أ. شرف د. فـايز خصـاونـه
1- العصبة أولو القوة وما تنوء به
مقدمة
بنيت اقتصاديات التعليم العالي في الأردن خلال عقدين ونصف خلت على سياسات غير معلنة تتضمن إلقاء عبء تمويل التعليم العالي تدريجيا على كاهل أولياء أمور الطلبة في حالة فريدة تنفرد بها الأردن بين الدول النامية والمتقدمة على السواء. هذه المقالة هي الحلقة الأولى من سلسلة مقالات تقدم تحليلا وصفيا لهذه الحالة يعتمد على بيانات وزارة التعليم العالي والبحث العلمي المنشورة على موقعها الإلكتروني وعلى بيانات دائرة الإحصاءات العامة والبيانات المالية الختامية للجامعات الحكومية وعدد من الجامعات الخاصة، ومن الجداول المرفقة مع قانون الموازنة العامة لعام 2018 التي تحتوي على بيانات خاصة بسنة 2016. كما تقدم تقييما لأبعاد هذه السياسات غير المعلنة ومآلاتها ومقارناتٍ مع ممارسات دولية. وتأخذ الورقة على الإستراتيجية الوطنية لتطوير الموارد البشرية التي أنجزت حديثا أنها أغفلت هذا الجانب بشكل مستغرب. وتخلص هذه السلسلة إلى توصيات محددة مشفوعة بمبررات رصينة تشمل إعادة النظر في سياسات القطاع، ما ظهر منها وما بطن.
الكلف التي تنفق حصريا على العملية التعليمية.
قد يوحي العنوان الفرعي لهذه المقالة لكنوز قارون، ولكني لست معنيا في مستهل هذه السلسة من المقالات بالحديث عن كنوز قارون ولا عن مفاتحه أو من ينوء بماذا، بل معني بالحديث عن كلفة التعليم العالي من حيث حجم ما ينفق على العملية التعليمية حصريا، ومن حيث مصادر ذلك الإنفاق، والسياسات التي روعيت في الاتكاء على مصادر تمويله المختلفة.
ولا بد في البداية من تحديد أوجه الإنفاق المتعلقة بالعملية التعليمية لتفادي أي لبس في هذا المصطلح. فهي أوجه إنفاق من واقع الموازنات التشغيلية في سجلات الجامعات وتشمل الإنفاق المباشر على رواتب أعضاء الهيئتين التدريسية والإدارية وعلى سائر المنافع الملحقة بالرواتب مثل الضمان الاجتماعي والادخار ومكافأة نهاية الخدمة (لمن تنطبق عليه) والتأمين على الحياة وإجازات التفرغ العلمي وبدلات العمل الإضافي وحوافز البرامج الموازية وصافي ما ينفق على التأمين الصحي فضلا عن الإنفاق على الخدمات المشتركة مثل ما ينفق على دائرة القبول والتسجيل ومركز الحاسوب ودائرة الموارد البشرية والدائرة المالية ودائرة اللوازم والمستودعات وما ينفق على الابتعاث وعمادات شؤون الطلبة وأنشطتها وما ينفق على الخدمات العامة مثل الماء والكهرباء والاتصالات والمواصلات وصيانة المباني ومرافق الجامعة. وقد استثنيت من هذا المجموع الاستهلاكات على موجودات الجامعة من مبان وأجهزة وأصول رأسمالية أخرى تحاشيا لتضخيم الكلفة، واعتبرت ما ينفق على صيانتها كافيا لأغراضنا هنا، كما استثنيت صافي الأنفاق على المدارس الملحقة ببعض الجامعات لتعليم أبناء العاملين بها. واستثنيت أيضا الإنفاق على البحث العلمي جريا على ما درجت عليه معظم الدراسات العالمية المماثلة حول هذا الموضوع ليس لعدم ارتباطه بالعملية التعليمية بل لارتباطه الشديد بها لدرجة تستوجب إفراده في باب حصري لمناقشة تمويله.
