تشكّل قضية مستقبل العمل والوظائف في ظل التوسع السريع والمتنامي للآلات والتحديث المضطرد للتكنولوجيا في العالم الصناعي وتأثيرها، أحد أبرز التحديات العالمية المعاصرة. فهناك توقعات بأنه لن تكون هناك وظائف كافية لكل هؤلاء، وستنشأ مشكلة اكتظاظ في الأسواق بكل ما تنتجه الآلات والعمالة الآلية الرخيصة، التي تعد بالملايين من الصين والهند. وتشير بعض الدراسات إلى أنه خلال السنوات القليلة الماضية ظل معدل البطالة «طويلة الأجل» – التي تدوم عاماً وأكثر - مرتفعاً في أوروبا – وخاصة اليونان وإسبانيا وإيطاليا – وأيضاً ظلت معدلات هذا النوع من البطالة مرتفعةً في كلٍّ من بريطانيا والولايات المتحدة.
د. محمد أبوحمّور
يرصد براكاش لونغاني، المستشار في إدارة البحوث بصندوق النقد الدولي ورئيس مشروع الوظائف والنموّ في الصندوق، الآثار الاجتماعية والنفسية والصحية للبطالة على الأفراد وأسرهم والمجتمع؛ موضحاً أن خسارة الوظائف والخسارة المستمرة في الدخل – حتى بعد العثور على عمل لاحقاً – تُعرِّض العاطلين لمشكلات صحيّة، وتسبب المعاناة لأسرهم، والأخطر أن ذلك من شأنه أن يؤدي إلى انفصام عرى النسيج الاجتماعي.
إن معظم تلك الدراسات تناولت تداعيات الأزمة الاقتصادية والمالية في الغرب منذ عام 2007، وإنْ كان بعضها نُشر في عام 2015، في الوقت الذي كان الوطن العربي يشهد تداعيات الأزمة ذاتها وتأثيراتها عليه، بشكلٍ أو بآخر، وفي الحين نفسه كان يعيش اضطرابات الأحداث فيما سمّي بـ «الربيع العربي»، التي اتخذت مظاهر سياسية وعنفية، وطفت فيها ظاهرة التطرف والإرهاب، والانقسامات الاجتماعية العرقية والطائفية والمذهبية، على نحوٍ غير مسبوق، فيما كان من أهم الأسباب وراء نشوء هذه الاضطرابات اختلالات اقتصادية هيكلية، وغياب العدالة الاجتماعية، وسوء توزيع الثروة.
لقد جاءت نتائج «الربيع العربي» على المستوى الاقتصادي والتنموي لتكشف أن خسائر الناتج المحلي الإجمالي عربياً وصلت إلى ما يزيد على 1,5 تريليون ونصف تريليون دولار، وأن بعض الدول العربية فقدت حوالي 50% من الناتج المحلي الإجمالي، وتصاعدت البطالة إلى ما نسبته 17,9%، وهي النسبة الأعلى عالمياً كونها تمثّل ثلاثة أضعاف متوسط البطالة العالمي (5,9%)، وتعتبر الدول العربية ضمن عشر مناطق جغرافية في العالم سجلت أعلى معدلات البطالة بين الشباب للعام 2016 وفق بيانات البنك الدولي.
البطالة وتحدّياتها الحالية والمستقبلية
إن لارتفاع معدلات البطالة في الوطن العربي أسباباً تتعلق بارتفاع معدلات النمو السكاني والزيادة المتراكمة في أعداد الخريجين، وضعف مخرجات التعليم، وسوء توزيع الفرص والدخل، فضلاً عن الأزمات والنزاعات المسلحة، بحيث أصبحت الحاجة تتطلب توفير 50 مليون فرصة عمل في المنطقة العربية حسب تقديرات برنامج الأمم المتحدة للتنمية وجامعة الدول العربية، و35 مليون وظيفة لتخفيض معدلات البطالة إلى النصف مع حلول عام 2020، أو ما يعادل حوالي الثلث من عدد العاملين حالياً في جميع الدول العربية.
وتؤكد الأرقام المستقاة من دراسات وإحصاءات راصدة لسوق العمل وحجم البطالة في الدول العربية أن هناك واحداً من كل أربعة شباب متعطل عن العمل، كما أن واحدة من كل خمس نساء متعطلة أيضاً عن العمل، على الرغم من أن أكثر من 50% من سكان المنطقة العربية هم دون سن الـ 25 الخامسة والعشرين، والغالبية منهم يمتلكون مستويات تعليمية عالية، ودينامية.
