الساعة

الحكومة النيابية .. ما لها وما عليها

10/01/2012

مركز الراي للدراسات

اعداد :د.احمد الهنداوي

كانون الثاني/2012



في خضمّ ثورات الربيع العربي, ونتيجة طبيعية لكَبت وقمع دامَ لسنوات طوال, تَكثرُ المطالبُ الشعبيةُ وتَتنوّعُ وتتشعّب. منها ما كانَ واضحاً بأنّها مطالبُ حقّة وعادلة تخدمُ الصّالحَ العامَ وتُزيل المظالمَ وتُعيد الحقوقَ المغتصبةَ والمسلوبةَ الى أصحابها, ومنها ما كان واضحا بأنها غيرُ ذلك وتُمثّل مصالحَ ضيّقة لفئات مجتمعية تسعى لتعزيز مكتسباتها. ومنها ما سبَّب جدلاً بين هذه وتلك

ومن المُطالبات التي يسهلُ تأييدُها ودعمُها للوهلة الأولى هي المُطالبةُ بتشكيل «حكومات نيابيّة». فبعضُهم من طالب بها كخطوة أولى لتحقيق الإصلاح ومنهم من وضعها كهدف نهائيّ له... فالذين يؤيّدون هذا المبدأَ ينطلقون من منطلقات تبدو جميعُها منطقيّة, وهي ضرورةُ المشاركة الشعبيّة في الحكم كون الشعب هو مصدر السلطات، وأن الوزيرَ النائبَ، المنتخبَ من الشعب لا بدّ له من ان يعيَ مشاكل الشعب وبالتالي يمارسَ صلاحياتَه التنفيذيّةَ في معالجة هذه المشاكل... بالإضافة إلى كون أنَّ هذا المبدأَ الديمقراطيّ يشكّل الأساس لتداول السلطة بشكل سلميّ وأنه مطبّق في العديد من دول العالم الديمقراطيّة ومنها على سبيل المثال المملكة المتّحدة والتي تُشَكّلُ الحكومةُ فيها، كُلُّها أوجلُّها، من أعضاء مجلس النواب... كلُّ هذه الطروحات هي طروحات منطقية وتعزّزُ مصداقيّة المطالبة للوهلة الأولى...

لا يوجدُ نظام ديمقراطيّ «مثاليّ» وموحّد

ولكنّ المُتردّدين لطرح «الحكومة النيابية» يُذَكّرون ويؤَكّدون بأنه لا يوجدُ نظام ديمقراطيّ «مثاليّ» وموحّد في العالم, ليس الآن ولا في أيّ وقت مضى, بحيث يُمكن تبنّيه وتطبيقه في أيّ مكان وزمان.

وأن للدول خصوصيّات سياسيّةً ومجتمعيّةً وديموغرافيّةً وجغرافيّةً وتاريخيّةً واقتصاديّةً وغيرُها، يجبُ ان تؤخذَ بعين الاعتبار عند تصميم نظامها الديمقراطيّ... فنجاحُ نموذج ديمقراطيّ معيّن في دولة ما يتسم نظامها الديموقراطي بالنضج, ثقافة مجتمعية ووعيا سياسيا ومشاركة شعبية حزبية واسعة, لا يعني بالضرورة نجاح مثل هذا النظام في دولة أخرى وذلك لخصوصيّاتها ومدى نضج التجربة الديمقراطيّة فيها...
وأن اكبرَ الديمقراطيّات الموجودة حاليّاً في العالم وأعرقَها أمثال الولايات المتّحدة الأمريكيّة والمملكة المتّحدة وفرنسا واليونان والهند واندونيسيا على سبيل المثال لا الحصر، إنما تتّبعُ أنظمةً ديمقراطيّةً، وإن التقت جميعُها في الروح والهدف الأساسيّ بأنّ الشعبَ هو مصدرُ السلطات، إلا أنَّها جميعاً تختلفُ أيّما اختلاف في الشكل والمضمون والهيكليّة والمكوّنات والمنهجيّات بما يعكسُ خصوصيّةَ كلّ دولة منها تاريخاً وحاضراً ومستقبلاً... استناداً لهذا الطرح، يمكن للمُتفحّص في مطالبة «الحكومة النيابيّة» ان يصل للاستنتاجات التالية:

اولاً: إنّ مبدأ «الحكومة النيابيّة», في بلد لم يكتمل فيه نضج تجربته الديموقراطية بعد, يتعارضُ جوهراً مع مبدأ فصل السلطات ومبدأ الحوكمة الرشيدة وعدم وجود تضارب في المصالح والّتي تشكّلُ القاعدةَ والركيزةَ الأساس لأيّ نظام ديمقراطيّ. فالأصلُ في الحكم الرشيد وفقَ هذه المبادئ أن تمارس سُلطاتُ الدولة الثلاث التشريعيّةُ والتنفيذيّةُ والقضائيّة، بالإضافة إلى شقيقتهن السلطة الرابعة الإعلام، عملها دون وجود أيّ تداخل أو تأثير أو إزدواجيّة في الصلاحيّات بينها ودون تغوّل من أحداها على الأخرى.

فتقوم السلطةُ التشريعيّةُ بالتشريع والرّقابة على الحكومة وتقوم السُلطةُ التنفيذيّةُ برسم السياسات وإعداد الخطط والبرامج وتطبيقها تحت رقابة وإشراف السُلطة التشريعيّة، وتقوم السلطةُ القضائيّةُ بتصويب أيّ خلل أو مخالفة في تنفيذ التشريعات المقرّة دستوريّاً في حال حدوثها من أيّ كان.

كلّ ذلك يجب ان يتمّ في جوّ من الشفافيّة والإفصاح, والعدالة والنزاهة, والمسؤوليّة والمساءلة, وتحت رقابة السلطة الرابعة ,صوت الشعب, الإعلام... وهو امر لا يُمكنُ حدوثه في حال تشكيل «الحكومة النيابيّة»... فكيفَ يُمكنُ في هذه الحالة للوزير النائب أن يراقبَ أداءَ نفسه... أو ان يقومَ حزبُ الأغلبيّة الممَثّل في السلطة التشريعيّة بالرقابة الفاعلة غير المنحازة على أعضائه الوزراء في السلطة التنفيذيّة؟ّ!! ألا يُشكّل هذا تغوّلاً من قبل السلطة التشريعيّة على التنفيذيّة وتضارباً واضحاً في المصالح وانتقاصاً صارخاً في مهام وصلاحيّات السلطة التشريعيّة وتقييداً خطيراً لها يحدُّ بشكل كبير من تمكينها من تنفيذ المُهمّة الرئيسيّة التي أُنشأت من اجلها... ألا وهي الرقابة على الحكومة؟!!

تشكيلَ «الحكومة النيابيّة» يفرضُ تضارباً في المصالح

ثانياً: إنّ تشكيلَ «الحكومة النيابيّة»، وعلى الأخصّ في الديمقراطيّات الناشئة، سيفرضُ تضارباً في المصالح بين رغبة وميول الوزير النائب في استخدام ما يمنحُ من صلاحيات تنفيذيّة دستوريّة في تلبية طلبات واحتياجات قاعدته الانتخابية سواء أكانت منطقةً أو عشيرةً أو حزباً مع دور السلطة التنفيذيّة الأساس بأن تكونَ للوطن أجمع من أقصاه إلى أقصاه ولجميع المواطنين دون أيّ تمييز بين مناطقهم وفئاتهم المجتمعيّة أو انتماءاتهم الحزبيّة.