وتأسيسا على ما تقدم، واستنادا على ما جاء في تقارير الجامعات المقدمة لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي فقد كان الإنفاق الفعلي على العملية التعليمية كما يلي:
إنفاق الجامعات الرسمية لعام 2016 462 مليون دينار
رسوم الطلبة في الجامعات الخاصة لعام 2016 (مقدر) 229 مليون دينار المجموع 691 مليون دينار
وبالنسبة للجامعات الخاصة، فلم تتوفر بيانات ختامية لعدد منها مما استوجب تقديرها بناء على سنوات سابقة وأعداد الطلبة الملتحقين بتلك الجامعات. ولا بد من التأكيد مرة أخرى أن هذه الأرقام ليست مجموع موازنات الجامعات لعام 2016 التي بلغت 817 مليون دينار، بل هي فقط ما أنفق منها على العملية التعليمية.
وإذا دققنا في مصادر هذا الإنفاق يتبين لنا ما يلي للجامعات الرسمية:
الرسوم الدراسية المستوفاة من الطلبة 363 مليون دينار
مخصصات الخزينة المحولة للجامعات 54 مليون دينار
قروض وتسهيلات مصرفية ومنح 45 مليون دينار
المجموع 462 مليون دينار
ويشار إلى أن الرسوم المذكورة أعلاه اشتملت على رسوم البرامج العادية والموازية والدولية ورسوم الدراسات العليا سواءً دفعها الطالب أو الجهة التي ابتعثته.
أما الجامعات الخاصة فإن الرسوم الدراسية هي المصدر الوحيد لإيراداتها، علما بأن إيراداتها تفوق إنفاقها لأنها تحقق فوائض ربحية بعد اقتطاع الضرائب المستحقة. وكانت الصورة بالمحصلة كما يلي:
الرسوم الدراسية المستوفاة من الطلبة 229 مليون دينار
يخصم من ذلك فوائض الموازنات والضرائب 76 مليون دينار
صافي ما أنفق على العملية التعليمية 153 مليون دينار
يتضح مما تقدم، أن مجموع الرسوم الدراسية في كل الجامعات في عام 2016 بلغت 592 مليون دينار بينما كان مجموع الإنفاق الجامعي على العملية التعليمية 691 مليوناً، وبلغ مجموع التحويلات من خزينة الدولة للجامعات الرسمية 54 مليون دينار، أو ما يعادل 7.8% من المجموع. ولو حسبنا نسبة مساهمة الخزينة إلى مجموع موازنات الجامعات (817 مليون) فهي فقط 6.6% من المجموع. ورغم أن إنفاق الخزينة على القطاع كان أكثر من 54 مليون كما سأبين لاحقا، إلا أن مساهمة الخزينة في تغطية الإنفاق على العملية التعليمية انحصر بهذا المبلغ فقط مساهمة الخزينة في تمويل التعليم العالي بالميزان.
لقد دأبت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي على التأكيد بأنها، نيابة عن الحكومة، تساهم في تمويل التعليم العالي بنسب أكثر بكثير من هذه الأرقام. فقد ورد في الجداول المرفقة لقانون موازنة 2018 أن مخصصات الوزارة لعام 2016 بلغت ما يقرب من 120 مليون دينار، منها حوالي 6 ملايين تنفقها الوزارة على أعمالها، ومنها حوالي 42 مليوناً نفقات رأسمالية متفرقة، جلها من المنحة الخليجية أنفقت على إنشاءات في الجامعات، ومنها مخصصات لدعم الموازنات التشغيلية بمقدار 72 مليون دينار، ومخصصات صندوق الطالب المحتاج بمبلغ 8.9 مليون دينار. هذا ما ورد في الجداول، أما ماتم تحويله فعليا للجامعات من واقع تقاريرها الختامية فكان فقط 54 مليوناً. فما هو تفسير الفرق البالغ 18 مليوناً إذن؟ لقد ورد في تصريحات رسمية متكررة أن مبلغا يقتطع من المخصصات لتعزيز ما ينفقه صندوق الطالب. فهل نستنتج من هذا أن الصندوق أنفق ما مجموعه 26.9 مليون (8.9 + 18)؟ الأرجح أن هذا هو ما حصل حيث أن الصندوق في تصريحات صحفية أفاد بأن مجموع الطلبة المستفيدين من القروض والمنح لعام 2016 بلغ حوالي 36 ألف طالب. ورغم أن رسوم هذا العدد من الطلبة يزيد على 26.9 مليون، إلا أننا ولأغراض هذا التحليل سنعتمد رقم 26.9 مليون على علم أن الرقم الحقيقي قد يكون أكبر نظرا لأن إيراداته تشتمل على منح من مصادر أخرى.
