نحن وقضايا القرن الحالي

04/02/2015

مركز الرأي للدراسات

ياسين الجيلاني

شباط 2015

 

عربياً... من يشخص حالة القرن الواحد والعشرين، من عشرته الأولى إلى عشرته الثانية، تشخصياً دقيقا، لا بد واقفُ، عند ما يعانيه الإنسان المعاصر من قضايا ومشكلات عديدة، ومن وحشة شديدة وقلق دائم، ويرجع ذلك، إلى التقدم العلمي والتكنولوجي، وازدياد في قوة التدمير واتساع في رقعة الشر والأرهاب، بغير كابح من خلق ولا قيم ولا عقيدة ولا ضمير ويعاني أكثر من مشكلة الفارق الكبير، بين تقدم علمه وحضارته المادية، وبين ثبات خلقه وقيمه ودوافع سلوكه، على وضع لا يتماشى، مع هذا التقدم العلمي الهائل، أوهو مشكلة المرونة القاصرة والقدرة العاجزة، بين ما يكون وبين ما ينبغي أن يكون.


إن تفجر هذه المشكلات لهو أبلغ جواب، على أن هذا القرن لا وسطية فيه، فالناس إما أغنياء وإما فقراء، فالاغنياء ينعمون بالترف المادي، والاستمتاع بمباهج الحياة ولذاتها، فمعظم الاغنياء، انقلبت أوضاعهم وقيمهم ومعاييرهم، ونضبت فيهم موارد العقيدة الحية من نفوسهم، فاصبح الواحد منهم يجري وراء اللذة... لا من فرط الحيوية فيها، ولكن من فرط الخوف على الحياة من الحياة... أما الفقراء، فيلهثون وراء لقمة العيش، يعيشون عيشة ضنكا بسبب أعباء الحياة المتزايدة، وغلاء الاسعار وقلة الدخل، هؤلاء فريسة للخوف خشية أن يحمل لهم المستقبل، ما هو أسوأ.؟!


قرن... تساوى فيه الرجال بالنساء، ولم تتساو فيه النساء بالرجال، وذلك بفعل التكنولوجيا التي
أعفت الرجل من المهام التي تتطلب فيها الرجولة، فأصبح العمل في طوق المرأة، بعد أن كان لا يستطيعه إلا الرجل. قرن... لم يعد للنخوة والفروسية والشجاعة فيه مكان، لأن أشجع الشجعان واجبين الجبناء فيه سواء، أمام آلات الدمار والخراب قرن.. فيه أصبح أكثر القتلى من المدنيين، وأقلهم من المتمترسين في الخنادق والحصون.
قرن... أصبح يخاف الفرد فيه، على نفسه من الرصاصات الطائشة، وجميع رصاصاته أصبحت طائشة بغير استثناء، في حروب ليس بيده إقامتها ولا منعها، ولا يشعر أن له فيها رأي ولا مأرب، ولا نجاة له منها، حتى ولو نكص عنها وبقي في عقر داره، لأن الدور أول ما تتهاوى على ساكنيها، قبل الواقفين في صفوف القتال.
قرن... أصبح الانسان فيه يخاف على نفسه، أن تقضي عليه الأوبئة والامراض المستعصية - كالسرطان وانفلونزا الطيور وجنون البقر أو الايبولا، فيلتمس النجاة منها في الطب أو المستشتفيات الخاصة، ولكنه لا يلبث أن يرى فيهما شيطاناً مستغلاً وبشعاً، يهدده في حياته، حينما يرى أنهما قد أعفيا البشرية، من إرتفاع نسبة موات أفرادها والاطفال منهم خاصة والفقراء.