ثالثاً: بالإضافة إلى أنّ «الحكومة النيابيّة» ,وخاصّة في نظام ديمقراطيّ نام, ستشكلُ تضارباً واضحاً بين دور الوزير النائب في خدمة حاضره فقط فيقوم باتخاذ القرارات والإجراءات «الشعبيّة» قصيرة المدى، بغضّ النظر ان كانت صحيحةً ام لا، والتي ستكفلُ له شعبيّةً سريعةً تؤهّلُ لإعادة انتخابه في الدورة القادمة، بينما الأصلُ في الأمر أن تتّخذَ السلطةُ التنفيذيّةُ القرارات والإجراءات «الصحيحة» على المدى الاستراتيجي البعيد، بغضّ النظر إن كانت هذه القراراتُ والإجراءاتُ شعبيّة أم لا، وذلك خدمة لهذا الجيل بالإضافة إلى الأجيال القادمة والتي لا تملك حالياً صوتاً في صناديق الاقتراع مما يعزّزُ من إمكانيّة أن يغفلَها تماماً الوزيرُ النائبُ...

فإستراتيجيّةُ التوسّع في إقامة مشاريع البنية التحتيّة والمشاريع الرأسمالية عن طريق الاقتراض الداخلي والخارجي المبالغ فيه على سبيل المثال يُمكنُ أن تخدمَ القاعدةَ الشعبيةَ للوزير النائب (الحكومة النيابيّة) فبالتالي يسعى الى تنفيذها لأنّها تكسبه الشعبيّةَ قصيرةَ المدى بالرغم من أنَّهُ يَغفَلُ بذلك الأثَرَ السلبيَّ والعبءَ الكبيرَ الذي ستتركهُ مثل هذه الإستراتيجيّةُ على الأجيال القادمة والتي ستكونُ مسؤولةً وملزمةً بسداد هذه القروض.

تضارباً صارخاً في المصالح يجبُ أن يُسعى لمنعه وعدم حدوثه بدلاً من ترسيخه وتعزيزه وفتح المجال واسعاً أمامه من خلال «الحكومة النيابيّة»...

إذاً «فالحكومةُ النيابيّةُ»، خاصّة في نظام ديمقراطيّ لم يكتمل نضوجُه بعد، تخالفُ مبدأَ الحوكمة الرشيدة ومبدأَ فصل السلطات و عدم وجود تضارب في المصالح وعدم تغوّل سلطة على أخرى... وقد لا تكونُ في مصلحة الوطن والمواطن على المدى القصير أو المدى الاستراتيجيّ البعيد كما يتوقعُ البعضُ أو يسهلُ عليهم ذلك... ولكن... ماذا عن أحزاب الأغلبيّة؟ ألن يكون تشكيلُ حكومة نيابيّة من مجلس نواب تمتلكُ فيه الأغلبيّةَ لصالحها وفرصة لا تُعوض لها لتحقيق هدفها المشروع بالوصول للحُكم بعد طول انتظار؟ ألن يكون لها ذلك فرصةُ ثمينة يجبُ إقتناصُها لكي تضعَ فكرَها وخططَها وبرامجَ عملها ومشاريعَها التفصيليّة وفي المجالات المختلفة... إن وجدت... حيّز التنفيذ؟!

ماذا يمكنُ لحكومة نيابيّة إسلاميّة أن تفعلَ في ظل الظروف الراهنة ؟

بالرّغم من أنَّ مبدأ «الحكومة النيابيّة» مُطبّق في بعض الدول في العالم ذات التجربة الديموقراطيّة العريقة مكتملة النضوج, حيثُ يُشكّل هذا المبدأ الأساسَ في تناوب وتداول السُلطة فيها بشكل سلميّ, الاّ أنّ للدول خصوصيّات يجب أن تؤخذَ بعين الأعتبار عند تصميم نماذجها الديموقراطيّة.

