الساعة

الحوار.. الحوار.. الحوار ..فما الحوار وما المناظرة وكيف يكونان؟

18/02/2013

مركز الرأي للدراسات

حسني عايش

شباط 2013

في ورقته النقاشية الأولى يدعو جلالة الملك وبقوة إلى اعتماد الحوار بين جميع الأطراف كسبيل للاتفاق أو التوافق. وما من مناسبة أو لقاء إلا ويذكـِّر جلالته الحضور به. كما يدعو إليه كثير من الكتاب والمعلقين والأحزاب والجماعات السياسية، وكأن كل أشكال الاتصال والتواصل بينهم حاضرة، ما عدا الحوار الغائب أو كأن الجاري منه أشبه بحوار الطرشان. فما الحوار وما المناظرة أو الجدل وكيف يكونان؟ وما الفرق بينهما؟

«يقول علماء النفس والاجتماع والمربون، أن الصراع بين الأفراد والجماعات والفئات والأحزاب في المجتمع الواحد جزء طبيعي وأساسي من الحياة اليومية، ولكنه قد يشكل تهديدا ً لاستقراره، إذا لم تتم تسويته سلمياً أي بالحوار كلما وعندما يلزم ذلك، فعندئذٍ يمكن أن يتحول الصراع إلى فرصة للنمو والتقدم... ولتحقيق ذلك ربما كان لازماً تعليم الأطفال في المدارس والطلاب والطالبات في الجامعات المهارات اللازمة للحوار والمناظرة وتسوية الصراع بصورة بناءة به.

وحتى لا يخلط الناس بين الحوار (Dialouge) وهي كلمة إغريقية الأصل من (Dia) ومعناها «من خلال»، و (Logos) ومعناها «الكلمة أو العقل» من جهة؛ والمناظرة (Argument Debate) (أو الجدل أو المحاججة) من جهة أخرى، قامت إحدى الجماعات التربوية المختصة بالتفريق بينهما على النحو التالي:

• في المناظرة أو الجدل يعرض المرء (المرشح عادة لمنصب طلابي في مدرسة، أو كلية، أو جامعة، أو لمنصب سياسي في الدولة، أو محامي في محكمة...) أفضل ما لديه من تفكير أو أفكار أو برامج أو أدلة في الموضوع أو المشكلة، ويدافع عنها بكل ما يملك من مهارة ضد كل الانتقادات والتحديات ليثبت أنه على حق، وأن الطرف الآخر مخطئ.
أما في الحوار فإن المرء وإن كان يقدم أفضل ما لديه من تفكير وأفكار وبرامج وأدلة، إلا أنه يأتي مستعداً للاستماع لكل الانتقادات والتحديات ليفيد منها في تعديلها وصقلها.

• يسعى طرفا المناظرة أو أطرافها إلى إبراز أشد الاختلافات أو الفروق بينهم، فيما يسعى أطراف الحوار إلى إبراز النقاط المشتركة بينهم.

• وقد يسعى المناظر إلى إضفاء الشك على صحة تفسير معين، أو إلى الإيحاء بوجود تفسيرات بديلة، أو لفرض تفسيره الخاص في المسألة لاستدراج وجهة النظر الأخرى بغية إحداث تغيير في حجة الطرف الآخر، أو لإضعافها أمام الجمهور أو القضاة. وربما يلجأ إلى التأجيج العاطفي القوي أو الفظ للتأثير على موقف الطرف الآخر (في الانتخابات أو المفاوضات مثلاً) أو لإعطاء انطباع كما في كلمات مندوبي الدول في الأمم المتحدة، أو النواب في البرلمان، أو للتأثير في المحلفين في محكمة، أو في المشاهدين للمناظرة في التلفزيون (كما يذكر دي بونو).
أما المحاور فيضرب صفحاً عن ذلك مفضلاً تقليب الأمر على كل وجوهه تمهيداً للوصول إلى نقطة الإتفاق أو الجامع المشترك الأعظم له مع الطرف الآخر.

• إذا فالمناظرة –إجمالاً– عملية معارضة ليس إلا... طرفان أو أكثر يعارض كل منهم الآخر ويحاول كل منهم أن «يُثبّت» الآخر ليحصل على المنصب أو المركز بدعم الناخبين الذين اقتنعوا بفكرته أو برنامجه... أو على القرار في المحكمة لصالحه. أي أن كل طرف يحاول أن يثبت أن منافسه مخطئ، أو متناقض أو جاهل أو ليس في مستوى المنصب أو المركز ليخرج منتصراً عليه. يبدأ المناظرون مختلفين وينتهون مختلفين، بينما الحوار عملية تعاونية تعمل أطرافها من أجل التوصل إلى فهم مشترك، أي تبدأ الحوار مختلفة وتنتهي منه متفقة.

• تحاول أطراف المناظرة تحويل الفرضيات إلى حقائق لتفوز، بينما تطرح أطراف الحوار الفرضيات من أجل إعادة التقييم وحلّ المشكلة.

• تخلق المناظرة عند المتمسكين بها –في غير أغراضها– والمتابعين لها أو المستمعين إليها، إتجاهاً نحو الانغلاق العقلي، أي تصميماً وإصراراً من كل منهم أنه على حق، وأن غيره على باطل، وكأن كلاً منهم ختم العلم أو احتكر الحقيقة (عنزة ولو طارت) فيميل إلى إنكار فكر المختلفين معه في الفكر أو وجهة النظر، وربما إلى اتهامهم بالهرطقة والزندقة، والاعتداء المادي –أحياناً– عليهم.