ويلاحظ أن ارتفاع معدل البطالة عربياً ليس مقتصراً على الدول الفقيرة أو متوسطة الدخل المصدِّرة للعمالة، وإنما أيضاً يشمل الدول الغنية المنتجة للنفط، وبنسب متفاوتة، ولا سيما بعد الانخفاضات والتذبذبات في أسعار النفط خلال العقدين الماضيين. يضاف إلى ذلك ضعف الإنتاجية، وارتفاع العجز ومعدلات المديونية، واختلال سلم الأجور، وارتفاع الأسعار للسلع إجمالاً، وتراجع مستويات المعيشة في البلدان متوسطة ومنخفضة الدخل.
سوق العمل وإشكاليات النمو الاقتصادي
في هذا السياق تفرض أوضاع العمل في المنطقة العربية مواجهة تحدي تطوير اقتصادات منتجة توفر فرص العمل لملايين الشباب، وبالتالي الحدّ من ارتفاع معدلات البطالة، وانتشال هؤلاء الشباب من هوة الإحباط واليأس والضياع وما ينتج عن ذلك توترات تهدد استقرار المجتمعات. وهذه المواجهة تفرض أيضاً الاهتمام بالفئات المهمشة وبخاصة في القرى والأرياف والبوادي وتنمية هذه الأطراف، للحد من الهجرات الداخلية نحو المدن بما تؤدي إليه من تضخم هذه المدن ونموّها المتسارع، وارتفاع كلف البنى التحتية والخدمات العامة، والبناء العشوائي وتكاثر الأحياء غير المخدومة وزيادة حدّة المشكلات البيئية. ولا بد من تشجيع المشاريع الإنتاجية، بمعالجة الفجوة التكنولوجية وضبط مخرجات التعليم، وتطوير التعليم المهني.
تعتبر قدرة النمو الاقتصادي إزاء تحديات سوق العمل أهم قضايا التنمية وإشكالياتها في الدول العربية. وتشير القرائن إلى أن الموارد في الوطن العربي، باستثناء معظم الدول المنتجة للنفط، تعاني من التراجع في إنتاجيتها، وضعف تنافسيتها، والعديد منها يعاني عجزاً مالياً خارجياً وداخلياً مصحوباً بارتفاع معدلات المديونية، بل أن بعض الدول إنتاجيتها سالبة وبشكل متكرر أيضاً. وتوضح مؤشرات التنمية الإنسانية وجود عجز كبير في المعرفة التكنولوجية ينعكس تلقائياً على تدني إنتاجية الاقتصاد. ولا تزال الصبغة الاستهلاكية تحكم استخدام تكنولوجيات الاتصال والإعلام، فيما ما يزال الوطن العربي على درجة أدنى بكثير مما وصل إليه العالم في مجالات متطورة، مثل تكنولوجيا الطاقة المتجددة، وتكنولوجيا النانو، والطيران، وإنتاج المواد الغذائية والصناعية والذرّة، وغيرها.
ومن غير الممكن إيجاد فرص عمل في المستقبل دون إحداث تحوّل هيكلي نوعي في الاقتصاد نحو القطاعات الأكثر ارتباطاً بالتشغيل خلال العقود القادمة وتحديداً ابتداءً من نهاية العقد القادم بحلول عام 2030، مع ارتفاع نسبة الشباب إلى 70% من عدد السكان في الوطن العربي، ما يعني أن شروط الاقتصادات المعرفية الحديثة تدعونا إلى الاعتماد على ثلاثية العلم والتكنولوجيا والإبداع للتحول الصناعي؛ بمعنى معالجة مشكلة سوء الربط بين مخرجات التعليم ومتطلبات سوق العمل، وبناء ثقافة الإنتاج، ومأسسة المنظومات التعليمية وعمليات التدريب والتأهيل في نطاق التطوير واستثمار التكنولوجيا، وإيجاد بيئة استثمارية محفزة للريادة والإبداع.
الأتمتة ووظائف المستقبل في المنطقة العربية
يوضح تقرير القمّة العالمية للحكومات «مستقبل الوظائف في الشرق الأوسط»، الصادر في كانون الثاني/ يناير 2018، أن عصر الذكاء الاصطناعي والروبوتات الشبيهة بالبشر والحوسبة الكمية، وما شابهها من تقدم يشهد تطور التكنولوجيا بسرعة لتأدية المهام المتكررة البسيطة، وكذلك الأنشطة الأكثر تعقيداً. لكن هذا التقرير لا يغفل أن الاضطرابات الاقتصادية والاجتماعية وتحديات التكيف الناتجة عن انتشار الأتمتة في الأعمال والوظائف، أدّت إلى ظهور مفهوم «القلق الناتج عن الأتمتة»، مع أن العديد من الباحثين والمراقبين يعتبرون أن الاستغناء عن العنصر البشري في العمل لصالح مستحدثات التكنولوجيا وما يعنيه ذلك في الجانب الأخلاقي، مسألة مُبالَغ في تقدير أثرها، ولن تحدث على المدى القصير، فالأتمتة رافقت مراحل سابقة من التغيّر التكنولوجي السريع خلال الـ 200 مئتي عام الأخيرة منذ الثورة الصناعية.