هذه هي الأرقام المتداولة لما تنفقه الوزارة مباشرة، ولكنها تؤكد أيضا أن الحكومة تنفق أكثر من ذلك، فالخزينة تغطي رسوم طلبة المكرمة الملكية لأبناء أفراد الأجهزة الأمنية وأبناء المعلمين، والذين يشكلون 25% من مجموع الملتحقين بالبرامج العادية. ورغم تكتم الحكومة على مقدار هذه المبالغ إلا أنه يمكن احتسابها من مؤشرات أخرى. فبالعودة إلى بيانات الجامعات الرسمية نجد أن مجموع الرسوم المستوفاة من البرامج العادية بلغت 144 مليون دينار في عام 2016، أي أن الخزينة ساهمت بمبلغ 36 مليون دينار (25% من المجموع) لتغطية الرسوم الجامعية المستحقة على طلبة المكرمات (33,800 طالب).
وفضلا عن ذلك تؤشر الحكومة إلى باب ثالث من الإنفاق الحكومي على التعليم العالي، ألا وهو صندوق الطالب المحتاج الذي يوفر قروضا ومنحا للطلبة وفق معايير تراعي أداء الطالب أكاديميا وقدرة أهله على دفع الرسوم. والغريب في الأمر أن الوزارة لا توفر في بياناتها المنشورة على موقعها الإلكتروني أي معلومة عن مقدار ما ينفق في هذا الباب. ولكن بالعودة إلى الجداول المرفقة مع قانون موازنة 2018، نجد أن مخصصات الصندوق في 2016 كانت فقط 8.9 مليون دينار، كما نجد أنه اقتطع من مبلغ 72 مليوناً المخصص لدعم الجامعات الرسمية مبلغ غير معلن لتعزيز موازنة الصندوق، واستفاد منها ما يقرب من 36 ألف طالب، كما بلغ ما أنفق على المنح حوالي 20 مليون دينار وفق ما نشرته الصحف المحلية في حينه. ورغم أن الرقم المقتطع من مخصصات الجامعات غير معلن، فإنه ولأغراض التحليل الذي نحن بصدده فلا يجوز احتساب المبلغ المقتطع بغض النظر عن قيمته لأنه متضمن في مبلغ 72 مليون المخصص للجامعات، وفقط يجوز احتساب مبلغ 8.9 مليون المخصص للصندوق. وعليه من وجهة نظر الوزارة فإن مجموع مساهمة الخزينة يصل ، كما يتردد في أروقتها، إلى 117 مليون دينار(72 دعم جامعات + 36 للمكرمات + 8.9 لصندوق الطالب).
تستحوذ هذه الطريقة المحاسبية على تفكير سائر المسؤولين الحكوميين عند الحديث عن تمويل التعليم العالي، ويستعملونها لدحض مبررات المطالبات بزيادة دعم هذا القطاع. وكما تقدم فإن الحكومة تسوق هذه الأرقام لتذكر الجميع بأنها لا تبخل على هذا القطاع، بل تعطيه حقه. وقد أصبحت القناعة بسلامة هذه المنهجية المحاسبية من المسلمات لدى الدوائر المسؤولة عن توزيع الإنفاق على فصوله وأبوابه في قوانين الموازنة العامة.
وعلى خلفية هذا الواقع، سأحاول في ما يلي أن أخضع هذه المسلمات للتدقيق والتمحيص.
