دولة المواطنة في الإسلام

29/11/2014

مركز الرأي للدراسات

م.محمود صبري

تشرين الثاني 2014

 


أود بداية أن أعرّف باختصار وبرأيي الدولة الدينية والدولة العلمانية ليتسنى لنا فهم مفهوم الدولة في الإسلام كما كانت وكما يجب أن تكون.


الدولة الدينية هي حكم ديني بالكامل يكون فيه الدستور والقانون خاضعين خضوعا مطلقا لحكم الله أو «حكم السماء» كما يقولون، ويكون الرئيس أو الخليفة أو الإمام هو الحاكم المطلق بأمره الموحى من الله كما هو في الكتب الدينية وكما يرى هذا الرئيس بصفته المفوض من الله، والدولة العلمانية هي التي تقوم على مبدأ «الدين لله والوطن للجميع»، ودون أن يعني هذا أن الدولة كافرة أو غير ذلك أو ديمقراطية أم لا، وواضح لمن قرأ تاريخ دولة الإسلام منذ عهد الرسول حتى انهيار «دولة الخلافة» العثمانية أن الدولة الإسلامية لم تكن دينية ولا علمانية وإن كانت أقرب للعلمانية ويحكمها بصفة مبدئية شريعة الإسلام.


لقد كانت دولة الإسلام التي أسسها الرسول في المدينة بعد الهجرة دولة إسلامية دستورها القرآن وقوانينها (التي لم تكن مكتوبة غالبا) تعود إلى ما يراه الخليفة المفوض من الشعب بالمبايعة (حتى عهد علي) بما لا يتعارض مع الشرع وبما يراه أقرب للعدل والانصاف والمنطق. وهو ليس حاكما مطلقا بل له مجلس شورى وبابه مفتوح لكل الآراء. والرسول إضافة إلى كونه نبيا ورسولا كان قائداً عسكرياً ورئيس دولة وقاضيا في الوقت نفسه، وكذلك كان خلفاؤه. وفي مثل هذا الوضع فان عليه أن يتعامل مع كثير من القضايا الدنيوية وعلاقات الناس الاجتماعية والاقتصادية وفي الحرب وغير ذلك، وهذا يتطلب من الواحد منهم أن يستشير ويفتي ويتصرف بما يراه الأصح والأنسب في مسائل كثيرة لا جواب لها في القرآن أو السنة بل في الاجتهاد بناء عليهما، ومن هنا نشأت الخلافات والاختلاف بين الفقهاء، وما زاد من هذا الخلاف هو ما فهم كل من الفقهاء من آيات القرآن بطريقته الخاصة لا سيما في الآيات المتشابهات.

وبرغم أن في هذا الاختلاف رحمة للتيسير على الناس الاّ أن الناس جعلوه خلافا وانشقاقا عن الدين وسببا للتكفير والتناحر والاقتتال بكل أسف. كذلك أساء هذا الاختلاف إلى الإسلام والمسلمين في العالم لا سيما في ما يرونه من عنف وقتل وارهاب من بعض المسلمين لسوء فهمهم لآيات القرآن التي تتعلق بالجهاد والقتال ومعاملة أهل الذمة في الدولة الإسلامية (ليست داعش وانما الدولة بمفهومها)، ولسوء فهمهم للأحاديث الصحيحة وتمسّكهم بالأحاديث المدسوسة والتي يدّعون أن قائلها لا ينطق عن الهوى فعلينا تصديقها.

