فلسطين.. بين صفقة القرن وقانون القومية العنصري

25/10/2018

الدكتور محمود يزبك

ينطلق مصطلح "صفقة القرن" من منطلقات رأسمالية متوحشة حددها التاجر الرأسمالي الساعي للربح دائما على حساب الآخرين، والرأسمالية المتوحشة ظاهرة قديمة برزت خلال القرنين التاسع عشر والعشرين مترافقة مع الإستعمار الكولونيالي، وبهذا غدت نهجا فكريا للدول الكولونيالية، التي حددت بموجبها تعاملاتها مع الشعوب المُستَعمَرَة.

ومنذ نشأة حركات التحرر مع بداية القرن العشرين في مناطق مختلفة من العالم، حاولت القوى الاستعمارية احتواء الدوائر الاجتماعية المحيطة بقوى التحرر العالمية بمنطق الصفقات، لإغراء بعض القيادات للتنازل عن مطالبها بالانعتاق من الاستعمار الكولونيالي، من خلال تحقيق بعض المكاسب الخاصة على حساب المصالح العامة، وتفننت بريطانيا والقوى الرأسمالية التي دارت في فلكها، بعرض صفقات على قيادات حركات التحرر لإغرائها بمكاسب مؤقتة، تتيح استمرار حركة الاستعمار الكولونيالي، وغالبا ما نجحت حركات التحرر الشعبية الأقوى اسقاط تلك الصفقات، وهكذا تحررت معظم الشعوب من نير الاستعمار الغربي وضمنها العديد من الشعوب العربية.

وقبل سقوط الدولة العثمانية وخلال النصف الثاني للقرن التاسع عشر، تلاقت مصالح حركة الاستعمار الصهيوني مع مصالح الامبريالية الغربية، وحينها شكّلت حركة الاستعمار الصهيوني في فلسطين رأس حربة لتنفيذ المصالح الغربية في أراضي الدولة العثمانية وفي فلسطين خاصة، ولتحقيق الاطماع الامبريالية في الدولة العثمانية تجندت السفارات الغربية لخدمة المصالح الصهيونية، بل وتنافست هذه السفارات فيما بينها على خدمة المصالح الصهيونية، وحين سقطت الدولة العثمانية كانت بعض النُخب الفلسطينية قد ارتبطت مع الاحتلال البريطاني وأخذت تدور بفلكه.

لم تنجح حركة التحرر الفلسطينية بعد سقوط الدولة العثمانية من تحقيق تحررها من الامبريالية البريطانية؛ الداعمة كليا للصهيونية الكولونيالية، وتوّجت بريطانيا دعمها للحركة الصهيونية، عشية احتلالها لفلسطين باصدارها لوعد بلفور، الذي انكر وجود شعب عربي فلسطيني في فلسطين، واعترف اعترافا كاملا "بالشعب اليهودي،"ليقيم له وطنا قوميا في فلسطين، ووعد بأن لا تنتقص الحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين.

وقد تبنت عصبة الأمم، أي المجتمع الدولي وعد بلفور حرفيا٬ وشكّل البند الثاني لصك الانتداب على فلسطين، .أي أن الانتداب البريطاني تعهد امام المجتمع الدولي بفعل كل ما باستطاعته لتسهيل الهجرة اليهودية الى فلسطين، لتغيير الوضع الديمغرافي ليصبح اليهود اغلبية، وإقامة مستوطنات ومقوّمات اقتصادية وسياسية خاصة بهم، لتسهيل إقامة وطنهم القومي على حساب أهل البلاد الأصلانيين.

وفي واقع الأمر اعتقدت بريطانيا؛ انها حققت لنفسها من خلال الحركة الصهيونية، وموقع فلسطين الاستراتيجي، مكسبا وصفقة استراتيجية، تضمن بقاء إمبراطورتيها وحماية مصالحها الاقتصادية والعسكرية، وسيطرتها على مقدرات الشرق الأوسط لمدة طويلة.

