إعداد : أ.د. كامل صالح أبو جابر
لماذا ما زلنا نحن العرب نجد أنفسنا غرباء في العصر الحديث وكأن مفاهيم وأساليب الحضارة الحديثة مستعصية علينا؟
كنا وحضارة الغرب على مستوى التقارب جداً حتى لحظة ما في نهاية العصور الوسطى فما الذي حدث عندهم ولم يحدث عندنا حتى انطلقوا هم في تقدمهم التكنولوجي حتى وصلوا إلى الأفلاك وسبروا غور المحيطات بينما ما زلنا نتخبط نضرب الأخماس بالأسداس في حال من المخاض: قدم في الماضي المجيد وأخرى تتلمس بحذر وخوف أبعاد الحاضر غير قادرة على الولوج إلى المستقبل. هل بمقدورنا أن نتعرف على القوى التي ما زالت تشدنا إلى الماضي بحيث ما زلنا نستمر في حال المراوحة مكاننا غير قادرين على الإفلات منها؟
تعود جذور النهضة العربية إلى جهود محمد علي الكبير إثر غزوة نابليون إلى مصر حين قام بإرسال عدد كبير من الطلبة في بعثات إلى مختلف دول أوروبا لدراسة أسباب تقدمها ومن هؤلاء الطلبة أربعة من أبنائه. بعد سبعين عاماً قام الإمبراطور الياباني المييجي إثر الغزو الأميركي لبلاده بما قام به محمد علي مما يوجب السؤال الصعب حول أسباب ما حدث في اليابان من تقدم تكنولوجي واجتماعي ولم يحدث في مصر والعالم العربي. ويزداد الأمر وضوحاً حين النظر إلى التقدم الهائل الذي حصل في الصين منذ بداية عهد رئيسها السابق دنج شاو بنج سنة 1983.
هذه التساؤلات وغيرها على جانب كبير من الأهمية لا لمجرد تفسير أسباب أحوالنا في هذا الزمن الرديء وحسب بل ولضرورتها القصوى لمستقبل الأجيال القادمة كي تتمكن من الدفاع عن نفسها في وجه أعاصير المستقبل وتحديات حضارة الغرب الغازية والجسورة على اللجوء إلى العنف متى اعتقدت ذلك ضروريا للحفاظ على مكتسباتها.
سهل جداً إلقاء اللوم على الاستعمار والغرب والصهيونية، وصحيح جداً أن الصراع المتجدد مع الغرب عبر التاريخ على روح وإمكانات المنطقة كان وما زال عاملاً أساسياً في حال التردي الذي نحن فيه، ولكن لا بد من أن نبحث في الأسباب المجتمعية الداخلية في نسيج حضارتنا العربية الإسلامية التي كان لها الدور الأكبر في استمرار حال تخلفنا عن مواكبة ضرورات العصر.
وأبدأ بالقول أننا أمة وسيطة حضارياً من الناحيتين الجغرافية بين القارات قلب العالم القديم حيث تنبع أهميتها كونها تسيطر على الممرات الأرضية والمائية والجوية أضاف إليها اكتشاف النفط في العصر الحديث أهمية فوق أهميتها التاريخية، كما وأننا أمة وسيطة زمنياً بين حضارات العالم القديم والحديث، يعتقد أهل الغرب أن لهم مصلحة حيوية في منطقتنا لا بد لهم من محاولة السيطرة عليها إما مباشرة أو على الأقل عن بعد، ولعله من المناسب كذلك الإشارة إلى أننا حضارة تثمن حياة الإنسان لا تميل إلى العنف إلا في أحوال معينة وتجنح للصلح في معظم الأحوال.
وقد مهد للجنوح نحو السلام وعدم اللجوء إلى العنف دينا المنطقة الرئيسيين عبر التاريخ الإسلام والمسيحية ووسطية المنطقة بين قارات العالم وحضاراته مما شجع الفكر العربي على التوسط والمفاضلة ما بين بديل وبديل بدلاً من التخشب والالتزام بنهج واحد في التعامل مع الحياة، وهكذا يمكن القول أن حضارتنا العربية الإسلامية الرائعة بتعدديتها الممثلة بنظام الملل والنحل الذي وصلنا عبر الإمبراطورية العثمانية المستندة في أصولها إلى صلب عقيدة الإسلام تشجع الإنسان العربي على نحو معين من الحياة قوامها التجارة بدلاً من الإنتاج يغلب عليها طابع قبول الفرد للحياة ضمن نمط وإيقاع وتكرار حتى رتابة، الحياة داخل الملة أو النحلة اجتماعياً أو ضمن الحياة التجارية الرتيبة في أسواق تسير حسب روتين حياة لا يشجع على الخروج عن القاعدة أو النمط الذي هو فيه، وبحيث أن حتى فكر الإنسان يسير ضمن قنوات حددتها القيم الروحية وطقوسها والجذور العميقة لثقافة الدين لدينا.
