محطات من تطور الشخصية الوطنية الأردنية
الدكتور معروف البخيت
في هذه القراءة، أحاول أن أستعرض ملامح الشخصية الوطنية الأردنية، وبعضاً من محطات تطورها. وهدفي في ذلك، أن يتعرف جيلٌ جديدٌ من أبنائنا وبناتنا، على تضحيات الآباء والأجداد، الذين بنوا وطناً بثقافة الأمل، واستثمروا بالإنسان وكرامته ووعيه. وأيضاً، أن أذكر أننا ونحن نجابه ثقافاتٍ طارئةً تسعى للتسلل والانتشار في مجتمعنا، جديرٌ بنا أن نستعيد جوانب أصيلة مشرقة في ثقافتنا الوطنية وفي بناء شخصيتنا الوطنية، تأسست على الانفتاح والتواصل والتنوير.
ومن هنا، فإن تعزيزَ هذه الشخصية والاستثمارَ بها وإبرازَ قيمها وفاعليتها؛ إنما تمثّلُ كلُها حصانة ثقافية، قادرة على مجابهة كل ما هو دخيل أو خارج عن منظومة القيم التي تعبّر عنها الشخصية الوطنية الأردنية، بإرثها وتراثها.
وبطبيعة الحال، لستُ هنا بصدد تقديم ملخص لدراسة أكاديمية، فهذا أولاً ليس اختصاصي، ويعفيني منه أساتذةٌ أجلاء تفرغوا لهذا النوع من الدراسات. ولكني أحاول أن أقدم قراءةً، مكثفة، لأبرزِ ملامح تكون وتطور الشخصية الوطنية الأردنية، مستعرضاً محطاتٍ من هذا التشكل في سياقه التاريخي.
«ابتداءً، يمكن التعرف على الملامح العامة للشخصية الوطنية، لأي شعب من الشعوب من خلال قراءة عناصر تكوينه تاريخيا واجتماعيا وثقافيا وقيميّا وإنتاجيا؛ تاريخياً، علينا أن نميز بين التاريخ الحافز والتاريخ العبء. وهناك العديد من المدارس الفكرية المعاصرة التي تُعنى بقوة الدولة وتحديداً من زاوية القوة الناعمة التي تَعدُّ التاريخ المركزي للدولة مصدراً أساسيا من مصادر قوتها، لأنه أحد الأسس المرجعية للتشكل البعيد للشخصية الوطنية.
أيضاً، وفي مثل هذه الدراسات، يُؤخذ بعين الاعتبار «المخزون الثقافي» للمجتمع، من عادات وتقاليد ومعتقدات دينية، وكل ما يشملهُ الجانب التراثي، وما يحتويه من قصص وأدب وفلكلور وأمثال شعبية.
ومع أن الأردن، ينتمي جغرافياً وثقافياً إلى منظومة بلاد الشام، إلا أنه، أيضاً، متداخلٌ ومشتبكٌ جغرافياً وديموغرافياً مع الجزيرة العربية ومع مصر.. وقدّمت الشواهد التاريخية القديمة أمثلةً واضحة على حجم تأثير وحضور الجغرافيا الأردنية والحضارات التي قامت عليها في تأسيس الجماعة العربية.
وخيرُ مثالٍ على ذلك، الدور الرائد للعرب الأنباط، والذين يُعزى لهم الفضل في تطوير الحرف العربي، هذا الحرف الذي تشرّف لاحقاً بأن كان هو الحرف الذي كُتِب به القرآن الكريم، وما زال هو المعتمد ليس عربياً فحسب، وإنما لدى أممٍ أخرى منها الفرس والترك وغيرهما، وبالتالي فإن الجغرافيا التاريخية الأردنية قدمت للثقافة العربية أهم انجازاتها التاريخية حينما حولت اللغة العربية من لغة محكية شفوية الى لغة مكتوبة.
