29/01/2013

مركز الرأي للدراسات
اعداد : ياسين الجيلاني
كانون الثاني 2013
دعوة رئيس الوزراء الدكتور عبدالله النسور، إلى التفكير الجاد في مراجعة تعليمات إمتحان الثانوية العامة، وصولاً إلى صيغة فاعلة، قادرة على تقييم مستويات المعرفة والمهارة والسلوك والقيم في آن واحد، دعوة مخلصة وجريئة، والهدف منها: هو صياغة المعادلة الكفؤة لمواجهة متطلبات العصر، دون المساس بهيبة أو سمعة أو سلامة إجراءات الامتحان، ودون مزيد من الهدر في الوقت والجهد والمال العام.
لعل رئيس الحكومة، الذي يتمتع بالعقلانية والروح العلمية والتربوية، يدرك تماماً أن الامتحانات العصرية، هي بناء له مقومات حضارية ومواقف بشر... ويدرك أيضاً أن القيادة التربوية هي صانعة التغيير أولاً وقبل كل شيء... مثلما يعي أن تطوير التشريعات، ومراجعة تعليمات الثانوية العامة، قضية جوهرية. شريطة أن تجد الكفاءة في وسائل التنفيذ، بما يتمشى مع قيمنا العربية والاسلامية، وما كان حتى الآن، هو من صنع هذه القيادة التربوية التي أمسكت زمام الأمور، وهذا سبب كافٍ، يدفع إلى إعادة تنظيم إدارة الامتحانات العامة الحالية، ورفدها بالكفايات البشرية المؤهلة فنياً وإدارياً، وإعادة صياغة مهامها واختصاصها وصلاحياتها، وفق توصيف وتصنيف متطورين. وبمفاهيم عصرية تؤدي إلى الانتقال بها لاستخدام الأساليب التربوية الفاعلة في قياس النمو والمهارات والقدرات الذاتية، حتى تأتي مراجعة تعليمات امتحان الثانوية، على أكمل وجه.
فامتحان التوجيهي الذي تقدم إليه هذا العام، ما يزيد عن مائة وعشرين ألف طالب وطالبة، من المواضيع المهمة التي أرهقت عقول الأبناء والآباء وبعثرت جهودهم، هو امتحان ليس محكماً ويفتقر إلى معامل الصدق والثبات، ويحمل في طياته تناقضات تجعله يقف عاجزاً في تقويم الأهداف التربوية العامة والخاصة في أغلب جوانبه – فالامتحان ما زال هدفاً في حد ذاته، وإن هاجس العلامة هو المسيطر دائماً على تفكير الطلبة وعقولهم، مما أدى إلى تدني التعليم الحقيقي، وحال دون تنمية القدرات والمهارات والاستعدادات الخاصة بالطلبة، وجعله يتمحور في قياس الحفظ والتكرار، وبأسلوب انتقائي يجعل الحفظ متحكماً في نتائج الطلبة، والأسئلة لا تغطي وحدات المقرر، وإنما أجزاء محدودة منه.
يعلمنا الفكر الجدلي، أنه إذا ما طرحت قضية للبحث، ولم تنجح المحاولات في حل مشاكلها، فالعيب يكون في طريقة الطرح، وليس في القضية ذاتها، لذلك كان لزاماً علينا طرح المشكلة برمتها، لنعرف مكمن الأخطاء المتكررة لكل حلول مقترح، وأبرز ما يظهر في طرح مشكلة امتحان الثانوية نوردها بما يلي:
1- الخلط بين وظيفة الامتحان وأهدافه، أي بين الغاية والوسيلة، فالأصل في الامتحان أن وسيلة لا غاية، ولكن تصرفات أصحاب القرار في المؤسسة التربوية، كانت تجيء على ما يناقض هذا المفهوم أشد المناقضة، فأصبح الامتحان في زمانهم غاية ووسيلة، وحسبنا بهذا تخلفاً للتعليم برمته، وإساءة لفلسفة التربية والتعليم وأهدافها العامة.
