مركز الرأي للدراسات
اعداد : المحامي د. ابراهيم العموش
كانون الثاني 2013
تنص المادة (175) من قانون العقوبات لسنة 1960 تحت فصل «في الجرائم المخلة بواجبات الوظيفة»، على أن : «من وكل إليه بيع أو شراء أو إدارة أموال منقولة أو غير منقولة لحساب الدولة او لحساب إدارة عامة، فاقترف غشاً في أحد هذه الأعمال أو خالف الأحكام التي تسري عليها إما لجر مغنم ذاتي أو مراعاة لفريق أو إضراراً بالفريق الآخر او إضراراً بالإدارة العامة عوقب بالأشغال الشاقة المؤقتة وبغرامة تعادل قيمة الضرر الناجم» .
وتنص المادة (148) من قانون الشركات لسنة 1997 على ما يلي: «ج- لا يجوز ان يكون لرئيس مجلس الإدارة أو أحد أعضائه او المدير العام او أي موظف يعمل في الشركة مصلحة مباشرة او غير مباشرة في العقود والمشاريع والإرتباطات التي تعقد مع الشركة او لحسابها».
وتنص المادة (5) من قانون هيئة مكافحة الفساد لسنة 2006 على أنه : «يعتبر فساداً لغايات هذا القانون ما يلي:
أ- الجرائم المخلة بواجبات الوظيفة الواردة في قانون العقوبات رقم 16 لسنة 1960 وتعديلاته.
ج- الجرائم الإقتصادية بالمعنى المحدد في قانون الجرائم الإقتصادية رقم 11 لسنة 1993 وتعديلاته».
وتنص المادة (2) من قانون الجرائم الإقتصادية لسنة 1993 على ما يلي:
«أ- تشمل كلمة موظف لأغراض هذا القانون كل موظف أو مستخدم او عامل معين من المرجع المختص بذلك في أي جهة من الجهات المنصوص عليها في الفقرة (ب) من هذه المادة، كما تشمل رؤساء وأعضاء مجالس الجهات الواردة في البنود (3-8) من الفقرة (ب) من هذه المادة وكل من كلف بخدمة عامة بأجر أو بدون اجر.
ب-وتشمل عبارة الأموال العامة لأغراض هذا القانون كل مال يكون مملوكاً أو خاضعاً لإدارة أي جهة من الجهات التالية او لإشرافها: 1- الوزارات والدوائر والمؤسسات الرسمية العامة. 2- مجلسا الأعيان والنواب. 3-البلديات والمجالس القروية ومجالس الخدمات المشتركة. 4- النقابات والإتحادات والجمعيات والنوادي. 5- البنوك والشركات المساهمة العامة ومؤسسات الإقراض المتخصصة. 6- الأحزاب السياسية. 7- أي جهة يتم رفد موازنتها بشكل رئيس من موازنة الدولة. 8- أي جهة ينص القانون على اعتبار أموالها من الأموال العامة».
وتنص المادة (3/أ) من قانون الجرائم الإقتصادية على أن «تشمل الجريمة الإقتصادية أي جريمة تسري عليها أحكام هذا القانون او أي جريمة نص قانون خاص على اعتبارها جريمة اقتصادية او أي جريمة تلحق الضرر بالمركز الإقتصادي للمملكة، او بالثقة العامة بالإقتصاد الوطني أو العملة الوطنية أو الأسهم او السندات أو الأوراق المالية المتداولة أو إذا كان محلها المال العام».
وتنص المادة (3/ج) من قانون الجرائم الإقتصادية المشار إليه على ما يلي: «تعتبر الجرائم المنصوص عليها في المواد المبينة أدناه من قانون العقوبات جرائم اقتصادية إذا توفرت فيها الشروط المنصوص عليها في الفقرة (أ) من هذه المادة: 1- ..... 2- الجرائم المخلة بواجبات الوظيفة «الرشوة والإختلاس واستثمار الوظيفة وإساءة استعمال السلطة» خلافاً لأحكام المواد (170-177) و(182-183)».