فالحياة داخل المدن والقرى والأرياف وحتى البوادي تسير حسب أصول معينة صعب الخروج عن قواعدها، فالأسواق في قصبات المدن مصنفة حسب الحرف التقليدية: أسواق النحاسين، النجارين، الفضة، الذهب، الملابس، الأحذية، والقرية كما المدينة تسير حسب المواسم بحيث كان الوقت تقريبياً صيفاً وربيعاً وشتاءً وبحيث حتى المسافات تقريبية لأهل المدن والبوادي على حد سواء، وقد تقهقرت الحياة على مدى قرون الامبراطورية العثمانية بحيث عادت مساحات شاسعة من بلاد الرافدين وسوريا الطبيعية إلى نوع من عقل الصحراء وفكر وحياة البداوة حيث للزمن إيقاع بطيء وللمسافة أبعاد تقريبية بين حمى قبيلة وأخرى ولم يكن لدينا حدود جغرافية بين بلد وآخر، ونمت عندنا كذلك في أجواء الصحاري الشاسعة نزعة الاعتماد على عوامل الطبيعة، وفردانية تحتقر العمل اليدوي والجماعي بآنٍ واحد.
واستقرت الحياة على نحو معين من النمط والتماثل والروتين بحيث كان من الممكن التعرف على الفرد ذكراً أو أنثى من لباسه إذ كان لكل قبيلة نوع من الزي وحتى في المدن كان من السهل التعرف على سيدة من لباسها الحلبي أو الشامي أو الكركي أو السلطي أو البغدادي هل هي من بيت لحم أو من المجاورة لها بيت جالا.
حتى الكلام المتداول بين الناس كان يسير على نمط وأسلوب معين في الخطابة تكثر فيه الأمثلة الشعبية التي تسهل عملية انتقال الأفكار دون جهد كبير والتي تشجع على قبول الحياة كما وردت فارتفعت قيم القناعة والقسمة والنصيب، الأصل أن يقلد الخلف السلف وأن يتقبل الإنسان الموجود وعدم الخروج عن النمط المألوف الذي إن حصل يعتبر أحياناً حراماً أو عيباً، ننبهر بالكلمة وبالبلاغة وننسى الجوهر، وللشعر قافية وإيقاع من المستحسن عدم الخروج عنها وحتى الحداء والغناء والرقص والدبكة تسير حسب إيقاع معين داخل كل مجموعة أو مكون من مكونات مجتمع الملل والنحل، الأصل هو التقليد وأتباع النمط السائد المقبول اجتماعياً، مجتمع يضع قيمة الاستقرار فوق كل قيمة أخرى تعايشت فيه المكونات المجتمعية المختلفة في ظل دولة بعيدة عن الناس من النواحي النفسية وحتى الجغرافية لا تتدخل في حياتهم إلا من النواحي الأمنية، دولة أقوى من شعبها غير معنية لا برخاء حياتهم ولا أي تفكير لديها حول المستقبل وصلتنا عبر قرون الإمبراطورية العثمانية لتصبح مجرد حارس للأمن وجاب للضرائب وكلاهما غير مرغوب به، مما شجع النظرة السلبية للناس تجاه الدولة وقاد إلى مجتمع هش سهل الاختراق.
استقرت الحياة قبل وبعد الحقبة العثمانية على هذا النحو وأسلوب الحياة، عقل مدجن يعتمد الحفظ عن ظهر قلب وكأن للمعرفة حدودا وأسلوب حياة رتيبا منمطا يصعب الخروج عنه ونسينا أساليب الاعتماد على العقل والتجربة والخطأ التي تعود إلى أفكار عالمنا العربي الحسن إبن الهيثم، واستكان المجمع كبركة هادئة جاءت حملة نابليون بونابرت في نهاية القرن الثامن عشر وكأنها صخرة ضخمة سقطت فيها لا تزال تفاعلاتها معنا حتى اليوم، حيث نستمر في البحث عن المعادلة التي قد تعيد إلى الأمة توازنها.
إعتاد إنساننا وكذلك جماعاتنا على فكر وروتين النمط الذي يغني عن التفكير بحيث لا يجهد الإنسان نفسه في البحث عن حل فالأمور تجري تلقائياً فلكل مناسبة كلام ولكل كلام أو سلام رد معين والكل يعرف الكل ويعرف مقام ومنزلة الكل داخل المكون الاجتماعي الذي بدوره يعرف منزلته ومقامه ووزنه الاجتماعي داخل المجتمع الكبير، والحياة تسير بيسر ولو على القلّة وتغذى الوعي وحتى اللاوعي بقبول الأمور كما وردت الحال الذي شجعته نزعة العرب للاعتماد على الوساطة والتجارة للكسب بدلاً من الانتاج والخلق والإبداع.