ومن ناحية أخرى كانت القوى الدينية الانجيلية، ذات التأثير الفاعل في الساحة السياسية البريطانية، تدعم بقوة وعد بلفور، وقد اعتقدت ان هذا النجاح الدبلوماسي يجسّد إرادة الرب، وهكذا التقت المصالح الاستعمارية البريطانية، مع المصالح الدينية الانجيلية، ومع الفكر الصهيوني الذي خطط لاستغلال الفرصة التي ستسنح له لتحقيق هدفه باستعمار فلسطين، واحلال اليهود فيها بدلا من أهلها.

وعلى الرغم من تعثر المشروع الصهيوني خلال مرحلة إقامة الوطن القومي، إلا أن المجتمع الدولي، وخاصة دول الاستعمار الغربي، استمرت بدعمه دعما كاملا، وحين تفاقمت الازمة الأوروبية في الثلاثينات والاربعينات من القرن العشرين، وصعدت الحركات النازية والفاشية ووجهت سهام الكراهية في أوروبا ضد اليهود، لم تتخل بريطانيا وباقي الدول الغربية عن دعمها للمشروع الصهيوني، ومع انتهاء الانتداب كانت بريطانيا قد وفت بوعدها بالكامل تجاه الحركة الصهيونية، بالعمل على إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، ذات مقوّمات دولة من الناحية التنظيمية والمؤسساتية والاقتصادية والعسكرية، وحين أعلنت بريطانيا عن نيتها لإنهاء الانتداب في فلسطين، كانت قد اطمأنّت لدعم مجلس الأمن والجمعية العامة للاعتراف بإسرائيل، أي نقلها من مرحلة الوطن القومي إلى مرحلة دولة كاملة السيادة، وقبل الحصول على اعتراف الامم المتحدة بها قامت القوات الصهيونية وبمساعدة بريطانيا، بتطبيق خطة التطهير العرقي للفلسطينيين واجلاءهم وتهجيرهم عن وطنهم، لإقامة دولة يهودية يستعمرها يهودا يؤتى بهم من أماكن مختلفة، ليحلّوا محل السكان الأصلانيين.

ومن المعروف أن هذا الاستعمار الإحلالي، اصطدم بعد ظهوره بمعضلات جديّة، هددته منذ البداية وجعلته مهزوزا ويعاني من مشاكل تعقدت مع مرور الزمن، وتتجلى أهم هذه المشاكل بعدم مقدرة إسرائيل من التخلّص من الطابع العربي لفلسطين، الذي طغى على المشهد الإسرائيلي في كل المجالات.

فمن ناحية واحدة سعت القيادة الإسرائيلية منذ البدايات بمحو الطابع العربي، عن طريق هدم مئات القرى الفلسطينية المهجرة ومحو معالمها وزراعة مواقعها بالغابات، ومن ناحية أخرى وعلى الرغم من الهدم الممنهج لأحياء عربية كاملة في المدن الفلسطينية المهجّرة ، إلا أنها اضطرت للحفاظ على العديد من احياء المدن الفلسطينية في صفد وحيفا ويافا واللد والرملة، لإيواء عشرات آلاف العائلات اليهودية التي استقدمتهم من الدول العربية والإسلامية، ليقطنوا في مساكن الفلسطينيين الذين هجّرتهم إسرائيل واصبحوا لاجئين،وحاجة إسرائيل لاستعمال تلك البيوت أبقت على الطابع العربي لهذه المدن حتى الآن، فمن يزور طبرية وحيفا ويافا واللد والرملة وصفد في أيامنا الراهنة، لا بد أن يتعرف عل الفرق بين أنماط البناء للسكان الاصلانيين المتناسب والمتناسق مع طبيعة المكان، وبين أنماط البناء الغربي المستورد الذي لا يمت للمكان بصلة.