الحركةُ الاسلاميّةُ في الاردنّ والتي أكنُّ لها كلّ الاجلال والاحترام والتقدير... والتي لا أشكُّ للحظة في انتمائها الصادق لهذا الوطن وحرصها المتأصّل على حماية أمنه واستقراره (بالرغم من بعض الأخطاء التي ارتكبتها هنا وهناك) ومستقبله من كل تحدّ يمكن أن يواجه ... هذه الحركةُ والتي كانت وما تزال جُزءا لا يتجزّأ من النسيج الوطنيّ الأردنيّ... دعمها النظامُ ودعمته... وحماها وحافظت على أمنه... وذلك في زمن كانت تحاكُ فيه التحدّياتُ عليهما معاً... تلك الحركة والتي تجمعني مع ابرز شُخوصها علاقةُ احترام ومودّة ومنذ عقود... أقول لها، ومن مُنطلق الأخ الناصح لإخوته وأساتذته، بأنّني اعتقدُ جازماً بأنّ الحركةَ،

وبغضّ النظر عن طبيعة قانون الانتخاب القادم وتوزيع القوائم النسبيّة والفرديّة وقوائم الوطن فيه، بأنّها بتاريخها وفكرها وتنظيمها والقاعدة الشعبيّة التي تملك، ودرجة الإحباط والغليان الجماهيريّ الحالية، والظروف الاقتصاديّة الصعبة للغاية التي تواجه المواطنين والفشل المتكرّر للعديد من الحكومات السابقة في تلبية الحُدود الدنيا من تطلّعات الشعب، بالإضافة للشعور والعاطفة الدينيّة المتأصّلة عند مُعظم أفراد الشعب والى ما تشهدهُ الأمّةُ العربيّةُ من ربيع ثورتها... لكل هذه الأسباب فإن الحركةَ ستتمكّنُ من حصاد ما بين 35-40 بالمئة على الأقل من مقاعد مجلس النواب في انتخابات 2012،

وأنها ستتمكّنُ إن أرادت، وبعد تشاور سيّد البلاد مع مجلس النواب،من تشكيل الحكومة القادمة رئيساً وأعضاء بدون مُشاركة القوى الأخرى والمستقلين أو معها (وهو الاحتمال الأرجح)... وسيكونُ هنالك تطابق وتشابُه كبير من حيث النتائج مع ما حصل ويحصُلُ في كل من المغرب وتونس ومصر...فقطارُ الحكومة النيابيّة الأسلاميّة السريع, والّذي انطلق من الرباط مرورا بتونس والقاهرة, يُمكنُ أن تكون عمّانُ احدى محطّاته في تشرين أوّل 2012 ان شاءت الحركةُ الأسلاميّةُ الأردنيّةُ ذلك... ولكن ماذا بعد؟

إن كنا نتحدّثُ عن سقف عال من التوقعات الشعبيّة بعد تكليف رئيس الحكومة الحالي بتشكيل الحكومة نظراً لما يتمتّعُ به دولتُه من كفاءة وخبرة علميّة وعمليّة متميّزة وطنياً وعالمياً معزّزة بصفات وخصال شخصيّة ترسّخُ من مصداقيّة الرجل ونيّته الصادقة في الإصلاح، فأنني استطيعُ أن أجزمَ بأن سقفَ هذه التوقعات سيتضاعفُ أضعافاً مضاعفةً في العلوّ والارتفاع في حال تولّي الحركة الإسلاميّة الحكم... وقد ينهاُر السقفُ تماماً وتصبحُ السماء هي الحدود في جميع المجالات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة... فالتحريرُ من النهر الى البحر سيُصبحُ توقّعاً... والقضاءُ على الفقر والباطلة سيُصبحُ توقّعاً.... وإزالةُ المديونية والعجز ستُصبحُ توقّعاً... ومضاعفةُ مستوى معيشة المواطن ستُصبحُ توقّعاً... ولكن هل ستستطيع الحركة الإسلاميّة، وفي حال تولّيها الحكم، في ظلّ القيود والظروف الراهنة من تحقيق الحدود الدنيا لهذه التوقعات؟!!