أولا: المكرمات
لا يستطيع أحد أن ينكر أن الخزينة تتحمل رسوم طلبة المكرمات، والتي بلغت في عام 2016 حوالي 36 مليون دينار، فضلا عن تكاليف أخرى تشمل أثمان الكتب وبعض المستلزمات كما تشمل بدلات نقدية تصرف شهريا لبعض الطلبة، وهذه كلف لا نعرف مقدارها ولا يلزمنا أن نعرفها لأغراض هذا التحليل، لأنها لا تدخل في حساب الجامعات رغم أنها تظهر في جداول الإنفاق الحكومي. فما يهمنا في هذا المجال هو ما ينفق على الرسوم الجامعية وكيف نصنفها: هل هي دعم للموازنة التشغيلية للجامعة أم هي دعم للطلبة وأولياء أمورهم؟ الجامعة حقيقة غير معنية بمن يدفع رسوم الطالب سواء كان ولي أمره أو أي جهة أخرى تتكفل بذلك. أي أن هذه الرسوم هي إنفاق على الطلبة وليست إنفاقا يغطي بابا أو فصلا من الإنفاق الجامعي. أي أن المبالغ التي تنفقها الخزينة لتغطية رسوم طلبة المكرمات لا يجوز أن تحسب دعما للنفقات التشغيلية للجامعات.
ثانيا: منح وقروض صندوق الطالب الفقير
وما قيل عن المكرمات ينسحب على منح وقروض هذا الصندوق، والتي سلمنا بأنها بلغت 26.9 مليون دينار على الأقل في عام 2016، فلو لم تتوفر هذه المبالغ لعجز الطلبة الفقراء عن دفع الرسوم ولانسحبوا من الجامعات، فهي في حقيقة الأمر دعم لأولياء أمور الطلبة المستفيدين منها، ولذلك لا يجوز احتسابها على أنها دعم للنفقات التشغيلية للجامعات.
ثالثا: رسوم طلبة الجسيم
تتحمل الجامعات نيابة عن الخزينة رسوم أعداد متزايدة من الطلبة تحت بند ما يسمى بالمعلولية الجسيمة. والمعلولية الجسيمة هذه ناتجة عن تفسير جائر، وأزعم أنه خاطئ، لنصوص المادة 22 ط من قانون التقاعد العسكري الذي منح التعليم المجاني لأبناء أفراد القوات المسلحة وسائر الأجهزة الأمنية الأخرى الذين يتقاعدون بمعلولية جسيمة، علما بأن النص القانوني لم يحدد من هو المكلف بتحمل نفقات مجانية هذا التعليم. لا أحد يطعن في أحقية هؤلاء المتقاعدين بهذا الحق، وإنما الاختلاف هو فقط في تحديد المكلف. فقد تم تفسير النص على أن الجامعات هي المكلفة، وهذا تفسير مجحف، وخصوصا أنه جاء في قانون التقاعد العسكري ولم يرد عليه نص في قانون الجامعات، و قانون الجامعات قانون خاص تهيمن نصوصه على غيرها.
ما يهمنا هنا أن الجامعات تتحمل نيابة عن الخزينة رسوم هؤلاء الطلبة، وهذا عبء متزايد سنويا مع تزايد أعدادهم. ولا تتوفر معلومات دقيقة عن حجم هذا العبء، إلا أن الوزارة قدرته بمبلغ عشرين مليون قبل بضع سنوات، واقتطعت من مساهمة الخزينة في حينها 20 مليوناً وأعادت توزيعها على الجامعات وفق أعداد طلبة الجسيم لديها. وسأعتمد هذا الرقم لأغراض هذا التحليل.
رابعا: العوائد الضريبية والمستردات
ومقابل ما تجود به الحكومة بيدها اليمنى نجد أنها تسترد بيدها اليسرى مبالغ يندر أن يأتي أحد على ذكرها. فقد استوفت الحكومة في عام 2016 ما يقرب من 13 مليون دينار ضرائب على أرباح الجامعات الخاصة، كما استردت 2.2 مليون دينار من فوائض إيرادات هيئة اعتماد الجامعات الأردنية وضمان جودتها كما ورد في جداول قانون الموازنة لعام 2018. كما استردت الحكومة الجزء الأكبر من رصيد صندوق دعم البحث العلمي الذي لم ينفق، علما بأن إيرادات الصندوق تأتي بالدرجة الأولى من ضريبة خاصة على أرباح الشركات المساهمة العامة وبالدرجة الثانية من فوائض مخصصات البحث العلمي غير المنفقة لدى كل الجامعات. ومن المستغرب أن المعلومة عن مقدار ما تم استرداده من صندوق البحث العلمي محجوبة ، وأغلب الظن أنها متغيرة من سنة إلى أخرى وتشكل مبلغا لا يستهان به، وقد يصل إلى بضعة ملايين سنويا. ولأغراض هذا التحليل سنتجاهل هذا البند ونكتفي باحتساب الضرائب ومستردات هيئة الاعتماد وبالتذكير بمستردات صندوق البحث العلمي.
