الساعة

هذه اللحى الغانمة

مركز الرأي للدراسات

اعداد: حسني عـايش

آذار 2013



تعريف اللحية

اللحية لغةً: شعر الخدين والذقن، وهي عُرفاً: الشعر الذي الذي ينمو على جانبي الوجه، أو تحت الشفة السفلى والذقن، وهي في ذلك تختلف عن الشوارب، أي الشعر الذي ينمو فوق الشفة العليا، واللحية أنواع، فهي لحية شبابية (رجولة) أو دينية، أو فنية، أو علمية، أو فلسفية، أو طبية، أو سياسية، أو بلطجية، أو كسولة،او تمثيلية(كما في السينما والمسرح)، أو نفسية كما في حالة إطلاقها في حالة الفشل أو السقوط في امتحان مهم أو بسبب الانقطاع المؤقت له، أو في حالة الشيخوخة تظاهراً بالحكمة.

اللحية في التاريخ

خضعت اللحى خلال العصور للتطويل والتقصير والحلاقة، وكانت –في بعض الأحيان– مظهراً من مظاهر السلطة، كما في لحية سنحاريب الآشوري، وبينما كان المصريون القدماء يحلقونها لأسباب دينية، كان اليهود القدماء يُحرمون حلقها، أو تشذيبها، كي لا يشبهوا الأقوام المجاورة لهم في ذلك، وقد استمر رجال الدين منهم في ذلك إلى اليوم. وأضاف طائفة الجدائل الطويلة إليها.

ويبدو أن اليونان القدماء كانوا يربون لحاهم، فقد جاء في وصف هوميروس لأبطاله أنهم كانوا ملتحين. كما تميز فلاسفة اليونان القدماء عن بقية الناس بلحاهم الطويلة. وينسب إلى الإسكندر المقدوني ابتداءاً عادة حلق اللحى، فقد أمر جنوده بحلقها حتى لا تكون طويلة فيمسكهم العدو منها في الحرب.

أما الرومان القدماء، فقد ظلوا يربون لحاهم حتى سنة 300 ق.م حين ظهر الحلاقون. وتذكر المصادر أن سيسبو أفريكانوس (237-183 ق.م) كان أول روماني، وربما أول رجل في العالم، يحلق لحيته يومياً، وأن الشباب الرومان ظلوا –لحين من الدهر– يقدمون لحاهم في الحلقة الأولى قرابين لآلهة الحظ «فورتانا بارباتا»، وأن الرومان كانوا يطلقون لحاهم في أيام الحداد، بعكس اليونان الذين كانوا يحلقونها في أثناء ذلك.

لقد أثرت عادة الرومان في حلق اللحى على الكنيسة الكاثوليكية فجلعت رجال الدين يحلقون لحاهم بصورة تامة في البداية، إلا أن البابوات والكرادلة عادوا إلى تربية لحاهم في القرنين السادس عشر والسابع عشر، ثم تراجعت الكنيسة الكاثوليكية، عن ذلك، ما عدا الفرنسيسكان والرهبان أما الكنيسة الأرثوذكسية والكنائس الشرقية فتعتبر حلاقة اللحى مخالفة دينية كبيرة. وفي الهند تعد اللحية الطويلة الملفوفة تحت الذقن، علامة من علامات الإيمان عند السيخ، فلا تحلق أو تشذب أبداً.

وبحلول القرن الثامن عشر كانت اللحية قد مرت في فترات متتابعة من الاستحسان والاستعجاب. ففي عهد بطرس الأكبر قيصر روسيا (1682-1721م) عُدت اللحية مظهراً من مظاهر التخلّف، فأمر بفرض ضريبة عليها حتى يحث أصحابها على حلاقتها.

وفي القرن التاسع عشر عادت اللحى إلى الظهور من جديد في الغرب، واعتبرت مظهراً من مظاهر الثورية أو الحياة البوهيمية، وفيما بعد علامة من علامات الريادة والتقدمية. فانتشرت بعد منتصف القرن التاسع عشر بين الكتاب المشهورين والعلماء والأطباء والفلاسفة. واستعادت الاحترام الذي فقدته. ثم فقدت اللحية قيمتها في النصف الأول من القرن العشرين وبخاصة في الولايات المتحدة، وأصبح أصحاب اللحى الطويلة هدفاً لسخرية رسامي الكاريكاتير وأفلام الكرتون ونُسب أصحابها إلى البلشفية والفوضوية. وعلى الرغم من ذلك احتفظ بعض الرجال المشهورين – أمثال سيغموند فرويد وبرنارد شو – بلحاهم المميزة.