يمكن، كذلك، الحديث عن مواقع أردنية شهدت أحداثاً كبيرة، وتاريخية؛ أذكر منها لقاء النبي العربي الهاشمي الكريم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، قبل البعثة، بالراهب بحيرى (تشير رواياتٌ عديدة إلى أن هذا اللقاء تمَّ في منطقة أم الرصاص جهة مادبا، وتشيرُ اخرى إلى أنه تم في منطقة حوران الأردنية، خلال رحلة النبي الكريم بين الحجاز والشام إما برفقة عمه أبي طالب في طفولته أو في تجارته للسيدة خديجة قبل زواجه منها).. وكذلك، موقعة مؤتة بوصفها بوابةً للفتح الإسلامي، ونذكر كذلك حادثة التحكيم بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، في أذرح جنوب معان، ولاحقاً، الدور الكبير الذي أدته بلدة الحميمة في معان، في احتضان الدعوة العباسية منذ بداياتها، وحتى انتقال عاصمتها، تالياً، إلى العراق، لأكثرَ من أربعة قرون..
هذه الشواهد، وغيرها الكثير؛ تبرهن أن هذه الأرض كانت على الدوام حاضرة وفاعلة في مجريات التاريخ، كما أنها شكلت نقطة التقاء، للجماعات والمعتقدات والثقافات؛ فكانت بالفعل همزة وصل.. تجمع ولا تفرق، تصل ولا تقطع.. وهذه الصفة الرئيسة للجغرافيا الأردنية، أثرت في تشكيل الشخصية الأردنية.
مسيحيون ومسلمون
والمجتمع الأردني، تشكل من أردنيين مسيحيين ومسلمين، التحموا معاً، في شخصية واحدة ومنظومة متكاملة، وكانوا دائماً نموذجاً للتآخي، وقد تجاوزوا معاً قصة «التعايش» وما إلى ذلك، فالمسيحيون والمسلمون الأردنيون، هم أبناء منظومات عشائرية متحدة، خاضت على مدار القرنين الفائتين معترك البناء والتطور والإنتاج والدفاع عن المتحدات الفلاحية، وأنشأوا القرى والحواضر خلال القرن التاسع عشر.. كما قام المسيحيون الأردنيون بدور كبير ورائد في مجال التعليم ومكافحة الأمية، ولاحقاً في مجال جمع وحماية التراث، وخلال الإمارة كانوا رواداً في الإدارة العامة وفي المعارضة الحزبية وفي الصحافة والإعلام وفي التأسيس للدولة المدنية الأردنية..
ونذكر من جيل الرواد الكبار الأستاذ روكس بن زائد العزيزي صاحب الأثر الخالد في جمع وتدوين وتوثيق التراث الأردني في كتابه المرجعي: «معلمة التراث الأردني»، بأجزائه الخمسة.. كما نذكر رواداً من نمط المرحوم يعقوب العودات «البدوي الملثم»، ومؤلفاته العديدة التي جمعت تراثنا، ونذكر الأستاذ المؤرخ سليمان الموسى، صاحب الفضل في تدوين تأريخ الأردن والثورة العربية الكبرى ورجالاتها.. ونذكر من السياسيين الأستاذ المرحوم عودة القسوس، ودوره في هية الكرك، وفي المعارضة الأردنية خلال عشرينيات القرن الماضي.. فيما قام المسيحيون الأردنيون بأدوار متقدمة وخدمات جليلة، أسهمت في تأسيس القطاعين العام والخاص في الأردن، خلال أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي؛ وتميزوا في بناء الصروح الاقتصادية والتعليمية وفي مجالات الإعلام والصحة وفي القضاء وغير ذلك الكثير..
هذا التمازج بين الأردنيين لطالما كان أصيلاً وبناءً، وهو أقرب إلى الاندغام الكلي؛ فنادراً ما تستطيع أن تميّز ابن الفحيص عن ابن ماحص، أو أبناء الكرك أو عجلون أو مادبا أو إربد، عن بعضهم البعض بناءً على أساس المعتقد، طالما أنهم جميعاً يشتركون بالعادات واللهجة والملبس والمأكل.
