مركز الرأي للدراسات
اعداد : حسني عايش
حزيران 2013
يقول الدكتور عودة الله منيع القيسي في كتابه «رؤى نحوية وصرفية تجديدية» وهو أربعة أجزاء قام على تغيير لنظرية النحو العربي وفلسفته. إن النحو الغربي يقوم على نظرية مشوَّشة ويخلط الجمل التي لا إعراب لها (وإنما عليها حركات فقط) بالجمل التي عليها حركات وتُعرب، لا يفرق بين النوعين ويتمسك بإعرابين للجملة الواحدة، إذا جاءا من قبيلتين. وهذا.. ضلال، لأن اللغة التي يراد لها أن تكون ذات – نظام واحد – يجب وجوباً ألا تعرب الجملة فيها إعرابين مختلفين، وإنما يسقط أضعف الإعرابين، ولا يبقى إلا إعراب القبيلة الأفصح – كقبيلة قريش؛ لأن فلسفة حركات الإعراب أنها تفيد معنى- فإذا تعددت الحركات على الكلمة الواحدة في الجملة الواحدة بطلت الغاية من حركات الإعراب، فبطلت بذلك حركات أواخر الكلمات المعتمدة جملة ً!!
لقد وَجَدْتُ لغةَ العرب – شعراً ونثراً – ونحواً وصرفاً.. فيها ما لا يصحّ. فكان قبوله انحرافاً من اللغويين والنحويين – القدامى والمحدثون- عن الصورة المثلى؛ لأن اللغة التي يُراد لها – النّمُوُّ والتطوُّرُ– لا بُدّ من أن تقوم على (نظام) واحد مطّرد، خالٍ من الشذوذ وكثرة الاستثناء.
والحق أن جامعي اللغة – من لغويين ونحويين قصّروا، مرتين: مرّةً حين جمعوا كل ما وصلوا إليه من الكلمات- ما كان فصيحاً وما كان يعتريه الضعف- ومرةً، حين وضعوا قواعدها في النْحو والصرف، ممثلةً في كتاب – سِيبَوَيْهِ - قبل أن يكتمل جمع اللغة؛ فسيبوَيْهِ توفي عام (185هـ) واللغةُ لم يكتمل جمعها (أو يُقارب) إلا مع نهاية القرن الثالث. ومن جاؤوا بعده لم يغيروا ولم يضيفوا، بل جمدوا على كتاب سيبوَيْهِ.
نتج عن ذلك خطآن كبيران: الأول = أنهم أكثروا من جَمْعِ ألفاظ غير فصيحة، لمجرد أنها رُوِيَت عن عرب البادية، وفي عرب البادية من ليس بكامل الفصاحة، فرداً، أو فخذاً من قبيلة. فما جعل الله كل البشر الذين يتكلمون لغة واحدة.. متساوين كلهم في الفصاحة؛ وإلا.. لكان كل بدويّ = قَيَّس ابنَ ساعدةَ – الإياديّ – ولكان كل إسلامي، في المئة الأولى، الإمامَ عليّاً، أو سحبان وائل بل ليست كل القبائل ا لتي أخذت عنها الفصحى – متساويةً – في الفصاحة. وإلاّ.. لما أجمع العلماء على أن لهجة قريش، (قبل الإسلام، وحتى نهاية المئة الأولى من الإسلام) هي أفصح لهجات العرب، قاطبةً التي أُخِذَتْ عنها الفصحى، وإلى جانبها ستُّ لهجات ليست متساوية في الفصاحة – فهي (لهجات القبائل) ليست مقدّسة بحيثُ يجب أخْذُ اللهجة بحذافيرها.
ولذا .. فعثمان ابن جني «ت 392هـ» أكبر فقيه لغوي.. لم يُصِبْ، عندما قال، في كتابه (خصائص اللغة – وسرّ العربية): (اختلافُ اللغاتُ، وكلُّها حجّة)(1). فلهجات القبائل الستّ أو السبع – فيها ثلاث صفات، من حيثُ الألفاظ: صفتان مقبولتان ألْفاظُهما، وصفة لا يؤخذ من ألفاظ القبائل منها إلا ما كان يجري على – سليقة/ الفصحى المستخلصة من ألفاظ هذه القبائل.