خامسا: فجوة الرسوم الجامعية
من المعروف أن الرسوم الجامعية لا تغطي إلا نسبة متناقصة من كلفة التعليم الحقيقية، وأنه لولا إيرادات البرامج الموازية والدولية لتجاوزت عجوزات الجامعات الخطوط الحمراء منذ عقدين على الأقل. وهذا يثير تساؤلا مشروعا يجب أن نطرحه بكل جرأة. فطالما أن الجامعات الحكومية تعلم والحكومة تعلم أن رسوم البرنامج العادي لا تغطي إلا 50% من الكلفة الحقيقية أو أقل من ذلك، فلماذا لا تتحمل الحكومة الكلفة الكاملة لطلبة المكرمات وطلبة المنح الحكومية التي يمولها صندوق الطالب المحتاج؟
وقبل الإجابة على هذا التساؤل، لابد من العودة إلى عام 2003 عندما كانت الجامعات الحكومية تنفذ برنامجا لرفع الرسوم الجامعية تدريجيا وعلى مدى خمس سنوات، وصولا إلى تغطية كلفة التعليم كاملا، وبعد المضي في ذلك البرنامج لمدة سنتين، قررت الحكومة إيقافه. وقد تساءل الكثيرون عن السبب الحقيقي وراء ذلك القرار ولا يزالون. فهل كان في بال الحكومة حينئذ تخوف من فاتورة التزام الحكومة بتغطية رسوم طلاب المكرمات التي تزايدت مع ارتفاع الرسوم؟ سؤال برسم الإجابة، فلو أن الجامعات استمرت في برنامجها لكانت فاتورة رسوم المكرمات الآن 72 مليون دينار الآن بدلا من 36، ولما استطاعت الحكومة بمخصصات 20 مليوناً أن تغطي إلا نصف أعداد المنح التي أنفقت عليها في عام 2016. فلعل في ذلك الإجراء إجابة ولو ظنية على السؤال «لماذا لا تتحمل الحكومة الكلفة الكاملة لطلبة المكرمات والمنح؟». أي أن فجوة الرسوم الجامعية على طلبة المكرمات وامنح منفعة عينية تستفيد منها الحكومة عبر سياساتها غير المعلنة لتمويل التعليم العالي.
وبما يتعلق بطلبة القروض من الصندوق، فإنه يجب استثناء الرسوم التي يدفعونها من احتسابها ضمن مساهمة الحكومة لموازنات الجامعات، لأن المكلف الفعلي هو الطالب بحكم القرض الذي حصل عليه.
إذن خلاصة الأمر أن الخزينة مستمرة بالتنصل من مسؤوليتها تجاه الجامعات فيما يتعلق بتكاليف طلبة المكرمات والمنح. أما عن مقدار هذه الفجوة في الرسوم التي تتنصل الخزينة من تحملها، فيمكننا تقديرها لعام 2016 كما يلي: إذا قبلنا بأن رسوم البرامج العادية هي في المعدل المرجح لكل الجامعات وكل التخصصات تشكل 50% من الكلفة الحقيقية فإن الخزينة تتنصل من التزامات تعادل ما ينفق حاليا على هؤلاء الطلبة، أي بحدود 56 مليون دينار على أقل تقدير (36 مليون للمكرمات و مليون 20 للمنح).
العبء ثقيل والعصبة مرهَـقـة
ولا بد من وقفة جريئة هنا أمام هذه الأرقام الصادمة المشروحة فيما تقدم والتي يمكن تلخيصها كما يلي: تنفق الحكومة على القطاع 153 مليون دينار (117 مليون كما ورد بقانون الموازنة العامة + 36 مليون دينار على المكرمات). أما مساهمة الحكومة في كلفة العملية التعليمية فقد اقتصرت على ما حولته نقدا للجامعات الرسمية (54 مليون دينار في عام 2016). ومقابل ذلك استردت بطريقة أو بأخرى 91 مليون دينار على الأقل ( 13 مليوناً ضرائب على الجامعات الخاصة + 2 مليون مستردة من هيئة الاعتماد + 56 مليوناً فجوة الرسوم الجامعية على طلبة المكرمات والمنح الحكومية + 20 مليون لطلبة الجسيم)، فضلا عن مبالغ أخرى من صندوق البحث العلمي يجري التعتيم عليها. هذه الصورة القاتمة تعني أن الخزينة لا تساهم في نفقات العملية التعليمية بل أصبحت مستفيدة منها. وتبقى مساهمتها سالبة حتى لو أضفنا النفقات الرأسمالية على المباني والمنشآت على أساس الأجار للمثل.