وآية «وما ينطق عن الهوى» قيلت بحق القرآن الموحى وليس أحاديثهم المزوّرة والرسول منها براء. وفي الحقيقة فان القرآن والأحاديث الصحيحة لا تنص اطلاقا على نشر الدين بالقوة ولا تعامل أهل الذمة من غير المسلمين كما يرى هؤلاء الضالون. فالقتال والجهاد هو فقط دفاع عن النفس لصد العدوان أو حرب استباقية مشروعة على من يعد العدة لقتال المسلمين. ومن يدّعي غير ذلك عليه تعلم العربية أولا ثم قراءة القرآن وتفسيره وكذلك الأحاديث التي فهمت خطأ كحديث «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا اله الا الله.. الخ» فالمقصود من كلمة الناس هنا قريش التي تحارب المسلمين وليس كل الناس، حيث يمكن لغة استعمال تعبير عام يراد به الخصوص كما ورد في كثير من الآيات (الذين قال لهم الناس ان الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم...»آل عمران 173») فالذي قال هو شخص واحد اسمه نعيم بن مسعود الثقفي، والناس الذين جمعوا هم قريش. وآية قوم لوط (وفجرنا الأرض عيونا...) فلم يفجّر الله كل الأرض ولكن أرض القوم فقط. وأهل الذمة في الدولة الإسلامية هم مواطنون متساوون مع المسلمين في كل الحقوق حتى الولاية لمن صلح

منهم وثبتت نزاهته واخلاصه للوطن والأمة. وقد فهم الناس آية «لا تتخذوهم أولياء» خطأ لأن المقصود اليهود والنصارى المتحالفين ضد الإسلام فقط وليس على اطلاق المعنى، وكما كان أيام الحروب الصليبية والآن في الغرب حيث تحالف البروتستانت الجدد مع اليهود الصهاينة. وتاريخ الدولة الإسلامية شاهد على ذلك حيث حارب مثل هؤلاء المواطنون مع الرسول في أحد وحنين وتولى كثير منهم مناصب هامة في الدولة الإسلامية عبر القرون.


المشكلة الكبرى تكمن في عدم فهمنا للقرآن والسنة الصحيحة واتباعنا لما وجدنا عليه آباءنا دون عقل ولا تفكير ولتقديمنا عمليا البخاري ومسلم على القرآن ولو ادّعينا العكس. وهجرنا للقرآن هجرا شبه مطلق. والهجر ليس بالضرورة وضعه على الأرفف بل اننا نقرؤه ونحفظه ونتسابق ونبدع في ذلك لكن دون أي محاولة لفهمه وتدبره حيث يقول الرسول يوم القيامة لربه: «وقال الرسول يا رب ان قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا» (الفرقان 30). وهو الكتاب الذي يقول فيه عز وجل «ما فرّطنا في الكتاب من شيء» لكنهم يقولون ان القرآن ناقص أو غير واضح وأكملته أو أوضحته السنة!! (أي البخاري ومسلم رحمهما الله عند السنة والكافي عند الشيعة). وهذا شطط وضلال واجرام بحق الدين والأمة وأساء لنا وللدين وجعلنا مضرب المثل في العنف والاجرام، وها هي أفعالنا تشهد على ذلك. نعم ان الإسلام دين ودولة. دين لمن شاء (من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. لا اكراه في الدين)، ودولة بحكم الشرع للجميع بعدل ومساواة دون أي اعتبار لدين أو عرق أو فئة الاّ بالتقوى.

والتقوى قد تكون عند المسلم وغير المسلم وقد لا تكون. وأهل الذمة كلهم مؤمنون بالله وهذا هو الحد الأدنى المطلوب منهم من الله. وتكفير المعتقدين بالثالوث المقدس (ولا يعتقد كثير منهم بذلك) لا يعني فقدان أي حق لهم في المواطنة والحقوق الأخرى كاملة تماما كالمسلم ما دام لا ينازع الدولة ولا يحاربها بأي طريقة من الطرق. وحكم القرآن للمسلم وغير المسلم عادل وهو حكم الله وليس حكم البشر. وهو يحترم حقوق الناس جميعا بلا فرق. والجزية تقابل الزكاة لمن يستحق عليه ذلك فقط وهما ليسا عقوبة.