أما سياسياً وحتى اجتماعياً فالأصل هو الطاعة، الطاعة للدولة ممثلة بحاكمها مهما اختلف لقبه، والذي لا يجوز الخروج على طاعته أو مساءلته فهو نبع الشرعية السياسية وحتى أحياناً الروحية، وكذلك كانت الحياة داخل المكون الاجتماعي فلا جدال مع شيخ القبيلة أو مختار القرية أو الحي أو شيخ الحرفة، والأمر كان كذلك داخل العائلة حيث كان لقب الأب «رب العائلة» وما لهذه الكلمة من هيبة ووقار الذي تعنيه الربوبية، فالخروج على طاعته عقوق له أبعاد اجتماعية ودينية في آن واحد، العائلة في القبيلة أو الملّة أو حتى الدولة هرمية البنيان وعلى رأس أولوياتها الاستمرار والاستقرار، غير مسموح النقاش داخلها حول مواضيع السياسة أو الدين أو الجنس الأمر الذي قاد إلى السكونية التي لا تعني الرضى بل الرضوخ فتقول الأم لإبنها «أسكت يا ولد» الكلام للكبار أو «إن شاء الله تطلع مثل أبوك» رغم كونه غبيّاً أحياناً.
الأصل كان عدم الخروج عن النمط الذي تمليه المؤسسات السياسية والاجتماعية أو ما تم التعارف عليه من عرف وعادة حتى نما الحسن لدى البعض وكأن عقل الإنسان قاصر أو ناقص، هذا العقل الذي منذ نعومة الأظفار يدجن ليقبل ما تجمع عليه الجماعة من رأي، وعلى من كان له رأي مغاير أو أسلوب جديد أن يخفيه وأن يتستر عليه الأمر الذي كان يصل أحياناً أن يبدي الإنسان ما لا يضمر وأن يلتحف بعدد من الوجوه يصلح بعضها لمهام ولكن ليس لأخرى، فالأصل أن تتماشى رغبة الإنسان مع الجماعة وأن يفكر بأسلوبها ومن خلالها وأن تندمج شخصيته في نسيجها، ومن كان غير ذلك فهو غريب سرعان ما ترفضه الجماعة فالأهمية ليست للفرد وإنما لكونه جزءا من الجماعة.
في مثل هذه الأجواء وعلى مدى قرون فقدنا القدرة على موازنة الحياة الدنيا مع الأخرى، هذا التوازن الذي أراده الله لخلقه حين أشار إلى ضرورة الفصل ما بين المعاملات المتعلقة بشؤون الدنيا وضرورة إعمال العقل فيها لعمارة الأرض لرفاه الإنسان والعبادات التي هي شأن خاص ما بين الإنسان وخالقه لا يجوز البحث في حقائقها الأزلية، في مثل هذه الأجواء السكونية والسير في مسارات فكرية وسلوكية معينة اختلط المقدس بالوضعي وعزف الناس عن التفكير وتغلب الطقس والمظهر على الجوهر حيث قاد تفضيل الحياة الأخرى على الدنيا وما صاحبه من إعلاء قيمة القناعة والقبول بالمقسوم المقدر؛ قاد إلى إحساس قوي لا شعوري بأن الإنسان غير قادر على التقدم والتطور والنظرة المستقبلية وكذا فقدان روح الأمل لا بل حتى الاستسلام.
لا زالت قطاعات واسعة من شعوبنا وعلمائنا ومثقفينا وحتى اللحظة، ورغم كل المصائب والأحوال التي حلّت بالأمة تعتقد بأن الاحتكام إلى العقل، أو ما يسمى بالعلمانية فيه تنكر للدين والقيم الروحية، وهو اعتقاد لا أساس له من الصحة في ضوء سببين رئيسيين أولهما أن حضارتنا العربية الإسلامية بمرجعيتها التي تعود إلى صلب عقيدة الإسلام تأمر الإنسان بالتعقل وأن يحتكم إلى العلم في تدبر شؤون الدنيا، اول كلمة في القرآن الكريم جاءت بصيغة الأمر «إقرأ» التي أحسب أنها من أروع ما أمر الخالق الإنسان أن يفعل، والقراءة تعنى الاجتهاد والاحتكام إلى العقل فيما يتعلق بشؤون الدنيا والاجتهاد فيها حيث «الأيام دول» ولضرورة تغيير الأحكام بتغير الزمان، وأنتم أدرى بشؤون دنياكم.
