محمد خرّوب
هذا ما يمكن استشفافه من نصوص ومضامين وثيقة «الاستراتيجية الجديدة للسياسة الخارجية الروسية", التي تم إقرارها الخميس الماضي. ما يعكس من بين أمور أخرى تكريساً للتصريحات والتحذيرات التي أطلقها مسؤولون روس عديدون, ووصفِهم العلاقات الروسية الأميركية بأنها وصلت إلى أسوأ مستوى منذ إنتهاء الحرب الباردة. بل وصل الأمر في آب الماضي قيام الخارجية الروسية بتحذير واشنطن من نقطة اللاعودة في العلاقات, إذا ما أعلنَ الكونغرس روسيا دولة «راعية للإرهاب", مُعتبرة/موسكو أن علاقات الجانبين ستتدهور إلى مستوى مُتدنٍ «جديد» أو حتى تُقطَع تماماً.
يتواصل التدهور في علاقات البلدين وتمضي الولايات المتحدة قدماً في ضخ المزيد من الأسلحة والعتاد إلى أوكرانيا، مُعلنة رفضها «إستئناف» المفاوضات الروسية الأوكرانية, بل ورافضة كل المبادرات والنداءات الداعية إلى مفاوضات تفضي إلى وقف لإطلاق النار أو الجلوس إلى طاولة مفاوضات برعاية الأمم المتحدة (أو غيرها) كما حال المبادرة الصينية ذات الـ «12» بنداً, والتي سارعت واشنطن إلى اعتبارها «فخّاً صينياً», مُحذّرة كييف من التعاطي معها وسار على دربها الاتحاد الأوروبي, مُعتبرة واشنطن وبروكسل/الاتحاد الأوروبي, أن الصين غير مُؤهلة للعب دور كهذا وأن بيجين لم «تُدن» العملية الروسية, وغيرها من الأوصاف التي يبرع الغرب في ترويجها.
وسط أجواء مُحتقنة كهذه واستمرار فرض «رزم» العقوبات الأميركية والأوروبية الاقتصادية والمالية والدبلوماسية غير المسبوقة في عالم ما بعد الحرب الباردة, بما في ذلك تجميد احتياطات روسيا من الذهب والنقد الأجنبي التي بلغت نحو 640 مليار دولار قبل بدء العملية العسكرية الروسية في 24 شباط 2022. جاء إقرار الرئيس الروسي بوتين «الاستراتيجية الجديدة للسياسة الخارجية الروسية» قبل أيام, لتؤسس إلى فصل جديد.. ساخن ومُتدحرج بين موسكو وواشنطن «حيث تُوصَف الولايات المتحدة (في الإستراتيجية الروسية الجديدة) بأنها «صاحبة المبادرة والمُحرك الرئيسي للخط المُناهض لروسيا في العالم", ما يستبطِن اعتبار الولايات المتحدة «عدواً» وليس مُجرد خصم, يستدعي بالضرورة استخدام كل ما تتوفّر عليه «الدبلوماسية» الروسية من أدوات وما تطرحه من مقاربات وما تنسجه من تحالفات, برزت في بعض بنود هذه الاستراتيجية. مع ملاحظة أن الوصف ذاته لا ينطبق فقط على الولايات المتحدة بل على «الغرب» بصفة عامّة، الذي «ينتهِج سياسة تهدف إلى إضعاف روسيا». ما يمكن اعتباره «حرباً هجينة من نوع جديد", على ما قال رئيس الدبلوماسية الروسية/لافروف الذي أضاف مُؤكداً أن «المفهوم الجديد للسياسة الخارجية الروسية ينص على إمكانية إتِّخاذ إجراءات مُماثلة أو غير مُماثلة (وفق وصفِه) ردّاً على الإجراءات «غير الوديّة ضد روسيا.
يصعب تلخيص الاستراتيجية الجديدة للسياسة الخارجية الروسية في عجالة كهذه, حيث لم تكتفِ «الوثيقة» المذكورة بإعتبار الولايات المتحدة «المُحرك الرئيسي والمَصدر الأساسي للسياسة المُعادية لروسيا», بل اعتبرتها «أكبر تهديد يُواجه العالم وتطوّر البشرية». في الوقت ذاته - وهذا لافت ومثير- الذي أشارت فيه الوثيقة, إلى أن روسيا سوف تستخدِم «الجيش» لصد أي هجوم مُسلح ضدّها أو ضد أي من حلفائها. (هنا أيضاً يتوجّب الربط بين قرار الرئيس الروسي نشر قنابل نووية تكتيكية في بيلاروس, سيكتمل تجهيز بنيتها التحتية بحلول تموز المقبل, قبل الإعلان عن الوثيقة الجديدة للسياسة الخارجية). ناهيك عن ورود نصٍ آخر يتحدّث عن أن روسيا ستتعامل مع الدول الأخرى بـ"المثل». في وقت أشارت فيه بوضوح إلى أنها «ستهّتم على نحو خاص بتعزيز العلاقات والتنسيق بشكل شامل مع مراكز القوة العالمية الصديقة.. الصين والهند». مُعتبرة بأن المشروع «الرائد» بالنسبة لروسيا في القرن الحادي والعشرين, هو تحويل «أوراسيا» إلى مساحة مُتكاملة, يعمّها السلام والاستقرار والازدهار. مانحة أولوية أيضاً لـ(القضاء على «أساسيات الهيمنة» من جانب الولايات المتحدة والدول الأخرى غير الصديقة في الشؤون الدولية.
المفردات والمصطلحات والعبارات التي صيغت بها الوثيقة الروسية الجديدة, والتي تختلف جذريّاً عن «آخر» وثيقة تم إقرارها عام/2016, بما فيها التحديثات التي جرت عليها, تشي بأن مستقبل العلاقات الروسية–الأميركية وبالتالي الغربية, لن يتحدّد فقط بالطابع العسكري وساحات المعارك وبخاصة في أوكرانيا (حيث تسعى واشنطن والناتو لإلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا) بل ستشمل «ميادين ومساحات» أوسع, من المبكر التكهّن بالمدى الذي ستنتهي إليه. ليس فقط في أن واشنطن ما تزال صامتة حتى الآن ولم تعلِن موقفها من الوثيقة الروسية الجديدة, بل أيضاً لأن موسكو أعلنت بوضوح انها «تسعى جاهدة إلى تشكيل نظام عالمي يُوفّر أمناً موثوقاً به, ويضمن تكافؤ الفرص بالنسبة للجميع». ونحسب أن دولاً عديدة تشاركها المسعى والرغبة في تكريس نظام كهذا تتقدمها دول البريكس/الخمس ومنظمة شنغهاي, كما دول افريقية وأميركية لاتينية وبالتأكيد دول شرق أوسطية بما فيها دول عربية.
* المقال مقتبس من صحيفة الرأي ويعبر عن رأي كاتبه