هناك أمثلة في عصرنا للدولة الإسلامية الأقرب لما يجب أن تكون، كاندونيسيا وتركيا ومشروع الدولة في تونس. وهي دول ديمقراطية. والديمقراطية في الإسلام تعني الديمقراطية المتعارف عليها وهي حكم الشعب للشعب (وهو هنا مسلم) في حدود ما شرع الله دون مخالفة الاّ ما خص غير المسلمين في خصوصيتهم الدينية. وبذلك تكون كل الأمور الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتعليمية وغيرها هي مسائل دنيوية يتفق عليها بالرأي والمشورة. فالديمقراطية ليست كفرا. والوطنية ليست كفرا لأن الوطن أرض الدولة وأرض مكوناتها الاجتماعية والجغرافية وهي واجبة الدفاع عنها. وكذلك القومية العربية والقبلية ليست بالكفر لأن الله جعلنا شعوبا وقبائل لنتعارف. ولا يجوز مسح هذه الخصوصيات والمكونات الاجتماعية في الدولة الإسلامية ما دامت لا تعارض الدولة والنظام. فللفئات المختلفة من المجتمع أن تحتفل بمناسباتها الخاصة وأن ترفع علمها الخاص ان كان لها علم لكن دون منازعة الدولة والناس. فالإسلام يحترم غير المسلمين في خصوصياتهم، ومن باب أولى أن يحترم خصوصية الفئات المسلمة في الدولة.


ثمة أمر آخر هام جدا وهو وجوب إعادة النظر في الحدود التي أساء تطبيقها للإسلام بشدة نتيجة لسوء فهم مشايخنا وعلمائنا للأحكام لتركهم القرآن وعبادتهم للنصوص المتوارثة التي وجدوا عليها آباءهم لا سيما ما يتعارض منها مع أحكام القرآن الواضحة كقتل المرتد ورجم الزاني المحصن وقطع يد السارق، هذه أحكام في القرآن ليس لأحد أن ينكرها أو ينقضها لكن يجب أن نفهمها ونفهم ما قصده القرآن منها، فهم يأخذون الحديث «من بدّل دينه فاقتلوه» (وهو ضعيف السند عن عكرمة ومردود المتن لتعارضه مع القرآن) ويتركون القرآن الذي يقول «من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر» و«لا اكراه في الدين» وآيات أخرى كثيرة، وكذلك السنة التي نهى فيها الرسول عن قتل المنافقين المعروفين وهم أخطر من الكفار. وحد الزاني (محصنا أو غير محصن) هو الجلد مائة جلدة بنص القرآن. ولا يجوز رجمه حتى الموت بناء على ما أمر به الرسول في حالتين تم الرجم فيهما على شريعة ابراهيم وموسى ولم تكن آية النور (مائة جلدة) قد نزلت حيث نسخت حكم الرجم رحمة بالناس. ومن الاجرام بحق القرآن أن نقول بأن آية الجلد لم تنسخ حكم الرجم الذي لا نصّ عليه في القرآن. وعلى الذين هجروا القرآن واتبعوا ما يرونه سنّة أن يعودوا لخطبة الوداع ليروا حكم الزانية المتزوجة (وهو العظة والهجر والضرب)، وكذلك قطع يد السارق فلا تقطع يد من سرق أول مرة حتى لو كانت الظروف موجبة حيث يمكن معاقبته بعقوبة مناسبة لحجم وطبيعة السرقة، والمقصود بالآية هو محترف السرقة (الحرامي) أي الذي يكرر العملية ولم تردعه عقوبة سابقة.


لقد شوّهنا صورة الإسلام باساءة فهمنا للقرآن وتمسّكنا بما وجدنا عليه آباءنا ولو كانوا لا يفقهون شيئا ولا يعقلون. فلنعد إلى القرآن وسنة الرسول الصحيحة التي تشرح وتوضح ما أجمل في القرآن وبعقل مفتوح وليس من موقف مسبق يقدّس المعتقدات البالية التي لا يقبلها الله ولا العقل السليم.