وحسب ديفيد أوتور الخبير الاقتصادي في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، فإنه حتى لو أخذت التكنولوجيا تحلّ محلّ نسبة متزايدة من المهام البشرية، فسيحتفظ العمال بميزة نسبية في المهام التكميلية المطلوبة؛ أي تلك التي تتطلب مهارات متوسطة تجمع ما بين مهارات مهنية محددة، والإلمام بالقراءة والكتابة والحساب، والقدرة على التكيّف وحلّ المشكلات، والحسّ السليم. وتوقع معهد ماكينزي العالمي في تقريرين له عام 2017 أن يجري أتمتة 50% من الأنشطة في الاقتصاد العالمي التي يتقاضى الناس أجراً عن أدائها، وأتمتة أقل من 5% حالياً من جميع الوظائف بالكامل، في حين أن 60% تقريباً من جميع الوظائف تتضمن 30% من الأنشطة القابلة للأتمتة. بيد أن عدد الوظائف المعرّضة للتغيير سيكون أكبر من تلك المؤتمتة.
فيما يتعلق بقياس إمكانات أتمتة القوى العاملة في منطقة الشرق الأوسط، اعتمد تقرير القمة العالمية للحكومات على عينة تتألف من 6 دول في المنطقة، هي بحسب ما ورد في هذا التقرير: مملكة البحرين وجمهورية مصر العربية ودولة الكويت وسلطنة عُمان والمملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات العربية التي تتصدر العيّنة بـ 50 نقطة مئوية عن الأقل تقدماً في التحول الرقمي - مصر. وهذه الدول الست مجتمعةً تضم أكثر من 147 مليون نسمة، بناتج محلي إجمالي مشترك يبلغ أكثر من 1,5 تريليون دولار أمريكي عام 2016.
وتقول التقديرات بحسب التقرير إن حوالي 45% من أنشطة العمل في أسواق الدول العربية الست قابلة للأتمتة حالياً، وإن إمكانات الأتمتة هي أقل بقليل من المتوسط العالمي ومعايير الصناعات المتقدمة (وفي مجال المقارنة تقدر إمكانات الأتمتة في هذه الدول قياساً للدول المراجع كالآتي: البحرين 45% ، مصر 48% ، الكويت 43% ، سلطنة عُمان 41% ، المملكة العربية السعودية 41% ، الإمارات العربية المتحدة 45% - المعدل للدول الست 45% . أما في الدول المراجع : اليابان 56% ، الهند 53% ، الصين 51% ، الدول الأوروبية الخمس الكبرى – فرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا والمملكة المتحدة – 47% ، الولايات المتحدة 46% - المعدل العالمي – 46 دولة – 50% ).
وتشمل الوظائف القابلة للأتمتة مهاماً روتينية، مثل تشغيل الآلات أو تصنيف المنتجات الزراعية ومسؤولي المخازن، في حين أن وظائف تتطلب قدراً أعلى من أنشطة التفاعل البشري المتصف بالإبداعية والتعقيد مثل الرؤساء التنفيذيين وخبراء الإحصاء ووكلاء السفر ومصلحي الساعات والفنيين الكيمائيين ومساعدي التمريض ومصممي المواقع الإلكترونية وتصميم الأزياء أو الطب النفسي والمشرعين، مثل هؤلاء أقل عرضة للأتمتة الجزئية حالياً.
إن من أهم ما يشير إليه التقرير هو الشكوك بشأن الاستدامة المستقبلية لمخططات بعض القطاعات في إيجاد فرص العمل في ضوء الدرجات المتفاوتة للأتمتة. فالقطاعات التي تعتمد على ما يعد مهاماً روتينية (مثل التصنيع والنقل والتخزين وقطاع المعلومات)، فإن أتمتتها في المنطقة يمكن أن تصل إلى 50%، بينما إمكانات أتمتة قطاعات تعتمد على التفاعل البشري والأنشطة والخدمات الإبداعية غير الروتينية تبدو بمعدل أدنى من المتوسط، أي بين 29 – 37%، ومنها الفنون والتسلية والترفيه والرعاية الصحية والتعليم.