لا جدال؛ أن هذا القرن، لم يمر بالانسانية في ماضيها، قرن يشبهه، ولو إلى حد ما، لأن الماثل أمام أعيننا، شاهداً على أن هذا القرن في عشرينياته، يتميز من سابقيه بالصراعات التي لا تحصى ولا تعد، التي باتت تجتذب إنتباه وعقول المفكرين ورجال الاعلام منهم، قبل الساسة والحكام، فيه تجمع جهودهم وتوحد اهتماماتهم، فيكون للقرن بهذا كله، طابعه الفريد بين القرون الأخرى.


يبدو هذا القرن البشع... هو إمتداد مفصلي للقرن الماضي، وكأن الولد سر أبيه، فيه وقع الكثير من الأحداث الدامية، والفواجع المحزنة، وفيه الثورات والانقلابات والثورات المضادة، ثم فيه كثير من الأزمات المستعصية. لقد أخرج أقوام من ديارهم وشردوا في الأرض، وفيه إنهارات نظم سياسية عتيقة، كان يظن أن زوالها من قبيل الاحلام أو الاستحالات، حتى بات المواطن العربي يتساءل: كيف وقعت هذه الأحداث، وطرأت كل هذه المتغيرات، بين ليلة وضحاها؟!


لقد أوشكت ثورات الربيع العربي، أن تحل محل الحروب بالأمس، وبين البديلين فارق واسع: فالثورات تنهض بها شعوب، وأما الحروب فيغلب أن يشنها ساسة وحكام؛ الثورات لا تكون إلا من أجل الحرية أو مزيد منها، وأما الحروب فما أكثر ما نشبت لتطمس حرية أو لتحد منها، فلئن كان عصرنا هذا، ما ينفك جاهداً في مقاومة الحروب، فهو كذلك عصر لا يدخر وسعاً في إثارة الشعوب المظلومة على ظالميها؛ أنه عصر ثورات، نعم، لقد سبقتها في التاريخ ثورات مشهورة، كالثورة الامريكية والثورة الفرنسية، في أواخر القرن الثامن عشر، لكن الثورة إذا قيست بعدد من يتأثرون بها، وبعمق ذلك الاثر ومداه، فإن ثورات الأمس، لا تقاس بثورات اليوم عمقاً واتساعاً وألماً وتدميرا.


أما الجديد في ثورات الربيع العربي. فتلك النزعات الطائفية بين - سني وشيعي وكردي وعلوي، وشمالي وجنوبي....الخ. تسميات لم نكن نسمع عنها من قبل في حدتها الحالية، نزعات طائفية دموية متطرفة، تعصف بالأوطان شرقاً وغرباً، تدمر الانسان من كل جانب في - سوريا واليمن، في العراق وليبيا، في مصر والسودان، في لبنان والبحرين... بهدف إذلال الإنسان وإخضاعه لمشيئتها غير المشروعة، ناهيك عن قتل الناس على الهوية، وهدم بيوتهم، وقتل أطفالهم، وإغتصاب نسائهم، تحت شعار ملفق من العقائد الدينية المتزمتة، عنوة وقهراً وظلماً.


أما القديم المستمر في هذا القرن، تلك الإعتداءات الإسرائيلية على الأمة العربية، التي طال أمدها، خاصة في فلسطين وسوريا ولبنان. فاسرائيل منذ قيامها، تحاول أن تدق بالدس والفتنة اسفيناً، بين العرب المسلمين والعرب المسيحين، وتلجأ إلى تفتيت كل أقلية منها، إلى أكبر عدد ممكن من القطاعات الطائفية، فتضغط على التفرقة في لبنان بين المكاثوليك والمارونية، والشيعة والسنة مثلاً كما تتعمد بإصرار، معاملة الدروز كتلة بذاتها، وليس كجزء لا يتجزأ من عرب سوريا. فسياسة اسرائيل في هذا واضحة مكشوفة، هي تمزيق الأقلية الدينية إلى شيع وشظايا، وقتل للانسان العربي بمثل ما هو ابتزاز للوطن العربي كله، وتمزيق لوحدته الاساسية، وتخليط عروبته وتاريخه، وليس أدل على ذلك؛ من تجنيد المسيحيين في الجيش الاسرائيلي - كما فعلت مع الدروز - لتدقيق اسفين الفرقة بين المسلمين والمسيحين.