وبعدالحرب العالمية الثانية، استعادت اللحى مركزها بين الفنانين والكتّاب، كما أصبحت أشبه بعلامة تجارية عند الشباب الوجوديين.

اللحية في الإسلام وعند المسلمين

يبدو أن العرب في الجاهلية كانوا يربون لحاهم، ولكننا لا نملك مصادر كافية تؤكد ذلك أو تنفيه سوى حديث الرسول (ص) الذي طلب فيه من المسلمين الاختلاف عن المشركين في المظهر بحف الشوارب، وتوفير اللحى ولكن دون إطالتها. وعن ابن عمر عن الرسول محمد (ص) أنه قال: خالفوا المشركين، وفروا للحى وحفوا الشوارب أي خففوا منها. وكان ابن عمر إذا حج أو اعتمر، قبض على لحيته، فما فضل أخذه، رواه الخمسة.

أما في القرآن الكريم فقد ورد ذكر اللحية مرة واحدة على لسان سيدنا موسى، قال تعالى: «قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي...» (94/20). وكان هارون قد أخذ لحية أخيه موسى بشماله وشعر رأسه بيمينه غضباً.

وعلى الرغم من تواتر الحديث الشريف بحف الشوارب وتوفير اللحى، وإذا استثنينا ما أورده الغزالي في الجزء الأول من كتابه إحياء علوم الدين (ص123-131)، قلما نجد في كتب التاريخ العربي الإسلامي إشارة متصلة بهذا الموضوع، ربما لأن الرسول وجميع الخلفاء والرجال من حوله وبعده كانوا يربون لحاهم مما لم يترك مجالاً للانتباه إليه أو الحديث عنه سوى ما كان يتخذ منه – أحياناً – موضوعاً للهجاء أو للتندر.

اللحية الإسلامية المعاصرة

لعل أول ضجة إسلامية حدثت في العصر الحديث كان للحى دخل فيها كانت في القرن التاسع عشر عندما قام السلطان محمود الثاني (1784-1839م) بالتزين هو وجنده ورجال حاشيته بالأزياء الإفرنجية، وحلاقة اللحى، ولبس الطرابيش، وتعليق صورته في الثكنات العسكرية، وإنشاء دار للأوبرا، فارتعدت فرائص المحافظين ونادوا باسم الدين بالويل والثبور واتهموا السلطان محمود الثاني بالكفر لإقدامه على تلك البدع.

ولكن موضوع اللحى اليوم –تطويلاً أو تقصيراً أو تعريضا أو حلاقة– هو أحد الموضوعات التي يدور حولها النظر في بعض الأقطار العربية والإسلامية، على الرغم من أن تربية اللحية في بعض الأقطار الأخرى –كما في بلدان الخليج العربي والسعودية– أمر عادي، وعلى الرغم من أن كثيراً من رجال الدين الإسلامي أو من محتلي المناصب الرئيسية في المؤسسات الإسلامية يحلقون لحاهم ولكنها في إيران إجبارية بالإحتواء على المدنيين والعسكريين.

إن بعض الفئات الإسلامية تدعو إلى تربية اللحية باعتبارها علامة من علامات الصحوة الإسلامية وميزة للمسلم. ويبدو أنه كان لنجاح الثورة الإيرانية، ومن بعدها المقاومة الأفغانية الإسلامية للاحتلال السوفييتي لأفغانستان، والإعلام الديني الرسمي والشعبي المتحيز لأصحاب اللحى، وضغوط العولمة وإفرازاتها، تأثير كبير على تنشيط الدعوة، وعلى انتشارها بين قطاعات الشباب، وبخاصة في معاهد الشريعة وكلياتها في الجامعات.

على أن هذا يجب أن لا يعني أن كل شاب أو طالب مربّ للحيته يصدرعن ذلك دينياً. فبعضهم يربيها لأسباب صحية، أو طبية، وآخرون لأسباب اقتصادية زمنية، وآخرون لأسباب جمالية، وآخرون تقليداً للرموز المحببة إليهم، وآخرون لأسباب سياسية يصلون بها إلى مراكز ومواقع بالانتخابات أو بغيرها.
وإنْ كان الدافع إلى تربية اللحى، وإطالتها في العقود الأخيرة، دينياً إسلاميا، أو تعبيراً عن التعلق بالاتجاه الإسلامي، وعلامة على الانتماء إليه، أو رفضاً لأساليب الحياة التي جاء بها النمط الاستهلاكي الغربي. غير أنه أياً كان الأمر، فإن الظاهرة –وبخاصة في الجامعات العربية والإسلامية – جديدة ولا يزيد عمرها عن عشرين سنة. فقبل بداية الثمانينات قلما كُنتَ ترى طالباً جامعياً ملتحياً ما خلا للأسباب والعوامل الأخرى التي ذكرت. لقد أسهمت الهزيمة وما لحق بالأمة من إذلال سياسي (وصعود للإسلاميين) في إفراز الظاهرة وتقويتها ما يعني أن انتصاراً أو إنجازاً كبيراً للأمة يمكن أن يؤدي إلى عودة الأمور إلى طبيعتها ومنها حلاقة اللحية.