وأذكر هنا، أن المكون المسيحي خلال القرن التاسع عشر كان من حيث النسبة أكبر إلى مستوى أضعاف مضاعفة عما هو اليوم، حيث أدت الهجرات، إلى الأردن، وهجرات المسيحيين إلى أميركا وأوروبا، إلى تراجع النسبة، دون ان يتراجع الحضور وهذا الدور الكبير في تشكيل النموذج الأردني الثري والمميز. ومع هذا، فإن البلد العربي الوحيد الذي زادت فيه أعداد المسيحيين خلال العقد الاخير هو الأردن نتيجة استقباله للمهجرين منهم في الوقت الذي لم يشهد فيه المشرق العربي تفريغاً للمسيحيين العرب ومنذ قرون منذ حدث في السنوات الاخيرة.
نمر العدوان؛ نموذجاً
خاض الأردنيون خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، معارك ضارية في سبيل التشكل الحضري، المتناغم إلى حد ما، مع المجتمعات المجاورة وإنجازاتها. واستطاع الأردنيون مع أواخر القرن التاسع عشر، أن يؤسسوا لمرحلة الاستقرار الريفي، وأنتجوا ثلاث حواضر رئيسية في عجلون والسلط والكرك. ونشأ عن ذلك تقاليد وفلكلور شعبي، صاغ التفاصيل والتحديات والمعتركات أدبا وقصصاً.
ولم يكد يمضي القرن ذاته، حتى كان لدينا رصيد ضخم، ورموز شعبية وأبطال أشبه بأبطال الأساطير. وأصبحت صورة البطل في الذهنية الأردنية، واضحة، تجسدها شخصية الفارس والعاشق والشاعر الأردني الشهير نمر بن عدوان؛ الذي جمع بالإضافة إلى زعامته في البلقاء، شاعريته المرهفة، وعشقه الأسطوري لزوجته وضحا السبيلة القضاة (بني صخر)؛ والذي خلده شعرا باقيا، رسم فيه ملامح الأردنية المعشوقة التي تملأ حياة زوجها فرحا في حياتها، ويهيم على وجهه جزعا بعد فراقها.
إن أهمية «صورة البطل» في الأدب الشعبي والقصص التراثية، تكمن في أنها تعبر عن «النموذج» أو «المثال» الذي يقبله المجتمع ممثلاً له ومعبراً عنه، ويتوق إلى إعادة إنتاجه، ولو بأشكال اخرى؛ وتعميمه كشكل للمواطن النموذجي، والذي يجمع الصفات التي يحترمها الناس، ويرون فيها تعبيرا عن قيمهم العليا..
ومما يلفت الانتباه أكثر بشخصية نمر العدوان (1745م- 1823م)، أنه درس في القدس والقاهرة، وارتبط بصلات اجتماعية وأدبية مع بيوتات في الشام والقدس وفي الجزيرة العربية، فكان نموذجاً مبكراً للشخصية الاتصالية الأردنية.
لقد بدأ تشكل الشخصية الوطنية الاردنية، كملامح عامة، مع بدايات القرن التاسع عشر الميلادي، بكل ما شهده هذا القرن من تحولات وفرص أفضت الى تأسيس المجتمع الاردني الحديث، كمجتمع نصف فلاحي- نصف رعوي، يتوق الى المدنية، ويتجه نحوها بخطى ثابتة.
وخلال هذا التشكل، نضجت اللهجة الأردنية، بوصفها أيضاً لهجة أقرب إلى الفصحى من حيث مفرداتها ومخارج حروفها واشتقاقاتها، وأيضاً، هي لهجة وسطيّة معتدلة، تترجم الشخصية الوطنية الأردنية؛ من حيث أنها جامعة، وواضحة، ومفهومة لجميع المجتمعات العربية المجاورة؛ لا هي بدوية ولا مدنية بالكامل، وإنما لهجة معتدلة تخلو من التقعر والغرابة. ونلاحظ هذه اللهجة بوضوح في الشعر الشعبي وحتى فيما نطلق عليه الشعر البدوي (قصائد نمر العدوان، نموذجاً) منذ القرن التاسع عشر وحتى الآن، إذ تتسم بأنها ما زالت مفهومة وسلسة.