والصفتان المقبولتان هما: ما جاء من الألفاظ ممثلاً للمعنى، مع فروق بسيطة. مثال إحدى الصفتين: أن تأتيَ صفات (أو ما كان من الكلمات غير صفات) على وزن – (فعلانَ/ فَعْلى) – مثلاً – وأخرى على وزن – (فعلانَ/ فعلانةٍ). مثالُ الأولى: فَرحانُ/ فَرْحى – ومثال الثانية: نَدْمانُ/ نَدْمانةٌ. فهذه كلها.. فصيحة، وإن اختلف الوزن الصرفّي، في المؤنث. (ولا قيمةَ لاعتبار نحاة البصرة للنوع الثاني الذي على وزن (فعلانةٍ) بأنه – شاذٌّ – لأنهم اعتبروا كل ما لم يكثر شاذّاً، فبَنوْا قواعدَهم على – الأعمّ الأغلب- وهذا .. خطأ من ناحيتين: الأولى: أن الصحة في الألفاظ لا تعتمد على الكثرة والقلّة، وإنما تعتمد على استقامتها مع سليقة الفصحى. والثانية: أن اللغة عندما صنع سِيبَوَيْهِ كتابَهُ لم يكن قد جُمع منها أكثر من ثُلثيْها. ولذا .. عَدّ نُحاة البصرة، وهم فرس (ما عدا الخليل ابن أحمد الفراهيدي الذي لم يوافقهم على معيارهم هذا) – كلّ ما كان قليلاً.. شاذّاً، بَيْدَ.. أن هذا القليل وُجد منه الكثير، بعد أن تم جَمْع معظم اللغة (لأنني أعتقد أن قرابة – 10% لم يجمع،. فصيغةُ (فعلانةٌ) التي عدّوها شاذة، في أيامهم، ورد منها في الكتب، بعد ذلك، أكثر من عشرين كلمة.
ومثال الصفة الثانية: وهي نوعان: النوع الأول: ما تماشى مع سليقة الفصحى، وإن اختلفت حركة على حرف من الكلمة- حركتان، مثال ذلك : رَغوة اللبن – رِغوتُهُ – رُغوتُهُ لأن كل اختلاف في حركة الراء هو راجع إلى اختلاف الصوت بين قبيلة وقبيلة.
والنوعا الثاني.. مثل: كَفَلَ يكفَل/ و- كَفَلَ يكفُل، فقد فُتِحت – الفاءُ (عين الفعل) في الماضي والمضارع، في المرّة الأولى، وفتحت في الماضي، وضُمّت في المضارع، في المرة الثانية. وهذا.. ناتج عن لهجتين، ولكن تماشيا مع سليقة الفصحى. ولا ينكر من ذلك إلاّ ما يؤدى فيه اختلاف الحركة إلى اختلاف المعنى، مثل: فرْقٍ- بسكون الراء – و – فَرَقٍ – بفتح الراء. فالأولى .. تعني: التمييز بين شيئين.
أما الثانية فتعني: شِدّة الخوف.
أمّا النوع الثالث من ألفاظ بعض القبائل...
الذي يجب أن يُطَّرَحَ من الفصحى، حتى تظلّ ذات نظام واحد مُطّرد فهو ما خالف سليقة الفصحى، مثال ذالك.. الفعل الذي تكسَر فيه - ياء - المضارعة، أو تاؤها، أو نونها – كأن يُقال: يِِعْلم، تِعلم، نِعلم – بالكسر- إلى جانب النطق الفصح – بفتح – الياء، والتاء، والنون.
ومن أمثلتة أيضاً: صقر – سقر – زقر – فاللفظ الفصيح – حقاً – هو (الصقر)- أما السقر، والزقر – فهما لهجتان انحرفتا عن الفصحى، لبعد موطن أهليهما عن مركز الفصاحة، وهي مكّة، أو لقلة اختلاطهم بمركز الفصاحة.. فلا يُعتدّ بهاتين اللهجتين؛ لأنهما منحرفتان عن سليقة الفصحى.