إن ذلك لا يعني دعوة إلى مقاومة الظاهرة العابرة أو للانتقاص من قيمة أصحابها. بالعكس من ذلك، فإن الصادقين منهم يعانون كثيراً مما تعاني منه أمتهم، ويعبّرون بإطلاق اللحية عن ذلككما يختلف شكل اللحية وحجمها من مذهب إلى آخر ومن بلد عربي أو مسلم إلى آخر. فاللحية السعودية ليست كاللحية الإيرانية، أو الأفغانية، أو السودانية، أو المصرية، أو السورية، أو المغربية... ومع أن كل إمريء حرّ في اختيار شكل لحيته، إلا أنني أجد نفسي مضطراً للتحذير من أضرار لحى الأطباء الجرّاحين على العمليات الجراحية التي يقومون بإجرائها، ولحى الطباخين والنادلين على الطعام لاحتمال سقوط شعر من اللحية في أثناء إعداده أو تقديمه، مهما كانت الاحتياطات قوية.
«(من دراسة للكاتب بعنوان ظاهرتا اللحى والجماعات في الجامعات الأردنية في مجلة دراسات عربية: العدد 9/10 السنة الرابعة والثلاثين، تموز آب 1998 ص 1010- 118).

لقد ذكرني أحد الأصدقاء بهذه الدراسة وطلب مني أن أعيد نشرها، قائلاً إننا نعيش اليوم في غابة من اللحى: لقد صارت تربية اللحى بعد وصول الإسلاميين إلى الحكم في السودان والمغرب وتونس وليبيا ومصر ظاهرة قوية جداً، وصار كل مرتزق يطلق لحية صغيرة أو كبيرة لينال الحظوة عندهم.

وقد اشتط بعض الإسلاميين والشباب والسلفيين منهم بوجه خاص في تربية اللحى لدرجة جعلتهم لا يختلفون فيها عن أحبار اليهود وغلاتهم كالحريديين أو الكهنة والرهبان في بعض الطوائف المسيحية والبوذية...وكأن طول اللحية وعرضها يتناسب طردياً مع درجة ضلوعهم في الفقة أو الدين أو التقوى أو السلوك. ألم تقرأ ما قاله الكاتب الإسلامي المرموق الأستاذ ياسر أبو هلالة (الغد 30/12/2012) عن شيخ ملتحٍ يبيع المانجا الاسرائيلية؟ : « لو تبيع الخمرة أشرف لك، فالخمرة مصنوعة من منتج أرض أصحابها، فيها تعد على حقوق الله لا حقوق البشر. أما المانجا الإسرائيلية فهي مزروعة في أرض مسروقة مسلوبة وفيها تعد على حقوق البشر، وحقوق البشر لا يحق لأحد التنازل عنها. لم يقتنع الشيخ برأيي فتمنيت لو قصّر لحيته قليلاً حتى لا يضلل الناس»، أي أن اللحية يمكن أن تستخدم للنصب والغش والاحتيال، وربما للعمالة للعدو كما حدث إبان الانتفاضة الفلسطينية الأولى سنة 1987 حين ألقي القبض على أكبر جاسوس لإسرائيل كان يختفي وراء لحية طويلة عريضة القص لأمثالها فريضة.

وأضاف الصديق: كان الإنسان البدائي ولعصور طويلة خلت ملتحياً وذا شوارب وجدائل أو شعر طويل، فأدوات الحلاقة لم تكن معروفة، أو في متناول الجميع. وعندما طلب الرسول –صلى الله عليه وسلم– من المسلمين حف الشوارب أي تخفيفها فلأن الطعام كان يدخل إلى الفم من خلالها. أما تطويل اللحية فكان ضرورياً لأن المرء كان إذا أكل طعاماً سائلاً بيده يمسحها بلحيته. وقد قيل: صابونة العرب لحاها. وإذا كان الأمر كذلك - وبعد أن صار كثيرون من غير المسلمين وغير الإسلاميين كالموسيقيين، والممثلين، والمغنين والمخرجين والراقصين والمصارعين والمفكرين والفلاسفة..، يربون لحاهم - فهل هي لازمة؟ إن بعض الإسلاميين لا يلتزمون بهذا الحديث وكأنهم يشكون في صحته. ومن ذلك أن مفتي السعودية الأكبر ورئيس هيئة كبار العلماء الشيخ عبد العزيز الشيخ الكفيف يحلق شاربه على الآخر ويترك لحيته تطول؛ والشيخ أحمد بن عامر الذي يقدم برنامج «إقرأ كتابك» في قناة دريم يطلق لحيته ويبقي على شارب صغير؛ وسعد الكتاتني – رئيس حزب الحرية والعدالة ورئيس الجميعة التأسيسية للدستور- يحلق شاربه ولحيته. وهو لذلك أقرب إلى الناس من الذين يربونها. أما الذين يمضون في تطويل اللحية وتعريضها وبخاصة إذا كان الوجه ضخماً كما وجه خيرت الشاطر المحترم فينفرون الناس منهم، وبخاصة الأطفال، أفلا ينظرون في المرآة؟.