باستقراء النصوص القانونية المشار إليها، يعتبر جرم استثمار الوظيفة الوارد النص عليه في المادة (175) من قانون العقوبات جريمة اقتصادية، وبالتالي يعد فساداً. ونتناول بالبحث هنا الشروط التي حددتها محكمة التمييز الأردنية في سلسلة من قراراتها واللازمة لقيام جريمة استثمار الوظيفة، ونبحث أيضاً في تفسير هذه المادة ضمن مقتضيات مبدأ الشرعية الذي أخذ به المشرع الأردني صراحة في قانون العقوبات وضمناً في الدستور وبما لا يتعارض مع ما إستقر عليه إجتهاد محكمة التمييز. وغني عن القول أن تحديد محكمة التمييز لشروط قيام جرم إستثمار الوظيفة هو في حد ذاته تفسير لأحكام المادة (175) من قانون العقوبات فيمتنع على المفسر، بما في ذلك ديوان تفسير القوانين، التعرض لتفسير نص هذه المادة. ولتعزيز ذلك تنص المادة (123/1) من الدستور على أنه «للديوان الخاص حق تفسير نص أي قانون لم تكن المحاكم قد فسرته إذا طلب إليه ذلك رئيس الوزراء».
ففي قرارها رقم (205/1998) قضت محكمة التمييز الأردنية الموقرة بصفتها الجزائية بأنه «بالرجوع إلى المادة (175) من قانون العقوبات يتبين ان المشرع قد استلزم عدة شروط لتكتمل أركان الجريمة التي تضمنها هذا النص وهي: 1- أن يكون المتهم موظفاً في الدولة او في إدارة عامة وأن يكون (موكولاً إليه) أي مختصاً ببيع او شراء أو إدارة اموال منقولة او غير منقولة تعود للدولة أو للإدارة التي يعمل بها. 2- أن يقدم ذلك الموظف على جر مغنم ذاتي له أو يحابي فريقاً تعامل معه او يضر بآخر أثناء المعاملات. 3- ان يتم جر المغنم او المحاباة او الإضرار إما بواسطة الغش أو بمخالفة الأحكام التي تطبق على المعاملات».
كما قضت محكمة التمييز الموقرة بصفتها الجزائية في قرارها رقم (1568/2008) بأنه «يستفاد من احكام المادة (175) ان «المشرع استلزم لتوفر أركان جرم استثمار الوظيفة ما يلي: 1- ان يكون المتهم موظفاً في الدولة او في إدارة عامة. 2- أن يكون موكولاً إليه أي مختصاً ببيع أو شراء أو إدارة أموال منقولة او غير منقولة. 3- ان تكون هذه الاموال تعود للدولة أو للإدارة التي يعمل بها. 4- ان يقوم ذلك الموظف بجر مغنم ذاتي له أو يحابي فريقاً تعامل معه او يضر بآخر أثناء المعاملات. 5- ان يكون جر هذا المغنم او إلحاق الضرر إما بواسطة: أ- الغش في البيع أو شراء أو إدارة أموال تخص الدولة او الإدارة العامة. ب- بمخالفة الأحكام التي تطبق على إدارة هذه الأموال او بيعها او شرائها».
وجدير بالملاحظة أن الشروط التي إستقر عليها إجتهاد محكمة التمييز لتوافر أركان جرم استثمار الوظيفة هي شروط متلازمة ولا تقوم الجريمة الا بتوافرها مجتمعة، ومن أهم هذه الشروط «أن يكون المتهم موظفاً في الدولة أو في إدارة عامة».
ولأغراض قانون الجرائم الإقتصادية، تعتبر اموال الشركات المساهمة العامة أموالاً عامة لغايات هذا القانون، فإن وقعت السرقة مثلاً، وكذلك ألاختلاس، على أموال هذه الشركات فكأنما تكون قد وقعت على مال عام. أما جرم إستثمار الوظيفة فله أركانه وللمادة (175) تفسيرها القضائي الذي إستقر عليه إجتهاد محكمة التمييز ودأبت على التمسك به قبل صدور قانون الجرائم الإقتصادية وبعده وحتى يومنا هذا. وفي جميع ألاحوال فإن الحديث يطول حول النتائج التي قد تترتب على إسباغ وصف الجرائم ألإقتصادية على بعض الجرائم، سيما وأن القانون المشار إليه لا يتضمن أي نصوص تجريمية وأنما فقط يسند أوصافاً محددة لبعض الجرائم التي نص عليها قانون العقوبات وغيره من القوانين. ولما كان يلزم توافر شرط الموظف العام المقصود أساساً بنص المادة (175) تتداخل هذه الجدلية مع قانون العفو العام الأخير