وإلى جانب البناء والعمار العربي الماثل للعيان حتى الآن، فقد بقي في حدود فلسطين التي أقيمت عليها إسرائيل، اكثر من 50 ألف فلسطينيا توزعوا في تجمعات مدنية مثل الناصرة وعكا واحياء يافا وحيفا والرملة واللد، بالإضافة إلى حوالي 120 تجمع سكاني عربي موزع على طول البلاد وعرضها في الجليل والساحل والمثلث والنقب، ويبلغ عدد سكان هذه التجمعات العربية، اكثر من مليون وستمائة ألف فلسطيني، أي ما يعادل حوالي 22٪ من العدد الأجمالي للسكان.

حاولت إسرائيل منذ اقامتها تدارك "الخطأ" حسب فهمها، والذي أدى لبقاء هذا الكم العربي داخل حدودها قبل العام 1967، ومنذ عام 1949 خصصت الحكومة الإسرائيلية جلسات كثيرة، لبحث قضية الوجود الفلسطيني في إسرائيل، وكيفية التخلص من الفلسطينيين، واعتقدت القيادة الإسرائيلية ان حرب 1956 ستشكل فرصة سانحة للتخلص منهم، فقام الجيش الإسرائيلي بارتكاب مجزرة في كفر قاسم، وحاصر قرى المثلث من الغرب والشمال والجنوب، وترك الجهة الشرقية تجاه الضفة الغربية مفتوحة، لتشجيع سكان قرى المثلث على الرحيل إلى الضفة الغربية، التي كانت جزءاً من الأردن، وقد فشلت الخطة الإسرائيلية، وعلى الرغم من ارتكاب مجزرة كفر قاسم، لم يغادر أحد قريته، وفشلت خطة التهجير الاسرائيلية.

وفي اعقاب حرب 1967، خصصت الحكومة الاسرائيلية عدة جلسات لدراسة إمكانيات "تقليص اعداد الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية والجليل"، واقترح رئيس الحكومة الإسرائيلية قطع الماء عن قطاع غزة، لاجبار الناس للرحيل الى مصر او إلى الأردن، وهنالك من اقترح كذلك بتضييق الخناق على مصادر معيشة الفلسطينيين في الضفة الغربية، وتشجيعهم على الهجرة الى الأردن وغيرها من الدول، وبالنسبة للجليل فقد بحثت الحكومة الإسرئيلية منذ ذلك الحين إمكانيات "تقليص" أعداد الفلسطينيين في الجليل، وتبنت برنامج تهويد الجليل، أي مصادرة الأراضي العربية وإقامة مستوطنات يهودية.

وفي أواخر ثمانينات القرن العشرين، ومع انهيار الاتحاد السوفيتي في بداية التسعينات ،هاجر إلى إسرائيل حوالي مليون يهودي، قامت الحكومة الإسرائيلية بتوطين غالبيتهم في المناطق ذات الأغلبية العربية، لإضفاء طابعا يهوديا عليها، وخاصة لإتمام مخطط تهويد الجليل وتهويد القدس.

ومع مرور الزمن، لم تجد المشكلة الديمغرافية اليهودية حلا لها، خاصة وأن السياسة الإسرائيلية لتفريغ الضفة الغربية وقطاع غزة وداخل إسرائيل من الفلسطينيين، لم تنجح كما خطط لذلك صناع القرار الإستراتيجي في إسرائيل،وعلى ضوء ذلك اتسمت السياسة الإسرائيلية حتى بدء الانتفاضة الأولى عام 1987 بالتخبط وعدم الوضوح بالنسبة لمستقبل المناطق المحتلة عام1967. ويستثنى من هذا موقفها المتعلق بضم القدس الشرقية، وحتى في هذا الشأن لم يكن الوضوح كاملا بالنسبة لمستقبل القدس، وتوالت الامورعلى هذا الحال، حتى مفاوضات أوسلو حيث أخذت الاستراتيجيات الإسرائيلية تتبلور وتتضح خلالها.

اعتقد المفاوض الفلسطيني، بأنه نجح من خلال "أوسلو" وضع الأسس الأولية لإقامة دولة فلسطينية في أراضي فلسطين المحتلة عام 1967، وإما المفاوض الإسرائيلي فسعى للتخلص من اكبر عدد من الفلسطينيين، وإعفاء نفسه من كُلف الاحتلال الاقتصادية والعسكرية والسياسية والديمغرافية.