الشريعة أو العقيدة كما وردت في النص الديني وفي الأديان السماوية خاصة، منبع القيم الإنسانية ومكارم الأخلاق للبشر ومن روحها ومن وحيها ضرورة استنباط التشريعات أو القوانين الوضعية لضبط حياة المجتمع وحفظ حقوق البشر، هذه التشريعات والقوانين لا بد من تطويرها وتعديلها لتلائم ظرف الزمان والمكان فهي قوانين وضعية إجرائية من إنتاج البشرية لا يجب إضفاء صيغة القداسة عليها.
المطلوب إذن ليس إنكار الدين أو التخلي عنه بل التركيز على الجوامع ما بين الدين الواحد من جهة والأديان الأخرى من جهة أخرى، هذه الجوامع التي تعزز وحدة البشر من خلال الاعتراف بتعدديتهم التي شاءها الخالق كما وعمل على إعلاء قيمتها بدلاً من الانتقائية التي تفرق بين الناس وترفض الآخر أو تتنكر لوجوده فالدين جاء لما ينفع الناس ويدخل الطمأنينة إلى قلوبهم لا ما يفرق ويؤجج البغضاء بينهم.
إذن بمقدار ما هي مشكلتنا مع الغرب الغازي لنا مشكلة كامنة في ذات أنفسنا ومجتمعاتنا تجذرت عبر عصور الركود والانحطاط واستكانت إلى أسلوب حياة وتفكير أقرب إلى العزوف عن الانخراط في السعي في الحياة الدينا، جاءت غزوة نابليون تمثل هجمة أخرى من هجمات الحضارة الغربية التي ما زالت تنتج وتتدفق حيوية ونشاطاً والتي بدلاً من مواجهتها كما فعلت اليابان وفيما بعد الصين بأسلحة العقل الذي هاجمتنا هي فيه حسبنا أن الخلاص هو في التقوقع والهروب نحو الماضي والالتزام بما ورد من السف، وكذلك تغليب النقل على العقل جوهر ما نحن فيه من حال رديء، وإذا ما شئنا لأولادنا وأجيالنا في المستقبل أن يكونوا على حال أفضل من حالنا اليوم علينا أن نسلحهم بنور العقل وكيفية تدبر شؤون الدنيا، هذا ما حصل في الغرب في أعقاب العصور الوسطى.. احتكموا إلى العقل دون التخلي عن دينهم وقيمهم الاجتماعية كما يحلو للبعض أن يعتقد، ولنتذكر أن العقل، كما الإنسان والمخلوقات جميعاً هي أيضاً من صنع الخالق عز وجل، وأن الخالق ما صنع هذا العقل وميزنا به عن مخلوقاته كافة إلا لنستعمله ونصقله ليخرج عن حاله ليسرح ويجوب في الخيال ويتمتع بالتأمل بما يرضي الخالق وبما يرضي المخلوق ويقود إلى الأفضل.
نريد التغيير دون أن نغيّر ما بأنفسنا على الرغم من وعينا لضرورته للمستقبل حيث نما عند بعضنا الخوف من المستقبل فيقول المثل: الله يستر مما سيأتي، وزاد من حدة الأمر الحلف التاريخي الخفي غير المدون بين المؤسستين السياسية والدينية لتمكين سيطرتهما على المؤسسة التربوية لإعلاء قيمة الاستقرار والإصرار على النهج التعليمي المستند إلى البصم والحفظ عن ظهر قلب حتى بالإكراه حتى مع عدم الفهم وكأن للعلم حدودا وهكذا تم تدجين العقل بدلاً من إطلاقه ليغامر في البحث والخيال والابتكار والإبداع، تدجين العقل يقضي على الخميرة الضرورية لارتقاء المجتمع مما قاد إلى غياب المنطق السليم حتى أصبحنا نقبل بالشيء ونقيضه في نفس الوقت نتأرجح ما بين الصورة والواقع والأصالة والمعاصرة فنهرب إلى الماضي وإلى نمطه المألوف والذي يعج بالأمثلة الشعبية التي تغني عن الحجة والتفكير.
جاءت غزوة نابليون كزلزال ما زالت تردداته معنا إلى اليوم، وقاد انتقالنا السريع وشبه الفجائي من القرى والأرياف والبوادي إلى المدن كزلزال آخر أضاف إلى ما سبقه من تحديات لمجتمعنا التقليدي حتى أصبحنا اليوم على ما نحن فيه نعيش في زمنين وعصرين مختلفين كالغراب الذي حاول أن يتعلم السير كالحجل فكانت النتيجة أنه نسي كيف كان يسير سابقاً ولم يتمكن من إتقان سير الحجلة وهي لحظة مخاض تاريخية مليئة بالحيرة وفقدان اليقينية ولكنها مليئة كذلك بالفرص التي تقود إلى مستقبل أفضل.