وحدويون يصونون الخصوصية
ومع مطلع القرن العشرين، خاض الأردنيون في العقدين الأولين، عدة معتركات صعبة، وخطيرة، بيد أن أبرزها: انتفاضة الكرك الشهيرة باسم «الهية» عام 1910 بزعامة الشيخ قدر المجالي، دفاعا عن الخصوصية المحلية للمجتمع الأردني في إطار الدولة العثمانية «المركزية». وهي الانتفاضة التي كلفت الكرك كوكبة من خيرة فرسانها، وتشردا للآخرين، وتدميرا انتقاميا قام به العثمانيون ضد المدينة نفسها وعمرانها. وكانت هذه الانتفاضة علامة فارقة في تاريخ تشكل ملامح الشخصية الوطنية الأردنية، التي تدافع حتى الموت عن خصوصيتها ومنجزاتها.
المعترك الثاني الرئيس، جاء بعد اقل من عقد واحد، عندما تطوعت نخب من فرسان الاردن، للدفاع عن القومية العربية، وثورتها الاولى، وخاض الاردنيون غمار الثورة العربية الكبرى جنبا الى جنب مع اخوانهم من الحجاز والشام والعراق، وحققوا انتصارات نوعية، خذلها التقسيم.
ولم يلبث الاردنيون وان خاضوا بضراوة، معركة الدفاع المستميت عن دولة الوحدة الاولى، في معركة ميسلون، حين قدموا الشهداء والمقاتلين، دفاعا عن وحدة بلادهم الشامية، وعن المملكة الفيصلية، والتي رفض الاردنيون أن يتنازلوا عنها، حتى بعد انهيارها، ودفعوا باتجاه استعادتها، وفتحوا بيوتهم ملاجئ آمنة للثوار السوريين، ضد الاحتلال الفرنسي، واستضافوا قائد اهم ثورة سورية، الزعيم الدرزي العربي سلطان باشا الاطرش (1891- 1982)، ليتحدّوا بذلك الاحتلالين الفرنسي والبريطاني، دفاعا عن الوحدة، ورفضا مبدئيا لسياسة التقسيم.. ومعلومٌ للجميع ان أول شهيد عربي دفاعاً عن فلسطين هو المرحوم الشيخ كايد المفلح العبيدات (1868م- 1920م).
وهنا، أحب أن ألفت إلى تقرير لجنة كينغ - كراين(King-Crane Commission) وهي لجنة تحقيق عيّنها الرئيس الأمريكي ويلسون في أثناء انعقاد مؤتمر الصلح في باريس عام 1919 للوقوف على آراء أبناء سورية وفلسطين في مستقبل بلادهم. وبعد أن طافت هذه اللجنة في مختلف المدن والحواضر في بلاد الشام، وضعت تقريراً أعلنت فيه أن الكثرة المطلقة من العرب تطالب بدولة سورية مستقلة استقلالاً كاملاً، وترفض فكرة إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين.. وكان لافتاً، تقرير اللجنة التي زارت شرق الأردن والتقت الأهالي، ودوّنت ما نصّه: «إن كل ذرة رمال في شرق الأردن تصر على الوحدة السورية وترفض الانفصال».
وبذلك، فإن الاردنيين الذين استماتوا في الدفاع عن خصوصيتهم المحلية عام 1910، لم يترددوا ابدا، في الدفاع عن وحدويتهم، وقدموا في سبيلها الغالي والنفيس، بل وجاء تأسيس الدولة الاردنية الحديثة عام 1921، استجابة للتحدي، واصرارا على ان تكون هذه الدولة الوليدة، نواة لتحرير بلاد الشام، وموئلا لاحرار العرب وثوارهم..