تعيدنا هذه الأرقام إلى عنوان هذه الحلقة لنسأل من هي العصبة أولو القوة التي تنوء بمفاتح التعليم العالي؟ إنها، ولا عجب، عصبة أولياء أمور الطلبة الذين ينوؤون بهذا العبء الثقيل المرهق قسرا وليس اختيارا. ويغيب عن بال المسؤولين الحكوميين في شتى مواقعهم أمر في غاية الخطورة، وهو مقدار اقتراض الجامعات والتسهيلات المصرفية من البنوك، والتي بلغت في عام 2016 ما مجموعه 45 مليون دينار، وهو رقم يتزايد سنة بعد سنة رغم إيرادات البرنامج الموازي والدولي، وخصوصا أن ما جاء قي قانون الموازنة لعام 2018 حول الموازنة التأشيرية لأعوام 2019 و 2020 ينذر بتراجع ملحوظ في مساهمات الخزينة، وستضطر الجامعات إلى المزيد من الاقتراض. أي أن مستقبل الوضع المالي للجامعات الحكومية مظلم ويشكل إن عاجلا أو آجلا ما يسميه الاقتصاديون (contingent liability)، أي انكشاف مؤجل، وحينها ستضطر الخزينة إلى اجتراع الدواء مهما كان مراَ لانتشال الجامعات من ديونها. ولكن كيف وصلنا إلى هذا الوضع المقلق والخطير ومن المسؤول عنه؟ ويؤسفني أن أقول نحن كلنا مسؤولون عنه، ولكن كل حسب موقعه، فالمسؤولية تقع بداية على الجامعات نفسها (أو عدد منها) لأنها لم تحسن إدارة مواردها المالية، ومن ثم على وزراء التعليم العالي المتعاقبين الذين لم ينقلوا الصورة بوضوح لمجالس الوزراء ولم يطرحوها بالقوة اللازمة، وعلى وزراء المالية بالإضافة لمدراء الموازنة لأنهم فشلوا في تحري الوضع الدقيق لهذا القطاع قبل اتخاذ القرارات التي غمطت حقه، وهي التي كان يجبى لحسابها تحت بند ضريبة الجامعة لغاية 2008 عندما أعادت الدولة هيكلة الضرائب ما يزيد على 300 مليون دينار. وتقع المسؤولية أيضا على مجالس الأمة لأنهم لم يمارسوا واجباتهم الرقابية والتشريعية بحق التعليم العالي فلم يستحدثوا الآلية الضرورية لتمحيص أولويات الإنفاق على محتلف القطاعات بالموضوعية المطلوبة منهم في دورهم التشريعي والرقابي ليستطيعوا التأثير على صنع القرار التمويلي قبل توزيع كعكته. ومهما تباينت حلقات المسؤولية فهي تعتمد أولا وآخرا على توافر المعلومة، فالمسؤولية الأولى هي على وزارة التعليم العالي والبحث العلمي التي لم توفر المعلومة لا لها ولا لغيرها رغم أن لديها مديرية مكلفة نصا بجمع المعلومات التي تساعد على وضع الخطط وصنع القرار. والأغرب من هذا كله، أننا وضعنا قبل سنتين خطة إستراتيجية شاملة لتطوير الموارد البشرية وأن الخطة قفزت عن موضوع تمويل التعليم العالي كله وكأنه غير ذي صلة لنكتشف الآن أن العديد من بنود تلك الخطة غير قابل للتنفيذ بسبب عدم توفر المخصصات المالية !
وغني عن القول أن لهذا الوضع مآلات جسام سوف أتناولها في الحلقة القادمة.