ستتمكّنُ الحكومةُ النيابيّةُ الإسلاميّةُ من الحكم لسنتين على الأقل ما بين 2013 و 2015 تقومُ خلالَها بتعديل بعض التشريعات والتي لا تتواءم بعضُ بنودها مواءمة تامّة وصريحة مع أحكام الشريعة الإسلاميّة وهذا خير وبركة... وستتمكّنُ الحكومة ُ النيابيّةُ الإسلاميّةُ من اتخاذ بعض القرارات التنفيذيّة الحياتيّة التي ستحدُّ من بعض الممارسات الحاليّة والتي قد يكونُ فيها بعض الانحرافات عن مبادئ الدين الحنيف... وهذا أيضا خير وبركة... ولكن ماذا بعد؟!

هل ستتمكّنُ الحركةُ من تلبية الحدود الدنيا من توقعات الشعب الذي سيُصعدها بتفوّق الى سدّة الحكم... هذا في ظل موازنة يذهب حوالي 70% منها لتغطية رواتب وتقاعد المواطنين بالإضافة الى دعم المحروقات ولا يُمكنُ أو يجبُ المساسُ بها... وفي ظل موازنة لا تكفي لتغطية نفقات الدولة التشغيليّة ناهيك عن أيّة مشاريع رأسماليّة... وفي ظلّ مديونيّة (داخليّة وخارجيّة) تبلغ 12.3 مليار دينار وعجز في الموازنة يبلغ حوالي 1.4 مليار دينار سنوياً (قبل المنح والمساعدات)... ماذا يمكنُ لحكومة نيابيّة إسلاميّة أن تفعلَ في ظل هذه الظروف؟!!

القادةَ الأذكياءَ يبدأون حكمَهم بخفض سقف التوقّعات

من ابرز مبادئ الحوكمة الرشيدة للإدارة العامّة بأنّ الانطباعَ والحكمَ النهائيَّ للشعوب على اداء حكوماتها يتناسبُ عكسياً مع حجم التوقّعات الأوليّة من تلك الحكومات... ولذلك نرى بأنّ القادةَ الأذكياءَ يبدأون حكمَهم بخفض سقف التوقّعات وليس رفعها وذلك بقولهم مثلاً أنّهم ورثوا تحدّيات كبيرة ممن سبقهم وأنّهم لا يملكون عصى سحريّة وأنّ الشعبَ يجب أن لا يتوقّعَ المعجزات وأن التغييرَ لن يكونَ سهلاً أو سريعاً بل قد يحتاجُ الى سنوات طوال لتحقيقه... كلّ ذلك في محاولة منهم لخفض سقف التوقّعات الأوليّة من قبل شعوبهم حتى لا يكون الإحباط النهائيُّ لهذه الشعوب كبيراً وليتم استقبالُ أيّ انجاز تحقّقه الحكومةُ مهما كان صغيراً بإيجابية... ولكن... هل ستتمكّنُ حكومة نيابيّة إسلاميّة تأتي بعد طول انتظار ولطالما حملت شعار «الإسلام هو الحلّ»

وقد فوّضت شعبيّاً ورسميّاً الآن لتنفيذ هذا الحلّ، بالإضافة إلى الأجواء المفعمة بالحركة وعدم القبول بواقع الحال وعدم تقّبل الحجج والمبرّرات مهما كان فيها من المنطق والصحّة, هل ستتمكّنُ مثل هذه الحكومة النيابيّة الإسلاميّة من خفض سقف التوقّعات الأوليّة لتخرجَ بالحدّ الأدنى من «بياض الوجه» بعد انتهاء فترة حكمها... أعتقد جازماً بأنّها لن تستطيعَ ذلكَ, وأنَّ المحصّلةَ النهائيّةَ لحكمها ستكونُ انهياراً شاملاً للمخزون الشعبيّ الهائل للحركة والذي ثابرت ولعقود على بنائه... ولن تتمكّنَ الحَركةُ في الانتخابات التي تليها عام 2016 من الحصول إلاّ على نسبة قليلة جدّاً مما حصلت عليه في انتخابات 2012... تنتقلُ على أثرها من المبادرة إلى الدفاع وتبرير ضعف الأداء والانجاز خلال سنوات حكمها السابقة مما سيُفقدُها الشيء الكثير... وهذا تماما ما أتوقّعُ أن تؤولَ اليه حالُ الحكومات النيابيّة الأسلاميّة في كل من المغرب وتونس ومصر. فهل هذا ما تُريدُه الحركةُ الأسلاميّةُ الأردنيّة؟!! لا اعتقد ذلك...