ويكفي أن ننظر إلى تشكيلة أول وزارة أردنية في 11 نيسان 1921، برئاسة مجاهد عربي سوري كبير هو رشيد طليع، حيث لم تضمّ في عضويتها من أبناء المنطقة إلا وزيراً واحداً هو المرحوم علي خلقي الشرايري، وبحكم أنه كان عضواً في حزب الاستقلال السوري.. مع ملاحظة أن البلاد كانت تزخر آنذاك بنخبة من المتعلمين والقيادات الإدارية ممّن خدموا في العهد العثماني في مواقع متقدمة..
وأكثر من ذلك، ففي العام 1921م، مع تأسيس الإمارة تولى رئاسة الوزراء المجاهد رشيد طليع (أُطلق على الحكومة في حينه اسم مجلس المشاورين)، وقيادة القوة العسكرية (أُطلق عليها في حينه اسم القوة السيّارة) المرحوم فؤاد سليم ورئاسة الديوان الأميري المرحوم الأمير عادل أرسلان، وهم ثلاثتهم من المجاهدين العرب الدروز.. ما يعطي برهاناً واضحاً على الأساس المتين، الوحدوي والبطولي، لتأسيس الإمارة الأردنية (كان اسمها أولاً؛ إمارة الشرق العربي، ثم أصبح عام 1923م إمارة شرق الأردن).
ويجدر القول هنا، بأن تضحيات الاردنيين في سبيل القضايا القومية، تجاوزت بلاد الشام، الى افريقيا العربية، حين قدم الاردنيون شهيدا قائدا في الثورة السنوسية، ضد الاستعمار الايطالي، هو الشهيد نجيب البطاينة (1882م- 1914م).
شخصية بناءة
مع تأسيس الإمارة، مرحلة الدولة الحديثة، بدأ الاردنيون ببناء مؤسسات دولتهم، وراهنوا على تعليم ابنائهم، واستثمروا في العقول، ودافعوا عن استقلال بلدهم، وقدموا الشهداء والرموز الوطنية في مختلف المعتركات.
وهنا، علينا أن ننتبه الى ثلاث خلفيات أثرت بشكل مباشر في تشكل الشخصية الأردنية المعاصرة، ولا يستقيم الفهم لهذه الشخصية ورسم ملامحها المستقبلية دون التوقف عند هذه الخلفيات:
أولاً، البنية الاجتماعية الأردنية والتقاليد الثقافية الاجتماعية؛ هذه البنية تستند على احترام البُنى الاجتماعية القرابية وعلى رأسها العشائر، بمفهومها الاجتماعي والقيمي النبيل، القائم على الكرم والبذل والتكافل الاجتماعي، وليس بمفهومها ووظائفها السياسية.
ثانياً، حالة الطوارئ التاريخية؛ فقد نما المجتمع الأردني ونضج وتطور على مدى أكثر من قرن ونصف القرن في حالة طوارئ تاريخية لم تتوقف من الصراع والنضال ضد الهيمنة العثمانية الى النضال للتخلص من الانتداب البريطاني، وصولاً الى الصراع مع الاحتلال الاسرائيلي، ثم الصراعات المحيطة التي لم تتوقف. لقد خلقت هذه الحالة من الطوارئ حالة اخرى من الترقب والاستعداد الدائم، وتركت آثارها على شخصية الأردني ومزاجه وطريقة تفكيره وآلية اتخاذه للقرارات والمواقف، فكرست الشخصية الجادة المستعدة والمتنبهة دوما، والقادرة على المبادرة والتضحية في الوقت نفسه.
ثالثاً، حالة الندرة؛ بنى المجتمع الأردني دولته ومؤسساته بموارد محدودة وبظروف صعبة، ما جعل الأردنيين خبراء في ادارة الندرة والتكيف معها في الموارد الطبيعية والمياه والطاقة وغيرها. وهذه الحالة خلقت مراس اقوى واكثر قدرة على التكيف.