أما الحوار فيخلق بين المتحاورين (والجمهور) إحساساً بالارتباط والانتماء كما يخلق منطقة وجدانية ومعرفية آمنة تتدفق فيها الأفكار وتفحص وتصدر الأحكام، واتجاهاً نحو الانفتاح العقلي، أي استعداداً للتعلم والتغيير، وكأن كل طرف فيه يعلن أمام الملأ: أنه يعرف حدوده ويعرف عيوبه، وإنه آتٍ للحوار والتعلـُّم بعقلٍ مفتوح وقلبٍ سليم، وبخاصة من الناس –خارج تخصصه– الذين يرون النشاز أو العيوب في تفكيره بصورة أوضح من غيرهم حسب قاعدة: إن عين الغريب ترى أكثر، فلا يكفّر أحدٌ أحداً بالباطل، لأن كل واحد في رأيه على حق من الزاوية التي ينظر فيها إلى الموضوع.

شكل عملية الحوار:

- يقوم كل طرف بتوضيح منطقه أو عرض وجهة نظره.

- ثم يطرح كل طرف على الآخر أسئلة أو تساؤلات هدفها الاستيضاح أو طلب إعادة النظر في المنطق أو وجهة النظر.

- ثم يقدم كل طرف ما يرى أنه قائمة بالنقاط المشتركة.

- وقد يتبع ذلك قيام كل طرف بطرح أسئلة أو تساؤلات، هدفها التغلب على الاختلافات الباقية.

التوجه المسيطر: يأتي كل طرف وهو مصمم على التعلّم والاتفاق، أي أن تعليق الحكم هو المنهج الأساسي في الحوار، فعندما يعلّق المرء الحكم يضع إدراكاته ومشاعره وأحكامه وشحناته العاطفية جانباً، ويراقبها بعناية بانتظار انجلاء الصورة.

شكل عملية المناظرة (أو الجدل):

لعل الشروط التي أوردها أحد المتكلمين المسلمين للمناظرة تصلح لتوضيح مفهوم المناظرة (والمحاورة) وشكلها كما يصفها أبو القاسم الأصفهاني –صاحب كتاب: محاضرات الأدباء، ومحاورات الشعراء والبلغاء، في ص.78 من الجزء الأول الصادر عن دار الحكمة – شروط المناظرة بين المتكلمين المسلمين فيقول:

«إجتمع متكلمان فقال أحدهما (للآخر): هل لك في مناظرة؟ فقال (الثاني): على شرائط. أن لا تغضب، ولا تعجب، ولا تشغب، ولا تحكم، ولا تُقبل على غيري وأنا أكلمك، ولا تجعل الدعوى دليلاً، ولا تجوز لنفسك تأويل آية على مذهبك إلا جوّزت إلي تأويلها على مذهبي، وعلى أن تؤثر التصادق، وتنقاد للتعارف، وعلى أن كلاً منا يبني مناظرته على أن الحق ضالته، والرشد غايته».

أما الشكل المعاصر لعملية المناظرة فهو على النحو التالي:

- يقوم كل من المتناظرين بعرض منطقه أو وجهة نظره.

- ثم يقوم كل منهما بالرد على الآخر.

- وبعد الانتهاء من ذلك، يمكن أن يعيد كل منهما عرض موقفه بصياغة جديدة أو يطرح أسئلة، أو تساؤلات على الطرف الآخر.

- وتنتهي المناظرة بتلخيص كل طرفٍ لموقفه النهائي، ويترك للحضور الخيار في تأييد أو قبول وجهة النظر التي يراها الواحد منهم صحيحة أو مناسبة.

التوجه المسيطر: يأتي كل طرف ليُعلّم لا ليَتعلَّم، وإثبات أن منطقه أو فكره أو برنامجه..هو الصحيح فقط كما يتجلى في المعارضة السياسية.

إعلم أنه عندما تسيطر ظاهرة المناظرة أو الجدل على مجتمع –في غير أغراضها السياسية– فإن الصراع فيه شديد، وأن الاتفاق أو التوافق فيه صعب، لأن الجدل للجدل يوسع شقة الخلاف أكثر مما يضيّقها. ولعلَّ استفراد هذه الظاهرة بالمجتمع –خارج نطاق المعارضة السياسية– تدل على أنه متخلف، أو غير ديموقراطي، أو غير ناضج معرفياً وثقافياً، وربما تجعل الديموقراطية إذا زادت عن الحد–بالفوضى– لا تطاق كما يقول أحد المفكرين.

أما سيطرت ظاهرة الحوار عليه فتدل على العكس، وأن الاتفاق أو التوافق في المجتمع ممكن لتركيز المتحاورين فيه على نقاط الاتفاق أو الإلتقاء، وسعيهم الدؤوب لتوسيع دائرتيهما. كما أنه دلالة على أنه مجتمع نامٍ أو ناضج ثقافياً. وكما نعلم فإن النمو أو النضج الثقافي هو أعلى مراحل النمو الإنساني للمجتمع وغايته النهائية، وذلك يجعل الديكتاتورية متعذرة فيه كما يقول المفكر نفسه. إن الحوار ظاهرة صحية في المجتمع وإلا صدئت العقول وفاحت الرائحة النتنة من الأفكار العفنة المخزونة فيها عبر العصور بلا تهوية. لقد أخذ الحوار يزدهر في العالم اليوم حتى بين العقائد والأديان التي كان الحوار بينها شبه مستحيل في الماضي.