أليس من الأفضل للحركة الإسلاميّة بدلاً من السعي الحثيث والدؤوب لاستلام الحكم المباشر من خلال حكومة نيابيّة من المُرجّح أن تؤدي إلى تآكل قاعدتها الشعبيّة بعد انتهاء حكمها، أليس من الأفضل لها أن تستمرَ بلعب دور محوريّ وأساسيّ في النظام السياسيّ الاردنيّ عن طريق ممارستها لدور تشريعيّ ورقابيّ فاعل على الحكومة من خلال مجلس نواب قويّ تملك فيه الحركة النصيبَ الاكبرَ من المقاعد ومُستندة الى قاعدة وثقة شعبيّة راسخة لن تخبوَ بفضل أداء رقابيّ وتشريعيّ مُميّز يُمكّنها من تحقيق الإصلاح الذي تصبو إليه والمشاركة الفعّالة في اختيار الحكومة رئيساً وأعضاء من خارجها والدفع بالبرامج والمشاريع التي ستُسهم في تحقيق الإصلاح المنشود؟! ألا يُعتبر هذا خياراً استراتيجيّاً أفضل للحركة على المدى البعيد؟ّ!!

إذاً... إذا لم تكن الحكومةُ النيابيّةُ في نظام ديمقراطيّ ما يزال ينمو وينضج في مصلحة الوطن والمواطن بسبب مُخالفتها لمبادئ الحوكمة الرشيدة وفصل السلطات وتضارب المصالح وتغوّل السلطات... وإذا لم تكن مثل هذه الحكومة في مصلحة أحزاب الأغلبيّة كونها ستفقدُها حتما الرصيد والمخزون الشعبيّ والذي جهدت لبنائه عبر سنوات طوال.... وإذا كان أداءُ العديد من الحكومات السابقة «غير النيابيّة» قد اتّسم بالضعف وعدم الأهليّة والتخبُّط أيضاً وعدم تمكُّنها من الحصول على الثقة الشعبيّة التي تمكُّنها من الحكم ومن تلبية الحدود الدنيا من آمال وتوقعات الشعب... إذا ما هو الحلّ؟!!

«استراتيجيّة وطن» لتنفيذ الإصلاحات

لا احد يستطيع أن يدّعيَ بأنّ لديه وحدَهُ الوصفةَ السحريّةَ الّتي يمكنُ أن تُنتجَ نظاماً ديمقراطيّا فاعلاً يعكسُ خصوصيّةَ الأردنّ... ولكن يُمكن اقتراحُ بعضَ المبادئ والأدوات والآليات و التي يُمكن لها ان تُساهمَ في إنتاج مثل هذا الحلّ...فلا بُدَّ ان يكونَ الحلُّ جوهريّاً بحيثُ يغيّر جذريّاً من أسلوب العمل السابق ولكنه بنفس الوقت لا بدَّ ان يكونَ إبداعيّا مبتكراً ولا يندفع نحو الحلول الجاهزة، حتى وإن نجحت مثل هذه الحلول في دول أخرى نتيجة لنُضج التجربة الديمقراطيّة فيها.