في المقابل، ساهمت مؤسستان في استكمال نضوج الشخصية الأردنية المعاصرة في العقود السبعة الماضية، وهما: المؤسسة العسكرية الأردنية التي أعادت انتاج الشخصية الأردنية وأطّرتها وطنياً، والمؤسسة التعليمية الأردنية التي عملت على عملية إعادة انتاج موازية للشخصية الأردنية ولكنها معرفية وتأهلية.
هذا الحديث، يقودُنا إلى بُعد مهم لهذه الشخصية؛ إذ اتسمت بأنها شخصية بنّاءة، بالرغم من واقع «الندرة»، وما نطلق عليه «شحّ الإمكانات». وإذا أخذنا واقع المؤسسات لحظة تأسيس الإمارة عام 1921م، وما أضحت عليه بعد عقد واحد فقط، يتضح لنا مستوى وقوة إرادة البناء والتأسيس. وأستعرض هنا، الأرقام التالية من باب التأشير؛
- عند تأسيس الإمارة، كان عدد المدارس في كافة أنحاء الأردن، هو 25 مدرسة. وقد سجّل خير الدين الزركلي، كأول مفتش معارف في البلاد، ما نصه: «إن مقاطعة شرق الأردن لم يكن فيها غير 23 مدرسة ابتدائية، واثنتين ثانويتين». ومع نهاية عام 1922م، بلغ مجموع المدارس 44 مدرسة، منها 3 مدارس للبنات.
- عام 1922 أنشأت الحكومة مستشفى في عمان بالتعاون مع البلدية، خصصت فيه أربعة أسرّة لعلاج المحتاجين.
- عام 1922، أيضاً، وفي عهد وزارة علي رضا الركابي الأولى، أنشئت أول دائرة للبرق والبريد في البلاد. حيث تم إحضار مقسم للهاتف يحتوي على 40 رقماً، خُصص 20 رقماً منها لدوائر الحكومة.
- وفي أيار 1923م، احتُفل بوضع حجر الأساس لأول مدرسة ثانوية في البلاد، في السلط. وفي آب من العام نفسه، توحّدت برامج التدريس في جميع المدارس الحكومية.
- في عام 1925م، افتُتحت أول صيدلية في عمان، ومع نهاية العشرينيات اصبح لدينا 7 صيدليات، 6 منها في عمان، وواحدة في إربد.
- عام 1926، صدر لدينا قانون الصحة، وبموجبه أصبح التبليغ عن المواليد والوفيات إجبارياً.. وافتُتح المستشفى الحكومي وسط عمان.
- عام 1926م، شهدت البلاد انتشاراً للمستشفيات والعيادات الصحية. وكان لدينا المستشفيات التالية: المستشفى الإنكليزي في السلط وله فرع في عمان، المستشفى الإيطالي في عمان (افتتح في تشرين ثاني 1926م) ومستشفى الدكتور سينيال، الذي انتقل من إربد إلى عمان.. كما افتتح مستشفى السجن المركزي عام 1927م، في المحطة. وكان يعالج السجناء وأفراد الشرطة.
- عام 1927م، ارتفع عدد الأطباء، إلى 39 طبيباً وطبيبة، وأُنشئ اول مختبر للتحاليل الطبية في البلاد في معان، لغايات الحجر الصحي وإجراء الفحوصات للحجاج.
- وفي أيار عام 1930م، بدأ الماء يصل إلى منازل عمان، بواسطة أنابيب، تم تمديدها من منبع رأس العين.
- عام 1931م، بلغ مجموع المدارس في شرق الأردن 208 مدارس. وبلغ عدد المعلمين والمعلمات 338، وعدد الطلاب والطالبات 9753.
- في عهد حكومة ابراهيم هاشم 1933م، بدأ استعمال الكهرباء في مدينة عمان. وعام 1938م، تأسست شركة الكهرباء الأردنية المساهمة المحدودة. واتفقت الشركة مع بلدية العاصمة آنذاك، على إنارة الشوارع والمنازل.