2- مبدأ تكافؤ الفرص في الامتحان غائبة، وبهذا الصدد نسأل: وزعت القيم المنهجية للمباحث المختلفة، فمثلاً – مادة الثقافة الأدبية أعطيت (110) علامات ومادة اللغة الانجليزية أعطيت (110) علامات، ومادة الثقافة الاسلامية أعطيت (100) علامة، فعلى أي أساس تم هذا التفاضل والتمايز بين مواد الثقافة العامة المشتركة؟ ثم كيف وضعت العلامة القصوى لمادة الرياضيات للفرع الأدبي ب (160) علامة، ولمادة الرياضيات للفرع العلمي بـ (200) علامة، فإذا علمنا بأن تحليل محتوى المنهجية يوضح كم المعلومات والمفاهيم في منهج الفرع العلمي، يعادل منهاج الفرع الأدبي أو أكثر، فأين تكافؤ الفرص التعليمية بينهما?
3- لقد بات الامتحان رهبة لا مسوغ لها، وهو ليس مقياساً دقيقاً يحدد مصير تراكم (12) سنة دراسية في جلسة ساعتين أو ثلاث، بحيث يحدد مستقبل الطالب، هل هو مستقبل باهر، أم فاشل؟ وأصبحت بعض مدارسنا الحكومية والخاصة، بفضل غايات الامتحان، ينحصر تركيزها واهتمامها في تحضير طلبتها للامتحان العامة، فانتشرت ظاهرة الدروس الخصوصية التي ترهق جيوب الآباء وتزيد أوضاعها بلة، وانتشرت معه الملخصات الخارجية البعيدة عن الكتاب المدرسي، بكل ما فيها من آفة علمية، فالمعلم يطمع دائماً بالمال بأي وسيلة لتحسين أوضاعه المعيشية، والطالب يسعى بكل وسيلة نحو النجاح أو تحقيق أعلى النسب والمعدلات، ليلحق بالجامعات الرسمية، الأقل كلفة.
في الحق، يعتبر امتحان التوجيهي من أغمض قضايا الوطن عن الرؤية الواضحة، فالخلاف فيه لا يكون بين شخصين، بل خلافاً وطنياً عاماً، فبعد أن كثر حوله النقاش واشتد الجدل فيه ولا يزال، نجد هناك مشكلة جزئية تظهر من عام لآخر، فتدرس من قبل المؤسسة التربوية ويبت في أمرها، ولكنها تعالج في كل مرة بنفس الأسلوب الخاطئ... ومع كل هذه الوعود والعهود بوضع الحلول الجذرية لها، نكتشف في العام التالي، أنها كانت إما حلولاً ناقصة وإما حلولاً أقرب إلى تعقيد عملية الامتحان بدلاً من أن تعالجه، أو أنها حلولا ترضية تأتي من باب التخدير بهدف امتصاص النقمة وغضب الأبناء والآباء والأمهات من صعوبة الأسئلة أو خروجها عن المنهاج.
وعبثاً تحاول وزارة التربية أن تحمي الامتحان، بوضع الضوابط لتحقيق مبدأ العدالة والمساواة، إلا أن تلك الضوابط كثيراً ما تخترق من قبل الطلبة.. لقد كان آخر فصول هذه الضوابط، ما أعلنته الوزارة من اجراءات في محاولة منها للسيطرة على أي اختراق لطبيعة الامتحان، وباستغلال ما يمكن أن تقدمه التقنيات الحديثة، التي ترصد بالصورة كل حركة من حركات الطلبة داخل قاعات الامتحان، كما أن مغلف الأسئلة الذي أصبح يوزع على المراكز بنفس اليوم أو قبله، وأصبح يفتح بطريقة آلية جديدة وبزمن معروف، مثلما أصبحت ورقة الامتحان محمية للحيلولة دون اختراقات جديدة لها... مع هذه الاجراءات جميعاً وغيرها... ستظل مشكلات امتحان التوجيهي قائمة، ما مادمت أهملت فيه الجوانب النفسية والفنية، وانصبت الجهود - كرد فعل على جوانب الامن والحماية.
وأخلص من هذا كله بنتجية؛ أن امتحان التوجيهي هو إحدى مشكلات الوطن الاجتماعية، وما تحمله نتائجه في كل عام من سلبيات ومن اطلاق للعيارات النارية أو الموت المفاجئ يدعونا إلى الاحتكاك بالآراء التربوية الواعية لنسهم بكل ما استطعنا به من جدل ومقترحات مفيدة، كي تتبلور في الأذهان والعقول الصورة المثلى لامتحان التوجيهي، بما يواكب مستجدات العصر وثورته التكنولوجية، ودون مركزية أو تعقيد... وبخلاف ذلك نكون كمن يضع العربة أمام الحصان!?