ومبدأ تفسير النصوص الغامضة لصالح المتهم. وعلى كل حال، فإن هذه الاشكالية ليست هي المقصودة بهذا البحث. ثم إن المال الذي يصدق عليه وصف «أموال أو موجودات الشركة المساهمة العامة»، يستحق بحثاً تفصيلياً للوقوف على المعنى القانوني والواقعي لهذا المفهوم ولا يتسع هذا المقال لبسطه. ولكن من المناسب التعرض لهذا المفهوم، في هذا المقام، بصورة موجزة. فأموال الشركة تشمل موجوداتها المنقولة وغير المنقولة، كما تشمل أيضاً حقوق الشركة في ذمة الغير. وينصرف مفهوم «المال» هنا الى الشركات التابعة المملوكة بالكامل للشركة، وبحيث تعد الشركة المملوكة بالكامل جزءاً من موجودات الشركة المالكة. ويعد من قبيل «المال» أيضاً ألاسهم والحصص المملوكة للشركة في الشركات ألاخرى التي لا تكون مملوكة بالكامل دون أن تعد مثل هذه الشركات جزءاً من موجودات الشركة المالكة. وفي جميع ألاحوال، وبموجبً نص المادة (204) من قانون الشركات، لا تكون الشركة تابعة لأخرى إلا إذا كانت ألاولى مملوكة بنسبة تزيد على 50% من رأسمالها لتلك الشركة ألاخرى أو مسيطر على هيئة مديريها أو مجلس إدارتها من قبل تلك الشركة ألاخرى عن طريق إحتلال أغلبية المقاعد او أن لها السيطرة على تأليف مجلس إدارتها أو هيئة مديريها. فإن لم تتوافر شروط التبعية هذه، لا تكون الشركة المالكة لجزء من اسهم رأسمال شركة أخرى ولا يكون مجلس إدارتها مسؤولاً في مواجهة الشركة المملوكة جزئيأ أو غير الخاضعة للسيطرة ألادارية. أيضاً، فإن الشركة غير التابعة (بالمفهوم القانوني الذي عرضنا له) لا تعتبرمحاسبياً شركة حليفة أو تابعة ولا يوجد التزام قانوني او محاسبي على الشركة (المالكة لنسبة تقل عن 50% من شركة أخرى) بتوحيد بياناتها المالية مع البيانات المالية للشركة ألاخرى. ولما كان واجب مجلس إدارة الشركة المساهمة العامة وإدارتها التنفيذية هو في مواجهة الشركة التي يديرها المجلس أو ألمدير التنفيذي، فليس في القانون ما يلزم هذا المجلس أو ألادارة التنفيذية برعاية مصالح شركة أخرى غير تابعة أو منحها معاملة تفضيلية أو العمل على تعظيم إيراداتها أو تأمين عقود لها مع الغير. وبالتالي، وفي غياب النص القانوني الملزم بمنح ألافضلية أو الرعاية يكون أمر المنح من عدمه أمراً خاضعاً للسلطة التقديرية لمجلس الإدارة أو ألادارة التنفيذية ووفق الصلاحيات الممنوحة للمجلس أو الإدارة التنفيذية، ولا معقب على السلطة التقديرية هذه التي تدخل في باب الإجتهاد، ومن باب أولى لا يشكل هذا ألاجتهاد جرماً يعاقب عليه القانون.
تأسيساً على ما تقدم من قرارات تمييزية تمثل تفسيراً لنص المادة (175)، يشترط لقيام جرم استثمار الوظيفة بالاضافة لشرط «ان يكون المتهم موظفاً في الدولة او في إدارة عامة»، ومن بين شروط عدة، ان يتم جر المغنم أو المحاباة أو إلحاق الضرر بالمال العام إما بواسطة الغش أو بمخالفة الأحكام التي تطبق على المعاملات. ونتناول هنا شرط الإضرار بالمال العام وشرط جر المغنم والوسيلة التي يتبعها الفاعل وهي إما الغش أو مخالفة الأحكام التي تطبق على المعاملات، وكل ذلك حصراً في القطاع الخاص (وتحديداً في إطار الشركات المساهمة العامة وتصرفات مجالس إدارتها وإدارتها التنفيذية) بهدف وضع حد فاصل بين المادة (175) من قانون العقوبات والمادة (148/ج) من قانون الشركات لمنع الخلط بينهما تفادياً للإنحراف في تفسير المادة (175) والغلو فيه لدرجة من شأنها خلق وتقرير جرائم لم يشأ المشرع تقريرها ولم تنصرف إرادته إليها، ذلك الإنحراف الذي يشكل إنحرافاً عن اصول تفسير النصوص الجنائية وبالتالي اعتداءً على مبدأ الشرعية ومخالفة لأحكام الدستور.