واعتمدت الاستراتيجية الإسرائيلية خلال مفاوضات أوسلو، الحفاظ على يهودية الدولة أولا وقبل كل شيء، واعتقد المفاوض الفلسطيني ان اتفاق أوسلو شكّل اطارا ملزما للحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، التي اعترفت "بالحقوق المشروعة والعادلة للشعب الفلسطيني".

وحسب أوسلو تمّ تقسيم الضفة الغربية لثلاث مناطق إدارية وإبقاء حوالي ٦٠٪ من الأرض الفلسطينية تحت السيادة الإسرائيلية الكاملة، كما تمّ ارجاء المفاوضات بالنسبة للقدس واللاجئين، وكان هذا الخطأ القاتل الذي اخطأه المفاوض الفلسطيني،. وعلى ما يبدو فان علاقات المودة والثقة التي نجح المفاوض الإسرائيلي بثها في غرف المفاوضات، كان لها الأثر الأكبر في التوصل لاتفاق ضبابي اعتمد على النوايا الطيبة للمفاوض الإسرائيلي.

لقد غاب عن وعي المفاوض الفلسطيني وبشكل كامل، طبيعة الحكم في إسرائيل، وتغيّر مزاج الناخب الإسرائيلي، وحين قتل رابين عام 1996 وتغيرت المواقف السياسية بسرعة في إسرائيل، وانتقلت رئاسة الحكومة لنتنياهو في نفس العام، حصل في إسرائيل انقلاب على أوسلو، أنهى الطاقم الإسرائيلي المفاوض مهامه، ودخل على الخط مفاوض جديد صاحب اجندة تختلف عن سابقتها لأقصى الحدود، الأجندة الجديدة اعتبرت المناطق المحتلة عام1967 جزء لا يتجزأ من "ارض إسرائيل" ويجب عدم التفريط بأي شبر منها،

وفي هذه الفترة، أي بعد ابرام أوسلو وتخلّص إسرائيل من عبء تحمّل المدن الفلسطينية، قرر شارون اقتحام المسجد الأقصى عام 2000 قلب الطاولة بالكامل،و كان هذا الفعل تحديا واضحا لاتفاقات أوسلو، واستخفاف بقدسية المكان وضرب المحرمّات عرض الحائط، ونتج عن ذلك ردّ فعل شعبي عنيف وغليان شعبي مما ولّد الانتفاضة الثانية..

فنفّذ شارون مخططه لاحتلال المدن الفلسطينية، وانتخب عام 2002 لرئاسة الحكومة الإسرائيلية، وحاصر المقاطعة في رام الله، حتى خرج منها أبو عمّار (مريضا مسموما!) في 6 نوفمبر 2004 الى المشفى في باريس وعاد منها شهيدا.

الوضع الجديد سار على ما يظهر حسب المخطط الإسرائيلي، كما رسمه شارون: أي الأنسحاب من مستوطنات قطاع غزة، لعدم إمكانية الدفاع عن سكانها، او لارتفاع كلفة حمايتها، واخلاء أربع مستوطنات في شمال الضفة الغربية على مقربة من جنين لنفس السبب، وقد رافق هذه المستجدات، إقامة الجدار الفاصل شرقي كتل الاستيطان في الضفة الغربية وحول قطاع غزة.

وكانت مهمة الجدار الفصل الكامل بين المدن الفلسطينية وبين محيطها القروي، وسيطرت إسرائيل بشكل كامل على بوّابات الجدار فلم يعد احد يدخل او يخرج من المدن الا بإذن وسيطرة إسرائيلية، كما فُصلت القدس المحتلة بشكل كامل، بواسطة أسوار اسمنتية عن باقي الضفة الغربية شمالا وشرقا وجنوبا، فأصبحت المدن الفلسطينية عبارة عن جيتوهات مفصولة عن محيطها ومحاطة بأسوار اسمنتية.

