان التغيير لضمان وجود جهاز قضائي قادر على اداء العدالة يتطلبها الحرص على شرعية الحكم وسيادة القانون .