إن الضرر المشمول بالحماية الجزائية المقصودة من المادة (175) هو الضرر المادي المتمثل بالخسارة المادية التي تصيب الأموال العامة التي وكّل الفاعل ببيعها أو شرائها أو إدارتها. وعليه فإن الفاعل الذي يحصل على المنفعة من التعاملات لا يكون مرتكباً لجرم استثمار الوظيفة ما دام فعله هذا لم يحدث ضرراً بالمال العام الذي أوكل إليه إدراته. ومعنى ذلك يجب أن يقابل المنفعة أو الربح الذي حققه الفاعل خسارة (افتقاراً) من جانب الشركة التي يديرها أو المال الموكول إليه إدارته، وبخلاف ذلك لا يكون مرتكباً لجرم استثمار الوظيفة. فالمادة (175) شرعت لحماية المال العام أو ما يعتبر بحكم المال العام وفقاً لقانون الجرائم الإقتصادية. وبالتالي فإن إنزال العقوبة المقررة في المادة (175) لا مكان له إذا لم يلحق بذلك المال خسارة أو يلحق بتلك الشركة /المؤسسة افتقاراً أو ضرراً. وبمعنى أدق، ليس من موجبات التجريم المنع الشكلي لتحقيق المنفعة من قبل الفاعل، ذلك أن المنع الشكلي محكوم بمواد قانونية أخرى أو في قوانين أخرى ومنها قانون الشركات في مادته (148/ج) والتي تضمنت في الفقرة (د) الجزاء الذي يتم إيقاعه على المخالف لأحكام الفقرة (ج) بالإضافة إلى العقوبة المنصوص عليها في المادة (282) من قانون الشركات. فلو أراد المشرع تجريم المنع الشكلي لتعارض المصالح لما كان ممكناً تفادي هذا الجرم بقرار تصدره أغلبية ثلثي أعضاء مجلس الإدارة وفقاً لأحكام المادة 148/د من قانون الشركات. فالجرم يتبعه العقاب ولا يعقل أن يصحح أو يتم تفاديه بقرار يصدره مجلس إدارة شركة أو هيئة أو غير ذلك.
مرة أخرى، إن تحقق الضرر (خسارة/افتقار) الذي يلحق بالمال العام هو شرط لازم لقيام جرم استثمار الوظيفة، وبالتالي شرط لإعمال نص المادة (175) من قانون العقوبات، أما إذا لم يتوافر الضرر رغم تحقق المنفعة (الغنم للفاعل أو لغيره أو الحاق ضرر بشخص آخر) فإنه لا مجال لتطبيق المادة (175) وإنما يصار لتطبيق الجزاءات الإدارية كالعزل من الوظيفة الذي نصت عليه المادة (148/هـ) والغرامة التي نصت عليها المادة (282) من قانون الشركات دون استبعاد قيام المسؤولية المدنية إن توافرت شروطها.
أيضاً يشترط في المنفعة التي حققها الفاعل لنفسه او لغيره أن تكون غير مشروعة. فإذا كانت المنفعة أو المغنم الذي حصل عليه الفاعل او الغير مشروعاً (كما لو حصل الغير على ربح يستحقه: أي دون محاباة) فإن الركن المادي للجريمة لا يقوم حتى ولو كان الذي حقق الربح هوالموظف أو قريب أو مصاهر له. ويشترط المشرع الأردني الحصول الفعلي على المنفعة (المغنم) لقيام الركن المادي لجريمة استثمار الوظيفة. وبالتالي، إذا لم تتحقق المنفعة أو أن الفعل اقتصر على محاولة تحقيق المنفعة فإن الركن المادي لا يكون متوافراً.
إن تحقيق المنفعة أو جر المغنم بحد ذاته لا يكفي لقيام الركن المادي لجريمة استثمار الوظيفة، بل يجب أن يتم ذلك بواسطة الغش أو بمخالفة الأحكام التي تطبق على المعاملات وفقاً لما إستقر عليه اجتهاد محكمة التمييز الموقرة. وسنأتي لتفصيل ذلك لاحقاً.