وفي الوقت نفسه، تهدم المساجد والكنائس بلا تفرقة، وتحت مزاعم وأسانيد مفتعلة وتحويلها الى كنس يهودي، مثلما تفرض التعليم اليهودي على الأطفال العرب، بهدف تهويدهم بالتدريج... أما مسلسل الإساءة للنبي محمد عليه الصلاة، على ألسنة وأقلام الغربيين، فهي كلها حملات أملاها الحقد والبغض والحمق على ديننا الاسلامي، وغالباً ما يقف ورائها اليهود، بما أنطووا عليه من الشر والفساد...
ونعود لعشرينيات هذا القرن، فنجد فيه إجتماع النور والظلام، فالظلام لم يعد يكتنف الظروف والاحداث، بل تجاوزها إلى ينابيع الشخصية الفردية ذاتها، فلم يبق للانسان العربي ما يتعلق به، إلا كما يتعلق الغريق بقطعة خشبية طافية على سطح البحر، وسط ظلمات من فوقها ظلمات وغيوم داكنة، في بحر لجي، وكذلك لم يعد فيه ما يرجوه، وإن تضخم ما يخشاه. الفناء يتهدد كل شيء، والموت نهاية كل انسان.
قرن... تضخمت فيه تكتلات الانظمة العربية وتعقدت وتشابكت، فأصبحنا نعاني من الدعايات التي تحشو الأدمغة بالأفكار الغريبة الجاهزة، وصيغها الفكرية المعلبة، كل شيء يحدث بلا منطق، وبلا توقع، أنه يحدث هكذا... تضليل إعلامي غربي ممنهج نخضع له مستسلمين؟!.


إن أخطر ما في هذا القرن... هذه القوة النووية الجبارة التي فكت من عقالها، ولا يعلم إلا الله، وعلماء الفيزياء، أين عساها أن تتجه بنا في طريق سيرها؟ هذه القوة النووية؛ التي إما أن تميت الإنسانية، وإما أن تفتح لها ابواباً، لا عهد للناس بمثلها من قبل... ثم يأتي التفجر السكاني الرهيب الذي أصبح علامة مميزة في هذا العصر، ففي الوقت الذي تهددنا فيه القوة النووية بأن تمحو البشر محواً، يجىء هذا التفجر البشري والداء الدفين في طوايا هذا القرن التعيس.
مع قضايا ومشكلات القرن الحالي، قد يسأل الإنسان العربي: ما هو مصيره المجهول؟ وهل ستطال القوة النووية ومعها الارهاب الدولي، كل عاصمة عربية؟ وهل الغرب واسرائيل ومعهم ايران، هم شركاء في الخفاء وإن اختلفوا في العلن؟


هذه التساؤلات وغيرها، التي إن صحت - لا سمح الله - فهذا يعني أن الوطن العربي كله من المحيط الى الخليج في خطر حقيقي. وهذا معناه مباشرة، أننا نعيش في عالم يبعث على الخوف والريبة... عالم غامض لا نفهمه، وكأننا غدونا غرباء في أوطاننا أو كأهل الكهف، أو كمتفرجين من كوكب آخر.
وأخيراً... لن تتم صورة القرن الحالي، لمن أراد تصويره كاملاً، دون السؤال الأهم: إذا لم يتم حل الصراع العربي الاسرائيلي، في عشرينيات هذا القرن، وصولاً إلى إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وعاصمتها القدس الشرقية، واستناداً إلى حل الدولتين، ومبادرة السلام العربية، فكيف سيكون الحال عليه الحال في مجرياته القادمة؟


وبعدها... هل نقول لهذا القرن، أنه قرن الحضارة والثقافة والعلم والتكنولوجيا... وداعاً.