هذا .. من الخطأ في اعتماد اللغويين والنحويين الألفاظَ التي انحرفت عن سليقة الفصحى.
أمّا في النحو:
.. فكان انحراف النحاة عن سليقة الفصحى، وعن النظام الواحد ا لمطّرد – أنهم اعتمدوا شيئين خاطئين، كان يجب للأول منهما أن يطرح من النحو، وأن يحول إلى الدراسة الأنثروبولوجية.
وهو – اعتماد إعرابين – لقبيلتين – لجملة واحدة أوتركيب واحد.
وأمّا الثاني.. فكان يجب أن يُعامل على غير ما عاملوه عليه. وهو الجمل الوصفية الأنماطية؛ فهي جمل عليها حركات يقاس عليها، ولكن، لا إعرابَ لها.
أما الجمل الأولى.. فمثالُها أن القرشيين يقولون: (ليس الطِّيُب إلا المسكَ) – بفتح الكاف في المسك، وأمّا التميميّين فيقولون: (ليس الطيبُ إلى المسكُ) – بضمّ الكاف في المسك. والحركة الأولى – على المسك – إعرابُها بيِّنٌ، وهو أنها خبر (ليس) منصوب. أمّا الثانية فقد تكلفوا لها إعراباً، فاعتبروا أن التقدير: ليس الطيبُ إلا هو المسكُ. فأضافوا – هو – تكلّفاً. والنظرة الصحيحة التي تتفق مع بقاء اللغة ذات نظام واحد مطّرد – ومع الغاية من الإعراب – توجب اطراح نُطق التميميين، والإبقاء – فقط – على نُطق القرشيين. والغاية من حركات الإعراب هو (التفريق) بين المعاني المتكافئة أو المتماثلة اللفظ.
(مع غايتيْن أُخريين وضعهما في كتابه «رُؤىً - نحوْية وصرفية - تجديدية» وهو المقصود من هذا العرض، وهما : التفريقُ بين الجمل – المحركة اللا معربة، والجمل المعربة – ثم .. اطرادُ النسق، في قيام الحركات على أواخر الكلمات في الجمل التي يُميّز بين معانيها، ولو لم يكن حركات.
وإذن.. إذا أبقينا فتحة على الكاف في كلمة – المسك– وعلى الضمة، من دون أن يتغير التركيب، وسياق اللفظ فيه.. فقد أبطلنا الغاية من النحو؛ لأن الفتحة، على آخر الكلمة، لها دلالة.. تختلف عن دلالة الضمّة، وعن دلالة الكسرة.
الجملُ الوصفية الأنماطية:
اللغويّ الغربيّ – دوسيسير – اعتبر الجمل كلها وصفية. واللغوي الغربي الآخر- تشومسكي – اعتبر الجمل كلها – تحليلّية. واللغويون العرب المعاصرون.. قرأوا – لهذا، وهذا، فتبنّى فريق منهم فهْم الأول للغة – وتبنّى فريق آخر فهمَ الثاني للغة!!
.. وهؤلاء، وهؤلاء – ليسوا على صواب؛ لأن اللغة العربية – فيها النوعان من الجمل؛ فمعظم جملها تحليلي (وأضاف القيسي إليه صفةً أخرى، وهي: نماذجي) وأقلّ جملها وصفيّ (وأضاف إليه صفةً أخرى، هي: أنماطي). إذن.. ليس صحيحاً أن جمل العربية كلها – تحليلية نماذجية – ولا كلها – وصفية أنماطية.
ولكنْ، ما الذي ينبني على هذا – الفرق – عنده؟ ينبني عليه أن الجمل التحليلية النماذجية.. مُعْرَبَةٌ – وأن الجمل الوصفية الأنماطية.. لا إعرابَ لها، ولكن عليها حركات يقاسُ عليها. مثلاً: النمط = ما أفعلَ الشيْء = بفتح اللام والهمزة – لا يُعربَ، وإنما يقاس عليه ما لا يحصى من الجمل ! مثل: ما أجملَ الربيعَ! – ولكن، لماذا القياس وليس الإعراب؟