لا يكفي لقيام الجريمة تحقق المنفعة أو إحداث الضرر أو محاباة الغير، وإنما لا بد من أن يتوافر لدى الفاعل القصد الجرمي العام وهو اتجاه إرادة الفاعل صوب الحصول على المنفعة لنفسه أو محاباة الغير أو إلحاق الضرر بالمال العام الذي يتولى إدارته بدون وجه حق مع علمه بذلك. فالقصد الجرمي العام يقوم على العلم والإرادة معاً. ويقصد بذلك أنه يجب أن يتوافر لدى الفاعل العلم بكافة عناصر ومكونات الركن المادي للجريمة وبالوقائع المكونة لهذا الركن. فإن لم يكن على علم بذلك لا تقوم جريمة استثمار الوظفية حتى وإن ثبت انتفاعه من التعاملات التي قام بها. وعليه لا مجال لتطبيق المادة (175) وبالنتيجة لا تقوم الجريمة إذا كان الفاعل لا يقصد إلحاق الضرر بالمال الذي يديره. كما يجب أن يكون الفاعل عالماً بانه مفوض بإدارة المال، فإن كان يجهل ذلك لا تقوم الجريمة لعدم توافر عنصر العلم كأحد عناصر الركن المعنوي للجريمة. هذا مع ملاحظة أن العلم الفعلي لا يعد شرطاً وإنما يكفي العلم المفترض (أي افتراض العلم)، ويقع على الفاعل عبء إثبات عكس هذا الإفتراض. أيضاً يلزم لقيام أو توافر القصد الجرمي العام توافر الإرادة، أي أن تتجه إرادة الفاعل (مع العلم) إلى مخالفة القانون وتحقيق المنفعة، فإن انتفت الإرادة إنهدم القصد الجرمي العام وبالتالي لا تقوم الجريمة.
ويعد جرم إستثمار الوظيفة من الجرائم التي يشترط لقيامها توافر القصد الخاص بالاضافة الى القصد العام. والقصد الخاص يقوم على العلم والإرادة أيضاً كالقصد الجرمي العام، غير أن المقصود به هو أن ينصرف القصد الخاص إلى غاية إضافية يريد الفاعل تحقيقها من وراء ارتكابه الفعل المجرم. وإذا كان القصد العام لازماً لقيام كل جريمة، فإن القصد الخاص ليس كذلك، فبعض الجرائم لا تحتاج لقصد خاص.
وباستقراء نص المادة (175) والأحكام القضائية الصادرة تطبيقاً له، نجد أن المشرع الأردني يشترط لقيام جريمة استثمار الوظيفة توافر القصد الخاص ولا يكفي مجرد توافر القصد العام. وعليه لا بد من أن يكون الفاعل يعلم بأنه مختص بالقيام بالعمل وأن المال الذي يديره يصدق عليه وصف المال العام وأن فعله يشكل مخالفة للقانون، وأن تتجه إرادته إلى ارتكاب تلك المخالفة، وعلاوة على ذلك لا بد من أن يكون على علم بأن فعله هذا يجر له مغنماً دون وجه حق أو أنه يشكل محاباة للغير دون وجه حق أو لإلحاق الضرر بالمال الذي يديره، وأن تتجه إرادته لذلك أي أن تتجه إرادته لجر مغنم له أو محاباة لغيره أو لإلحاق الضرر بالمال الذي يديره. وعليه فإن علم الفاعل وانصراف إرادته لجر المغنم أو محاباة الغير أو الإضرار بالمال الذي يديره هو القصد الخاص الذي يتوجب توافره لقيام جريمة استثمار الوظيفة. وبالتالي، يتعين أن يكون ما أثبته حكم المحكمة كافياً بذاته للكشف عن قيام القصد الخاص. فإذا كان ما أورده الحكم القضائي وما استند إليه بثبوت اتجاه إرادة الفاعل للحصول على ربح أو منفعة لا يكشف عن نية الفاعل لجر المغنم الذاتي أو محاباة الغير أو الإضرار بالمال الذي يديره ، فإن ما يرد في الحكم والحال هذه لا يعدو عن كونه عرض للأفعال المادية التي اقترفها الفاعل والتي لا تنبئ بذاتها عن توافر القصد الخاص. وعليه، لا بد من أن يستظهر الحكم القضائي القصد الخاص بإيراد الأدلة والمظاهر الخارجية التي تدل عليه وتكشف عنه، ولا يكفي للدلالة على توافر القصد الخاص إسترسال حكم المحكمة بالقول بأن ما قام به المتهم كان بغية الحصول على ربح من وراء النشاط الجرمي، أو القول بأن إرادة المتهم قد إتجهت للجمع بين الحالة الوظيفية والنشاط الجرمي قاصداً تحقيق المنفعة الشخصية وذلك لأن اتجاه إرادة المتهم للحصول على ربح أو منفعة له أو محاباة الغير هو القصد الخاص المطلوب استظهاره. وبخلاف ذلك يكون الحكم مشوباً بعيب القصور. وليس أدل على لزوم توافر القصد الخاص من اشتراط المادة (175) لقيام الجريمة أن تكون المحاباة أو جر المغنم إما بواسطة الغش أو بمخالفة الأحكام التي تسري على هذه التعاملات، وهذا يعزز القول بان المادة (175) لم يتم تشريعها لغايات المنع الشكلي، ذلك أن المنع الشكلي مكانه في تشريعات أخرى كقانون الشركات على سبيل المثال فيما يختص بمدير عام الشركة المساهمة العامة أو رئيس مجلس إدارتها وتحديداً المادة (148/ج).