مثل هذه الحلول يجبُ ان تأتيَ بعدَ إجراء تشخيص دقيق للمشكلة وأسبابها بكل شفافية وموضوعيّة وأن تأخذَ بنفس الوقت بعين الاعتبار خصوصيّةَ الوطن وأن تأتيَ بعد تفكير مُتعمّق في نتائج هذه الحلول على المدى القصير والاستراتيجيّ البعيد... فبعد الانتهاء من إجراء التعديلات الدستوريّة والتي تُمثّل الحجرَ الأساسَ للنظام الديمقراطيّ الأردنيّ والانتهاء من إعداد اطر قوانين الانتخابات والأحزاب والتي تُعتبرُ أدوات رئيسةً في ترسيخ وتعزيز وتأطير الديمقراطيّة في الأردنّ، لا بدّ الآن من الانتقال إلى مضمون الإصلاح ومُكوّناته وآليّاته التفصيليّة ومُخرجاته في كافّة مجالات الحياة والتي سيكون لها أثر مُباشر في الارتقاء بمستوى معيشة المواطن الأردنيّ.

يُمكن أن يتحقّقَ ذلك من خلال تشكيل «لجنة ملكيّة للإصلاح» مُمثّلة من كافّة ألوان الطيف الأردنيّ من أقصاه إلى أقصاه لتبدأ فوراً بإعداد خطّة إستراتيجيّة وطنيّة تحتوي على رُؤى وأهداف واضحة وسياسات وبرامج وأولويّات محدّدة (ضمن الامكانيات المتاحة) وآليّات تنفيذيّة وأطر زمنيّة ومسؤوليّات ومؤشرات أداء محدّدة وقابلة للقياس والمتابعة ضمن كافّة ميادين الحياة الاقتصاديّة والاجتماعيّة و السياسيّة... يُمكنُ «لإستراتيجيّة الوطن» هذه إن تأخذَ بعين الاعتبار كافّةَ الخطط والبرامج والدراسات القطاعيّة بالإضافة إلى توصيات اللجان الحواريّة والاستشاريّة السابقة والى الأجندة الوطنيّة الّتي تَمّ إعدادُها قبل سنوات...لتأخذ منها ما بَقيَ مُّناسباً ومُلائماً لحاضر الأردنّ ومُستقبله ولتلغيَ وتعدّلَ وتضيفَ على ما هو دون ذلك... كما تقوم اللّجنة بدراسة واقتراح منظومة متكاملة من الأجراءات الكفيلة بنشر وترسيخ الوعي السياسيّ المجتمعيّ و تفعيل وتحفيز المشاركة الشعبيّة في العمليّة السياسيّة, وهو العنصر والمكوّن الأساس اللازم لأنضاج المسيرة الديموقراطيّة... كما يَجبُ على هذه اللجنة ان تَقومَ بوضع الأسس والمعايير والمواصفات الواجب توفّرها في أعضاء السلطة التنفيذيّة رئيساً وأعضاء، وخاصّة فيما يتعلّقُ بصفاتهم الشخصيّة من النزاهة والاستقامة أو فيما يَتعلقُ بخبراتهم وكفاءاتهم العلميّة والعمليّة أو مهاراتهم القياديّة والإداريّة.

فضَعفُ أو سوءُ تشكيل الحكومات واختيار رؤسائها وأعضائها يُشكّلُ السندَ والحُجّةَ والمبرّرَ الأساسَ للبعض للمطالبة بنقل هذه السلطة والصلاحيّة للشعب من خلال «الحكومة النيابيّة». ويا حبّذا لو أن المواصفات والمعاييرَ التي تم اعتمادُها في اختيار الرئيس الحاليّ ان تكونَ الأساسَ والسندَ التي يمكنُ أن تُبنى عليها مثلُ هذه المعاييرُ ليتمَّ الإضافةُ عليها لا الانتقاصُ منها.