ونظراً لضخامة حجم القوى العاملة المُطلَقة والنسبية في مصر ضمن قطاعي التصنيع أو الزراعة، فإن إمكانات الأتمتة فيها تستحوذ على الحصة الأكبر قياساً إلى دول الخليج.
تحديات مستجدّة
تشكل «الاستدامة المستقبلية» للوظائف وإيجاد وظائف جديدة تحدياً آخر في إطار التحول الصناعي، وينبّه الخبراء إلى أن أنشطة العمل التي يؤديها موظفون يتمتعون بمستويات منخفضة ومتوسطة من التعليم والخبرة ستتأثر بتكنولوجيا الأتمتة، ويبلغ متوسط احتمال أتمتة الوظائف للقوى العاملة الحاصلة على تعليم ثانوي أو تتمتع ببعض الخبرة المهنية 55%، ومتوسط احتمال أتمتة وظائف الحاصلين على مؤهل أدنى من التعليم الثانوي 50%، فيما فرص الحاصلين على التعليم العالي أو الخبرات المهنية المعادلة لهذا المستوى من التعليم، أفضل في الحصول على الوظائف، وينخفض متوسط احتمال أتمتة الوظائف بالنسبة للحاصلين على البكالوريس أو الدراسات العليا إلى 22% تقريباً؛ ذلك أن التوجهات تصب في مصلحة الموظفين ذوي المهارات العالية والاقتصاد الفائق غير المتكافىء.
في هذا المجال، من المهم الإشارة إلى أهمية وضع سياسات تركز على تمهيد الطريق لانتقال الشباب الخريجين إلى سوق العمل من خلال الإرشاد المهني والخدمات المطابقة، والتعويض عن ضعف شبكات الأمان الاجتماعي للمتعطلين، والمساعدة في دعم ريادة الأعمال بين الشباب. كما من المهم التركيز على برامج التدريب المهني للتشغيل، والاستثمار في البنية التحتية نظراً لقدرة هذا الاستثمار في توفير فرص عمل في شركات العمالة الكثيفة. وتؤدي تحسينات شبكات النقل إلى توسيع الفرص الاقتصادية للرجال والنساء في المناطق الريفية بزيادة وصولهم إلى الأسواق.
وقد بينت بعض الدراسات أن الشركات الصغيرة أو المتوسطة المملوكة من النساء في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تشكل 14% من إجمالي الشركات في المنطقة مقارنةً مع متوسط عالمي يبلغ 34%. ويمكن القول أن التمكين الاقتصادي للمرأة يعد من المقومات الرئيسية لتعزيز التنمية الاقتصادية الشاملة والمستدامة عربياً وعالمياً، مما يدعو إلى الاهتمام بدعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة للمرأة وزيادة نسب المشاركة الاقتصادية لها، وتمكين النساء اقتصادياً بما في ذلك تقديم برامج تدريبية وخدمات دعم وتمويل وأنشطة تثقيفية وتوعوية.
ولعل تقرير صندوق النقد الدولي «آفاق الاقتصاد العالمي» نيسان/ إبريل 2017 في إشارته الواضحة إلى تراجع نصيب العمل في الناتج القومي بالمقارنة مع نصيب رأس المال في الدول المتقدمة والاقتصادات الناشئة على السواء، يضع أمامنا تحدياً آخر يتمثل في ما أدى إليه التقدم التكنولوجي الهائل من إحلال لرأس المال محل العمل في كثير من الأنشطة الإنتاجية. وهذا يعني بحسب الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي أن معدل العائد على رأس المال أكبر من معدل النمو الاقتصادي على المدى الطويل، مما يؤدي إلى تركّز الثروة واللامساواة في توزيع الثروات، وتزايد معدلات الحرمان، وبالتالي غياب الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي.
إن الربط بين تطوير منظومة التعليم وتحسين مخرجاته لسوق العمل، والاهتمام بالتعليم المهني، والتدريب والتأهيل لاستخدام التكنولوجيا بكفاءة مقرونة بدعم البحث العلمي، وبين الريادية ورعاية الإبداع، وتحفيز الاستثمارات الوطنية والبينية العربية، كل ذلك من الأسس والأولويات في المنطقة نحو تحقيق الاقتصاد المعرفي، ومكافحة البطالة، وتهيئة الأسباب لرفع معدلات النمو وتجاوز التحديات القائمة. وإن المنطقة العربية يمكن أن تصل بعد وضع استراتيجية وطنية اقتصادية اجتماعية لكل دولة فيها، إلى التعاون المتكافىء بين شركاء التنمية (القطاع العام، والقطاع الخاص، والمجتمع المدني، والأكاديميا)، وإلى التوافق على «نهضة تنموية اقتصادية واجتماعية وثقافية عربية شاملة.»