وفي هذا قضت محكمة النقض المصرية بأنه إذا كان استخلاص القصد الخاص «وإن كان من شأن محكمة الموضوع، إلا أنه يتعين أن يكون ما أثبته الحكم كافياً بذاته للكشف عن قيامه. فإذا كان ذلك ما أورده الحكم واستند إليه بثبوت اتجاه إرادة الفاعل للحصول على ربح أو منفعة لا يكشف عن هذه النية، إذ أنه لا يفيد في مجموعه سوى الحديث عن الأفعال المادية التي اقترفها الطاعن والتي لا تنبئ بذاتها عن توافر القصد لديه، ولما كان الحكم لم يستظهر القصد الخاص بإيراد الأدلة والمظاهر الخارجية التي تدل عليه وتكشف عنه، ولا يكفي في ذلك ما قاله من أن ما قام به الطاعن كان بغية الحصول على ربح من وراء النشاط الإجرامي، أو انصراف إرادته إلى هذا الجمع بين الحالة الوظيفية وهذا النشاط قاصداً تحقيق المنفعة الشخصية البحتة لأن اتجاه إرادة الطاعن للحصول على ربح أو منفعة له هو القصد الخاص المطلوب استظهاره، ومن ثم، فإنه يكون مشوباً بالقصور بما يعيبه ويستوجب نقضه».
وبالنتيجة، نجد أن المشرع الأردني يشترط لقيام جرم استثمار الوظفية أن يتم جر المغنم أو المحاباة أو الإضرار بالمال العام بواسطة الغش (وهو الخداع والتضليل والمراوغة لتحقيق هدف شخصي بغير حق)، أو بمخالفة الأحكام التي تطبق على المعاملات. فإن لم يتوافر الغش و/أو مخالفة الأحكام التي تطبق على المعاملات فإنه لا مجال لإعمال حكم المادة (175) من قانون العقوبات. وهذا يعني، دون أدنى شك، أن المشرع الأردني قد اشترط لقيام جرم استثمار الوظيفة (1) توافر الركن المادي وهو الفعل و(2) توافر الركن المعنوي وهو القصد العام والقصد الخاص معاً، وبالصورة التي تم توضيحها، (3) ثبوت جر المغنم أو محاباة الغير (4) إثبات الغش أو مخالفة ألاحكام التي تطبق على المعاملات موضوع المحاكمة.
ويثورالتساؤل في هذا المقام حول التفسير الدقيق لعبارة «أو خالف الأحكام التي تسري عليها» الواردة في المادة (175) من قانون العقوبات. فهل المقصود بها الأحكام الواردة في القوانين الصادرة عن السلطة التشريعية فقط؟ أم أيضاً الأحكام الواردة في القوانين المؤقتة والأنظمة التي تصدرها السلطة التنفيذية؟ أم أيضاً الأحكام الواردة في التعليمات التنفيذية التي تصدرها الهيئات المستقلة؟ ام أيضاً الأحكام الواردة في التعليمات التي يصدرها صاحب الصلاحية في إصدارها كالوزير مثلاً؟ أم أيضاً الأحكام الواردة في القرارات التي يصدرها صاحب الصلاحية في إصدارها كالوزير مثلاً والتي لا ترقى لمستوى التعليمات؟ أم أيضاً الأحكام الواردة في الأنظمة المالية والادارية والمحاسبية التي تصدرها مجالس إدارة الشركات المساهمة العامة سنداً لأحكام المادة (151) من قانون الشركات؟ أم أيضاً الأحكام الواردة في التعليمات والأسس التي تصدرها تلك المجالس؟ أم أيضاً الأحكام الواردة في القرارات التي يصدرها رئيس مجلس إدارة الشركة أو مديرها العام؟.
لا شك أن القول بأن المعنى الذي قصده المشرع في المادة (175) ينصرف إلى جميع ما ذكر، من شانه أن يضع تفسيراً لا طاقة لقواعد وأصول التفسير على استيعابه آخذين بالإعتبار أن القضاء والفقه يجمعان على أن النصوص الجنائية يجب أن تفسر تفسيراً ضيقاً وأنه لا يجوز القياس عليها أو التوسع فيها وذلك تطبيقاً لمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات.