ما سلف، يؤشر على حجم النقلة النوعية، ومستواها، في القطاعات الأساسية، والذي شهدته البلاد، خلال عقد واحد فقط، شهد وثبة هائلة على صعيد الصحة والتعليم والمياه وغيرها. ما يشكل الصورة حول الطابع البنّاء للشخصية الأردنية، وتعامل الأردنيين الفريد مع منطق الندرة، والانتقال بالبلاد إلى مرحلة جديدة مؤسسية، تأسست عليها تالياً نهضة الأردن واستقلاله.
معارضة وطنية شريكة ومسؤولة
كان الأداء الديمقراطي، بغض النظر عن مسمّاه أو شكله أو مستوى نضجه، ملفتاً في الحالة الاردنية، ومنذ ما قبل تأسيس الإمارة. ويمكن القول إن النزعة نحو الديمقراطية والشراكة، ورفض الاستئثار والاستبداد، هي نزعة أصيلة في الشخصية الوطنية الاردنية. وقد تعامل الاردنيون مع الاحداث السياسية الكبرى، التي ألمّت بالمنطقة، بمنطق من التشارك والحوار والنقاش العام على قاعدة التمثيل، ابتداء من مؤتمر «أم قيس» الشهير (2 أيلول 1920م)، مرورا بالتشكيل البسيط في طبيعته، الكبير في دلالاته، للحكومات المحلية الثلاث، التي سبقت قيام الدولة الحديثة، وإعلان إمارة شرق الاردن عام 1921، بحيث كان الأساس، في المشاركة في الحكومات المحلية، تمثيلياً، متنوعاً، يراعي كافة فئات المجتمع، ويحرص على وجود من يمثلها، في آلية صنع القرار.. وكانت للأردنيين، قبل ذلك، أيضاً، تجربة معروفة في المشاركة بمجلس «المبعوثان» العثماني، من خلال ممثلين، منتخبين، عن أبناء البلاد.
ومع قيام إمارة شرق الاردن، اتجه الاردنيون نحو التمثيل النيابي مبكرا. بل، لقد ناضل الاردنيون، في عشرينيات القرن المنصرم، في سبيل قيام مجالس نيابية، تمثل كافة فئات المجتمع، وتحاسب الحكومات وتراقبها، حتى في ظل وجود الانتداب البريطاني.
وتكفي الاشارة، هنا، الى صيغة «المؤتمر الوطني الاردني» عام 1928، بزعامة المرحوم حسين باشا الطراونة، وهي الصيغة التي تشكلت أساسا على نحو ديمقراطي، عبر ممثلين منتخبين عن كل مدن وقرى وعشائر الاردن.. كان في مقدمة مطالبها التأكيد على حتمية قيام الحكم النيابي، وانتخاب مجلس نواب يراقب من خلاله الشعب حكوماته ويحاسبها.
وأشيرُ هنا على نحو خاص، إلى وزارة المرحوم حسن خالد أبو الهدى الثالثة (تألفت بتاريخ 17 تشرين الثاني 1929)؛ وقد تشكلت الوزارة من ست حقائب وزارية، شغل ثلاثةً منها أعضاءٌ من المجلس النيابي (هم: علاء الدين طوقان، عودة القسوس وسعيد المفتي)، ما يعني أن نصف عدد الوزراء هو من النواب؛ فيما كانت الحكومة كلها حكومة مسؤولةً أمام مجلس النواب (أطلق عليه في حينه اسم المجلس التشريعي).. وهي تجربة مبكرة جداً على الصعيد الإقليمي كله لتأليف الوزارات البرلمانية.
إن هذا الشكل من التعبير الديمقراطي الحضاري المتقدم ربما يكون أول شكل ناضج ومنجز للديمقراطية، على مستوى الاقليم، خصوصا، إذا ما اخذنا بعين الاعتبار، ايضا، استمرارية التجربة، وعدم انقطاعها، (كما حدث تالياً في مصر أو العراق، مع نهاية العهد الملكي الدستوري فيهما، وانتقالهما إلى تجارب أخرى، ابتعدت عن النمط البرلماني الملكي الدستوري).