تقومُ اللجنةُ بعد انتهاء عملها برفع توصياتها فيما يتعلّقُ «بإستراتيجيّة الوطن» وأسس ومعايير رئيس وأعضاء السلطة التنفيذية لسيّد البلاد لاعتمادها ومن ثم تحويلها إلى مجلس النواب لمُناقشتها وإقرارها إما من خلال قانون أو تعديل على الدستور ليشمل مثل هذه المعايير أسوة بشروط ومعايير اختيار أعضاء مجلس الأعيان وليتم الأخذُ بهذه الأسس والمعايير عند تشاور جلالة الملك مع مجلس النواب ومع كافة الأحزاب والقوى الوطنية وقوى الحراك الشعبي والنقابات ومؤسسات المجتمع المدني عند اختيار رؤساء الحكومات القادمين... لتشكّل حكومات يتم منحُها الثقة ,رئيساً في البداية ومن ثم وزيراً وزيراً كلّ على حدة.

تمنح هذه الحكومات الوقت الكافي لتطبيق «استراتيجيّة الوطن» بكفاءة وفاعليّة, وبشكل متزامن ومتوائم مع عمرالمجالس النيابيّة التي تمنحُها الثقة وتراقبها , ولتكون خاضعةً خلالها للمساءلة ومعرّضة لطرح الثقة فيها واسقاطها, كلّها أو أحد أعضائها, من قبل المجلس في أيّ وقت في حال عدم قيامها بذلك... وتبقى صلاحيّةُ جلالة الملك, الحامي للمسيرة والمعزّز المرسّخ للأستقرار والحافظ للتوازن, بالتغيير أو التعديل في الظروف الأستثنائيّة كما هو الحالُ في حلّ المجلس.

سلطات أربع تمارس عملَها بكفاءة وفاعليّة وبحريّة واستقلاليّة تامة... و»إستراتيجيّة وطن» تمثل برنامجاً وطنيّاً شاملاً ومفصّلاً ومتّفقا عليه من قبل كافّة الأطياف السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة يحتوي على خطط عمل تفصيليّة بمؤشّرات أداء واضحة ومحدّدة وقابلة للتقييم والقياس والمتابعة، ويتم مراجعة هذه الإستراتيجيّة الوطنيّة وتحديثها وتطويرها دوريّاً.

تطبّقُ هذه الإستراتيجيّةُ الوطنيّةُ وتنفّذُ من قبل حكومة أكفياء قويّة, عالية الأهليّة والنزاهة, رئيساً واعضاء يتم اختيارُهم بشكل صحيح وفق أعلى الأسس والمعايير الواضحة والمحدّدة والمقرّة دستوريّاً والّتي تضمنُ مثل هذه الأهليّة والكفاءة و النزاهة, وبعد التشاور مع كافة الأطياف السياسيّة والأقتصاديّة والأجتماعيّة الأردنيّة... حكومة «غير نيابيّة» تعزّز وتقوّي وترسّخ من مبدأ فصل السلطات و عدم وجود أيّ تضارب أو تداخل في المصالح والأدوار والمسؤوليّات. يتم منحُها الثقة ومراقبتُها مراقبة حثيثة من قبل مجلس نواب قويّ تُمثّلُ فيه كافّةُ الأحزاب والقوى الوطنيّة وقوى الحراك الشعبيّ الأردنيّ منتخبة انتخاباً نزيهاً وفق قانون انتخاب عصريّ...


رؤية... وإطار عام للإصلاح يمكنُ أن تشكّلَ مَدخلاً ومنطلقاً له... من النوع السهل الممتنع... سهلةُ الفهم والإدراك والقناعة... ولكنّها تشكّلُ أيّما تحدّ من اجل تحقيقها وتطبيقها ... «فالتحدّي» الحقيقيّ والرئيس يكمنُ حتماً في التفاصيل ودقّة ونزاهة التطبيق...
حفظ الله الأردنّ عزيزاً ومنيعاً وقويّاً... وحماهُ شعباً وأرضاً وقيادة .