وأما القرى الفلسطينية، ففصلت عن بعضها البعض بواسطة المستوطنات الموزعة استراتيجيا في انحاء الضفة الغربية، وأقيمت الحواجز على مداخل القرى؛ للسيطرة على حركة الدخول والخروج، وعلى هذه الأساس وضع شارون منذ عام 2002 قبل موته التصوّر الإسرائيلي للحل الذي حاولت إسرائيل فرضه على الفلسطينيين، ويتلخّص بسلطة فلسطينية خدماتية، في مناطق (أ) و (ب) تكون تحت المراقبة الإسرائيلية، مع سيادة إسرائيلية كاملة على مناطق (ج) لحين إعلان ضمّها لإسرائيل.

وتبنّى نتانياهو هذا التصوّر بالكامل، وأخذ يتحيّن الفرص منذ صعوده للحكم عام 2009 لينفّذ المرحلة الأخيرة، من القضاء على حلم المفاوض الفلسطيني حين دخل محادثات أوسلو.

وكانت الخارجية الإسرائيلية، قد بدأت منذ توقيع أوسلو ومعاهدة السلام مع الأردن (1994) بمحاولة اختراق العالم العربي، وبخاصة دول الخليج والمغرب وتونس، لتكون هذه الدول أداة ضغط إضافية، وقد ثبتت ضرورة هذا التوجه علنا في حرب لبنان عام 2006 حين أعلنت العديد من الدول العربية عدم رضاها عما سمته بعض الدول بـ"مغامرة حزب الله".

ومباشرة بعد انتهاء هذه الحرب، وبخاصة بعد صعود نتانياهو للحكم، رسمت إسرائيل استراتيجياتها بالتصدي للقوة الإيرانية الصاعدة في المنطقة، وتحويل الأنظار عن القضية الفلسطينية، وتركيز الأنظار على ايران وعلاقاتها بالخليج والمملكة العربية السعودية بالذات، وظهرت للوجود نظرية الهلال الشيعي، ووجوب التصدي له، وسوّقت إسرائيل نفسها كقوة فاعلة في الحلف المعادي للهلال الشيعي، وأما ما عرف بالربيع العربي وتداعياته، وتدمير سوريا والعراق وليبيا واليمن، وتهديد مناطق أخرى في العالم العربي، فقد أثرت هذه المستجدات على تهميش القضية الفلسطينية وتوجيه الأنظار نحو صراعات جديدة وهمية او حقيقية، وأخذت تظهر اصطفافات جديدة في العالم العربي على حساب القضية الفلسطينية .

وفي اعقاب الربيع العربي، ومحاولة تفتيت سوريا والعراق لدويلات طائفية واثنية، وغياب العالم العربي والجامعة العربية كليا عن الساحة الدولية، أخذت إسرائيل تقطف ثمار تغلغلها البطيء في افريقيا واميركا الجنوبية، وتعد مسرح الجمعية العامة للأمم المتحدة لتغيير نسب التصويت ضدها.، وعلى الرغم من تراجع عدد المصوتين لجانب الحق الفلسطيني، لكن ما زالت القضية الفلسطينية تحظى بنسب تصويت عالية.

وخلال فترة حكم أوباما لم يستطع الفلسطينيون، من إضعاف اللوبي الصهيوني الأميركي، وفي حالات عدة شجّع هذا اللوبي نتانياهو ليقفز فوق الرئيس الأميركي من خلال الكونغرس الأميركي، واعتقد البعض أن التوصل لاتفاق نووي مع ايران قد ازاح البساط من تحت أرجل نتانياهو، وأضعف تأثير اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة الأميركية، لكن لم يكن هذا الا سقوطا مؤقتا ،للانقضاض بقوة اكبر لتحقيق البرنامج الإسرائيلي الذي سعى اليه نتانياهو، والذي تمثّل بأسدال الستارة على القضية الفلسطينية، وازاحتها عن طريق فتح علاقات مع دول الخليج والسعودية. وهكذا بدأت تتشكل ملامح مرحلة جديدة مع صعود ترمب للرئاسة الاميركية في كانون الثاني 2017.