منذ بداية ما يسمى بجهاد الأفغان مروراً بتفجيرات الباكستان وأميركا وبريطانيا وفرنسا وإسبانيا والعراق ومصر وكينيا والسعودية واليمن والأردن وسورية، في المدنيين المصادفين ارتبطت اللحية بالقتل الأعمى أو الإرهاب وصار الجميع يخاف منها، مما يوجب على المسلمين والإسلاميين المؤمنين بقوله تعالى: «ومن قتل نفساً بغير حق فكأنما قتل الناس جميعاً « التخلي عن اللحى الدينية والسياسية أو تقصيرها وتشذيبها كعلامة افتراق عن الإرهابيين ليشعر بقية الناس بالأمن والأمان بحضورهم.

لقد قال العرب الكثير في اللحى ومن ذلك قول ابن الرومي لصاحب لحية طويلة عريضة:

لو رأى النبي مثلها لأجرى : في لحى الناس سنة التقصير
وقال أيضاً إذا عرضت للفتى لحية : وطالت وصارت إلى سرته
فنقصان عقل الفتى عندنا : بمقدار ما يزيد في لحيته
وقال الجاحظ: ما طالت لحية رجل إلا تكوسج عقله (أي قصر أو خف).

قلت له: لماذا أنت منزعج من انتشار هذه الظاهرة وكأنك تعبان في حملها؟ فقال: لأن معظم أصحاب اللحى شخصيات عامة ومن ثم يحق لي ولغيري نقدهم، بعدما وضعوا أنفسهم في المنطقة الحرة. كما أنني لم أعد أميز بين اللحية الدينية وغيرها من اللحى.

إنه يزعجني تحول اللحية الدينية إلى لحية سياسية بعد وصول الإسلاميين إلى السلطة، وكأنه صار مطلوباً من كل مواطن إطلاقها ليتم قبوله والاعتراف بحقوقه. صار كل من يريد الاقتراب من هذه الجماعات بعد الربيع العربي إطلاق لحيته لينال القبول والاعتماد وكأن اللحية تأشيرة (فيزا) للدخول والقبول.

عندما يربي الإسلامي لحيته ويطيلها كهوية أو كعضو في حزب إسلامي أو جماعة إسلامية، أو حركة إسلامية فهو حر. لكن عندما يربيها بعد فوزه في بالانتخاب بعضوية برلمان، أو رئاسة دولة فإنه لا يبقى ممثلاً لجماعته أو حزبه أو حركته، بل لكل الشعب ، فلا يبقى ثمة حاجة للإبقاء عليها وإلا نفى تمثيله للشعب. كما أنها تبعد بقية الناس من غير الحزب او الجماعة او الحركة عنه لأنهم لا يتماثلون معه. إنني أعد تمسك الرئيس مرسي بلحيته وقد جاء بانتخاب لا بانقلاب علامة على رئاسته للإخوان المسلمين فقط وليس لجميع المصريين.

وهو لو يحلقها سيهديء من روع المواطنين ويقربهم منه، فالرئيس مرسي مهندس وليس رجل دين ليتمسك بها وإن كان عضواً في جماعة الإخوان وحزب الحرية والعدالة لكنه بعد الفوز برئاسة الجمهورية صار رئيس جميع المصريين. إن إصراره عليها يجعله رئيساً لشريحة معينة من المواطنين هم الإخوان المسلمون والسلفيون وليس جميع المواطنين المصريين المسلمين وغير المسلمين الذين انتخبوه أو لم ينتخبوه. كما لن يصدقوا تصريحه أنه لا يسعى لإقامة الدولة الدينية الإخوانية بإصراره على اللحية.

قلت له: أؤيدك في كثير مما تقول لكن بعض اللحى وبخاصة اللحية الخفيفة اللطيفة، جميل يستحق النظر إليه والتحديق فيه.