ويمكن القول هنا، بثقة: ان مساهمة المعارضة الوطنية الأردنية في الحياة الحزبية والبرلمانية، وحضورها في الحكومات البرلمانية؛ ميّزت النظام السياسي الأردني عن غيره على صعيد المنطقة، كما أسهمت في تسييسس الإدارة الأردنية، والإفادة من التنوع في معترك البناء.
وقد استثمر مؤسس الدولة الأردنية، المغفور له الملك عبدالله بن الحسين هذه الحالة، من حيث حضور وفاعلية وقوة تأثير المعارضة الأردنية، في انتزاع العديد من المكتسبات النوعية للاردن. وبالأساس.. في الحفاظ على هوية البلد واستقلاله.
المؤسس، ثائراً وقائداً نهضوياً
ويقتضي الإنصاف هنا، أن نقول إن لشخصية المغفور له الملك عبدالله المؤسس، الدورَ الكبير في تحديد صورة وملامح الدولة الأردنية، وتعزيز قيم الاعتدال والوسطية والانفتاح.. وهو ما ميّز القيادة الهاشمية على مر العصور، فكان الملوك الهاشميون، دوماً، يتمثلون رسالة الثورة العربية الكبرى، وقادوا مسيرة شاقة للبناء والنهضة وتأسيس الدولة الحديثة، ودافعوا عن المنجزات وعن استقلال الإرادة الوطنية، وتحملوا الكثير وقدموا التضحيات الجليلة..
وهذه الحالة من الانسجام بين القيادة والشعب، ومع استمرارية التواصل، والاندفاع نحو الإصلاح الدائم والتنمية؛ تركت أثراً مهماً في تطور الشخصية الوطنية الأردنية، وفي سلوكها السياسي؛ سواءً أكانت داخل الحكم ام المعارضة.
وبالانتقال إلى عهد الاستقلال، وبشكل خاص، مع خمسينات القرن المنصرم، فقد حقق الاردنيون إنجازاً مهماً واستثنائيا، مع قيام حكومة سليمان النابلسي (29/ 10/ 1956م- 10/ 4/ 1957م)، كحكومة استكملت كافة شروط ومواصفات الحكومة البرلمانية. وقد تكون هذه الحكومة بالذات، هي أول، وربما أيضا، آخر حكومة يشهدها الاقليم العربي كله، تقوم على أساس مواصفات برلمانية حزبية ديمقراطية كاملة. وبغض النظر عن أية أخطاء أو عثرات لهذه التجربة بالذات، فإنها سجلت للأردن، بقيادته ومؤسساته وأحزابه المعارضة، فضل السبق، وعياً وإنجازاً وتطوراً ديموقراطياً.
علاقة الاردنيين، اذن، بالممارسة الديمقراطية تنبع من احساس الاردني، الفطري، بقداسة الحرية والرأي، وبحقه الطبيعي الاخلاقي في المشاركة والتعبير عن الرأي والموقف.
ما سلف، كله، وكما قلتُ هو مجرد تقديمٍ لحديث أكثر تفصيلاً، وقد آن أوانه، وجديرٌ أن يقوم به باحثون وأساتذة مختصون، للبحث في ملامح الشخصية الوطنية الاردنية، هذه الشخصية التي مزجت بين تعظيم قيم البطولة والفداء والشجاعة، وبين الاصرار على الاعتدال، ونبذ الانعزالية او الانطواء على الذات..
وهي، كذلك. الشخصية التي تقدر الكلمة وتعشق الشعر والأدب، وتبني، في الوقت نفسه المؤسسات وتراهن على التعليم وتؤمن بدولة المؤسسات والقانون، وتحث الخطى باتجاه المزيد من التحضر والمدنية والنهوض.