إن الهدف من التفسير، الذي هو ضرورة تسبق تطبيق القانون على الوقائع، هو تحديد المعنى الحقيقي الذي قصده الشارع من عبارة النص القانوني بهدف توضيح ما التبس من ألفاظه أو غمض منها وإكمال ما اقتضب من نصوصه والتوفيق بين ما تناقض من أجزائه. وعليه فإن إزالة غموض النص هو أحد أهم أدوار التفسير ومبتغياته. وتفسير الأحكام الجنائية يجب أن يكون دائماً لمصلحة المتهم، باعتبار أن المتهم، وفقاً لأحكام المادة (101/4)الدستور، بريء حتى تثبت إدانته بحكم قضائي قطعي.
إن القواعد القانونية التي تحدد الجرائم والعقوبات محكومة بمبدأ الشرعية. إذ لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص في القانون. ويعد هذا المبدأ من المبادئ الدستورية المستقرة في الدول العربية، فمنها ما أورد به نص صريح في الدستور، كما هو الحال في الدستور المصري، ومنها ما يفهم الأخذ به ضمناً كما هو الحال في الدستور الأردني، الذي نص في مادته الثامنة على أنه: «1- لا يجوز أن يقبض على أحد أو يوقف أو يحبس أو تقيد حريته إلا وفق أحكام القانون». كما نصت المادة الثالثة من قانون العقوبات على أنه: «لا يقضى بأية عقوبة لم ينص القانون عليها حين اقتراف الجريمة».
وعليه، فإن المشرع الأردني قد أخذ بمبدأ الشرعية، ومقتضى ذلك أنه لا بد من حصر مصادر التجريم والعقاب، وأن تكون هذه المصادر مكتوبة، وبحيث إذا لم يرد نص مكتوب في القانون يصف الفعل بأنه جريمة ويحدد العقوبة، فإن على القاضي أن لا يحكم بالتجريم.
وعلى هدي قرار المجلس العالي لتفسير الدستور رقم (3/1956) يمكن القول بأن لفظة «القانون» هنا تنصرف إلى القوانين التي تصدرها السلطة التشريعية، والقوانين المؤقتة التي تصدرها السلطة التنفيذية سندأ لأحكام المادة 94 من الدستور ويشمل ايضاً الانظمة المستقلة التي تصدرها السلطة التنفيذية بموجب المادتين (114) و(120) من الدستور وأخيراً الأنظمة التنفيذية التي تصدرها الحكومة بموجب المادة (31) من الدستور، وما عدا ذلك لا يعد قانوناً ولا يصلح مصدراً للتجريم والعقاب. وعليه، لا تصلح الانظمة والتعليمات والاسس والقرارات التي تصدرها هيئة أو سلطة أو مجلس أو مسؤول معين مصدراً للتجريم والعقاب، كما لا تصلح الأنظمة الإدارية والمالية والمحاسبية وانظمة اللوازم والاشغال التي تصدرها مجالس إدارة الشركات المساهمة العامة مصدراً للتجريم والعقاب. فالمشرع فقط (السلطة التشريعية صاحبة الإختصاص الأصيل في التشريع، والحكومة بما تم تفويضه لها) هو الذي يحدد الأفعال التي تشكل جرائم، وهو الذي يحدد العقوبات التي يتم إيقاعها على مرتكبي هذه الجرائم. وبهذا يمتنع على القاضي تجريم أي فعل لم يجرمه المشرع مهما بلغت جسامة ذلك الفعل.
ولما كان المشرع يعبر عن إرادته بصورة مكتوبة مستخدماً فيها الألفاظ والمفردات اللغوية عند وصف الجرائم وبيان مضامينها وأركانها وعناصرها والعقوبات المقررة لها، فإنه يتوخى الوضوح والدقة ويسعى لتجنب الإبهام واللبس والغموض. غير أنه لا يخلو تشريع من إمكانية وجود الغموض أو التناقض أو اللبس مما يستدعي اللجوء للتفسير للوقوف على حقيقة إرادة المشرع. والتزاماً بمبدأ الشرعية، يجب أن لا يؤدي تفسير النص الجزائي إلى خلق جرائم جديدة لم تكن تنصرف إليها إرادة المشرع. فإن اتخذ التفسير هذا المنحى فإننا نكون أمام تفسير مخالف لمبدأ الشرعية، وبالتالي مخالف لأحكام الدستور. وتتعدد أنواع التفسير، فمنها التفسير من حيث المصدر، والتفسير من حيث الوسيلة (تفسير لغوي وتفسير منطقي)، والتفسير من حيث النتيجة (فهناك التفسير المقرر الذي يتطابق فيه التفسير اللغوي مع التفسير المنطقي، وهناك التفسير المقيد الذي يهدف لتضييق عمومية النص لتكون مطابقة لإرادة المشرع، وهناك التفسير الموسع الذي يهدف لتوسيع مدى انطباق النص ليتفق وإرادة المشرع). وأياً كانت الطريقة المتبعة في تفسير الأحكام الجزائية، يجب على المفسِّر أن يتقيد باستمرار بمبدأ الشرعية حتى لا يجرم أفعالاً لم يشأ المشرع تجريمها ولا يقرر عقوبة لم يشأ المشرع تقريرها.