منذ ذلك التاريخ دخلت القضايا الشرق أوسطية في مرحلة جديدة، وقد يكون اكثرها تأثيرا على القضية الفلسطينية، تشكلت الإدارة الاميركية الجديدة، من مجموعة فكرية متجانسة ذات قاعدة دينية انجيلية مسيحية-صهيونية، تعتقد بالقدسية اليهودية وبحقوقها الدينية، وتسعى لتحقيق ذلك وبشكل عملي وعلى أرض الواقع، تاريخيا برزت هذه الحركة الدينية مرّات عدة في القرن التاسع عشر في أوروبا، ونتج عنها وعد بلفور، كما قامت هذه الحركة الدينية الاميركية في منتصف القرن التاسع عشر، بمحاولة إقامة مستوطنة بالقرب من يافا عام 1842 ،وما زالت تعرف منطقة استيطانهم في يافا بحي الماليكان، وهذا التعبير عبارة عن تحريف محلي لكلمة أميركان.

وفي واقع الامر، يعتقد نتانياهو أن ترمب هو من سيحقق أهداف المشروع الصهيوني، أي تصفية القضية الفلسطينية، واندماج إسرائيل لقيادة حلف عربي خليجي ضد ايران، وليس بالضرورة لمحاربة ايران، بل استعمالها كشماعة وفزّاعة لتقود من خلالها هذا التحالف، وحسب هذا التصوّر يتم القفز عن فلسطين والفلسطينيين الى الدائرة العربية.

تنطلق الاستراتيجية الإسرائيلية الموالية لنتانياهو من قاعدة واقعية لإمكانية تحقيق ذلك وفي الوقت القريب جداً.

والقاعدة الواقعية تتفق على أن العالم العربي، خارج الخليج سيبقى في أزمات داخلية لمدة طويلة، الازمة السورية ستستمر وتستمر تبعاتها لسنوات طويلة، ومصر ستغرق في ديونها أكثر وأكثر، وتتعلق بأموال الخليج ومراضاة أميركا، و كذلك الحال في العراق.

وحيث ان ترامب يتفق مع نتانياهو اتفاقا كاملا، بل ان مساعدي ترامب أحيانا اكثر استعجالا من نتانياهو نفسه، فقد اتفق نتانياهو مع الإدارة الاميركية على إدارة القضايا الشرق أوسطية، حسب الاستراتيجية الإسرائيلية.

وحينما قام ترمب بزيارة السعودية في أيار 2017 تمّ التوقيع على صفقات وأرقام خيالية، بلغت 380 ملياردولار، ومن الرياض طار مباشرة إلى تل ابيب، وفتح بذلك خط الطيران المباشر إلى تل ابيب، واليوم تطير الطائرات الهندية فوق السعودية في طريقها إلى تل أبيب، وتطالب شركة العال للطيران الإسرائيلية بفتح أجواء السعودية امام الطائرات الإسرائيلية المتجهة إلى الهند والشرق الأقصى.

وخلال زيارة ترمب لإسرائيل، أي بعد حوالي خمسة اشهر من توليه الرئاسة، وضعت وبشكل عملي اللمسات لما تعارف عليه "بصفقة القرن"..

زار ترمب حائط البراق (الكوتل)، ومن هناك اصبح واضحا مغزى ذلك سياسيا ودينيا، ولم يمض على ذلك اكثر من ستة اشهر حتى اعلن وبشكل فظ يوم 6 كانون أول 2017 أن القدس عاصمة إسرائيل، واعلن ازاحتها عن طاولة المفاوضات.

وقد حددت إسرائيل مسبقا حدود القدس وهي المنطقة المحدودة بالسور الاسمنتي الذي يفصلها عن باقي المناطق الفلسطينية المحتلة عام 1967، وتمتد حدود مدينة القدس حسب هذا المنطق، شمالا حتى حاجز قلندية على مشارف رام الله، وجنوبا حتى الحاجز الجنوبي لمدينة بيت لحم، وشرقا حتى مشارف مدينة اريحا.

وحين تقوم إسرائيل لأي سبب بإغلاق حاجز قلندية، اي بوابة رام الله الجنوبية، وبوابة مدينة بيت لحم، فيعني ذلك فصل الضفة الغربية بالكامل لجزأين: شمالي وجنوبي ومنع التواصل بينهما.

وحيث أن القدس لم تعد موضوعا لمفاوضات مستقبلية، حسب المنطق الأميركي والإسرائيلي، فيجب إزالة العقبة الأخرى التي تمنع فرض اتفاق اميركي إسرائيلي على الفلسطينيين، وهذه العقبة هي قضية اللاجئين.

وفي الأيام الأخيرة، وبعد تسريبات إعلامية على مدار الأشهر السابقة، أعلنت إدارة ترمب قرارها بقطع مخصصاتها عن وكالة الاونروا، وهي خطوة أولى لتقويض عملها، من أجل الوصول للهدف النهائي لإلغائها،ومن ثم إعادة تعريف مصطلح اللاجئ الفلسطيني.

وقد تبنّت الإدارة الاميركية بالكامل تعريف نتانياهو لهذا المصطلح، الذي يشمل فقط من سجّل لاجئا عام 1948، ولا تنتقل هذه الصفة بالتوارث، أي تنتهي مسألة اللجوء مع موت الجيل الأول من اللاجئين، وهذا ما ادعته الإدارة الاميركية حين قدرت عدد اللاجئين بحوالي نصف مليون.

وكما أعلنت الإدارة الامبركية موقفها عن القدس واعلن ترمب بأن موضوع القدس ازيح عن طاولة المفاوضات، فنحن على اعتاب اعلان مشابه بالنسبة لقضية اللاجئين، ومحاولة ازاحتها عن طاولة المفاوضات وازاحة حق العودة معها.

ومنذ وصول ترمب الحكم، اخذت إسرائيل تفكر بجدية بمستقبل قطاع غزة، وبينما يتعمّق الانقسام الفلسطيني ما بين حماس وفتح، او ما بين رام الله وغزة، كلما طال أمد الانقسام، فقد اعتمدت السياسة استراتيجية تعميق هذا الانقسام، وإقامة سلطة منفصلة في قطاع غزة عن رام الله، مما يمنع إقامة دولة فلسطينية، او يسمح بإقامتها حسب التضوّر الأميركي – الإسرائيلي.

وكما يبدو، فإن التصوّر الأميركي - الإسرائيلي لفرض حل الصراع، يسير بسرعة أكبر مما توقعه الطرفان،وفي الواقع فقد أطلقت الإدارة الاميركية على هذا التصور صفة "صفقة القرن"، وتشمل إزاحة القدس وحق العودة وقضية اللاجئين وضم مناطق (ج) لإسرائيل، وفصل الضفة عن غزة، ويحق للفلسطينيين وبدعم من أنظمة عربية الإعلان عن إقامة دولة فلسطين غير واضحة المعالم في منطقتي (أ) و(ب)، وحتى هذه اللحظة لم تتفق الاستراتيجية الإسرائيلية بالنسبة لوضع قطاع غزة، وينمو توجها واضحا لتطوير سلطة ما في غزة، لا تتبع مباشرة لرام الله ولا ترقى لمرحلة دولة.

وبموازاة ما ذكر أعلاه شرّعت إسرائيل أخيرا "قانون القومية"، الذي يتماشى بالكامل مع "صفقة القرن" حيث ان مضمونه لا يشمل دولة إسرائيل التي لا حدود لها، بل يتحدث كذلك عن "حق الشعب اليهودي بتقرير المصير في ارض فلسطين". وإضافة لذلك ينكر بالكامل وجود الفلسطينيين، ويدعو إلى تشجيع الاستيطان اليهودي.

وعلى الرغم من إشكاليات هذا القانون القانونية، لكنه يشكل احدى حلقات "صفقة القرن" لضم مناطق (ج) لإسرائيل وازاحتها عن موضوع المفاوضات وفق منطق الرئيس ترمب.