أما التفسير بطريق القياس، فأمر أجمع الفقه على عدم جوازه في المسائل الجنائية، ذلك إن من شأن القياس أن يخلق ويقرر جرائم وعقوبات لم يشأ المشرع تقريرها، فتفسير النصوص الجزائية يجب أن يقف عند الحد الفاصل بين ما أراد المشرع تجريمه وما لم يرد تجريمه. بمعنى آخر، القياس لا يصلح طريقاً للتجريم والعقاب وإن كان يصلح طريقاً للتبرير أو لامتناع المسؤولية وتخفيف العقوبة. وبهذا، فإن القول بأن مخالفة أحكام انظمة الاشغال واللوازم أو الانظمة المالية التي تصدرها مجالس إدارة الشركات المساهمة العامة بموجب المادة (151) من قانون الشركات يعد مخالفة للغايات المقصودة من المادة (175) من قانون العقوبات وذلك بالقياس على مخالفة أحكام القوانين أو الانظمة المستقلة او الانظمة التنفيذية، يشكل إنحرافاً عن أصول تفسير النصوص الجنائية وانتهاكاً لمبدأ الشرعية ومن ثم مخالفة لأحكام الدستور. تأسيساً على ذلك، لا يقوم جرم إستثمار الوظيفة المنصوص عليه في المادة (175) من قانون العقوبات بحق رئيس مجلس الادارة أو مدير عام الشركة المساهمة العامة الذي حقق منفعة لنفسه أو لغيره عن طريق مخالفة أحكام الانظمة المالية أو أنظمة اللوازم والاشغال التي يضعها مجلس الادارة تنفيذاً لنص المادة (151) من قانون الشركات وذلك لأن هذه الانظمة لا تصلح مصدراً للتجريم والعقاب ولم تنصرف ارادة المشرع الجزائي لاعتبارها كذلك. ومن ناحية أخرى، نجد أن هذه الانظمة في حقيقتها قرارات تصدرها مجالس الادارة ولهذه المجالس حق الغاء هذه ألانظمة في اي وقت وله حق تعديلها بل أكثر من ذلك نجد ان بعض الشركات لم تستجب لنص المادة (151) ولم تصدر مجالس ادارتها مثل هذه الانظمة.
أخيراً، إن مجرد مخالفة المادة (148/ج) من قانون الشركات والتي تحظر حالة تعارض المصالح (الحظر الشكلي)، وكذلك مخالفة أحكام أنظمة الاشغال واللوازم أو الانظمة المالية التي تصدرها مجالس إدارة الشركات المساهمة العامة بموجب المادة (151) من قانون الشركات، لا يمكن أن تشكل جرم إستثمار وظيفة بالمعنى المقصود من المادة (175) من قانون العقوبات، بل أن تقرير قيام هذه الجريمة رغم عدم توافر شرط «ان يكون المتهم موظفاً في الدولة او في إدارة عامة» الذي إستقر عليه إجتهاد محكمة التمييز، يشكل غلواً في التفسير وخروجاً على ما إستقر عليه إجتهاد محكمة التمييز وانتهاكاً لمبدأ المشروعية. غير أن هذا لا يعني إنتفاء إحتمال قيام المسؤولية المدنية إن توافرت أركان قيامها، بل أن المساءلة المدنية هي ألاصدق للدلالة على أراده المشرع لا سيما في الاحوال التي أدى فيها التربح الناتج عن تعارض المصالح إلى إفتقار الشركة . هذا مع الأخذ بالإعتبار أن مجالس إدارة الشركات مسؤولة عن إدارة أموال تلك الشركات والسعي لتحقيق الربح، وأن هذا الهدف يتطلب قبول المخاطر أحياناً، وأن قبول المخاطر أمر ملازم للاجتهاد في الادارة، وأن الاجتهاد لا يعد جرماً حتى لو ترتب عليه خسارة.